الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

الشيخ جعفر السبحاني

الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-00-2
الصفحات: ١٠٠

الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية ، ولكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليعتبروا مخالفين للميثاق المذكور ، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من أنّ الخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم وإدارة الكون.

وبهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

ه : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر / ٢٨).

تتعلق هذه الآية بمؤمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبيّ موسى عليه‌السلام وراء قناع النصيحة والصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم. وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة ، لأنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الأرض والسماء ولا الشركة مع الله سبحانه في خلق العالم وإيجاده ، وهذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. وفي هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّ موسى بقوله : ربّي الله ، هو حصر «التدبير» في الله سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والإيجاد لما كان بينه وبين فرعون أيّ خلاف ونزاع ، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية الله ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّ الله تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية.

و : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (غافر / ٢٦).

فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لأيّ تبدّل وتبديل.

٢١

ومن هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون :

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (النازعات / ٢٤).

ز : (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) (الكهف / ١٤).

إنّ الفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان ، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير الله ، ولكن أُلوهية غير الله ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن بصورة تعدد الخالق ، خاصة أنّ واقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية وأفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به ، ولم يكن يعقل ـ في ظلّ هذا الرقي الفكري ـ وجودُ مجتمعٍ منكرٍ لخالقية الله ، أو مشرك فيها فلا بدّ أن يقال إنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدد المدبر.

ح : إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبرية وليس الخالقيّة كما يتوهم ، هو الآية المتكررة في سورة «الرحمن».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة ٣١ مرة وجاءت لفظة «ربّ» جنباً إلى جنب مع لفظة «آلاء» التي تعني النعَم وغير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية والتدبير فإرداف ذكرها ، بذكر الرب شاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح. لا الخالق والموجد.

وإن شئت قلت : إنّ ذكر النعم (التي هي من شعب التربية الإلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.

٢٢

ط : لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم ، والشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الإنسانية ودوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد ، وليست حقيقة تدبير الإنسان إلّا إدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

وإليك هذه الموارد :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم / ٧).

(وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) (النمل / ١٩).

(قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (النمل / ٤٠).

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) (الأحقاف / ١٥).

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ / ١٥).

ي : وممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه :

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (نوح / ١٠ ـ ١٢).

ومثله قوله سبحانه في سورة هود الآية ٥٢.

يلاحظ القارئ الكريم كيف جعلت إدارة الكون وتدبير شئونه تفسيراً للرب : فهو الذي يرسل المطر ، وهو الذي يُمْدد بالأموال والبنين ، وهو الّذي

٢٣

يجعل الجنات ، وهو الّذي يجعل الأنهار ، وكلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبير.

إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم وطاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ والربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار وإليك نصّها قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة / ٢٥٨).

فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّ إبراهيم ابتدأ كلامه بقوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشئون الربوبية كالاحياء والاماتة ولما فوجئ بهذا البرهان الدامغ المبطل لادّعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطئ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء وأحقن دم من أُريد ، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه ولا يكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال : أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها وغروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل» فأنّ الله يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب» فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع وأيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت ولم ينبس ببنت شفة يقول سبحانه (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ).

لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم ونمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلّا المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلّا ربّ واحد وأنّ الكون بأجمعه مربوب لله ولم يكن هناك أي تقسيم للربوبية ولكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه وكانت حجّته أنّه ذا سلطة وملك كما يحكى عنه قوله سبحانه : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) فجعل ذلك دليلاً على ربوبيّته لمن كانوا

٢٤

يعيشون في ملكه وزعم انّ أمرهم وحياتهم ومماتهم وكلّ تشريع يرجع إليه وبيده.

فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّ والربوبية وهو المتصرف المالك لشئون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة والسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية. وبالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته وموته ، ولاصلاحه وافساده.

نتيجة هذا البحث :

من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين :

١ ـ إنّ ربوبية الله عبارة عن مدبريته تعالى للعالم وليس معناها خالقيته.

٢ ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» وأنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير الله للكون كلّه أو بعضه ، وكانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّه ربّ.

وبما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الأوّل ، فاليهود والنصارى تورطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لأنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة ، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم!!! ، ومن المعلوم أنّ التقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة / ٣١).

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران / ٦٤).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة

٢٥

بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون ، وشئون العالم إلى الملائكة والجنّ والأرواح المقدسة ، أو الأجرام السماوية ، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير الله ، ولكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الأغلب شبه تدبير «بعض» الأُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.

خاتمة المطاف

إذا تعرّفت على مفهوم «الإله» و «الرب» فاعلم إنّ للتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الإسلام في كتبهم العقائدية وبرهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح ، وبما أنّ بحثنا في الأمر الثالث مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها ، نذكر مراتب التوحيد بايجاز ، ثمّ نتكلم عن القسم الأخير بالتفصيل ، وفي فصل خاص. فنقول : للتوحيد مراتبَ عديدة وهي :

الأُولى : التوحيد في الذات

والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له ، فرد لا مثيل له ، ويدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى / ١١).

وقوله سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ* وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الاخلاص / ١ ـ ٤).

وقوله سبحانه : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الزمر / ٤).

وقوله سبحانه : (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد / ١٦).

إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له ، ولا مثيل ولا ثانٍ له ولا عديل.

٢٦

وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال وإبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

إنّ هناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له ، فرد ليس بمركب من أجزاء ، ولعلّ قوله سبحانه : «في سورة الإخلاص» (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الأخيرة أعني قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الأوّل ، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.

* * *

الثانية : التوحيد في الخالقية

والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير الله ، ولا فاعل سواه ، وأنّ كلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل وأسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات وإنّما تؤثر بإذنه سبحانه وأمره ، فجميع الأسباب والمسببات مخلوقة لله بمعنى أنّها تنتهي إليه.

ويدل على التوحيد بهذا المعنى (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد / ١٦).

وقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر / ٦٢).

وقوله سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (المؤمن / ٦٢). (١)

__________________

(١) ولاحظ في هذا الموضوع سور الأنعام ١٠١ و ١٠٢ ، الحشر / ١٤ ، فاطر / ٣ ، والأعراف / ٥٤.

٢٧

الثالثة : التوحيد في الربوبية والتدبير

والمراد منه أنّ للكون مدبّراً ومتصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبّر للعالم ، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب إنّما هو بأمره سبحانه ، وهذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى هو الخلق والإيجاد والإبداع وأمّا تدبير الأنواع والكائنات الأرضية فقد فوّض إلى الأجرام السماوية والملائكة والجنّ وسائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الأصنام المعبودة ، وليس لله سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون وإرادته وتصريف شئونه.

إنّ القرآن الكريم ينص ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّ الله هو المدبر للعالم وينفي أيّ تدبير لغيره وإذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده ، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس / ٣).

وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد / ٢).

فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (النازعات / ٥) وقوله سبحانه : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (الأنعام / ٦١) ، إنّ هؤلاء مدبرات بأمره ، وحفظة للإنسان وإرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير بالله.

٢٨

الرابعة : التوحيد في التشريع والتقنين

لا شكّ أنّ حياة الإنسان الاجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري ويقوده إلى الكمال وهو لا يتحقّق إلّا في ظلّ قانون يحقّق السعادة الإنسانية ، فبما أنّ خالق الإنسان أعرف بخصوصيات المخلوق وما يصلحه ويفسده فهو أولى بالتشريع والتقنين بل هو المتعين له ، قال سبحانه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك / ١٤).

إنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه ، ولا بقانون سوى قانونه فهو ، يرى الله سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة ، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الإلهي.

قال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (يوسف / ٤٠)

والمراد من الحكم في قوله : (إِنِ الْحُكْمُ) هو الحكم التشريعي بقرينة قوله (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

وقال سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة / ٥٠).

إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين : إلهي ، وجاهليّ ، وبما أنّ ما كان من صقع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.

وقال سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (المائدة / ٤٤).

وقال سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة / ٤٥).

وقال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

٢٩

(المائدة / ٤٧)

فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ التقنين أوّلاً والحكم ثانياً حقّ مخصوص لله لم يفوضه إلى أحد من خلقه ولأجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة والظلم أُخرى وبالفسق ثالثة.

فهم كافرون لأنّهم يخالفون التشريع الإلهي بالردّ والإنكار والجحود.

وهم ظالمون لأنّهم يسلِّمون حقّ التقنين الّذي هو خاصّ بالله إلى غيره.

وهم فاسقون لأنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة الله.

وأمّا عمل الفقهاء والمجتهدين فهو إمّا استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة والاستخراج غير التشريع ، وإمّا تخطيط لكلّ ما يحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الإلهية ، والتخطيط غير التشريع.

الخامسة : التوحيد في الطاعة

والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلّا الله تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع وأمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه وأمره.

قال سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البيّنة / ٥) والدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.

وعلى ذلك فكلّ من افترض الله طاعته والانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه وأمره ، قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (النساء / ٦٤).

وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو الله سبحانه وغيره مطاع بالعرض وبأمره.

السادسة : التوحيد في الحاكمية

إنّ الحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع و

٣٠

التقنين. ووظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم ومالهم وما عليهم من حقوق ، ثمّ تحقيقها وتجسيدها.

إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لا تنفك عن التصرف في النفوس والأموال وتنظيم الحريّات وتحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلّا من كانت له الولاية على الناس ولو لا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً ، وبما أنّ جميع الناس سواسيه أمام الله والكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لأحد على أحد بالذات بل الولاية لله المالك الحقيقي للإنسان والكون ، والواهب له الوجود والحياة ، فلا يصحّ لأحد الإمرة على العبادة إلّا بإذنه.

فالأنبياء والعلماء والمؤمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الأمر من قبله ويمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته ، فالحكومة حقّ مختصّ بالله سبحانه والأمارة ممنوحة من قبله.

قال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (الأنعام / ٥٧).

وقال سبحانه : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (الأنعام / ٦٢).

نعم إنّ اختصاص حقّ الحاكمية بالله سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الإمرة ، بل المراد أنّ من قام بالإمرة في المجتمع البشري ، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأُمور ، والتصرّف في النفوس والأموال.

ولذلك نرى أنّه سبحانه : يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس ، إذ يقول :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص / ٢٦) وعلى ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الإسلامي مأذوناً بها من قبل الله سبحانه : ممضاة من جانبه ، وإلّا كانت حكم الطاغوت ، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.

٣١

السابعة : التوحيد في العبادة

والمراد منه حصر العبادة في الله سبحانه ، وهذا هو الأصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّ اختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلّا إذا اعترف بحصر العبادة في الله ، أخذاً بقوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة / ٥) وليس أصل بين المسلمين أبين وأظهر من هذا الأصل ، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم ومن تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الإسلام.

نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان ، فهل هي عبادة غير الله أو أنّها تكريم واحترام وإكبار وتبجيل.

والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض ، بوضع تعريف منطقي للعبادة حتى يقف القارئ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب ولا يختلط بعضها بالبعض الآخر.

إنّ الوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين وجعلهم في عداد المشركين في العبادة وهم ربما يتلون قوله سبحانه : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف / ١٠٦) ويفسرونه بإيمان المسلمين ، ولكن ما هو الدليل على هذا التطبيق. ولما ذا لا ينطبق هذا عليهم.

إنّ المسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلّا إذا كان مقروناً بالبرهان والدليل ، معتمداً على قوله سبحانه : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (البقرة / ١١١) ، فلا يتهم المسلم بالشرك إلّا بالدليل ، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلّا كذلك.

* * *

٣٢

الفصل الثالث

في تحديد مفهوم العبادة

العبادة من الموضوعات التي تطرّق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورةٍ وآية وخصَّها بالله سبحانه وقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (الإسراء / ٢٣) ونهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة والطواغيت والشياطين ، وجعل اختصاص العبادة به الأصلَ الأصيل بين الشرائع السماوية وقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران / ٦٤) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل / ٣٦).

فإذا كانت لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير بالباحث المسلم أن يتناوله بالبحث والتحقيق العلمي ، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة ، أهمية أكثر ، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه ، ثمّ عقد القلب عليه ، والتحرر من أيّ لون من ألوان الشرك. فلا تُنال تلك الأُمنيةُ في مجالي العقيدة والعمل إلّا

٣٣

بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة ، مدعمة بالدليل حتى لا يقع المسلم في مغبَّة الشرك ، وعبادة غيره سبحانه.

ورغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها ، وحدّها الذي يُفصلها عن التكريم والتعظيم أو الخضوع والتذلل ، وكأنّ السلف ـ رضوان الله عليهم ـ تلقّوها مفهوماً واضحاً ، واكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

ولو صحّ ذلك فإنّما يصحّ في الأزمنة السالفة ، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناس أمر إدّعاء الشرك في العبادة ، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادعائهم ـ كلّ تعظيم وتكريم للنبيّ ، عبادة له ، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك ، فلا يلتفت الزائر يميناً وشمالاً في المسجد الحرام والمسجد النبوي إلّا وتوقر سمعه كلمةُ «هذا شرك يا حاج» ، وكأنّه ليس لديهم إلّا تلك اللفظة ، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلّا بذلك.

فاللازم على هؤلاء ـ الذي يعدون مظاهر الحبّ والودّ ، والتكريم والتعظيم شركاً وعبادة ـ وضعُ حدٍّ منطقيّ للعبادة ، تُميَّز به ، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاصي العالم وأدانيه ، ضابطة كلّية في المشاهد والمواقف ، ، ولكن ـ وللأسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة وتبيينها في كتبهم ونشرياتهم ودورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذا الفصل ، بمعالجة هذا الموضوع ، بشرح مفهوم العبادة لغة وقرآناً ، حيث بيّنا أنّ حقيقة العبادة في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم وكتب اللّغة.

٣٤

العبادة في المعاجم والتفاسير

بالرغم من عناية اللغويين والمفسّرين بتفسير لفظ العبادة وتبيينها ، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل ، وذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني وأوسعها وليس مرادفاً للعبادة طرداً وعكساً.

١ ـ قال الراغب في المفردات : «العبودية : إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحقّها إلّا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ...) (الإسراء / ٢٣)».

٢ ـ قال ابن منظور في لسان العرب : «أصل العبودية : الخضوع والتذلل».

٣ ـ قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط : «العبادة : الطاعة».

٤ ـ قال ابن فارس في المقاييس : «العبد ، الذي هو أصل العبادة ، له أصلان متضادّان ، والأوّل من ذينك الأصلين ، يدلّ على لين وذُلّ ، والآخر على شدّة وغلظة».

هذه أقوال أصحاب المعاجم ولا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّره به أهل اللغة ، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم ، تفسير لها بالمعنى الأعم.

١ ـ قال الطبري في تفسير قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : اللهمّ لك نخشع ونذلّ ونستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة وأنّها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الأقدام وذلّلته السابلة معبَّداً ، ومن ذلك قيل

للبعير المذلّل بالركوب للحوائج : معبَّد ، ومنه سمّي العبد عبداً ، لذلّته لمولاه. (١)

__________________

(١) الطبري : التفسير ١ : ٥٣ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

٣٥

٢ ـ قال الزجاج : معنى العبادة : الطاعة مع الخضوع ، يقال : هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلاً لكثرة الوطء ، وبعير معبّد إذا كان مطلياً بالقطران ، فمعنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : إيّاك نطيع ، الطاعة التي نخضع منها. (١)

٣ ـ وقال الزمخشري : العبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة ، وقوة النسج ، ولذلك لم تستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. (٢)

٤ ـ قال البغوي : العبادة : الطاعة مع التذلل والخضوع وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال : طريق معبّد ، أي مذلّل. (٣)

٥ ـ قال ابن الجوزي : المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال :

أ : بمعنى التوحيد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عن علي وابن عباس.

ب : بمعنى الطاعة كقوله تعالى : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) (مريم / ٤٤).

ج : بمعنى الدعاء. (٤)

٦ ـ قال البيضاوي : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل ، ومنه الطريق المعبّد أي المذلّل ، وثوب ذو عبدة ، إذا كان في غاية الصفافة ، ولذلك لا تستعمل إلّا في الخضوع لله تعالى. (٥)

وسيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخص ، إذ لا تشترط في صدقها غاية الخضوع ، ولذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به

__________________

(١) الزجاج : معاني القرآن ١ : ٤٨.

(٢) الزمخشري : الكشاف ١ : ١٠.

(٣) البغوي : التفسير ١ : ٤٢.

(٤) ابن الجوزي : زاد المستنير ١ : ١٢.

(٥) البيضاوي : أنوار التنزيل ١ : ٩.

٣٦

أبناء الدنيا أمام الله سبحانه عبادة ، وإن لم يكن بصورة غاية التعظيم ، وربّما يكون تفسيراً بالأعمّ ، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته ولا يكون عبادة.

٧ ـ وقال القرطبي : نعبُد ، معناه نطيع ، والعبادة : الطاعة والتذلّل ، وطريق معبّد إذا كان مذلّلاً للسالكين. (١)

٨ ـ وقال الرازي : العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم : طريق مُعبَّد. (٢)

وإذا قصرنا النظر في تفسير العبادة ، على هذه التعاريف وقلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد ومانعة للأغيار ، لزم رَمي الأنبياء والمرسلين ، والشهداء والصديقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ بالله ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك ، ولزم ألّا يصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. وذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها :

١ ـ إظهار التذلّل.

٢ ـ إظهار الخضوع.

٣ ـ الطاعة والخشوع والخضوع.

٤ ـ أقصى غاية الخضوع.

وليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير الله سبحانه وإليك بيان ذلك :

__________________

(١) القرطبي : جامع أحكام القرآن ١ : ١٤٥.

(٢) الرازي : مفاتيح الغيب ١ : ٢٤٢ ، في تفسير قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

٣٧

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع والتذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حدّاً منطقياً لها ، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده ، والتلميذ أمام أُستاذه ، والجنديُّ أمام قائده ، ليس عبادة لهم وإن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى ولو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين ، لا يعد عمله عبادة ، لأنّ الله سبحانه يقول : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء / ٢٤).

وأوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق وإن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (البقرة / ٣٤) وآدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له ، مع أنّ الأوّل لم يكن عبادة وإلّا لم يأمر به سبحانه ، إذ كيف يأمر بعبادة غيره وفي الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم عليه‌السلام إلى الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن الثاني أي الخضوع لله ، عبادة.

والله سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة الله سبحانه والنهي عن عبادة غيره ، كانت أصلاً مشتركاً بين جميع الأنبياء ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل / ٣٦) وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء / ٢٥) وفي موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة : الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية ، إذ يقول : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران / ٦٤) ، ومعه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الإشكال لا يندفع إلّا بنفي كون مطلق الخضوع عبادة ، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً آخر ـ كما سيوافيك ـ لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

٣٨

ولم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه ، بل يوسف الصديق كان نظيره ، فقد سجد له أبواه وإخوته ، وتحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل ، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف / ٤).

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف / ١٠٠) ومعه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت ، الذي ليس هو إلّا حجراً وطيناً ، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة ، قال سبحانه : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج / ٢٩) وقال سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة / ١٥٨).

فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر ، قال سبحانه : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (المائدة / ٥٤).

فمجموع هذه الآيات وجميع مناسك الحجّ ، يدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. وإذا فسّرها أئمة اللغة بالخضوع والتذلّل ، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع ، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع. وإن سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة ، فإنّما سُميت من باب المبالغة والمجاز ، يقول سبحانه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان / ٤٣) فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له ، ضرب من المجاز.

٣٩

ومن ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس / ٦٠ ـ ٦١).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام ، ويترك الفرائض أو يشرب الخمر ويرتكب الزنا ، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لا أنّه يعبده كعبادة الله ، أو كعبادة المشركين للأصنام ولأجل ذلك ، لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك ، وخارجاً عن عداد المسلمين ، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع للعبادة الأعمّ من الحقيقي والمجازيّ.

وربما يتوسع في إطلاق العبادة فتستعمل في مطلق الإصغاء لكلام الغير ، وفي الحديث : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عزوجل فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان». (١)

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع والتذلّل عند ما يقف أمام هذه الدلائل الوافرة ، يحاول أن يجيب ويقول : إنّ سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب وأبنائه ليوسف ، لم يكن عبادة له ولا ليوسف ، لأنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه ولو لا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

وهذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق ، لأنّ معنى ذلك أنّ أمر الله يُغيّر الموضوع ، ويبدل واقعه إلى غير ما كان عليه ، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فإذا افترضنا أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك والمنافق ، فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً ، إذن لو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم ، أو ليوسف ، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره ، مع أنّها فحشاء

__________________

(١) الكليني : الكافي ٦ : ٤٣٤.

٤٠