الإسلام والتناسخ

السيّد حسين يوسف مكّي

الإسلام والتناسخ

المؤلف:

السيّد حسين يوسف مكّي


المحقق: محمّد كاظم مكي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٧

وقد رأيت في كتاب الهفت الشريف (١) ما يؤكد هذه الدعوى وهي قولهم بالتناسخ ـ إن صحت نسبة الكتاب المذكور إليهم ـ ، والمسخ والرسخ والنسخ ، فراجع منه ص ٤٧ باب معرفة الأكوار والأدوار ، وصفحه ٨٩ ، وباب معرفة تراكيب المسوخية وتراكيب الناسوتية ص ١٤٦ و ١٤٧ ، وباب معرفة قلّة المؤمنين ص ١٦٢ و ١٦٩ ، وباب معرفة فعل الصفات بالأولياء ص ١٤٣ و ١٤٤ و ١٤٥ ، ويكثر عندهم القول بالتناسخ ولكن بطريق المسخ ، فأكثروا في هذه الأبواب التي أشرنا إليها من ذكر المسخ والمسوخية.

__________________

(١) أننا ننكر أشد الإنكار أن يكون ما في هذا الكتاب من الروايات صادرا عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام ، ونعتقد أنها مكذوبة عليه بلا ريب ، خصوصا ما ورد فيه مما يشير إلى التناسخ ، وإلى أن أمير المؤمنين والحسين وزكريا لم يقتلوا ، راجع منه ص ١١٥ ، وتأمل تر العجب وتر ما هو مخالف للضرورة ، ولقول الحجة المنتظر (ع) في أن قول من زعم أن الحسين (ع) لم يمت ، كفر وتكذيب وضلال ، راجع الوسائل باب ٦ من أبواب حد المرتد وقد يكون هذا الكتاب موضوعا بأجرة لينسب إلى إحدى الفئات.

٨١

٣ ـ ما نسب للامام الصادق في وصف التناسخ :

المصيبة الكبرى أنهم يروون هذه الأقاويل في هذه الأبواب عن الإمام الصادق (ع) مع أن الإمام الصادق (ع) يرى أن القائل بالتناسخ كافر ، وإليك رواية عنه (ع) تصرح بكفر أهل التناسخ ، فتعال معي لنقرأ ما وصف به الإمام الصادق أهل التناسخ :

روى هشام بن الحكم (١) أن زنديقا سأل الإمام الصادق (ع) عن التناسخ فقال له : أخبرني عن تناسخ الأرواح من أي شيء قالوا ذلك وبأي حجة قاموا على مذاهبهم؟.

قال الصادق : «إن أصحاب التناسخ قد خلّفوا وراءهم منهاج الدين وزينوا لأنفسهم الضلالات ، وأمزجوا أنفسهم في الشهوات ، وزعموا أن السماء خاوية ما فيها ما يوصف ، وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين بحجة من روى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته ، وأنه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، والقيامة عندهم خروج الروح من قلبه وولوجه

__________________

(١) راجع هذه الراوية في احتجاج الطبرسي ص ١٨٨ ص النجف الأشرف ١٣٥٠ ه‍ ورواها في البحار ج ٢ ص ٣١٩ ط حجري في إيران.

٨٢

في قالب آخر ، فإن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة من الدنيا ، وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا أو في هوام مشوبة الخلقة ، وليس عليهم صوم (١) ولا صلاة ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة ما تجب عليهم معرفته ، وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم من فروج النساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة ، وكذلك الميتة والخمر والدم ، فاستقبح مقالتهم كل الفرق ، ولعنهم كل الأمم ، فلما سئلوا الحجة زاغوا وحاروا ، فكذب مقالتهم التوراة ، ولعنهم الفرقان (٢) ، وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب ، وأن الأرواح الأزلية هي في آدم ، ثم هلم جرا تجري إلى يومنا هذا

__________________

(١) ويوجد في هذا الزمان من ينسب إليه القول بالتناسخ ويقول بأنه ليس عليهم صوم ولا صلاة إلى آخر ما ذكره (ع).

(٢) الآية الدالة على لعنهم ما ورد في سورة الإسراء ؛ الآية : ١٧ ، وفي آخرها قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ، والدحر هو الإبعاد عن الرحمة ومثله اللعن ، والآيات الواردة في ذم منكري البعث كثيرة جمعها في البحار ج ٣ من ص ١٦٥ إلى ص ١٧٠ ، ط حجري. والقائلون بالتناسخ ينكرون البعث والجنة والنار.

٨٣

في واحد بعد آخر ، فإذا كان الخالق على صورة المخلوق فبم يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه؟ ، وقالوا : إن الملائكة من ولد آدم ، كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك ، فطورا تخالهم نصارى في أشياء ، وطورا دهرية يقولون إن الأشياء على غير الحقيقة ، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان لأن الدواب كلها عندهم من ولد آدم حوّلوا من صورهم فلا يجوز أكل لحم القربات».

فإذا تأملت في هذه الرواية علمت أن الإمام الصادق (ع) يرى أن القائل بالتناسخ كافر لأنه وأمثاله تركوا الدين وزينوا لأنفسهم الضلالات ولأنهم قالوا بأنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور ، وأن القيامة عندهم على ما وصفه في كلامه (ع) ولأنهم يقولون إن الله تعالى له صورة كصورة المخلوقين وهذا موجب للكفر أيضا ، ولأنهم يرون أن إلههم ينتقل في الأجسام كما هي مقالة أهل العقائد القائلين بحلول إلههم في المخلوق ، وطورا تراهم كالدهرية لأنهم يرون أن الطبيعة ليست إلها ، وأن الأشياء خلقت على غير الحقيقة أي بالإهمال من دون أن يكون لها صانع راعى

٨٤

الحكمة في خلقها ، وسيأتي في فصل أدلة بطلان التناسخ نقل روايات صريحة بأن القائل بالتناسخ كافر.

وقوله (ع) في آخر الرواية : أن لا يأكلوا اللحمان إلخ يشير إلى ما ذكره أولا من مقالة التناسخيين من أن المسيء يصير في بعض الدواب المتعبة أي يصير حيوانا فهو ابن آدم فكيف يأكلون لحمه؟.

هذا ما صرّح به الإمام الصادق (ع) من العقيدة بأهل التناسخ فكيف يمكن أن تصح الروايات التي نسبوها إلى المفضل بن عمرو وأنه رواها عن الإمام الصادق (ع) ، فكل ما نسب من الرواية إلى المفضل عن الإمام الصادق ـ في كتاب الهفت ـ مكذوب لا حجة له ، أضف إلى ذلك ما حواه كتاب (الهفت) من المتناقضات والحشو وركاكة التعبير التي لا تصدر من الإمام الفصيح البليغ ، وما ورد فيه من التعبير بالنسخ والمسخ والرسخ والفسخ مما هو من أقسام التناسخ عند بعض الفلاسفة كما سنذكره في أقسامه ، والتعبير بالأدوار والأكوار ـ كما في الباب الثالث ، والباب السابع والعشرين من كتاب الهفت ـ مما هو من تعبير الفلاسفة (غير المسلمين) القائلين بالتناسخ ، كل ذلك يشهد بأن هذا الكتاب قد أخذ الكثير منه من مقالات بعض

٨٥

الفلاسفة القائلين بالتناسخ وغيرهم ، ولا سيما وأنه قد ورد في هذا الكتاب من العبائر الدالة على أن الله تعالى جسم ـ والعياذ بالله ، راجع الباب الأول منه ـ وما فيه من تفسير الآيات القرآنية على غير وجهها ، فإن ذلك كله يقضي بعدم صحة نسبة ما فيه من الروايات إلى الإمام الصادق (ع) ، لبراءته مما قيل فيه من القول بالتجسيم ، فإنه لديه (ع) موجب للكفر.

وقد ورد عنهم أن أفلاطون في جدولهم النوراني بمنزلة محمد المصطفى (ص) ، وأرجو أن لا يكون الآن من يعتقد بهذه العقيدة ، وأن يتنبه الناس ويتبصروا ويفكروا في طريق الصواب فإنه واضح لمن تدبر ، وأن يفكروا في قبح تنزيل أفلاطون منزلة النبي الأعظم (ص) الذي هو أفضل جميع مخلوقات الله تعالى في كل النواحي وأني لمثل أفلاطون أن يضاهي من هو دون النبي (ص) أليس هذا التشبيه والتنزيل من الكفر؟ وكيف غفل عنه القائل بهذه المقالة إن كان مسلما.

٤ ـ موقف الفخر الرازي من التناسخ :

لقد قال الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب (١)

__________________

(١) ج ٤ ، ط المطبعة الشرقية بمصر ، الطبعة الأولى ١٣٠٨ ه‍.

٨٦

في تفسير قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (١) : ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة وبالأخلاق الطاهرة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك وربما قالوا : إنها تنتقل إلى مخالطة عالم الملائكة ، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنتقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقا للعذاب نقلت إلى حيوان أخس وأكثر شقاوة ، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية ، يعني التي أشرنا إليها وسننقلها في جملة أدلتهم الآتي ذكرها ، ونتكلم فيما يدفع استدلالهم بها.

وقال الفخر الرازي فيما نقله عنه في (مجمع البحرين في مادة نسخ) : «إن المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردها في الأبدان لا في هذا العالم ، والتناسخية يقولون بقدمها وردها في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنة والنار وإنما كفروا من هذا الإنكار» (٢).

__________________

(١) سورة الأنعام ؛ الآية : ٣٨.

(٢) ونقل عنه هذا الكلام في البحار ج ٣ ص ١٨٠ ط حجري في إيران.

٨٧

بل يكفرون لأجل هذا ولقولهم بقدم النفوس ، لأنه لا قديم سوى الله تعالى شأنه كما برهن عليه في كتب التوحيد والكلام.

وقال في (مجمع البحرين) في مادة روح : «التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلق الأرواح بعد خراب أجسامها بأجسام أخرى في هذا العالم مترددة في الأجسام العنصرية».

٨٨

ثانيا : أقسام التناسخ وأنواعه :

١ ـ أقسام التناسخ :

ذكر كتاب البحار أقساما للتناسخ حكاها عن بعض الفلاسفة وذكرها أيضا الفيلسوف الشيعي الكبير محمد بن إبراهيم المعروف بملّا حسن ، أو صدر الدين الشيرازي ، وذكرها أيضا الحكيم الفيلسوف الشيخ هادي السبزواري في منظومته ، قال في البحار (١) مع تصرف منّا في عبارته : وأن التناسخ أربعة أقسام هي :

__________________

(١) في المجلد الرابع عشر المسمى بالسماء والعالم في مبحث أحوال النفس في الفائدة الأولى من الفوائد المتعلقة بأحوال النفس ص ٣٤٨ ، ط حجري في إيران ، وفي الأسفار للملا صدرا ج ٤ ص ٩٧ وما بعدها إشارة إلى هذه الأقسام ، وأشار إليها السبزواري في منظومته ص ٣١٢ و ٣١٤ ، ط حجري في إيران ، وهو من فلاسفة القرن الثالث عشر الهجري كما أن الفيلسوف الملا صدر من فلاسفة القرن الحادي عشر الهجري توفي في سفره إلى الحج سنة ١٠٥٠ ه‍ بعد أن حج ماشيا عدة مرّات.

٨٩

النسخ : وهو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر إنساني.

المسخ : وهو انتقالها من بدن إلى بدن حيوان آخر من البهائم وغيرها كما قال به بعض التناسخية.

الفسخ : وهو انتقالها إلى نبات كما قال به بعض التناسخية.

الرسخ : وهو انتقالها إلى جماد كما قال به بعض التناسخية ، وبعض الفلاسفة يرى انتقالها إلى جرم سماوي.

ثم تنقسم هذه الأقسام إلى قسمين تناسخ اتصالي كانتقال النفس على سبيل الاتصال في مادة واحدة ، كما في ترقي الإنسان من الجماد إلى النفس النباتية ، ثم إلى الحيوانية ثم إلى الإنسانية.

وإلى تناسخ انفصالي وهو رأي التناسخية ، أعني انتقال النفس بعد مفارقتها البدن إلى بدن آخر ينفصل عن الأول.

ثم إن هذه وتلك الأقسام الأربعة قسمت من حيث الصعود والنزول إلى قسمين : تناسخ صعودي وتناسخ نزولي.

٩٠

فالصعودي : هو انتقال النفس من بدن إنساني إلى بدن إنساني منفصل عن البدن الأوّل على سبيل الترقي والصعود بأن تترقى فتنتقل إلى بدن ملك من الملوك أو إلى غيرهم من السعداء والكاملين ، أو إلى ملك من الملائكة ، أو تنتقل من النفس النباتية إلى الحيوانية كالدود ، ثم إلى أعلى مرتبة حيوانية ، ثم إلى رتبة الإنسانية (١).

والنزولي : أن تنتقل من بدن الإنسان إلى جسم غير إنساني ، فتنتقل إلى جسم نباتي ، أو تنتقل من بدن الإنسان إلى جماد كما نسب إلى إخوان الصفا (٢)

__________________

(١) نسب ذلك إليهم صدر المتألهين في الأسفار ج ٤ ص ٩٨ ، ط حجري في إيران.

(٢) وهذا نسبه صدر المتألهين إلى بعض أهل التناسخ القائلين بانتقال النفس من بدنها إلى بدن آخر ، راجع الأسفار ج ٤ ص ٩٨ ، وبعد مراجعتي لكتاب رسائل إخوان الصفا وجدت في ج ١ ص ٣٦٠ ، ط العصرية في مصر ١٣٤٧ ه‍ ، عبارة يمكن أن تكون منشأ هذه النسبة إليهم ، قالوا في جملة كلام لهم في فصل : «الإنسان إذا ارتقى صار ملكا» : (حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية وتلبس الصورة الملكية ويمكنك الصعود إلى ملكوت السماوات وسعة الأفلاك) الخ ، فإنه محتمل للتناسخ ولكنه تناسخ صعودي والمنسوب إلى التناسخيين تناسخ نزولي ولم أعثر على كلام لهم فيه عاجلا.

٩١

أو تنتقل إلى بدن حيواني كالبهائم وغيرها كما في الناقصين من الناس والأشقياء على طبقاتهم.

وهذا النوع الأخير من التناسخ النزولي ينسب إلى (يوزاسف) ومن قبله من حكماء بابل وفارس (١) وتظهر نسبته إلى غيرهم من ملاحظة ما ذكرناه آنفا من أقوال القائلين بالتناسخ ، وقد تقدم نقل كلام ابن حزم في تفصيل الفرق بين القائلين بالتناسخ ، وأن بعض الدهريين يقول بأن النفس تنتقل من بدنها الإنساني إلى بدن آخر من نوعها.

إنك إذا تأملت هذا الصعود والنزول في تقسيم التناسخ ترى العجب والخرافات التي يربأ كل إنسان عاقل أن يعتقد بها. ولا بأس بأن ننقل لك رأي (يوزاسف) التناسخي القائل بالأكوار والأدوار ، ومن قبله من حكماء بابل وفارس ـ الذين تبعهم على رأيهم كثير ممن يقول بالتناسخ ـ في التناسخ النزولي موضحين لك هذا الرأي ببيان واضح ليمكنك فهمه وتقف على محله من السقوط والسخافة وتتنبه وأنت تطالع إلى سخافة القول بالتناسخ وتسامي العقل الصحيح عن أن

__________________

(١) راجع الأسفار ج ٤ ص ١٠٠.

٩٢

يقرّه ، قال ما حاصله (١) : «إن أول منزل ـ الذي تحل فيه لأن يوزاسف يقول بأن الروح جسم حالّة ومنطبعة في البدن ـ هو البدن الإنساني ، ويسمونه باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية والنباتية ، يعني أن البدن الإنساني تنتقل منه النفس إلى جميع الحيوانات الأرضية ، فحياة جميع هذه الحيوانات تكون بانتقال النفوس الإنسانية إليها ، فلا حيوان عندهم غير الإنسان ، فبحسب ما يكون له من الأخلاق الذميمة يكون له أبدان حيوانية مناسبة لذلك الخلق ، فنفسه تنتقل إلى أبدان حيوان يناسب خلقه ، واختلاف الحيوانات في الحقائق إنما هو لاختلاف الناس في الأخلاق المحمودة والمذمومة ، فنفسية الخنزير مثلا إنما هي خلق ذميم للإنسان ، فانتقلت نفسه (أي الإنسان) إلى الخنزير لأن الخلق الذميم الذي كان في الإنسان

__________________

(١) نقل عنه هذا الرأي في الأسفار ج ٤ ص ١٠٠ ، ط حجري في إيران ، ونحن نقلنا عنه ملخصا وموضحا ، (ويوزاسف) هو الذي حكم بأن الطوفان النوحي يقع في أرضه ، وحذّر بذلك قومه ، وقيل إنه هو الذي شرّع دين الصابئة (عبدة النجوم والأصنام) لطهمورث ، راجع في هذا الأسفار ج ٤ ص ٩٨ ، وفي كتاب درر الفوائد شرح منظومة السبزواري ج ٢ ص ٣٩٨ نقل عن صدر المتألهين ـ في بعض النفوس الفلكية ـ إن يوزاسف كان رئيس المنجمين.

٩٣

انتقل منه إلى نفس الإنسان الموصوفة بالخلق الذميم إلى حيوان يناسب خلقه رداءة ورذالة وخباثة ، فخلق الحرص والشره يناسب الخنزير والنملة لاشتراكهما في خلق الحرص ، وان اختلفا فيه شدة وضعفا ، وخلق السرقة يناسب الفأرة وهكذا انتهى ملخصا وموضحا».

وعلى رأي هؤلاء لا يكون في الإنسان من هو سعيد وكامل إلّا القليل جدا ، بل غالب أفراده تكون في شقاء تنتقل نفوسهم إلى أبدان حيوانات تناسب حقائقها أخلاقهم الذميمة ، ويكون التناسخ عندهم في الأغلب نزوليا من النفس الإنسانية إلى النفس الحيوانية وأبدان البهائم الشرسة والهيئات الظلمانية ، والحيوانات الصامتة التي تنتقل نفس الإنسان إلى أبدانها هي عندهم الجحيم وعالم العناصر ، والذي يكون سعيدا وكاملا وترتقي نفسه إلى الملكوت الأعلى قليل جدا عندهم.

ويلزم أيضا على رأيهم أن يتصل وقت فساد البدن الذي كانت فيه بوقت وجود البدن الحيواني الصامت ، ففي آن خروج الروح من البدن يوجد ذلك البدن الحيواني المناسب لخلق النفس وتنتقل إليه من الإنسان بلا تعطيل ، فالإنسان بموته يحل في بدن كلب أو خنزير أو فأرة أو حمار أو بغل ، أو نملة أو نمر أو أسد وهكذا

٩٤

إلى آخر ما يترتب على قولهم من الخرافات التي لا يقبلها العقل فضلا عن الشرائع المقدسة ، ودعاواهم هذه باطلة فتكون دعوى التناسخ باطلة كما سنوقفك على أدلة بطلانها.

ومن الذي أطلع على هذا الانتقال والتولد الحيواني ، ومن الذي عرف هذا التولد؟ ومن الذي رأى نفس الإنسان يخرج إلى هذا الوجود حيوانا كلبا أو خنزيرا أو غيرهما؟ على قولهم هذا تخرج النفس من بدن الإنسان وتدخل فورا إلى ما في بطن أم الحمار من حمل ثم يولد فورا حمارا أو يبقى في بطنها حمارا حتى يأتي موعد ولادتها فيخرج حمارا له نفس حمار ونفس إنسان ، لأنه على مقتضى دعواهم كان قبل ولوج نفس الإنسان فيه ذا نفس حمارية أو تغلب النفس الحمارية النفس الإنسانية فيكون حمارا محضا ، وهكذا إلى آخر ما يلزم قولهم من الخرافات والبدع والأفكار السخيفة.

ومن العجب كيف صار أهل هذا القول فلاسفة ، وكيف نسج على منوالهم بعض من يتسم بسمة الإسلام ، وانخدع بأقوالهم من تبعهم عليها غفلة أو قصورا أو تقصيرا عن النظر في أن العقل البشري الذي هو أعظم هبة من الله للإنسان ، ولا يقبل ذلك إلّا من

٩٥

عاش في عزلة ولم تشرق عليه أنوار العقل الصحيح ، والشرائع السماوية المقدسة ولم تقومه التعاليم الإسلامية الصحيحة ، ولا تعاليم غيرها من الشرائع السابقة عليها.

٢ ـ نتيجة الأقوال التناسخية وأقسام التناسخ :

فظهر من جميع ما أسلفنا ذكره وتلوناه من أقوال أهل التناسخ وأقسامه أن النتيجة المترتبة عليها ، والمقصودة منها هو إنكار البعث والمعاد ، وأن الثواب والعقاب يكون في دار الدنيا ، وأبدان الحيوانات التي تنتقل إليها نفس الإنسان هي الجحيم والنار التي يعذب فيها ، وأبدان الملوك والسعداء هي النعيم ، وإذا ترقت نفوس الملوك والسعداء إلى نفوس الملائكة كانت ملائكة وعقلا ، فيزداد عدد الملائكة على هذا إلى ما شاء الله ، ويزداد عدد السعداء ، وتكثر المسوخ ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، ونحمده تعالى على أن وهب لنا عقولا تسامت عن الوقوع في مثل هذه البدع والخرافات ، والأوهام والأفكار المردودة.

٣ ـ بعض أقسام التناسخ لا تدخل في الباطل منه :

إن ما سمي من أقسام التناسخ تناسخا اتصاليا ليس

٩٦

داخلا في التناسخ الباطل لأنه دور ينمو في جسم الإنسان ، وتكامل في نفسه ، وانتقال من القوة إلى الفعل ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن النطفة والعلقة إلى الجنين فإلى الطفولة والصبا ، فإلى الشباب ، فالشيخوخة ، فالهرم ، وفي كل هذه المراحل يكون للنفس شأن وتحول من الضعف إلى القوة ، إلى درجات الكمال والصفاء.

وإن ما سمي من أقسامه فسخا ورسخا ليس هو من أقسامه الباطلة أيضا ، لأن النفس جوهر مجرد لا ينتقل إلى جماد ، إذ هو جسم ، والنفس ليست جسما قائما بذاته ، ولا قائما في جسم بنحو الانطباع والحلول ، وإلّا جاز عليها الانقسام والتجزئة ، وكانت ذات وضع وحيّز ، ولا تنتقل إلى نبات ، لأنها لا تنزل من الفعل إلى القوة (١) كما سيأتي بيانه في دليل إبطال التناسخ الانفصالي نزوليا كان أم صعوديا ، كما أنها لا تنتقل إلى جرم فلكي لأن جوهريتها المجردة تنافي ذلك.

__________________

(١) القوة هي مبدأ التغير والتحول إلى جهة الترقي والكمال ، أو نفس الاستعداد أو القابل لذلك ، أو الوجود الضعيف القابل للترقي إلى وجود أقوى.

٩٧

٤ ـ المسخ ليس من التناسخ :

ليس المسخ من التناسخ أصلا فضلا عن أن يكون من أقسامه الباطلة ، ويتضح هذا بالبحث عن حقيقة المسخ.

وهو ـ كما جاء في مجمع البحرين في مادة مسخ ـ تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها يقال : «مسخه الله قردا».

ونص على هذا المعنى بعض المحققين ، وصرّح به في البحار في الفائدة الثالثة في أحوال النفس ، فالمسخ فيه ليس إلّا تغيير صورة الممسوخ وهيئته ، ولا تتغير نوعيته الإنسانية ، ولا تنتقل روح الممسوخ إلى بدن آخر ، بل يبقى إنسانا على صورة قرد مثلا ، ثم يموت إنسانا.

وتغير صورة الشخص إلى صورة أقبح مع بقائه حيا ليس نسخا ، إذ النسخ كما ذكرناه أن يموت الشخص ، ثم تنتقل نفسه بعد الموت إلى بدن إنسان أو حيوان آخر.

ولا يوجد مسوخ اليوم ، بل وجد المسخ في بعض الأمم السابقة ، والذي يمسخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ، وإليك جملة من الروايات الدالة على ما ذكرناه.

٩٨

روي في البحار (١) عن أبي جعفر الباقر (ع) : أن الفرقة المعتزلة عن أهل السبت لما دخلوا قريتهم بعد مسخهم عرفت القردة أنسابها من الإنس ولم يعرف الإنس أنسابها من القردة ، فقال القوم للقردة (أي الممسوخين) : «ألم ننهكم».

وقال في البحار : وفي تفسير العسكري (ع) : «مسخهم الله قردة وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منهم أحد ، ولا يدخل إليهم أحد ، وتسامع بذلك أهل القرى ، فقصدوهم وتسنموا حيطان البلد ، فاطلعوا عليهم ، فإذا كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض ، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخطؤهم ، يقول المطلع أنت فلان ، أنت فلان؟ فتدمع ويومي برأسه أي نعم».

وهاتان الروايتان تدلان على أن المسخ لا يبدل إلا صورة الإنسان مع بقائه إنسانا حيا ، وأنه ذلك الإنسان الذي كان قبل المسخ وأين هذا من التناسخ؟.

وروى الصدوق رحمة الله في علل الشرائع (٢)

__________________

(١) في ج ١٤ المسمى بالسماء والعالم ، في الفائدة الثالثة في أحوال النفس ؛ مبحث التناسخ والمسخ.

(٢) رواه عنه في البحار ج ١٤ مبحث أحوال النفس والتناسخ والمسخ.

٩٩

بإسناده عن عبد الله بن الفضل قال قلت لأبي عبد الله (ع) : قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) قال (ع) : «إن أولئك مسخوا ثلاثة أيام ، ثم ماتوا ولم يتناسلوا ، وإن القردة اليوم مثل أولئك وكذلك الخنزير وسائر المسوخ ما وجد منها اليوم من شيء فهو مثله ، لا يحل أن يؤكل لحمه الحديث».

وروى في عيون أخبار الرضا (ع) بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال : سمعت المأمون يسأل الرضا علي بن موسى (ع) ، عما يرويه الناس من أمر الزهرة ، وإنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦٥ ، وردت في قوم من اليهود أمرهم بترك الصيد في السبت فعصوا الله تعالى فمسخهم قردة عقوبة لهم ، قال في (مجمع البيان) قال ابن عباس : فمسخهم الله عقوبة لهم ، وكانوا يتعاوون ، وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ، ثم أهلكهم الله ، وجاءت ريح فهبت بهم وألقتهم في الماء ، وما مسخ الله أمة إلّا أهلكها».

وهذه الأمة الممسوخة المذكورة في هذه الآية من بلد على شاطئ البحر اسمها (ايلة) كما روي عن أبي جعفر (ع) على ما ذكره في مجمع البيان ، وكما يشير إليه قوله تعالى في سورة الأعراف ، الآية : ١٦٣ ، فراجع تفسيرها ، والشباب مسخهم قردة والشيوخ خنازير كما فى تفسير الآية ٦٠ من سورة المائدة.

١٠٠