الإسلام والتناسخ

السيّد حسين يوسف مكّي

الإسلام والتناسخ

المؤلف:

السيّد حسين يوسف مكّي


المحقق: محمّد كاظم مكي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٧

وهي النفس ، فبينهما تلازم في الوجود وتعلق ذاتي ، وهو احتياج ذات كل منهما إلى الآخر في وجوده.

٢ ـ التركيب بين النفس والبدن اتحادي بحيث يكون البدن هو النفس من حيث اتحادهما في الوجود ، فالنفس صورة نوعية للبدن متحد معها وجودا ، وتحصل وتقوم بها ، فهي علة لوجوده وتحصله ، والبدن مادة لها متعلقة به.

ومقتضى هذا الاتحاد في الوجود أن تكون التحولات والحركات الذاتية التي تحصل لها حاصلة لكل منهما في آن حصولها للآخر ، فلا يكون للنفس حركة ذاتية جوهرية (١) ولا تحول ذاتي إلّا ويكون للبدن

__________________

(١) لأجل أن يحيط المطالع بفكرة الحركة الجوهرية ، نذكر باختصار أمورا لتتضح لديه هذه الفكرة :

١ ـ الحركة عند قدماء الفلاسفة هي أن يخرج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجا ، والحركة تقع في المقولات ، ومعنى الحركة في المقولة ـ كما يقوله الفيلسوف السبزواري ـ أن يتحرك الجوهر من نوع مقولة إلى نوع آخر منها ، ومن صنف أو فرد إلى فرد أو صنف آخر على سبيل الاتصال في هذا التبدل والتحرك ، كالتحول من السواد إلى البياض ، أو من مرتبة من السواد إلى مرتبة أشد منها ، وكالتحول (في الكم) كالنمو فيه فإنه زيادة في مقدار ، وكالذبول فإنه نقصان فيه ، وكالتحرك (في الكيف) بتغير الطعم والرائحة واللون من أول طلوع الثمرة إلى أن تنضج .. ـ

١٢١

مثلها في آن حصوله للنفس كما سيأتي بيانه في المقدمة الثالثة.

__________________

٢ ـ ولا بد من أن يكون موضوع الحركة قارا فلا تتحقق في غير القار ، والحركة في القار آنيّة الوجود في الذي له وجود دفعي ، ومن فرد إلى فرد في آن غير آن الأول فيما يكون وجوده في مدة ، كالتغير في الطعم إلى مرحلة النضوج مثلا.

٣ ـ المقولات التي تقع فيها الحركة هي : مقولة الكم كالنمو والذبول كما أشرنا إليه آنفا ، ومقولة الكيف كحركة الجسم في الألوان من نوع إلى نوع أو صنف أو فرد إلى آخر كما أشرنا إليه ، ومقولة الوضع كانتقال الجسم من هيئة إلى أخرى كالانتقال من القيام إلى القعود مثلا ، ومقولة الأين كانتقال الجسم من مكان إلى آخر على سبيل التدرج.

٤ ـ أعراض الجوهر الذاتية كالطعوم والألوان ، والنمو والذبول ، والبرودة والتسخن وصفاته ، تتبعه في التبدل والتدرج نحو الاكتمال ، وفي السكون ، ولا يمكن أن لا تكون تابعة له في ذلك ، وإلّا لزم بقاء العرض بلا موضوع وهو محال بعد أن كان العرض لا يستقل في الوجود ، ولا وجود له غير وجود معروضه.

٥ ـ موضوع الحركة هو الهيولى ـ وهي المادة أو القوة القابلة لتلبسها بالصورة الجسمية والنوعية ـ في الحركة الجوهرية والكمية ، والجسم في بقية المقولات ، فموضوع الحركة هو الهيولى أو الجسم وما فيه الحركة هو خصوصيات مقادير الموضوع المعينة.

٦ ـ والحركة في المقولات متفق عليها عند الفلاسفة ، وإنما الخلاف في الحركة الجوهرية أعني طبيعة الجوهر ، وصورته ـ

١٢٢

٣ ـ إن النفس والبدن في أول حدوثهما لهما القوة والاستعداد للترقي والتطور إلى مراتب الكمال والفعلية ، فالنفس لها تحولات وارتفاع من القوة إلى الفعل بإزاء

__________________

ـ النوعية التي يتحصّل بها ، والحركة التي تعرض على الصورة النوعية ـ التي هي علة لوجود الجنس ـ تعرض على الجنس فيكون متحركا بعين تحرك فصله.

والحركة في الجوهر هي أن الشيء يعرض عليه التجدد والتغير الذاتي ، وعلى أعراضه الذاتية وأوصافه ، والجوهر المتحرك ـ أعني الصورة النوعية ، المستلزمة لحركة الأجسام معها لاتحاده معها وجودا ـ هو في حركة مستمرة ، فالمتحرك منه في كل آن جزءا أو فردا غير المتحرك منه في الآن الذي قبله أو بعده ، وحركته المستمرة نستلزم حركة أعراضه وأوصافه الذاتية.

ولا تقتصر الحركة الجوهرية على العالم والأجسام الطبيعية فيه ، بل تعرض على النفس الناطقة التي هي الصورة النوعية للأجساد ، فإن لهذه النفس مراتب تتدرج فيها ، فإنها تكون في أول تعلقها في البدن ضعيفة ثم تتدرج في مراتب الكمال إلى أن تبلغ أكملها.

والصورة النوعية التي معروض الصفات والآثار بها يحصل امتياز الأجسام ، فإن لكل جسم أوصافا خاصة ، والأنواع ذوات الأوصاف الخاصة تتميز عن بعضها بالصور النوعية.

٧ ـ وقوع الحركة الجوهرية أمر ثابت بالأدلة العقلية نذكر منها هذا الدليل :

إن الأعراض الواردة على الجسم المتقدم ذكرها من الكيف والكم وغيرها مرتبطة بذاته وجوهره وصورته النوعية ، ارتباط العلّة ـ

١٢٣

تحولات البدن وخروجه من القوة إلى الفعل ، فلها في كل وقت تحولات وشئون ذاتية بإزاء تحولات البدن ، من سن الصبا والطفولة والشباب والشيخوخة ، والهرم ، وغيرها ، ويسير كل منهما في تحولاته الذاتية مع الآخر في ارتفاعه وتحوله جنبا لجنب ، فما يحصل لنفس من رتبة من القوة يكون للبدن بإزائها وفي وقت حصولها رتبة للبدن بالقوة ، وما يحصل لها من رتبة تحول وترق بالفعل يحصل مثلها في نفس الوقت درجة ترق وتحول للبدن بالفعل.

فمراتب القوة والفعل للنفس يقابلها في وقت

__________________

ـ بالمعلول ، ولا يمكن أن يتخلف المعلول عن العلّة في الحركة والسكون.

والأعراض في تبدل وتغير ، ألا ترى أن اللون والطعم ، والرائحة ، والحلاوة في الفواكه تتبدل من درجة إلى أخرى ، متصاعدة فيها إلى التكامل والنضوج وهكذا غيرها من الأعراض. فأعراض العالم وكل الطبائع ، والنفوس تسير في تبدل وتطور ، ولا بد من أن يكون تطورها وسيرها ناشئا من التبدل والتطور في علتها ، وهو الجوهر المعروض لها ، وإذا تبدلت وتطورت مع بقاء علتها وهي الجوهر ، ثابتة غير متحركة ولا متطورة لزم أن يوجد العرض بدون معروضه والمعلول بدون علته ، وهو غير ممكن ، إذ فرضنا أن العرض لا يستقل في الوجود ، ولا وجود له بوجود معروضه.

١٢٤

حصولها لها مراتب القوة والفعل للبدن فهما في هذه المراتب متكافئان.

وهذا التكافؤ بين هذه المراتب هو نتيجة كون التركيب بينهما اتحاديا ، أي كون الاتحاد بينهما في الوجود ، إذ مقتضى هذا الاتحاد أن يسيرا في هذا الترقي والتحول جنبا لجنب ، لا يتخلف أحدهما في مراتب ترقيه وتحولاته من القوة إلى الفعل عن الآخر في مراتب ترقيه.

وإنما كان لهما هذا الترقي من القوة (١) إلى الفعل لأن كلا منهما متحرك بالحركة الجوهرية الاستكمالية ، والجوهر في حركته الذاتية ينتقل من القوة إلى الفعل متدرجا إلى آخر مراتب كماله المتوقعة.

٤ ـ إن النفس بعد خروجها من البدن تكون قد بلغت مرحلة الفعلية أي بلغت آخر مراحل استكمالها ،

__________________

(١) القوة هي مبدأ الفطرة والاستعداد والتطور ، والوجود الضعيف الذي من ضعفه يقال له : قوة الوجود ، وإنما يقال له ذلك إذا قيس إلى العدم المحض ، والفعل هو في البدن بلوغه إلى تمام الخلقة وآخر مراحل التكامل فيها بحيث لا يبقى بعدها تكامل مترقب ، وفي النفس أن تبلغ آخر مراتب استكمالها ، ولا يبقى لها وهي في البدن وجود كامل متوقع.

١٢٥

وليس لها ـ وهي في البدن ـ وجود كامل متوقع ، ويستحيل بعد أن بلغت هذا الحد من الفعلية والتكامل أن تعود إلى بدن هو في مرتبه القوة ـ وهو كونه جنينا بعد النطفة والعلقة والمضغة ـ كما استحال أن يعود البدن بعد بلوغه إلى تمام الخلقة وآخر مراحل التكامل في الوجود ، نطفة أو علقة أو مضغة أو جنينا ، إذ يلزم من هذا القول أن يكون وجود الشيء وجودا بالقوة وبالفعل ، وهو ممتنع لعدم التكافؤ في الوجود وقد تقدّم في المقدمة الثانية أن التركيب بين البدن والنفس اتحادي والتركيب المذكور يستحيل أن يكون بين أمرين أحدهما له وجود بالقوة ، والآخر له وجود بالفعل ، لما عرفت من عدم التكافؤ ، وإلّا يلزم التناقض وقد أوضحنا في المقدمة الثالثة التلازم بين مراتب الترقي في الوجود لكل من البدن والنفس ، وحيث استحال التركيب المذكور بين ما له الوجود بالقوة والوجود بالفعل ينتج أن التناسخ مستحيل عقلا فكيف بجوز لعاقل أن يلتزم به.

«الوجه الرابع» :

إن القول بالتناسخ يناقض القول بأن للأشياء غايات

١٢٦

تتوجه بذاتها نحوها وتفصيل ذلك هو (١) :

إن الموجودات الطبيعية النامية المتحركة ، وكذلك النفوس ، لها غايات ذاتية زمانية تتوجه إليها بذاتها وبحسب غرائزها ، وتسير نحوها طالبة لها ، وتلك الغايات هي الكمال في الوجود والقوة فيه ، فتخرج بحركتها نحوها من النقص إلى الكمال ، ومن الضعف إلى الشدة ، ومن الاستعداد إلى الفعلية ، شيئا فشيئا إلى أن تحصل الغاية المذكورة لها.

فالنفس ما دامت في البدن يقوى وجودها حتى تصير مستغنية عن المتعلّق ـ أي البدن ، فعودها بعد فساد البدن مادية الذات ـ كما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد فساد البدن تصير مادية أي نفسا حيوانية غير مجردة ذاتا وفعلا ـ وهبوطها من القوة والشدة في الوجود إلى الضعف فيه ـ كما هي الحال في كل نفس فإنها في أول الفطرة تحدث في البدن ضعيفة الوجود ، ثم تترقى إلى مراحل الفعلية في الوجود التام والآراء والملكات والأخلاق ـ ، إن عودها إلى ما ذكر يناقض القول بأن

__________________

(١) أشار إلى هذا البحث الفيلسوف صدر المتألهين في كتابه (الأسفار) ص ١٠١ ط حجري ونقله عن الحكماء الإلهيين في ص ٩٥ من كتابه المذكور.

١٢٧

للأشياء غايات ذاتية تتوجه إليها بحسب ذاتها وطبعها وغرائزها ، والتناقض ممتنع ، فالقول بالتناسخ المزعوم يقتضي عود النفس من القوة في الوجود ـ الذي هو الغاية لها ـ إلى النقص والضعف فيه ، وهذا العود ممتنع فالتناسخ ممتنع.

وأما الحركة الرجوعية التي تعرض للطبائع قسرا وبغير اختيار فهي :

أولا : دائمية ولا أكثرية.

ثانيا : ليست هي حركة ذاتية تنبعث عن ذات المتحرك وطبعه ، بل هي عرضية تعرض على الطبيعة من جهة القسر والإجبار ، ومحل بحثنا هو الحركة الذاتية ، وهي تكون ـ كما ذكرنا ـ من الضعف في الوجود إلى القوي منه.

ثالثا نقول : إن الحركة الوجودية الاستكمالية التي نصدر من ذات النفس إلى غايتها ، أو من ذات الموجودات الطبيعية إلى غاياتها لا يصادمها ـ ما دام الموضوع والمتعلّق للنفس ـ قسر قاسر ولا إجبار ، بل تصادمها العوارض التي تقتضي الهلاك والعدم ، وعند ذلك يفنى الجسم ولا يبقى للشيء حركة استكمال في الوجود غير

١٢٨

ما حصل في مدة وجود الجسم والمتعلق ، ففناء الجسم يقتضي وقوف التوجه إلى الاستكمال في الوجود ولا يقتضي الانحطاط والنزول عما كان عليه ، فلا يتراجع من الوجود القوي إلى الضعيف الذي يكون في أول الفطرة.

والنفس بعد خروجها من البدن تبقى على وجودها القوي ، وتصير مستقلة في الوجود مستغنية عن البدن المادي العنصري ، تتنعم ـ إن كانت سعيدة ـ بنتائج الأعمال الحسنة والأخلاق الشريفة ، وإن كانت شقية تتعذب بسبب ما صدر عنها من المعاصي وقبائح الأفعال.

«الوجه الخامس» :

ما رواه في البحار (١) عن الصادق (ع) : أنه سئل عن التناسخ ، قال (ع) : «فمن نسخ الأول».

هذه الرواية تشير إلى ما يقوله أهل التناسخ من أن النفوس أزلية قديمة ومتناهية ، والأبدان غير متناهية العدد ، فلو لم تتعلق كل نفس إلّا ببدن واحد لزم

__________________

(١) ج ٢ ص ٣١٩ ط حجري.

١٢٩

توزيع ما يتناهى على ما لا يتناهى وهو محال بالضرورة (١).

فهم يقولون : إن النفوس قديمة وليس لها صانع ـ والعياذ بالله تعالى من هذه المقالة ـ ويرتبون على القول بذلك والقول بعدم تناهي الأبدان ، القول بالتناسخ ، والرواية الشريفة تشير إلى بطلان قولهم وبطلان مقدماته وبيان ذلك :

إن النفوس حادثة ليست قديمة ، ولها صانع هو الله تعالى ، وعدم تناهي الأبدان دعوى باطلة لا يدعمها دليل ، بل الدليل قائم على بطلانها (٢).

__________________

(١) قد ذكر دليلهم في البحار ج ١٤ المسمى بكتاب السماء والعالم في أوائل الفائدة الأولى من أحوال النفس ، وأشار إليه الإمام الصادق (ع) فيما نقلناه عنه في رواية هشام بن الحكم ، في أوائل هذا البحث في جملة الأقوال المحكية عن أهل التناسخ فراجع.

(٢) أشار إلى امتناع عدم تناهي الأفراد العددية صدر المتألهين في شرح الهداية الأثيرية في بحث الحركة الفلكية ص ١٥٧ و ١٥٨ ط حجري ، وأشار في كتاب الأسفار ج ٤ ص ٩٠ ، إلى استحالة عدم تناهي النفوس وكان ذلك منه ردا على أفلاطون القائل بقدم النفوس ، وفي إرشاد الطالبين للفاضل المقداد ص ٣٠ ط بمبئي ، وفي شرح التجريد للعلامة الحلي ص ٨٨ ط بمبئي في بحث حدوث الأجسام ، أشار كل منهما إلى تناهي الأجسام ، وإلى بطلان قول الحكماء بعدم تناهيها.

١٣٠

وإذ تبطل دعوى أزلية النفوس ، ودعوى لا تناهي الأبدان المترتبة في الوجود لا بد من القول بحدوثها من مبدأ معين ، فكل جسد تختص به نفس واحدة بحسب خصوصيته واستعداده ، كما أوضحناه في الدليل الأول الذي أقمناه على بطلان التناسخ.

هذا ما سنح في البال وساعد عليه التوفيق من إقامة الدليل على بطلان التناسخ عقلا ، وقد توسع في البحث عن بطلانه غيرنا ، كالفيلسوف الإلهي الكبير صدر المتألهين في كتاب الأسفار ، والعلامة الشيرازي في شرح حكمة الإشراق ، وللقائلين بالتناسخ شبهات لا قيمة لها ، قد أشرنا إلى رد بعضها في طي الأبحاث السابقة ، وأتى على ردها وتزييفها صدر المتألهين في كتاب (الأسفار) في أواخر بحثه في بطلان التناسخ فلتراجع.

وما ذكرنا من الأدلة على بطلان التناسخ بعضه شامل لكل من التناسخ النزولي والصعودي ، وبعضها وهو الوجه الرابع يختص بالنزولي. ونخص الصعودي أيضا عنها بالبحث عن بطلانه بالخصوص فنقول :

إن الحيوان الصامت لا يمكن أن يترقى إلى درجة الإنسانية كما لا يمكن للإنسان الشقي أن يترقى إلى

١٣١

درجة الإنسان الكامل المقرّب ، ولا إلى درجة الملائكة إذ ليس للحيوان الصامت قوى عقلية بها يترقى ويحصل على الكمال ، فليس كمال الحيوان إلّا بقوتي الغضب والشهوة اللتين لا تتركان طريقا له إلى الكمال العقلي ، وليس للحيوان نفس مجردة بها يعقل ويترقى.

والشقي لشقاوته وغلبة قوة الشهوة والداعي إلى الانتقام ينحط عن درجة الكمال الإنساني ، فكيف يترقى ـ وهو في هذا الانحطاط ـ عن درجته المنحطة إلى درجة الكاملين المقربين ، كيف وليس فيه استعداد لهذا الكمال حتى يترقى إلى هذه الدرجة ، فإن كل تطور وتقدم إلى الكمال تابع لوجود استعداد وقابلية يدفعان بالشخص إلى الكمال بواسطة السعي في التكميل وأما الفاقد لهما فلا يترقى.

١٣٢

خامسا : «التناسخ الباطل لا يكون

في البرزخ ولا في الآخرة»

قد يتوهم أن التناسخ الذي أبطلناه ، يكون في البرزخ والآخرة وفي المعاد الجسماني ولذا قيل : ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ ، وقد انكر القائلون بالتناسخ المعاد ، كما أنكر بعض الناس المعاد الجسماني لأنه يلزم منه التناسخ الباطل.

وكل ذلك توهم باطل لا يثبت أمام البحث والدليل ، فإن الأدلة من الآيات وغيرها قائمة على ثبوت المعاد الجسماني (١) ، ولا يلزم منه التناسخ ، لأن التناسخ كما ذكرنا سابقا هو انتقال النفس بعد خروجها من بدنها إلى بدن آخر ، والنفس إذا رجعت إلى الجسم في البرزخ أو في الآخرة لا تعود إلى بدن آخر ، بل إلى بدنها الذي خرجت منه بالموت ، فلها بعد

__________________

(١) راجع الآيات الدالة عليه في القرآن ، وقد جمع شتاتها في البحار ج ٣ في ص ١٦٥ وما بعدها ط حجري.

١٣٣

الموت رجوعان ، رجوع في حال السؤال في القبر فإنها تعود إلى بعض كما دلت عليه الروايات ، ورجوع إليه يوم القيامة ، ولها تعلق مثالي بالجسم في عالم البرزخ وفي جميع هذه الأحوال الثلاثة لا يلزم التناسخ الباطل ، لعدم رجوع النفس إلى جسم عنصري آخر حتى تلزم محاذير بطلان التناسخ التي أوضحناها في الوجوه الأربعة الدالة على بطلان التناسخ وعلى عدم إمكانه عقلا.

أما في البرزخ فإن الأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع) تدل على أن النفس تتعلق بجسم مثالي يشبه أجسام الملائكة ، فالأجسام التي تتعلق بها النفوس في البرزخ أجسام وقوالب مثالية ، وأشباح تماثل الجسم الذي كانت تتعلق به في الدنيا (١).

وأما في الآخرة فالذي ذكره المحققون من فلاسفة الإسلام ومتكلميهم هو أن الله يعيد الأبدان الأولية العنصرية بما لها الأجزاء الأصلية فيؤلفها بدنا على شكله الذي كانت عليه في الدنيا (٢) ، وتدل الآيات

__________________

(١) راجع البحار ج ٣ ص ١٤٧ و ١٤٨ ط حجري.

(٢) راجع البحار ج ٣ ص ١٤٩ ، وشرح التجريد للعلامة الحلي في بحث المعاد الجسماني.

١٣٤

على رجوعها إلى بدنها الذي كان لها في الدنيا.

وقال العلامة المحقق الشيخ بهاء الدين العاملي رحمه‌الله : قد يتوهم أن القول بتعلق الأرواح بعد مفارقتها الأبدان العنصرية بأشباح أخر كما دلت عليه الأحاديث قول بالتناسخ ، وهذا توهم سخيف لأن التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلق الأرواح بعد خراب أجسادها بأجسام أخر ، في هذا العالم ، إما عنصرية ، كما يزعم بعضهم ويقسمه إلى النسخ والمسخ والفسخ والرسخ ، أو فلكية ابتداء إلى أن قال : «وأما القول بتعلقها في عالم آخر بأبدان مثالية مدة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى فتعود إلى أبدانها الأولية بإذن مبدعها أما بجميع أجزائها المتشتتة أو بإيجادها من كتم العدم كما أنشأها أول مرّة ، فليس من التناسخ في شيء» (١).

وقد يرجع إلى كلامهم هذا ما ذكره الفيلسوف صدر المتألهين في (الأسفار) (٢) قال ما حاصله : «إن النفس تعود إلى البدن الدنيوي لا من حيث المادة بل من حيث الصورة لأن وجود كل شيء بصورته لا بمادته التي

__________________

(١) نقل كلامه هذا البحار ج ٣ ص ١٤٩ و ١٥٠ ط حجري.

(٢) ص ١٠٥ ج ٤ ط حجري.

١٣٥

يعرض عليها التبدل والتحول والزوال في كل حين ، فالعبرة في حشر بدن الإنسان بقاؤه بعينه ، من حيث صورته وذاته مع مادة مبهمة».

١٣٦

الخاتمة

لقد ظهر أن ما يقال من أنه ما من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ دعوى باطلة كبطلان دعوى أنه يلزم من القول بالمعاد الجسماني القول بالتناسخ الباطل ، لان الروح في المعاد تعود إلى بدنها الأول لا إلى بدن آخر ، فلا يلزم من القول بالمعاد التناسخ الباطل ، وليس في البرزخ ولا في الآخرة تناسخ.

وأما التناسخ في الدنيا فقد أقمنا الأدلة على بطلانه عقلا وقد ادعى العلامة المجلسي أن بطلانه من الضرورة في الدين ، كما تبيّن إجماع المسلمين على بطلانه (١) ، فهو باطل للضرورة والإجماع ولأنه مخالف للقرآن لاستلزامه إنكار المعاد الجسماني والجنة والنار ، ولأنه مبني على قدم النفوس عند بعض الفلاسفة

__________________

(١) ادعى هذا في البحار ج ٣ ص ١٤٧ وج ١٤ في آخر بحث التناسخ ط حجري.

١٣٧

القائلين به ، والقول بقدمها كفر إذ لا قديم سوى الله تعالى وللأحاديث الشريفة الدالة على كفر القائل :

(منها) : ما تقدم ذكره من رواية هشام بن الحكم عن الصادق (ع) المتقدم ذكرها في بحث نقل الأقوال في التناسخ.

(ومنها) : رواية الحسن بن جهم عن الرضا (ع) قال : قال المأمون للرضا (ع) : ما تقول يا أبا الحسن في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا (ع) : «من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم يكذب بالجنة والنار».

(ومنها) : ما رواه الحسين بن خالد عن الرضا (ع) أيضا قال : قال أبو الحسن الرضا (ع) : من قال بالتناسخ فهو كافر (١).

فتحصل أن التناسخ باطل والقول به مستلزم لكفر القائل به وخروجه عن ملّة الإسلام ، وقانا الله وجميع المسلمين من ذلك وعصمنا من الخطأ والزلل إنه ولي التوفيق لما يحب ويرضى.

__________________

(١) ذكر هذه الروايات المجلسي في البحار ج ٢ ص ٣١٩ ط حجري ، وذكرها الشيخ الحر العاملي رحمة الله في الوسائل في باب ٦ من أبواب حد المرتد.

١٣٨

وقع الفراغ من تسويد هذه الصحائف ضحى يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ذي الحجة سنة ١٣٨٨ ه‍ في دمشق على يد المؤلف الفقير إليه تعالى حسين مكي العاملي عامله الله وجميع المؤمنين بلطفه الخفي.

١٣٩
١٤٠