الإسلام والتناسخ

السيّد حسين يوسف مكّي

الإسلام والتناسخ

المؤلف:

السيّد حسين يوسف مكّي


المحقق: محمّد كاظم مكي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٧

وما يروونه من أمر سهيل أنه كان عشّارا باليمن ، فقال (ع) : «كذبوا في قولهم ، إنهما كوكبان ، وإنهما إنما كانتا دابتين من دواب الأرض فغلط الناس ، وظنوا أنهما كوكبان ، وما كان الله عزوجل ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثم يبقيها ما بقيت السماوات والأرض ، وأن المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت ، وما تناسل منها شيء ، وما على وجه الأرض مسخ ، وإن التي وقع عليها المسوخية مثل القرد والخنزير وأشباهها ، إنما هي مثل ما مسخ الله على صورها قوما غضب الله عليهم ولعنهم بإنكارهم توحيد الله وتكذيبهم رسله ، وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا عن سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم ، وما علما أحدا من ذلك شيئا الّا قالا له : «إنما نحن فتنة فلا تكفر» فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرقون بما تعلموه بين المرء وزوجه ، قال الله عزوجل : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه» (١).

وهاتان الروايتان أيضا تدلان على ما ذكرناه ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ، ج ١ ط دار العلم في قم ١٣٧٧ ه‍ ، سورة البقرة ، الآية : ١٠٢.

١٠١

والإجماع منعقد من المسلمين (١) على أنه لا شيء من البهائم ، والقردة ، والخنازير ، من ولد آدم ، وما يمسخ على صورتها لا يكون حيوانا ، بل هو إنسان تغيرت صورته كما ذكرنا ، والرواية المذكورة تنفي أن يكون على وجه الأرض مسخ اليوم ، فمن يدعي أن العصاة والأشقياء يمسخون قردة أو غيرها من الحيوانات تكون دعواه خرافة باطلة لا يؤيدها أي دليل.

__________________

(١) راجع مجمع البيان في تفسير آية ٦٥ من سورة البقرة ، والبحار في ج ١٤ ، الفائدة الثالثة من فوائد البحث في أحوال النفس ، بحث التناسخ والمسخ.

١٠٢

ثالثا : أدلة القائلين بالتناسخ وردها

قد اتضح مما ذكرناه من أقوال التناسخيين ، وما نقلناه من دعاواهم أن منهم من ينتحل الإسلام ، ومنهم دهريون من فلاسفة قدماء ، وصابئة ، وبراهمة ، وقد ذكر من دوّن أقوالهم وأبطلها ، أدلة من آيات استدل بها منتحلو الإسلام منهم ، وبراهين عقلية ، وسنذكرها ونتبع كل دليل بالرد عليه.

استدلوا بآيات المسخ ، وتقدم قريبا الكلام عليها ، ومنع صحة التعلق بها على مدعاهم فراجع ما أشرنا إليه في تحقيق أن المسخ ليس نسخا.

واستدلوا بآيات كما نقل ذلك عنهم ابن حزم في الفصل ص ٩٢ ج ١ ، وكما ورد في البحار ج ١٤ ، مبحث أحوال النفس ، وفي الأسفار ج ٤.

١ ـ منها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِ

١٠٣

صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (١).

والجواب : إن هذه الآية واردة في مقام بيان ابتداء خلق الإنسان وإبداعه وتركيبه على أحسن صورة وأعدلها حتى لا يشبهه شيء من الحيوانات ، كما يدل عليه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) والله تعالى قادر على أن يخلقه ويركبه على غير هذه الصورة التي ركّبه عليها ، ولكن خلقه على أحسن تقويم ، فاستحق على الإنسان الشكر والطاعة ولكنه لم يشكر ، بل خالف وعصى ، وليس في هذه الآية تعرض لانتقال الروح بعد الموت إلى جسم آخر أصلا.

٢ ـ قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) (٣).

والجواب : الذرأ هو الخلق ، أي يذرؤكم في هذا التدبير بأن جعل لكم من الذكور والإناث للتناسل والتوالد ، وجعل لكم من الأنعام أزواجا للتناسل لتنتفعوا بها في معاشكم ، فالآية بمعزل عن الذي يدعيه التناسخيون فالتشبث بها لمدعاهم من الغباوة والجهل.

__________________

(١) سورة الانفطار ؛ الآيات : ٦ ـ ٨.

(٢) سورة التين ؛ الآية : ٤.

(٣) سورة الشورى ؛ الآية : ١١.

١٠٤

٣ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (١).

يريدون من التسافل ما يدعونه في التناسخ من انتقال نفس الإنسان بعد الموت إلى جسم حيوان.

والجواب : إن الرد إلى أسفل سافلين يحتمل فيه أمران لا غير.

«الأول» : التسافل إلى أرذل العمر والخرف والهرم ، ونقصان العقل ، فبعد أن كان على أحسن تقويم في الشكل والصورة ، وكمال النفس والعقل واعتدال الجوارح وجميع ما خلقه الله فيه ، وكان قويا في سمعه وبصره وعقله ، يعود ضعيفا في قواه ، في بصره وسمعه وعقله ، فيهرم ، ويخرف ، ويعجز عن القيام ، وينسى ما كان علمه ، وهذا المعنى محكي عن ابن عباس وغيره ، ويشير إليه قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (٢).

ويشير إليه صدر الآية لأنه خلقه على أحسن تقويم

__________________

(١) سورة التين ؛ الآيتان : ٤ ـ ٥.

(٢) راجع الآية في سورة الحج ؛ الآية : ٥ ، وسورة النحل ؛ الآية : ٧٠.

١٠٥

ثم رده إلى عكس ما كان عليه.

«الثاني» : الرد إلى النار لأن جهنم بعضها أسفل من بعض ، كما رواه الفخر الرازي في تفسيره عن علي عليه الصلاة والسلام ، فالكافر بعد أن خلقه الله تعالى في أحسن خلقة مع العقل ، والحرية ، والتكليف ، عصى وكفر فاستحق الرد إلى النار إلى أسفل درك ، ويؤيد هذا الاحتمال استثناء الذين آمنوا ، فإنهم لا يدخلون النار إذا عملوا الصالحات ، ويؤيده قوله تعالى : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (١) ، أي فما يحملك أيها الإنسان بعد هذه الحجج على أن تكذب بيوم الجزاء والحساب في الآخرة ، ألم تعلم أن القادر على خلقك في أحسن تقويم قادر على أن يبعثك ويعيدك للحساب والجزاء؟ أو يكون الخطاب للنبي (ص) ، أي فمن يكذبك أيها الرسول (ص) بالدين الذي هو الإسلام بعد هذه الحجج ، وعلى كلا الاحتمالين تكون الآية الشريفة بعيدة عما يدعيه أهل التناسخ ، فمن قلّة التدبر في معناه أن يتمسكوا بها على مدعاهم.

٤ ـ قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ

__________________

(١) سورة التين ، الآية : ٧.

١٠٦

مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١).

قال في مجمع البيان : استدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أن البهائم والطيور مكلفة لقوله تعالى : (أَمْثالُكُمْ) ، وهذا باطل لأنا قد بيّنا أنها من أي وجه تكون أمثالنا ، ولو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على صورنا وهيئاتنا ، وخلقنا ، وأخلاقنا ، وكيف يصح تكليف البهائم وهي غير عاقلة والتكليف لا يصح إلّا مع كمال العقل.

ونحو هذا الكلام ذكر الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب (٢) ، فإنه قال : إن أهل التناسخ يقولون إن الروح البشرية إذا كانت شقية جاهلة عاصية تنتقل إلى أبدان الحيوانات ، واستدلوا على صحة قولهم بهذه الآية لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية.

والجواب : أنه لا يمكن إرادة العموم من المماثلة ، لما ذكره في (مجمع البيان) من عدم كونها

__________________

(١) سورة الأنعام ؛ الآية : ٣٨.

(٢) ج ٤ ص ٤٠ و ٤١.

١٠٧

مثلنا لأن التكليف مشروط بالعقل ، ولا عقل لغير الإنسان ، وإذا لم تكن إرادة العموم يبقى المراد من المماثلة مجملا ، والمتيقن منه أنها مثلنا في أن الله تعالى خلقها ، ومثلنا في أنها تحشر يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (١) ليعوض الله تعالى عما لحقها من الآلام ما تستحق من العوض ، ومثلنا في الاقتصاص منها ، كما رواه أبو ذر (رض) عن النبي (ص) قال : بينا أنا عند رسول الله (ص) إذ نطحت عنزان فقال (ص) : «أتدرون فيما انتطحا ، فقالوا لا ندري ، قال (ص) : «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» (٢).

ولما ورد من الله يقتص يوم القيامة من القرناء للجماء.

وإن هذا من العدل الإلهي الذي لا يحرم منه أي مخلوق.

وهي مثلنا في حاجتها إلى الغذاء وما يكون به حياتها ، وفي غير ذلك لا تماثلنا.

__________________

(١) سورة التكوير ؛ الآية : ٥.

(٢) راجع هذا الخبر من (مجمع البيان) في تفسير هذه الآية.

١٠٨

فمن السخافة أن يقال إنها مكلفة مثلنا ، أو أن يقال إنها تدل على التناسخ ، إذ ليس فيها أدنى إشعار بذلك فضلا عن أن الدلالة عليه ، ولو صح قولهم بالتناسخ لكان مقتضى ما يدعونه من المماثلة أن يجري التناسخ في الحيوانات فإذا مات حيوان تنتقل روحه إلى بدن آخر من حمار أو قرد أو غيرهما ، وكل ذلك باطل ، لا يدعمه دليل من عقل أو نقل وسيأتي بيان أن التناسخ غير ممكن عقلا ونقلا.

٥ ـ قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١).

وجه الاستدلال : أن الخلود في العذاب حدد بدوام السماوات والأرض بدعوى أن المقصود دوامها في الدنيا ، فالعذاب التناسخي يكون في الدنيا ، وعلى قولهم ، لا يكون ثواب وعقاب في الآخرة ، وهذا هو إنكار الجنّة والنار والمعاد ، نعوذ بالله من هذا ونبرأ إلى الله تعالى من هذه الدعوى ومدعيها.

وأجيب عنه :

__________________

(١) سورة هود ؛ الآيتان : ١٠٦ و ١٠٧.

١٠٩

أولا : بأن المراد هو سماء الآخرة وأرضها ، وهما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الإفناء.

وثانيا : بأن المراد ما دامت الآخرة ، وهي دائمة ، وأجيب بغيرهما ، كما في مجمع البيان ، والصحيح هو الجواب بأن النار في هذه الآية والجنة في الآية التي بعدها يراد بها نار الدنيا وجنتها ، وهما العذاب والنعيم في البرزخ الذي يدوم بعد الموت إلى يوم يبعثون ، فيبقى الشقي في عذاب القبر ما دامت السماوات والأرض ، إلّا ما شاء ربك أن يرفع عنه العذاب ، ويبقى أهل الطاعة في نعيم غير مقطوع عن نعيم الآخرة.

ويدل على أن المراد بها النار في الدنيا والجنان فيها قبل يوم القيامة قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).

فقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يشير إلى ما ذكرنا وأنه عذاب القيامة ، وما قبله عذاب في نار الدنيا وجنتها وهو في البرزخ.

__________________

(١) سورة المؤمن ؛ الآية : ٤٦.

١١٠

ويدل عليه ما رواه في مجمع البيان : «في تفسير هذه الآية. آية العرض» عن الصادق قال (ع) : «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأن في نار القيامة لا يكون غدو وعشي ، ثم قال (ع) : إن كانوا يعذبون في النار غدوا وعشيا ففيما بين ذلك هم من السعداء ، لا ، ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قوله عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١)».

وقال في الصافي (٢) في رواية عن الصادق (ع) أنه قال : «قال الجاهل بعلم التفسير إن هذا الاستثناء (٣) من الله تعالى إنما هو لمن دخل الجنة والنار ، وذلك أن الفريقين يخرجان منهما فيبقيان وليس فيهما أحد ، وكذبوا ، قال (ع) : والله تبارك وتعالى ليس يخرج أهل الجنة ، ولا كل أهل النار منهما أبدا ، كيف يكون ذلك

__________________

(١) ذكر هذه الرواية : في تفسير الصافي في تفسير قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الآية ، وفي البحار ج ٣ في أحوال البرزخ ص ١٣٢ ط حجري.

(٢) في تفسير قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الآية ، ص ٢٢٠ ط حجري.

(٣) وهو في الآية التي نبحث فيها : إلّا ما شاء ربك.

١١١

وقد قال الله تعالى. في كتابه : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (١) ليس فيه استثناء.

والمتحصل : هو أن الآية لا تدل على ما يدعيه التناسخي من كون العذاب والثواب في الدنيا ، وإنه لا عذاب في الآخرة ولا جنة ولا نار فيها ، كما ادعاه باطلا.

٦ ـ قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢).

ومعنى تجديدها أن يردها إلى الحالة التي كانت عليها غير محترقة ، كما إذا انكسر الخاتم فاتخذ منه خاتم آخر ، يقال هذا غير الخاتم الأول وإن كان أصلها ، فالجلد واحد والتغير في أحواله ، واختار هذا جماعة كما في (مجمع البيان) ويشهد له ما روى في

__________________

(١) سورة الكهف ؛ الآية : ٣ ، أي ماكثين في ثواب الجنة ، والمراد أنهم ماكثون في الجنة أبدا يتنعمون فيها.

(٢) سورة النساء ؛ الآية : ٥٦.

١١٢

(الاحتجاج) (١) عن حفص بن غياث قال : شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء (٢) يسأل أبا عبد الله الصادق (ع) عن قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ما ذنب الغير؟ قال (ع) : «ويحك هي هي وهي غيرها ، قال فمثل ذلك شيء من أمر الدنيا ، قال : نعم أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردها في ملبنها فهي هي وهي غيرها» فالآية لا تدل على مدّعى التناسخي ، وقد استدلوا بآيات أخرى ذكرها في (البحار) و (الأسفار) في أحوال النفس وفي

__________________

(١) ص ١٩٤ ط النجف.

(٢) عبد الكريم بن أبي العوجاء جعله في كتاب الفرق بين الفرق ، (ص ٢٧٣ ، نشر دار المعرفة ـ بيروت) ، من القدرية القائلين بالتناسخ ، وذكر أنه كان وضع أحاديث كثيرة بأسانيد يغترّ بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل ، وتلك الأحاديث التي وضعها كلها ضلالات في التشبيه والتعطيل ، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة ، وهو الذي أفسد على الرافضة صوم رمضان بالهلال وردهم عن اعتبار الأهلة ، إلى أن قال : «ورفع خبر هذا الضال إلى أبي جعفر بن محمد بن سليمان عامل المنصور على الكوفة فأمر بقتله ، فقال لن يقتلوني لقد وضعت أربعة عشر ألف حديث أحللت بها الحرام ، وحرّمت بها الحلال» وذكر في كتاب (سفينة البحار) أن ابن أبي العوجاء كان من تلامذة أبي الحسن البصري فانحرف عن التوحيد ، وذكر شيئا من ترجمته في ج ٢ ص ٢٨٤ وص ٤٤٠

١١٣

مبحث التناسخ الذي تقدّمت الإشارة إليه في كلامهما وفي محله من هذين الكتابين ، وكلها لا تدل على مدعى أهل التناسخ ، لذا تركنا التعرض لها ولم نأت على ذكرها.

٧ ـ «استدلال أهل التناسخ بالعقل» :

توجه أهل التناسخ إلى العقل معتمدين عليه فخانهم ولم يسعفهم فيما ادعوه فكانت دعواهم وهما لا يعرّج عليه العقل الصحيح ومما استدلوا به أن قالوا :

إن النفس لا تتناهى ، والعالم لا يتناهى لأمد ، فالنفس منتقلة أبدا ، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها (١) وللدهرية دليل آخر : إن العالم لا يتناهى فوجب أن تتردد النفس في الأجساد من نوعها الذي أوجب لها طبعها الأشراف عليه (٢).

والجواب : إنّا نمنع عدم تناهي كل من النفس والعالم وما فيه فلا تصح النتيجة ، وسيأتي في أدلة

__________________

(١) ذكر دليلهم ابن حزم في الفصل ج ١ ص ٩٠ و ٩١ وذكر عنهم غيره.

(٢) ذكر دليلهم ابن حزم في الفصل ج ١ ص ٩٠ و ٩١ وذكر عنهم غيره.

١١٤

بطلان التناسخ عقلا عدم إمكان انتقال النفس إلى بدن آخر غير بدنها الذي فارقته ، ولهم أدلة أخرى ذكرها المجلسي في (البحار) ج ١٤ في أحوال النفس والتناسخ لا تستأهل الذكر ، ولهم شبهات مردودة ذكرها صاحب كتاب (الأسفار) ج ٤ ص ١٠٣ إلى ص ١٠٧.

١١٥
١١٦

رابعا : بطلان التناسخ لدى عامة

المسلمين»

اتفق المسلمون على بطلان التناسخ وادعى الإجماع على ذلك المجلسي في البحار (١) ، وابن حزم في الفصل (٢) وغيرهما.

بل بطلانه ضروري عند عامة المسلمين من شيعة وسنة ، إذ يستلزم القول إنكار المعاد والجنة والنار ، والعقل والنقل يقتضيان بطلان التناسخ.

وبطلانه عقلا ـ بمعنى عدم إمكانه عقلا ـ نوضحه من عدة وجوه :

«الوجه الأول» : ما اعتمده جملة كثيرة من الفلاسفة والمتكلمين الذين تعرضوا للبحث في بطلان التناسخ ، وهو :

__________________

(١) ج ١٤ في أحوال النفس في آخر بحث التناسخ.

(٢) ج ١ ص ٩١.

١١٧

إن النفس حادثة أفاض عليها الوجود ، ذو الفيض والجود وهو الله تعالى القديم ولا قديم سواه ، وحدوثها وإفاضة الوجود عليها مشروط بحدوث استعداد في البدن يقتضي حدوثها في وقت حدوث ذلك الاستعداد ليتخصص إيجاد النفس له (أي للبدن) في ذلك الوقت ، ولو لم يكن الشرط (وهو الاستعداد المذكور) حاصلا لم يكن حدوث النفس في الآن أولى من حدوثها في آن قبله أو بعده ، فلا بد من حدوثها في الوقت الخاص من حدوث استعداد فيه يقتضي حدوثها له ، فإذا حصل ذلك الاستعداد القابل لتعلق النفس فيه حدثت النفس من قبل المبدأ الفياض تعالى شأنه.

وهكذا كل بدن لا بد من حدوث استعداد خاص فيه لتحدث له نفس بخصوصه تتعلق به تعلق التدبير والتصرف ، فإذا حدث الاستعداد حدثت النفس لأن جوده تعالى عام والمبدأ فياض.

وإنما قلنا تحدث للبدن لدى حصول الاستعداد فيه ، نفس خاصة به دون غيره ، لأنه لو لم يكن في البدن خصوصية تقتضي تعلق نفس خاصة به لزم الترجيح بلا مرجح ، وكان لكل نفس أن تتعلق بكل بدن في ابتداء خلقها وإحداثها في البدن ، والترجيح بلا

١١٨

مرجح والتخصيص بلا مخصص محال على الحكيم تعالى شأنه.

فلا بد أن يكون للبدن الخاص المفارق للآخر بحسب استعداده لقبول النفس ، نفس خاصة به لتناسب بينهما ، ولذا نرى أن كل بدن له نفس خاصة به ، ولا تكون نفسي لبدن غيري ولا نفس غيري لبدني ، وتلك قسمة وتخصيص يعلم أسبابه وخصوصياته بارئ النفوس وجاعلها في الأبدان تعالى شأنه وجلّت عظمته.

إذا تمهد هذا قلنا :

لا يمكن أن تتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر ، لأن له بحسب استعداده نفسا تتعلق به دون غيره ، فلو انتقلت إليه نفس أخرى لكان فيه أيضا استعداد آخر خاص لها ، وهو تناقض (١) ، ويلزم اجتماع نفسين للبدن الواحد وهو باطل بالضرورة فإن كل واحد منا يرى ذاته ذاتا واحدة وليست ذاتين ، ويرى أن له نفسا واحدة ، لا نفسين ، فلا يمكن تعلق النفوس

__________________

(١) إذا المفروض أن فيه استعدادا خاصا لنفس تتعلق به في ابتداء خلقه فلو كان فيه استعداد خاص يقتضي تعلق غيرها به لزم التناقض.

١١٩

الكثيرة ببدن واحد ، ولا تعلق نفس واحدة ببدنين فالتناسخ باطل.

«الوجه الثاني» :

إن النفس إذا فارقت البدن كان آن مفارقة البدن غير آن اتصالها بالبدن الثاني ، وبين كل آنين زمان فيلزم كونها بين البدنين معطلة عن التدبير والتصرف في البدن والتعطيل محال (١).

«الوجه الثالث» :

هو الذي اعتمده الفيلسوف صدر المتألهين (٢) وبناه على الحركة الجوهرية ومقدمات أخرى ونحن نذكرها موضّحة ثم نذكر النتيجة المترتبة عليها وهي بطلان التناسخ فنقول :

١ ـ إن بين البدن والنفس تعلق ذاتي وتلازم في الوجود لأنها في أصل وجودها ، وفي تكاملها محتاجة إلى البدن ، والبدن في وجوده وتكامله محتاج إليها ، لأن الناقص من حيث هو ناقص مفتقر يستحيل وجوده بدون مقوّمه وصورته فوجوده بوجود صورته النوعية ،

__________________

(١) الأسفار ج ٤ ص ٩٩ ط حجري.

(٢) ذكره في الأسفار ج ٤ ص ٩٦ ط حجري.

١٢٠