تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٥

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

[حوادث]

سنة خمس وستين

توفي فيها : أسيد بن ظهير الأنصاري ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وسليمان بن صرد ، والمسيّب بن نجبة ، ومالك بن هبيرة السكونيّ ، وله صحبة ، والنعمان بن بشير في أول سنة ، وقيل في آخر سنة أربع ، والحارث بن عبد الله الهمدانيّ الأعور.

* * *

ولما انقضت وقعة مرج راهط في أول السنة بايع أكثر أهل الشام لمروان ، فبقي تسعة أشهر ، ومات ، وعهد إلى ابنه عبد الملك (١).

* * *

وفيها دخل المهلّب بن أبي صفرة الأزدي خراسان أميرا عليها من جهة ابن الزبير ، فكلّمه أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي في قتال الأزارقة والخوارج ، وأشار بذلك الأحنف بن قيس ، وأمدّوه بالجيوش ، فسار وحارب الأزارقة أصحاب ابن الأزرق ، وصابرهم على القتال حتى كسرهم ، وقتل منهم أربعة آلاف وثمانمائة (٢).

* * *

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٩ و ٢٦١.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٦١٣ وما بعدها.

٤١

وفيها سار مروان بجيوشه إلى مصر ، وقد كان كاتبه كريب بن أبرهة ، وعابس بن سعيد قاضي مصر ، فحاصر جيشه والي مصر لابن الزبير ، فخندق على البلد ، وخرج أهل مصر ، وهو اليوم الّذي يسمّونه يوم التراويح ، لأنّ أهل مصر كانوا ينتابون القتال ويستريحون ، واستحرّ القتل في المعافر ، فقتل منهم خلق ، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معديكرب الكلاعي ، أحد الأشراف ، ثم صالحوا مروان ، فكتب لهم كتابا بيده ، وتفرّق الناس ، وأخذوا في دفن قتلاهم وفي البكاء ، ثم تجهّز إلى مصر عبد الرحمن بن جحدم ، وأسرع إلى ابن الزبير ، وضرب مروان عنق ثمانين رجلا تخلّفوا عن مبايعته. وضرب عنق الأكيدر (١) بن حمام اللخميّ سيّد لخم وشيخها في هذه الأيام ، وكان من قتلة عثمان رضي‌الله‌عنه ، وذلك في نصف جمادى الآخرة ، يوم مات عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما. وما قدروا يخرجون بجنازة عبد الله ، فدفنوه بداره.

واستولى مروان على مصر ، وأقام بها شهرين ، ثم استعمل عليها ابنه عبد العزيز ، وترك عنده أخاه بشر بن مروان ، وموسى بن نصير وزيرا ، وأوصاه بالمبايعة في الإحسان إلى الأكابر ، ورجع إلى الشام (٢).

* * *

وفيها وفد الزّهري على مروان ، قال عنبسة بن سعيد ، عن يونس ، عن الزهري : وفدت على مروان وأنا محتلم.

قلت : وهذا بعيد ، وإنما المعروف وفادته أول شيء على عبد الملك في أواخر إمارته (٣).

* * *

__________________

(١) في كتاب : الولاة والقضاة ـ ص ٤٣ «أكدر».

(٢) انظر كتاب : الولاة والقضاة ٤١ وما بعدها.

(٣) كان ذلك في سنة ٨٢ ه‍. كما روى ابن عساكر في ترجمة الزهري التي نشرها : شكر الله بن نعمة الله القوجاني ، وذلك من طريق : محمد بن الحسين ، عن عبد الله ، عن يعقوب ، عن ابن بكير ، عن الليث. ـ ص ١٢.

٤٢

(وفيها) وجّه مروان حبيش بن دلجة القيني في أربعة آلاف إلى المدينة ، وقال له : أنت على ما كان عليه مسلم بن عقبة ، فسار ومعه عبيد الله ابن الحكم أخو مروان ، وأبو الحجّاج يوسف الثقفي ، وابنه الحجّاج وهو شابّ ، فجهّز متولّي البصرة من جهة ابن الزبير عمر بن عبيد الله التيمي جيشا من البصرة ، فالتقوا هم وحبيش بالربذة في أول رمضان ، فقتل حبيش بن دلجة ، وعبيد الله بن الحكم ، وأكثر ذلك الجيش ، وهرب من بقي ، فتخطّفتهم الأعراب ، وهرب الحجّاج ردف أبيه (١).

* * *

(وفيها) دعا ابن الزبير إلى بيعته محمد بن الحنيفة ، فأبى عليه ، فحصره في شعب بني هاشم في جماعة من بيته وشيعته وتوعّدهم (٢).

(وفيها) خرج بنو ماحوز بالأهواز وفارس ، وتقدّم عسكرهم ، فاعترضوا أهل المدائن ، فقتلوهم أجمعين ، ثم ساروا إلى أصبهان ، وعليها عتّاب بن ورقاء الرياحي ، فقتل ابن ماحوز ، وانهزم الخوارج الذين معه ، ثم أمّروا عليهم قطري بن الفجاءة (٣).

وأما نجدة الحروريّ فإنه قدم في العام الماضي في جموعه من الحروريّة على ابن الزبير ، وقاتلوا معه ، فلما ذهب أهل الشام اجتمعوا بابن الزبير وسألوه : ما تقول في عثمان؟ فقال : تعالوا العشيّة حتى أجيبكم ، ثم هيّأ أصحابه بالسلاح ، فجاءت الخوارج ، فقال نافع بن الأزرق لأصحابه : قد خشي الرجل غائلتكم ، ثم دنا منه فقال : يا هذا اتّق الله ، وأبغض الجائر (٤) ، وعاد أول من سنّ الضلالة ، وخالف حكم الكتاب ، وإن خالفت فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم ، وأذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٦١١ ، ٦١٢.

(٢) تاريخ خليفة ٢٦٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٦١٣ وما بعدها.

(٤) في تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٥ «وأبغض الخائن المستأثر».

٤٣

ثم تكلّم خطيب القوم عبيدة بن هلال ، فأبلغ.

ثم تكلّم ابن الزبير ، فقال في آخر مقالته : أنا وليّ عثمان في الدنيا والآخرة ، قالوا : فبرئ الله منك يا عدوّ الله ، فقال : وبريء الله منكم يا أعداء الله ، فتفرّقوا على مثل هذا.

ورحلوا ، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظليّ ، وعبد الله بن صفوان (١) السعدي ، وعبد الله بن إباض ، وحنظلة بن بيهس ، وعبد الله ، وعبيد الله ، وابن الماحوز اليربوعي ، حتى قدموا البصرة ، وانطلق أبو طالوت ، وأبو فديك عبد الله بن ثور ، وعطيّة اليشكري ، فوثبوا باليمامة ، ثم اجتمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي الحروريّ (٢).

ولما رجع مروان إلى دمشق إذا مصعب بن الزبير قد قدم في عسكر من الحجاز يطلب فلسطين ، فسرّح مروان لحربه عمرو بن سعيد الأشدق ، فقاتله ، فانهزم أصحاب مصعب (٣).

وورد أنّ مروان تزوّج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ، وجعله وليّ عهده من بعده ، ثم بعده عمرو بن سعيد ، ثم لم يتمّ ذلك (٤).

* * *

وفيها بايع جند خراسان سلم بن زياد بن أبيه ، بعد موت معاوية بن يزيد ، وأحبّوه حتى يقال : سمّوا باسمه تلك السنة أكثر من عشرين ألف مولود ، فبايعوه على أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفة ، ثم نكثوا واختلفوا ، فخرج سلم وترك عليهم المهلّب بن أبي صفرة ، فلقيه بنيسابور عبد الله بن خازم (٥) السلمي فقال : من ولّيت على خراسان؟ فأخبره ، قال : ما وجدت في مصر رجلا تستعمله حتى فرّقت خراسان بين بكر بن وائل وأزد

__________________

(١) في تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٦ «صفار».

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٥ ، ٥٦٦.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٤٠ ، ٦١٠.

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٦١٠ ، ٦١١.

(٥) في الأصل هنا وفيما يستقبلك «حازم».

٤٤

عمان! وقال : اكتب لي عهدا على خراسان ، فكتب له ، وأعطاه مائة ألف درهم ، فأقبل إلى مرو ، فبلغ المهلّب الخبر ، فتهيّأ وغلب ابن خازم على مرو ، ثم صار إلى سليمان بن مرثد ، فاقتتلوا أياما ، فقتل سليمان ، ثم سار ابن خازم إلى عمرو بن مرثد وهو بالطالقان (١) في سبعمائة ، فبلغ عمرا ، فسار إليه ، فالتقوا فقتل عمرو ، وهرب أصحابه إلى هراة ، وبها أوس بن ثعلبة ، فاجتمع له خلق كثير وقالوا : نبايعك ، على أن تشير إلى ابن خازم فيخرج مضر من خراسان كلها ، فقال : هذا بغي ، وأهل البغي مخذولون ، فلم يطيعوه ، وسار إليهم ابن خازم ، فخندقوا على هراة ، فاقتتلوا نحو سنة ، وشرع ابن خازم يلين لهم ، فقالوا : لا ، إلا أن تخرج مضر من خراسان ، وإما أن ينزلوا عن كل سلاح ومال ، فقال ابن خازم : وجدت إخواننا قطعا للرّحم ، قال : قد أخبرتك أنّ ربيعة لم تزل غضابا على ربّها مذ بعث الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مضر.

ثم كانت بينه وبين أوس بعد الحصار الطويل وقعة هائلة ، أثخن فيها أوس بالجراحات ، وقتلت ربيعة قتلا ذريعا ، وهرب أوس إلى سجستان فمات بها ، وقتل من جنده يومئذ من بكر بن وائل ثمانية آلاف ، واستخلف ابن خازم ولده على هراة ، ورجع إلى مرو (٢).

(وفيها) سار المختار بن أبي عبيد الثقفي في رمضان من مكة ، ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله أميرا من قبل ابن الزبير على خراج الكوفة ، فقدم المختار الكوفة والشيعة ، قد اجتمعت على سليمان بن صرد ، فليس يعدلون به ، فجعل المختار يدعوهم إلى نفسه ، وإلى الطلب بدم الحسين ، فتقول الشيعة : هذا سليمان شيخنا ، فأخذ يقول لهم : إني قد جئتكم من قبل المهديّ محمد بن الحنفية ، فصار معه طائفة من الشيعة ، ثم قدم على

__________________

(١) الطالقان : بعد الألف لام مفتوحة وقاف ، وآخره نون ، بلدتان إحداهما بخراسان بين مروالروذ وبلخ. وهي أكبر مدينة بطخارستان. (المسالك والممالك للإصطخري ١٥٢ و ١٥٣ ، ومعجم البلدان ٤ / ٦).

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٥٤٦ ، ٥٤٧.

٤٥

الكوفة عبد الله بن يزيد الخطميّ (١) من قبل ابن الزبير ، فنبّهوه على أمر الشيعة ، وأن نيّتهم أن يتوبوا ، فخطب الناس ، وسبّ قتلة الحسين ، ثم قال : ليس هؤلاء القوم وليخرجوا ظاهرين إلى قاتل الحسين عبيد الله بن زياد ، فقد أقبل إليهم ، وأنا لهم على قتاله ظهير ، فقتاله أولى بكم ، فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة ، فنقم عليه هذه المقالة وعابها ، فقام إليه المسيّب بن نجبة فسبّه ، وشرعوا يتجهّزون للخروج إلى ملتقى عبيد الله بن زياد.

وقد كان سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيّب بن نجبة الفزاري ـ وهما من شيعة علي ومن كبار أصحابه ـ خرجا في ربيع الآخر يطلبون بدم الحسين بظاهر الكوفة في أربعة آلاف ، ونادوا : يا لثارات الحسين ، وتعبّدوا بذلك ، ولكن ثبّط جماعة وقالوا : إنّ سليمان لا يصنع شيئاً ، إنما يلقي بالناس إلى التهلكة ، ولا خبرة له بالحرب ، وقام سليمان في أصحابه ، فحضّ على الجهاد وقال : من أراد الدنيا فلا يصحبنا ، ومن أراد وجه الله والثواب في الآخرة فذلك ، وقام صخر بن حذيفة المزني فقال : آتاك الله الرشد ، أيها الناس إنما أخرجتنا التوبة من ذنوبنا ، والطلب بدم ابن بنت نبيّنا ليس معنا دينار ولا درهم ، إنما نقدم على حدّ السيوف.

وقام عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي في قومه ، فدخل على سليمان ابن صرد فقال : إنما خرجنا نطلب بدم الحسين ، وقتلته كلهم بالكوفة ، عمر ابن سعد ، وأشراف القبائل ، فقالوا : لقد جاء برأي ، وما نلقى إن سرنا إلى الشام إلا عبيد الله بن زياد ، فقال سليمان : أنا أرى أنه هو الّذي قتله ، وعبّأ الجنود وقال : لا أمان له عندي دون أن يستسلم ، فأمضي فيه حكمي ، فسيروا إليه ، وكان عمر بن سعد في تلك الأيام خائفا ، لا يبيت إلا في قصر الإمارة ، فخرج عبد الله بن يزيد الخطميّ ، وإبراهيم بن محمد فأتيا سليمان بن صرد ، فقال : إنكم أحبّ أهل بلدنا إلينا ، فلا تفجعونا بأنفسكم ، ولا تنقصوا عددنا

__________________

(١) في الأصل «الحطمي» ، والتصحيح من (اللباب في تهذيب الأنساب ج ١ ص ٤٥٣).

٤٦

بخروجكم ، أقيموا معنا حتى نتهيّأ ، فإذا علمنا أنّ عدوّنا قد شارف بلادنا خرجنا كلّنا فقاتلناه ، فقال سليمان : قد خرجنا لأمر ، ولا نرانا إلا شاخصين إن شاء الله ، قال : فأقيموا حتى نعبّئ معكم جيشا كثيفا ، فقال : سأنظر ويأتيك رأيي.

ثم سار ، وخرج معه كل مستميت ، وانقطع عنه بشر كثير ، فقال سليمان : ما أحبّ أنّ من تخلّف عنكم معكم ، وأتوا قبر الحسين فبكوا ، وقاموا يوما وليلة يصلّون عليه ويستغفرون له ، وقال سليمان : يا رب إنّا قد خذلناه ، فاغفر لنا ، وتب علينا.

ثم أتاهم كتاب عبد الله بن زيد من الكوفة ينشدهم الله ويقول : أنتم عدد يسير ، وإنّ جيش الشام خلق ، فلم يلووا عليه ، ثم قدموا قرقيسياء ، فنزلوا بظاهرها وبها زفر (١) بن الحارث الكلابي قد حصّنها ، فأتى بابها المسيّب ابن نجبة ، فأخبروا به زفر (١) فقال : هذا وفارس مضر الحمراء كلها ، وهو ناسك دين ، فأذن له ولاطفه ، فقال : ممّن نتحصّن ، إنّا والله ما إياكم نريد ، فأخرجوا لنا سوقا ، فأمر لهم بسوق ، وأمر للمسيّب بفرس ، وبعث إليهم من عنده بعلف كثير ، وبعث إلى وجوه القوم بعشر جزائر وعلف وطعام ، فما احتاجوا إلى شراء شيء من السوق ، إلا مثل سوط أو ثوب ، وخرج فشيّعهم وقال : إنه قد بعث خمسة أمراء قد فصلوا من الرّقّة : حصين بن نمير السّكونيّ ، وشرحبيل ابن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز الباهليّ ، وربيعة بن المخارق الغنويّ ، وجبلة (٢) الخثعميّ ، في عدد كثير ، فقال سليمان : على الله توكلنا ، قال زفر (١) : فتدخلون مدينتنا ، ويكون أمرنا واحدا ، ونقاتل معكم ، فقال : قد أرادنا أهل بلدنا على ذلك ، فلم نفعل ، قال : فبادروهم إلى عين الوردة ، فاجعلوا المدينة في ظهوركم ، ويكون الرّستاق والماء في أيديكم ، ولا تقاتلوا في فضاء ، فإنّهم أكثر منكم ، فيحيطون بكم ، ولا تراموهم ، ولا تصفّوا لهم ، فإنّي

__________________

(١) في الأصل «نفر» ، والتحرير من تاريخ ابن جرير ٥ / ٥٩٤ وغيره.

(٢) في نسخة القدسي ٢ / ٣٧٠ : «وحملة» ، والتصحيح من تاريخ لطبري.

٤٧

لا أرى معكم رجّالة (١) والقوم ذوو رجال (٢) وفرسان ، والقوم كراديس.

قال : فعبّأ سليمان بن صرد كنانته ، وانتهى إلى عين الوردة ، فنزل في غربيّها ، وأقام خمسا ، فاستراحوا وأراحوا خيولهم ، ثم قال سليمان : إن قتلت فأميركم المسيّب ، فإن أصيب فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل ، فإن قتل فالأمير عبد الله بن وال ، فإن قتل فالأمير رفاعة بن شدّاد ، رحم الله من صدق ما عاهد الله عليه ، ثم جهّز المسيّب بن نجبة في أربعمائة ، فانقضّوا على مقدّمة القوم ، وعليها شرحبيل بن ذي الكلاع ، وهم غارّون ، فقاتلوهم فهزموهم ، وأخذوا من خيلهم وأمتعتهم وردّوا ، فبلغ الخبر عبيد الله بن زياد. فجهّز إليهم الحصين بن نمير في اثني عشر ألفا ، ثم ردفهم بشرحبيل في ثمانية آلاف ، ثم أمدّهم من الصباح بأدهم بن محرز في عشرة آلاف ، ووقع القتال ، ودام الحرب ثلاثة أيام قتالا لم ير مثله ، وقتل من الشاميين خلق كثير. وقتل من التّوّابين ـ وكذا كانوا يسمّون ، لأنّهم تابوا إلى الله من خذلان الحسين رضي‌الله‌عنه ـ فاستشهد أمراؤهم الأربعة ، لم يخبر رفاعة بمن بقي وردّ إلى الكوفة ، وكان المختار في الجيش ، فكتب إلى رفاعة بن شدّاد : مرحبا بمن عظّم الله لهم الأجر ، فأبشروا إنّ سليمان قضى ما عليه ، ولم يكن بصاحبكم الّذي به تنصرون ، إني أنا الأمير المأمون ، وقاتل الجبّارين ، فأعدّوا واستعدّوا ، وكان قد حبسه الأميران إبراهيم بن محمد بن طلحة ، وعبد الله بن يزيد الخطميّ ، فبقي أشهرا ، ثم بعث عبد الله بن عمر يشفع فيه إلى الأميرين ، فضمنه جماعة وأخرجوه ، وحلّفوه فحلف لهما مضمرا للشرّ ، فشرعت الشيعة تختلف إليه وأمره يستفحل (٣).

* * *

وكانت الكعبة احترقت في العام الماضي من مجمر ، علقت النار في

__________________

(١) في نسخة القدسي ٢ / ٣٧٠ : «رجال» ، والتصحيح من تاريخ (الطبري ٥ / ٥٩٥).

(٢) في نسخة القدسي ٢ / ٣٧٠ «رجالا».

(٣) الخبر في الطبري مطوّلا ٥ / ٥٩٣ ـ ٦٠٧.

٤٨

الأستار ، فأمر ابن الزبير في هذا العام بهدمها إلى الأساس ، وأنشأها محكمة ، وأدخل من الحجر فيها سعة ستة أذرع ، لأجل الحديث الّذي حدّثته خالته أم المؤمنين عائشة ، ثم إنه لما نقضها ووصلوا إلى الأساس ، عاينوه آخذا بعضه ببعض كأسنمة البخت ، وأنّ الستة الأذرع من جملة الأساس ، فبنوا على ذلك ، ولله الحمد ، وألصقوا داخلها بالأرض ، لم يرفعوا داخلها ، وعملوا لها بابا آخر في ظهرها ، ثم سدّه الحجّاج ، فذلك بيّن للناظرين ، ثم قصّر تلك الستة الأذرع ، فأخرجها من البيت ، ودكّ تلك الحجارة في أرض البيت ، حتى علا كما هو في زماننا ، زاده الله تعظيما (١).

* * *

وغلب في هذه السنة عبد الله بن خازم على خراسان ، وغلب معاوية الكلابيّ على السّند ، إلى أن قدم الحجّاج البحرين ، وغلب نجدة الحروريّ على البحرين وعلى بعض اليمن.

وأما عبيد الله بن زياد فإنه بعد وقعة عين الوردة مرض بأرض الجزيرة ، فاحتبس بها وبقتال أهلها عن العراق نحوا من سنة ، ثم قصد الموصل وعليها عامل المختار كما يأتي.

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٦٢٢.

٤٩

[حوادث]

سنة ست وستين

توفي فيها : جابر بن سمرة ، وزيد بن أرقم على الأصحّ فيهما ، وهبيرة بن يريم (١) ، وأسماء بن خارجة الفزاري ، وقتل عبيد الله بن زياد بن أبيه ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وحصين بن نمير السّكونيّ.

وقيل : إنما قتلوا في أول سنة سبع وستين.

* * *

وفي أثناء السنة عزل ابن الزبير عن الكوفة ، أميرها وأرسل عليها عبد الله بن مطيع ، فخرج من السجن المختار ، وقد التفّ عليه خلق من الشيعة ، وقويت بليّته ، وضعف ابن مطيع معه ، ثم إنه توثّب بالكوفة ، فناوشه طائفة من أهل الكوفة القتال ، فقتل منهم رفاعة بن شدّاد ، وعبد الله بن سعد ابن قيس ، وغلب على الكوفة ، وهرب منه عبد الله بن مطيع إلى ابن الزبير ، وجعل يتبع قتلة الحسين ، وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وشمر بن ذي الجوشن الضبابيّ وجماعة ، وافترى على الله أنه يأتيه جبريل بالوحي ، فلهذا قيل له المختار الكذّاب ، كما قالوا مسيلمة الكذّاب. ولما قويت شوكته في هذا العام ، كتب إلى ابن الزبير يحطّ على عبد الله بن مطيع ، ويقول : رأيته مداهنا لبني أميّة ، فلم يسعني أن أقرّه على ذلك وأنا على طاعتك ، فصدّقه ابن الزبير وكتب إليه بولاية الكوفة ، فكفاه جيش عبيد الله بن زياد ، وأخرج من عنده إبراهيم بن الأشتر (٢) ، وقد جهّزه للحرب ابن زياد في ذي الحجّة ،

__________________

(١) في الأصل «هبيرة بن مريم» والتصويب من تاريخ خليفة ٢٦٣.

(٢) في الأصل «إبراهيم بن الأسير».

٥٠

وشيّعه المختار إلى دير ابن أم الحكم ، واستقبل إبراهيم أصحاب المختار قد حملوا الكرسي الّذي قال لهم المختار : هذا فيه سرّ ، وإنه آية لكم كما كان التابوت آية لبني إسرائيل ، قال : وهم يدعون حول الكرسي ويحفّون به ، فغضب ابن الأشتر وقال : اللهمّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا ، سنّة بني إسرائيل إذ عكفوا على العجل (١).

* * *

فائدة

وافتعل المختار كتابا عن ابن الحنفيّة يأمره فيه بنصر الشيعة ، فذهب بعض الأشراف إلى ابن الحنفيّة فقال : وددت أنّ الله انتصر لنا بمن شاء ، فوثب إبراهيم بن الأشتر ، وكان بعيد الصوت ، كثير العشيرة ، فخرج وقتل إياس بن مضارب أمير الشرطة ، ودخل على المختار ، فأخبره ، ففرح ونادى أصحابه في الليل بشعارهم ، واجتمعوا بعسكر المختار بدير هند ، وخرج أبو عثمان النهدي فنادى : يا ثارات الحسين ، ألا إنّ أمير آل محمد قد خرج (٢).

ثم التقى الفريقان من الغد ، فاستظهر المختار ، ثم اختفى ابن مطيع ، وأخذ المختار يعدل ويحسن السيرة ، وبعث في السرّ إلى ابن مطيع بمائة ألف ، وكان صديقه قبل ذلك ، وقال : تجهّز بهذه واخرج ، فقد شعرت أين أنت ، ووجد المختار في بيت المال سبعة آلاف (٣) ، فأنفق في جنده قوّاهم.

قال ابن المبارك ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة : حدّثني معبد بن خالد ، حدّثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال : كان لجار لي زيّات ، كرسيّ ، وكنت قد احتجت ، فقلت للمختار : إني كنت أكتمك شيئا ، وقد بدا لي أن أذكره. قال : وما هو؟ قلت : كرسيّ كان أبي يجلس عليه ، كان يرى أن فيه أثرةً من علمٍ ، قال : سبحان الله! أخّرته إلى اليوم ، قال : وكان ركبه وسخ

__________________

(١) الخبر في تاريخ الطبري مطوّلا ٦ / ٧ وما بعدها ، وتاريخ خليفة ٢٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢ ، ٢٣.

(٣) عند الطبري ٦ / ٣٣ «تسعة آلاف». وانظر : الأخبار الطوال ٢٩١ ، ٢٩٢.

٥١

شديد ، فغسل وخرج عوادا نضارا (١) ، فجيء به وقد غشي ، فأمر لي باثني عشر ألفا ، ثم دعا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا فقال : إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله ، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت ، وإنّ فينا مثل التابوت ، اكشفوا عنه ، فكشفوا الأثواب (٢) ، وقامت السبائية (٣) فرفعوا أيديهم ، فقام شبث بن ربعيّ ينكر ، فضرب (٤).

فلما قتل عبيد الله بن زياد ، وخبره المقتلة الآتية ، ازداد أصحابه به فتنة ، وتغالوا فيه حتى تعاطوا الكفر ، فقلت : إنّا لله ، وندمت على ما صنعت ، فتكلّم الناس في ذلك ، فغيّب ، قال معبد : فلم أره بعد (٥).

قال محمد بن جرير (٦) : ووجّه المختار في ذي الحجّة ابن الأشتر لقتال ابن زياد ، وذلك بعد فراغ المختار من قتال أهل السّبيع وأهل الكناسة الذين خرجوا على المختار ، وأبغضوه من أهل الكوفة ، وأوصى ابن الأشتر وقال : هذا الكرسيّ لكم آية ، فحملوه على بغل أشهب ، وجعلوا يدعون حوله ويضجّون ، ويستنصرون به على قتال أهل الشام ، فلما اصطلم أهل الشام ازداد شيعة المختار بالكرسيّ فتنة ، فلما رآهم كذلك إبراهيم بن الأشتر تألّم وقال : اللهمّ لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا ، سنّة بني إسرائيل إذ عكفوا على العجل.

وكان المختار يربط أصحابه بالمحال والكذب ، ويتألّفهم بما أمكن ، ويتألّف الشيعة بقتل قتلة الحسين.

وعن الشعبي قال : خرجت أنا وأبي مع المختار من الكوفة ، فقال لنا : أبشروا ، فإنّ شرطة الله قد حسوهم بالسيوف بنصيبين أو بقرب نصّيبين ،

__________________

(١) في تاريخ الأمم والملوك ٦ / ٨٣ «عود نضار».

(٢) بالأصل «الأبواب» ، والتصحيح من تاريخ الطبري ٤ / ٨٣.

(٣) في الأصل «السرائية» ، والتحرير مما عند ابن جرير ٦ / ٨٣.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٨٣.

(٥) الطبري ٦ / ٨٣.

(٦) تاريخ الطبري ٦ / ٨١ ـ ٨٢.

٥٢

فدخلنا المدائن ، فو الله إنه ليخطبنا إذ جاءته البشرى بالنصر ، فقال : ألم أبشّركم بهذا؟ قالوا : بلى والله.

قال : يقول لي رجل همدانيّ من الفرسان : أتؤمن الآن يا شعبيّ؟ قلت : بما ذا؟ قال : بأنّ المختار يعلم الغيب ، ألم يقل إنهم انهزموا ، قلت : إنما زعم أنهم هزموا بنصيبين ، وإنما كان ذلك بالخازر من الموصل ، فقال لي : والله لا تؤمن حتى ترى العذاب الأليم يا شعبيّ (١).

وروي أنّ أحد عمومة الأعشى كان يأتي مجلس أصحابه ، فيقولون : قد وضع اليوم وحي ما سمع الناس بمثله ، فيه نبأ ما يكون من شيء (٢).

وعن موسى بن عامر قال : إنما كان يصنع لهم ذلك عبد الله بن نوف ويقول : إنّ المختار أمرني به ، ويتبرّأ منه المختار (٣).

وفي المختار يقول سراقة بن مرداس البارقيّ الأزديّ :

كفرت بوحيكم وجعلت نذرا

عليّ هجاكم (٤) حتّى الممات

أري عينيّ ما لم تبصراه (٥)

كلانا عالم بالترّهات (٦)

* * *

وفيها وقع بمصر طاعون هلك فيه خلق من أهلها (٧).

وفيها ضرب الدنانير بمصر عبد العزيز بن مروان ، وهو أول من ضربها في الإسلام.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٩٢ ، وانظر : الأخبار الطوال ٢٨٩ ، ٢٩٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٨٥.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٨٥.

(٤) في تاريخ الطبري ٦ / ٥٥ : «قتالكم».

(٥) كذا عند الطبري ، وفي الأصل : «ما لم ترياه».

(٦) في تاريخ الطبري ٤ أبيات (٦ / ٥٥) وفي الكامل ٤ / ٢٣٩ ثلاثة أبيات ، وكذلك في الأخبار الطوال ٣٠٣.

(٧) تاريخ خليفة ٢٦٣.

٥٣

وفي ذي الحجّة التقى عسكر المختار ، وكانوا ثلاثة آلاف ، وعسكر ابن زياد ، فقتل قائد أصحاب ابن زياد ، واتفق أنّ قائد عسكر المختار كان مريضا فمات من الغد ، فانكسر بموته أصحابه وتحيّزوا.

٥٤

[حوادث]

سنة سبع وستين

فيها توفي : عديّ بن حاتم ، والمختار بن أبي عبيد الكذّاب ، وعمر وعبيد الله ابنا علي بن أبي طالب ، وزائدة بن عمير الثقفي ، ومحمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، قتل هؤلاء الأربعة في حرب المختار ، وقتل عبيد الله وأمراؤه في أول العام.

ذكر وقعة الخازر (١)

في المحرّم ، وقيل : كانت في يوم عاشوراء ، بين إبراهيم بن الأشتر ، وكان في ثمانية آلاف من الكوفيين ، وبين عبيد الله بن زياد ، وكان في أربعين ألفا من الشاميين ، فسار ابن الأشتر في هذا الوقت مسرعا يريد أهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق ، فسبقهم ودخل الموصل ، فالتقوا على خمسة فراسخ من الموصل بالخازر ، وكان ابن الأشتر قد عبّأ جيشه ، وبقي لا يسير إلا على تقية (٢) ، فلما تقاربوا أرسل عمير بن الحباب السلميّ إلى ابن الأشتر : إني معك.

قال : وكان بالجزيرة خلق من قيس ، وهم أهل خلاف لمروان ، وجند مروان يومئذ كلب ، وسيّدهم ابن بحدل ، ثم أتاه عمير ليلا فبايعه ، وأخبره أنه على ميسرة ابن زياد ، ووعده أن ينهزم بالناس ، فقال ابن الأشتر : ما رأيك

__________________

(١) في الأصل «الجازر» والتصحيح من الطبري وغيره.

(٢) عند الطبري ٦ / ٨٦ : «تعبية».

٥٥

أخندق على نفسي؟ قال : لا تفعل ، إنّا لله ، هل يريد القوم إلا هذه ، إن طاولوك وما ماطلوك فهو خير لكم ، هم أضعافكم ، ولكن ناجز القوم ، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا ، وإن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم أنسوا بهم واجترءوا عليهم ، فقال : الآن علمت أنك ناصح لي ، والرأي ما رأيت ، وإن صاحبي بهذا الرأي أمدّني ، ثم انصرف عمير ، وأتقن ابن الأشتر أمره ولم ينم ، وصلّى بأصحابه بغلس ، ثم زحف بهم حتى أشرف من تلّ على القوم ، فجلس عليه ، وإذا أولئك لم يتحرّك منهم أحد ، فقاموا على دهش وفشل ، وساق ابن الأشتر على أمرائه يوصيهم ويقول : يا أنصار الدين وشيعة الحقّ ، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين ، حال بينه وبين الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه ، ومنعه أن ينصرف إلى بلده ، ومنعه أن يأتي ابن عمّه يزيد فيصالحه حتى قتله ، فو الله ما عمل فرعون مثله ، وقد جاءكم الله به ، وإني لأرجو أن يشفي صدوركم ، ويسفك دمه على أيديكم ، ثم نزل تحت رايته ، فزحف إليه عبيد الله بن زياد ، وعلى ميمنته الحصين بن نمير ، وعلى ميسرته عمير (١) بن الحباب ، وعلى الخيل شرحبيل بن ذي الكلاع ، فحمل الحصين على ميسرة ابن الأشتر فحطّمها ، وقتل مقدّمها عليّ بن مالك الجشميّ ، فأخذ رايته قرّة بن علي ، فقتل أيضا ، فانهزمت الميسرة ، وتحيّزت مع ابن الأشتر ، فحمل وجعل يقول لصاحب رايته : انغمس برايتك فيهم ، ثم شدّ ابن الأشتر ، فلا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعة ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وكثرت القتلى ، فانهزم أهل الشام ، فقال ابن الأشتر : قتلت رجلا وجدت منه رائحة المسك ، شرّقت يداه وغرّبت رجلاه ، تحت راية منفردة على جنب النهر ، فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد ، قد ضربه فقدّه بنصفين ، وحمل شريك التغلبيّ (٢) على الحصين بن نمير فاعتنقا ، فقتل أصحاب شريك حصينا ، ثم تبعهم أصحاب ابن الأشتر ، فكان من غرق في الخازر أكثر ممّن قتل ، ثم إنّ إبراهيم بن الأشتر دخل الموصل ، واستعمل عليها وعلى نصّيبين ودارا وسنجار ، وبعث

__________________

(١) في الأصل «عمر» والتصحيح من السياق.

(٢) في الأصل «الثعلبي».

٥٦

برؤوس عبيد الله ، والحصين ، وشرحبيل بن ذي الكلاع إلى المختار ، فأرسلها فنصبت بمكة (١).

وممّن قتل مع إبراهيم : هبيرة بن يريم ، وممن قتله المختار حبيب بن صهبان الأسديّ ، ومحمد بن عمّار بن ياسر بالكوفة (٢).

* * *

وفيها وجّه المختار أربعة آلاف فارس ، عليهم أبو عبد الله الجدليّ (٣) ، وعقبة بن طارق ، فكلّم الجدليّ (٣) عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية ، وأخرجوه من الشعب ، ولم يقدر ابن الزبير على منعهم ، وأقاموا في خدمة محمد ثمانية أشهر ، حتى قتل المختار ، وسار محمد إلى الشام.

فأما ابن الزبير فإنه غضب على المختار ، وبعث لحربه أخاه مصعب بن الزبير ، وولّاه جميع العراق ، فقدم محمد بن الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي إلى البصرة يستنصران على المختار ، فسيّر المختار إلى البصرة أحمر (٤) ابن شميط ، وأبا عمرة كيسان في جيش من الكوفة ، حتى نزلوا المدار ، فسار إليهم مصعب بأهل البصرة ، وعلى ميمنته وميسرته المهلّب بن أبي صفرة ، الأسديّ. وعمر بن عبيد الله التيمي ، فحمل عليهم المهلّب ، فألجأهم إلى القصر ، حتى قتله طريف (٥) وطرّف أخوان من بني حنيفة ، في رمضان ، وأتيا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٨٦ ـ ٩٢.

(٢) تاريخ خليفة ٢٦٣.

(٣) في الأصل «الحدلي» ، والتحرير من تاريخ ابن جرير ٦ / ١٠٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ١٠١.

(٤) في الأصل «أحمد» والتصحيح من (شذرات الذهب ج ١ ص ٧٥ والطبري ٦ / ٩٥).

(٥) عند الطبري ٦ / ١٠٨ : «طرفة». والمثبت يتفق مع تاريخ خليفة ٢٦٤.

٥٧

برأسه إلى مصعب ، فأعطاهما ثلاثين ألفا ، وقتل بين الطائفتين سبعمائة.

ويقال : كان المختار في عشرين ألفا ، فقتل أكثرهم ، والله أعلم.

وقتل مصعب خلقا بدار الإمارة غدرا بعد أن أمّنهم ، وقتل عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاريّ امرأة المختار صبرا ، لأنها شهدت في المختار أنه عبد صالح (١).

وبلغنا من وجه آخر أنّ طائفة من أهل الكوفة لما بلغهم مجيء مصعب تسرّبوا إليه إلى البصرة ، منهم شبث بن ربعي ، وتحته بغلة قد قطع ذنبها وأذنها ، وشقّ قباءه ، وهو ينادي : يا غوثاه ، وجاء أشراف أهل الكوفة وأخبروا مصعبا بما جرى ، وبوثوب عبيدهم وغلمانهم عليهم مع المختار ، ثم قدم عليهم محمد بن الأشعث ، ولم يكن شهد وقعة الكوفة ، بل كان في قصر له بقرب القادسية ، فأكرمه مصعب وأدناه لشرفه ، ثم كتب إلى المهلّب بن أبي صفرة ـ وكان عامل فارس ـ ليقدم ، فتوانى عنه ، فبعث مصعب خلفه محمد ابن الأشعث ، فقال له المهلّب : مثلك يأتي بريدا؟ قال : إنّي والله ما أنا بريد أحد ، غير أنّ نساءنا وأبناءنا غلبنا عليهم عبداؤنا (٢) وموالينا ، فأقبل المهلّب بجيوش وأموال عظيمة ، وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما انهزم جيش المختار انهدّ لذلك ، وقال لنجيّ له : ما من الموت بدّ ، وحبّذا مصارع الكرام ، ثم حصر القصر ، ودام الحصار أيّاما ، ثم في أواخر الأمر كان المختار يخرج فيقاتل هو وأصحابه قتالا ضعيفا ، ثم جهدوا وقلّ عليهم القوت والماء ، وكان نساؤهم يجئن بالشيء اليسير خفية ، فضايقهم جيش مصعب ، وفتّشوا النساء ، فقال المختار : ويحكم انزلوا بنا نقاتل حتى نقتل كراما ، وما أنا بآيس إن صدقتموهم أن تنصروا ، فضعفوا ، فقال : أما أنا فلا والله لا أعطي بيدي ، فأمّلس عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزوميّ فاختبأ ، وأرسل المختار إلى امرأته بنت سمرة بن جندب ، فأرسلت إليه بطيب كثير ، ثم اغتسل وتحنّط وتطيّب ، ثم خرج حوله تسعة عشر رجلا ، فيهم السائب بن مالك الأشعريّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ١١٢.

(٢) عند الطبري ٦ / ٩٤ : «عبداننا».

٥٨

خليفته على الكوفة ، فقال السائب : ما ترى؟ قال : أنا أرى أم الله يرى! قال : بل الله يرى ، ويحك أحمق أنت ، إنما أنا رجل من العرب ، رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز ، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ، ورأيت مروان انتزى على الشام ، فلم أكن بدونهم ، فأخذت هذه البلاد ، فكنت كأحدهم ، إلا أني طلبت بثأر أهل البيت ، فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نيّة ، قال : إنّا لله ، وما كنت أصنع بحسبي! وقال لهم المختار : أتؤمّنوني؟ قالوا : لا ، إلا على الحكم ، قال : لا أحكّمكم (١) في نفسي ، ثم قاتل حتى قتل ، ثم أمكن أهل القصر من أنفسهم ، فبعث إليه مصعب : عبّاد بن الحصين ، فكان يخرجهم مكتّفين ، ثم قتل سائرهم. فقيل : إنّ رجلا منهم قال لمصعب : الحمد لله الّذي ابتلانا بالإسار ، وابتلاك أن تعفو عنا ، فهما منزلتان إحداهما رضا الله والثانية سخطه ، من عفا عفا الله عنه ، ومن عاقب لم يأمن القصاص ، يا ابن الزبير نحن أهل قبلتكم وعلى ملّتكم ، لسنا تركا ولا ديلما ، فإن خالفنا إخواننا من أهل المصر (٢) ، فإما أن نكون (٣) أصبنا وأخطأوا ، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا. فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشام بينهم ، ثم اصطلحوا واجتمعوا ، وقد ملكتم فاسجحوا ، وقد قدرتم فاعفوا ، فرّق لهم مصعب ، وأراد أن يخلّي سبيلهم ، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فقال : تخلّي سبيلهم! اخترنا واخترهم ، ووثب محمد بن عبد الرحمن الهمدانيّ فقال : قتل أبي وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة ثم تخلّهم ، ووثب كل أهل بيت ، فأمر بقتلهم ، فنادوا : لا تقتلنا واجعلنا مقدّمتك إلى أهل الشام غدا ، فو الله ما بك عنّا غناء ، فإن ظفرنا فلكم ، وإن قتلنا لم نقتل حتى نرقّهم لكم ، فأبى ، فقال مسافر بن سعيد : ما تقول لله غدا إذا قدمت عليه ، وقد قتلت أمّة من المسلمين صبرا ، حكّموك في دمائهم (٤) ، فكان الحقّ في دمائهم أن لا تقتل

__________________

(١) في الأصل «أحكم» ، والتحرير من تاريخ ابن جرير ٦ / ١٠٧.

(٢) عند الطبري «مصرنا» (٦ / ١٠٩).

(٣) من هنا إلى «نكون» ساقط من الأصل ، فاستدركته من تاريخ الطبري ٦ / ١٠٩.

(٤) من هنا إلى «دمائهم» ساقط في الأصل ، فاستدركته من تاريخ الطبري ٦ / ١١٠.

٥٩

نفسا مسلمة بغير نفس ، فإن كنا قتلنا عدّة رجال منكم ، فاقتلوا عدّة منّا ، وخلّوا سبيل الباقي ، فلم يستمع له ، ثم أمر بكفّ المختار ، فقطعت وسمّرت إلى جانب المسجد ، وبعث عمّاله إلى البلاد ، وكتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول : إن أجبتني فلك الشام وأعنّة الخيل.

وكتب عبد الملك بن مروان أيضا إلى ابن الأشتر : إن بايعتني فلك العراق ، ثم استشار أصحابه فتردّدوا ، ثم قال : لا أؤثر على مصري وعشيرتي أحدا ، وسار إلى مصعب (١).

قال أبو غسّان مالك بن إسماعيل : ثنا إسحاق بن سعيد ، عن سعيد قال : جاء مصعب إلى ابن عمر ، يعني لما وفد على أخيه ابن الزبير ، فقال : أي عم ، أسألك عن قوم خلعوا الطاعة وقاتلوا ، حتى إذا غلبوا تحصّنوا وسألوا الأمان ، فأعطوا ، ثم قتلوا بعد ، قال : وكم العدد؟ قال : خمسة آلاف ، قال : فسبّح ابن عمر ، ثم قال : عمرك الله يا مصعب ، لو أنّ امرأ أتى ماشية للزبير ، فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة ، أكنت تعدّه مسرفا؟ قال : نعم ، قال : فتراه إسرافا في البهائم ، وقتلت من وحّد الله ، أما كان فيهم مستكره أو جاهل ترجى توبته! أصب يا ابن أخي من الماء البارد ما استطعت في دنياك (٢).

وكان المختار محسنا إلى ابن عمر ، يبعث إليه بالجوائز والعطايا ، لأنه كان زوج أخت المختار صفيّة بنت أبي عبيد ، وكان أبوهما أبو عبيد الثقفي رجلا صالحا ، استشهد يوم جسر أبي عبيد ، والجسر مضاف إليه ، وبقي ولداه بالمدينة.

فقال ابن سعد : ثنا محمد بن عمر ، ثنا عبد الله بن جعفر ، عن أم بكر بنت المسور (٣) ، وعن رباح بن مسلم ، عن أبيه ، وإسماعيل بن إبراهيم المخزومي ، عن أبيه ، قالوا : قدم أبو عبيد من الطائف ، وندب عمر الناس

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٩٤ ـ ١١١.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٦ / ١١٣.

(٣) في الأصل «بنت المسعود» ، والتصحيح من الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ١٤٨.

٦٠