تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٥

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

سيكون في قومك أمور ، فلا تدخل معهم في شيء ، فلما كان من أهل المدينة ما كان ، كتب مع مسلّم بن عقبة كتابا فيه أماني ، فلما فرغ مسلّم من الحرّة بعث إليّ ، فجئته وقد كتبت وصيّتي ، فرمى إليّ بالكتاب ، فإذا فيه : استوص بعلي بن الحسين خيرا ، وإن دخل معهم ، في أمرهم فأمّنه واعف عنه ، وإن لم يكن معهم فقد أصاب وأحسن (١).

وقال غير واحد : قتل مع الحسين ابن عمّه مسلّم بن عقيل بن أبي طالب ، وقد كان في آخر سنة ستين ، قتله ابن زياد صبرا ، وكان الحسين قد قدّمه إلى الكوفة ، ليخبر من بها من شيعته بقدومه ، فنزل على هانئ بن عروة المرادي ، فأحسّ به عبيد الله بن زياد ، فقتل مسلما وهانئا.

وممّن قتل مع الحسين يوم عاشوراء إخوته بنو أبيه : جعفر ، وعتيق ، ومحمد ، والعباس الأكبر بنو علي ، وابنه الأكبر علي ـ وهو غير علي زين العابدين ـ ، وابنه عبد الله بن الحسين ، وابن أخيه القاسم بن الحسين ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وأخوه عون ، وعبد الله ، وعبد الرحمن ابنا مسلّم بن عقيل ، رضي‌الله‌عنهم (٢).

* * *

(وفيها) : ظنّا وتخمينا ، قدم على ابن الزبير وهو بمكة المختار بن أبي عبيد الثقفي من الطائف ، وكان قد طرد إلى الطائف ، وكان قويّ النفس ، شديد البأس ، يظهر المناصحة والدهاء ، وكان يختلف إلى محمد بن الحنفيّة ، فيسمعون منه كلاما ينكرونه ، فلما مات يزيد استأذن ابن الزبير في المضيّ إلى العراق ، فأذن له وركن إليه ، وكتب إلى عامله على العراق عبد الله بن مطيع يوصيه به ، فكان يختلف إلى ابن مطيع ، ثم أخذ يعيب في الباطن ابن الزبير ويثني على ابن الحنفيّة ، ويدعو إليه ، ويحرّض أهل الكوفة على ابن مطيع ، ويكذب وينافق ، فراج أمره واستغوى طائفة ، وصار له شيعة ، إلى أن خافه ابن مطيع ، وهرب منه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سير اعلام النبلاء ٣ / ٣٢٠ ، ٣٢١.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٤٦٨ ، ٤٦٩ ، وتاريخ خليفة ٢٣٤.

٢١

[حوادث]

سنة اثنتين وستين

توفي فيها : بريدة بن الحصيب ، وعبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث الهاشمي ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو مسلّم الخولانيّ الدارانيّ الزاهد ، وعلقمة بن قيس النخعي الفقيه.

* * *

وفيها استعمل عبيد الله بن زياد أمير العراق على السند (١) المنذر بن الجارود العبديّ ، ولابنه الجارود بن عمرو صحبة.

وكان المنذر من وجوه أهل البصرة من أصحاب علي ، قتله الحجّاج.

وفيها غزا سلّم بن أحور (٢) خوارزم فصالحوه على مال ، ثم عبر إلى سمرقند ، فنازلها ، فصالحوه أيضا.

وفيها نقض أهل كابل ، وأخذوا أبا عبيدة بن زياد بن أبي سفيان بن حرب أسيرا ، فسار أخوه يزيد في جيش ، فهجم عليهم ، فقاتلوه ، فقتل يزيد ، وقتل معه زيد بن جدعان التّيمي والد علي بن زيد ، وصلة بن أشيم العدوي ، وولداه (٣) ، وعمرو بن قثم (٤) ، وبديل بن نعيم العدوي ، وعثمان بن آدم العدوي ، في رجال من أهل الصدق. قاله خليفة.

وأقام الموسم للناس عثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب (٥).

__________________

(١) في تاريخ خليفة ص ٢٣٦ «ثغر قندابيل».

(٢) في تاريخ خليفة بن خياط ٢٣٥ : «سلّم بن زياد».

(٣) في تاريخ خليفة : «وابنه».

(٤) في تاريخ خليفة : «عمرو بن قتيبة».

(٥) تاريخ خليفة ٢٣٦.

٢٢

[حوادث]

سنة ثلاث وستين

فيها توفي : ربيعة بن كعب الأسلمي ، ومسروق بن الأجدع.

* * *

وفيها وقعة الحرّة على باب طيبة ، واستشهد فيها خلق وجماعة من الصحابة.

وفيها بعث سلّم بن زياد : ابن أبيه طلحة بن عبد الله الخزاعي واليا على سجستان ، فأمره أن يفدي أخاه من الأسر ، ففداه بخمسمائة ألف ، وأقدمه على أخيه ، وأقام طلحة بسجستان (١).

فيها غزا عقبة بن نافع من القيروان ، فسار حتى أتى السوس الأقصى ، وغنم وسلّم ، وردّ ، فلقيه كسيلة وكان نصرانيا ، فالتقيا ، فاستشهد في الوقعة عقبة بن نافع ، وأبو المهاجر دينار مولى الأنصار ، وعامّة أصحابهما. ثم سار كسيلة الكلب ، فسار لحربه زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان ، فقتل في الوقعة كسيلة ، وهزم جنوده ، وقتلت منهم مقتلة كبيرة (٢).

قصة الحرّة

قال جويرية بن أسماء : سمعت أشياخنا يقولون : وفد إلى يزيد عبد الله بن حنظلة بن الغسيل الأوسي المدني ، وله صحبة ، وفد في ثمانية بنين له ،

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٠ ، ٢٥١.

(٢) تاريخ خليفة ٢٥١ ، البيان المغرب ١ / ٢٦ ـ ٣٠.

٢٣

فأعطاه يزيد مائة ألف ، وأعطى لكل ابن عشرة آلاف ، سوى كسوتهم ، فلما رجع إلى المدينة قالوا : ما وراءك؟ قال : أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم ، قالوا : إنه قد أكرمك وأعطاك ، قال : نعم وما قبلت ذلك منه إلا لأتقوّي به عليه ، ثم حضّ الناس فبايعوه (١).

وقال خليفة بن خياط (٢) : قال أبو اليقظان : دعوا إلى الرضا والشورى ، وأمّروا على قريش عبد الله بن مطيع العدوي ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة ، وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي ، وأخرجوا من بالمدينة من بني أميّة.

وقال غيره : خلعوا يزيد ، فأرسل إليهم جيشا عليه مسلّم بن عقبة ، وأرسل أهل المدينة إلى مياه الطريق ، فصبّوا في كل ماء زقّ قطران وغوّروه ، فأرسل الله السماء عليهم ، فما استقوا بدلو (٣).

وجاء من غير وجه أنّ يزيد لما بلغه وثوب أهل المدينة بعامله وأهل بيته ، ونفيهم ، جهّز لحربهم مسلّم بن عقبة المرّي ، وهو شيخ ، وكانت به النوطة ، وجهّز معه جيشا كثيفا ، فكلّم يزيد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في أهل المدينة ، وكان عنده ، وقال : إنما تقتل بهم نفسك ، فقال : أجل أقتل بهم نفسي وأشقى ، ولك عندي واحدة ، آمر مسلما أن يتّخذ المدينة طريقا ، فإن هم لم ينصبوا له الحرب ، وتركوه يمضي إلى ابن الزبير فيقاتله ، وإن منعوه وحاربوه قاتلهم ، فإن ظفر بهم قتل من أشرف له وأنهبها ثلاثا ، ثم يمضي إلى ابن الزبير. فكتب عبد الله بن جعفر إلى أهل المدينة أن لا تعرضوا لجيشه ، فورد مسلّم بن عقبة ، فمنعوه ونصبوا له الحرب ، ونالوا من يزيد ، فأوقع بهم وأنهبها ثلاثا ، وسار إلى الزبير ، فمات بالمشلل (٤) ، وعهد

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٣٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٢٣ ، ٤٢٤.

(٢) تاريخ خليفة ٢٣٧.

(٣) تاريخ خليفة ٨٣٨ ، تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٥.

(٤) المشلّل : بضمّ أوله ، وفتح ثانيه ، وفتح اللام وتشديدها ، وهي ثنيّة مشرفة على قديد. (معجم ما استعجم ٤ / ١٢٣٣).

٢٤

إلى حصين بن نمير في أول سنة أربع وستين (١).

وروى محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم قال : دخل عبد الله بن مطيع ليالي الحرّة على ابن عمر ، فقال ابن عمر : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من نزع يدا من طاعة لم يكن له حجّة يوم القيامة ، ومن مات مفارقا للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية» (٢).

وقال المدائني : توجّه مسلم بن عقبة إلى المدينة في اثني عشر ألف رجل ، ويقال في اثنى عشر ألف فارس ، وخمسة عشر راجل ، ونادى منادي يزيد : سيروا على أخذ أعطياتكم ، ومعونة أربعين دينارا لكل رجل.

وقال النعمان بن بشير ليزيد : وجّهني أكفك ، قال : لا ، ليس لهم إلا هذا ، والله لا أقبلهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة ، فقال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين في عشيرتك وأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال له عبد الله بن جعفر : أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك ، أتقبل ذلك منهم؟ قال : إن فعلوا فلا سبيل عليهم ، يا مسلم إذا دخلت المدينة ولم تصدّ عنها ، وسمعوا وأطاعوا فلا تعرضنّ لأحد ، وامض إلى الملحد ابن الزبير ، وإن صدّوك عن المدينة فادعهم ثلاثة أيام ، فإن لم يجيبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، فستجدهم أول النهار مرضى ، وآخره صبرا ، سيوفهم أبطحية ، فإذا ظهرت عليهم ، فإن كان بنو أميّة قد قتل منهم أحد فجرّد السيف واقتل المقبل والمدبر ، وأجهز على الجريح وانهبها ثلاثا ، واستوص بعلي بن الحسين ، وشاور حصين بن نمير ، وإن حدث بك حدث ، فولّه الجيش.

وقال جرير بن حازم ، عن الحسن ، أنه ذكر الحرّة فقال : والله ما كاد ينجو منهم أحد ، ولقد قتل ابنا زينب بنت أم سلمة ، فأتيت بهما فوضعتهما بين يديها ، فقالت : والله إنّ المصيبة عليّ فيكما لعظيمة ، وهي في هذا ـ وأشارت إلى أحدهما ـ أعظم منها في هذا ـ وأشارت إلى الآخر ـ ، لأنّ هذا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٨.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧٠ و ٨٣ و ٩٣ و ٩٧ و ١٢٣ و ٣٣ و ١٥٤.

٢٥

بسط يده ، وأما هذا فقعد في بيته ، فدخل عليه فقتل ، فأنا أرجو به.

وقال جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة قال : نهب مسرف (١) بن عقبة المدينة ثلاثا ، وافتضّ فيها ألف عذراء.

قال يزيد بن الهاد ، عن أبي بكر بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن السائب بن خلّاد ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (٢). رواه مسلّم بن أبي مريم ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن عطاء عن السائب ، وخالفهم موسى بن عقبة ، عن عطاء فقال : عن عبادة بن الصّامت ، والأول أصحّ.

وقال جويرية بن أسماء : سمعت أشياخنا من أهل المدينة يتحدّثون قالوا : خرج أهل المدينة يوم الحرّة بجموع كبيرة ، وهيئة لم ير مثلها ، فلما رآهم أهل الشام كرهوا قتالهم ، فأمر مسلّم بن عقبة بسريره ، فوضع بين الصفّين ، ثم أمر مناديه : قاتلوا عنّي ، أو دعوا ، فشدّ الناس في قتالهم ، فسمعوا التكبير خلفهم من المدينة ، وأقحم عليهم بنو حارثة وهم على الحرّة ، فانهزم الناس ، وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغطّ نوما ، فنبّهه ابنه ، فلما رأى ما جرى أمر أكبر بنيه ، فقاتل حتى قتل ، ثم لم يزل يقدّمهم واحدا بعد واحد ، حتى أتى على آخرهم ، ثم كسر جفر سيفه ، فقاتل حتى قتل (٣).

وقال وهيب بن خالد : ثنا عمرو بن يحيى ، عن أبيه قال : قيل لعبد الله ابن زيد يوم الحرّة : ها ذاك ابن حنظلة يبايع الناس على الموت ، فقال : لا أبايع عليه أحدا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). إسناده صحيح.

__________________

(١) هو مسلم بن عقبة ، وقد سمّي «مسرف» بعد وقعة الحرّة.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٥٥.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٤٨٩ ، والخبر في تاريخ خليفة ٢٣٨.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد ٤ / ٨ باب البيعة في الحرب أن لا يفرّوا .. ، وفي المغازي ٥ / ٦٥ باب غزوة الحديبيّة ، ومسلم في الإمارة (٨١ / ١٨٦١) ، وأحمد في المسند ٤ / ٤١ و ٤٢.

٢٦

وقال الواقدي : أنا ابن أبي ذئب ، عن صالح بن أبي حسّان ، أنا إسماعيل بن إبراهيم المخزومي ، عن أبيه ، وثنا سعيد بن محمد بن عمرو بن يحيى ، عن عبادة بن تميم ، كلّ قد حدّثني ، قالوا : لما وثب أهل الحرّة ، وأخرجوا بني أمية عن المدينة ، واجتمعوا على عبد الله بن حنظلة ، وبايعهم على الموت قال : يا قوم اتّقوا الله ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء ، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ، ويشرب الخلّ ويدع الصلاة ، قال : فكان ابن حنظلة يبيت تلك الليالي في المسجد ، وما يزيد على أن يشرب ، يفطر على شربة سويق ويصوم الدهر ، وما رئي رافعا رأسه إلى السماء إخباتا (١) ، فلما قرب القوم خطب عبد الله بن حنظلة أصحابه ، وحرّضهم على القتال ، وأمرهم بالصدق في اللقاء وقال : اللهمّ إنّا بك واثقون ، فصبّح القوم المدينة ، فقاتل أهل المدينة قتالا شديدا حتى كثّرهم (٢) أهل الشام ، ودخلت المدينة من النواحي كلها ، وابن حنظلة يمشي بها في عصابة من الناس أصحابه ، فقال لمولى (٣) له : احم لي ظهري حتى أصلّي الظهر ، فلما صلّى قال له مولاه : ما بقي أحد ، فعلام نقيم؟ ولواؤه قائم ما حوله إلا خمسة (٤) ، فقال : ويحك ، إنما خرجنا على أن نموت ، قال : وأهل المدينة كالنّعام الشرود ، وأهل الشام يقتلون فيهم ، فلما هزم الناس طرح الدّرع ، وقاتلهم حاسرا حتى قتلوه ، فوقف عليه مروان وهو مادّ إصبعه السّبّابة ، فقال : أما والله لئن نصبتها ميتا لطالما نصبتها حيا (٥).

وقال مبارك بن فضالة ، عن أبي هارون العبديّ قال : رأيت أبا سعيد الخدريّ ممعّط اللحية ، فقلت : تعبث بلحيتك! فقال : لا ، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام يوم الحرّة ، دخلوا عليّ زمن الحرّة فأخذوا ما في البيت ، ثم دخلت عليّ طائفة ، فلم يجدوا في البيت شيئا ، فأسفوا وقالوا : أضجعوا

__________________

(١) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «أحيانا» ، والتصويب من (الطبقات الكبرى ٥ / ٦٧).

(٢) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «كبر» ، والتصويب من (الطبقات الكبرى).

(٣) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «ولى» ، والتصويب من (الطبقات).

(٤) في (الطبقات الكبرى ٥ / ٦٧) : «ما حوله خمسة».

(٥) طبقات ابن سعد ٥ / ٦٧ ، ٦٨.

٢٧

الشيخ ، فأضجعوني ، فجعل كلّ واحد منهم يأخذ من لحيتي خصلة.

عن بعضهم قالوا : ودخلوا المدينة ونهبوا وأفسدوا ، واستحلّوا الحرمة.

قال خليفة (١) : فجميع من أصيب من قريش والأنصار يوم الحرّة ثلاثمائة وستة رجال ، ثم سرد أسماءهم في ستّ (٢) أوراق ، قال : وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجّة.

الواقدي : حدّثني أبو بكر بن أبي سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبي جعفر ، أنه سأله عن يوم الحرّة : هل خرج فيها أحد من بني عبد المطّلب؟ قال : لا ، لزموا بيوتهم ، فلما قدم مسرف وقتل الناس ، سأل عن أبي ، أحاضر هو؟ قالوا : نعم ، قال : ما لي لا أراه! فبلغ ذلك أبي ، فجاءه ومعه ابنا محمد ابن الحنفية ، فرحّب بهم ، وأوسع لأبي على سريره وقال : كيف كنت؟ إنّ أمير المؤمنين أوصاني بك خيرا ، فقال : وصل الله تعالى أمير المؤمنين ، ثم سأله عن عبد الله والحسين ابني محمد ، فقال : هما ابنا عمّي ، فرحّب بهما.

قلت : فمن أصيب يومئذ : أميرهم عبد الله بن حنظلة ، وبنوه ، وعبد الله ابن زيد بن عاصم الأنصاري الّذي حكى وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعقل بن سنان الأشجعي ، حامل لواء قومه يوم الفتح ، وواسع بن حبّان الأنصاري ، مختلف في صحبته ، وكثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، أحد من نسخ المصاحف التي سيّرها عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، إلى الأمصار ، وأبوه أفلح ، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي ، ومحمد بن أبي حذيفة ، قتلا مع معقل الأشجعي صبرا.

وممّن قتل يومئذ : سعد ، وسليمان ، ويحيى ، وإسماعيل ، وسليط ، وعبد الرحمن ، وعبد الله بنو زيد بن ثابت لصلبه. قاله محمد بن سعد.

وممّن قتل يوم الحرّة : إبراهيم بن نعيم النّحّام (٣) بن عبد الله بن أسيد

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٠.

(٢) في الأصل «ستة».

(٣) في (نزهة الألباب في الألقاب للحافظ ابن حجر) : ضبطه الأكثر بفتح النون وتشديد الحاء ، وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء.

٢٨

القرشي (١) العدوي.

قال ابن سعد (٢) : كان ابن النّحّام أحد الرءوس يوم الحرّة ، وقتل يومئذ ، وكان زوج رقيّة ابنة عمر بن الخطّاب.

وقتل يوم الحرّة أيضا محمد بن أبيّ بن كعب ، وعبد الرحمن بن أبي قتادة ، ويزيد ، ووهب ابنا عبد الله بن زمعة ، ويعقوب بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، وأبو حكيمة معاذ بن الحارث الأنصاري القارئ ، الّذي أقامه عمر يصلّي بالناس التراويح ، وقد روى عن أبي بكر وعمر ، وروى عنه سعيد المقبري ، ونافع مولى ابن عمر.

ومنهم عمران بن أبي أنيس ، توفي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله ستّ سنين ، والفضل ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، ويزيد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، ومحمد بن ثابت بن قيس بن شماس.

قال عوانة بن الحكم : أتى مسلم بن عقبة بين يدي عبد الله بن زمعة ابن الأسود الأسدي فقال : بايع على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فامتنع ، فأمر به مسلم فقتل (٣).

وقال : دخل مسلم بن عقبة المدينة ، ودعا الناس إلى البيعة ، على أنهم خول ليزيد ، يحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما شاء ، حتى أتي بابن عبد الله بن زمعة ، وكان صديقا ليزيد وصفيّا له ، فقال : بل أبايعك على أنّي ابن عمّ أمير المؤمنين ، يحكم في دمي وأهلي ، فقال : اضربا عنقه ، فوثب مروان بن الحكم فضمّه إليه ، فقال مسلم : والله لا أقتله أبدا ، وقال : إن تنحّى مروان ، وإلا فاقتلوهما معا ، فتركه مروان ، فضربت عنقه (٤).

وقتل أيضا صبرا أبو بكر بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب ، وأبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، ويعقوب بن طلحة بن عبيد الله.

__________________

(١) في الأصل «العرسي» ، والتصحيح من أسد الغابة ٥ / ٣٢.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ / ١٧٠ و ١٧١.

(٣) انظر : تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٢ ، تاريخ خليفة ٢٣٩.

(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٣ والخبر في تاريخ خليفة ٢٣٨ ، ٢٣٩.

٢٩

وجاء أنّ معقل بن سنان ، ومحمد بن أبي الجهم كانا في قصر العرصة ، فأنزلهما مسلم بالأمان ، ثم قتلهما ، وقال لمحمد : أنت الوافد على أمير المؤمنين (١) ، فوصلك وأحسن جائزتك ، ثم تشهد عليه بالشرب.

وقيل : بل قال له : تبايع أمير المؤمنين على أنك عبد قنّ ، إن شاء أعتقك ، وإن شاء استرقّك ، قال : بل أبايع على أنّي ابن عمّ لئيم ، فقال : اضربوا عنقه.

وروي عن مالك بن أنس قال : قتل يوم الحرّة من حملة القرآن سبعمائة.

قلت : ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل ، وقتل الحسين وإخوته وآله ، وشرب يزيد الخمر ، وارتكب أشياء منكرة ، بغضه الناس ، وخرج عليه غير واحد ، ولم يبارك الله في عمره ، فخرج عليه أبو بلال مرداس بن أديّة (٢) الحنظليّ.

قال ثابت البناني : فوجّه عبيد الله بن زياد جيشا لحربه ، فيهم عبد الله ابن رباح الأنصاري ، فقتله أبو بلال.

وقال غيره : وجّه عبيد الله بن زياد أيضا عبّاد بن أخضر في أربعة آلاف ، فقاتلوا أبا بلال في سواد ميسان ، ثم قتل عبّاد غيلة.

وقال يونس بن عبيد : خرج أبو بلال أحد بني ربيعة بن حنظلة في أربعين رجلا ، فلم يقاتل أحدا ، لم يعرض للسبيل ، ولا سأل ، حتى نفذ زادهم ونفقاتهم ، حتى صاروا يسألون ، فبعث عبيد الله لقتالهم جيشا ، عليهم عبد الله بن حصن الثعلبي ، فهزموا أصحابه ، ثم بعث عليهم عبّاد بن أخضر ، فقتلهم أجمعين (٣).

__________________

(١) سيأتي في الجزء الخامس في ترجمة (يزيد بن معاوية) أن نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فذكر رجل يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطا.

(٢) هذا ما في تاريخ الطبري ٥ / ٣١٣ ، وفي الأصل «أذنه».

(٣) تاريخ خليفة ٢٥٦.

٣٠

وروى غسّان بن مضر ، عن سعيد بن يزيد قال : خرج أبو بلال من البصرة في أربعين رجلا ، فلم يقاتلوا ، فحدّثني من كان في قافلة قال : جاءونا يقودون خيولهم ، فتكلّم أبو بلال فقال : قد رأيتم ما كان يؤتى إلينا ، ولعلّنا لو صبرنا لكان خيرا لنا ، وقد أصابتنا خصاصة ، فتصدّقوا ، إنّ الله يجزي المتصدّقين ، قال : فجاءه التجّار بالبدر ، فوضعوها بين يديه ، فقال : لا ، إلا درهمين لكلّ رجل ، فلعلّنا لا نأكلها حتى نقتل ، فأخذ ثمانين درهما لهم ، قال : فسار إليهم جند فقتلوهم (١).

وقال عوف الأعرابي : كان أبو بلال صديقا لأبي العالية ، فلما بلغ أبا العالية خروجه ، أتاه فكلّمه فما نفع.

وقال ابن عيينة : كان أبو بلال يلبس سلاحه في الليل ، ويركب فرسه ، فيرفع رأسه إلى السماء ويقول :

إنّي وزنت الّذي يبقى لأعدله

ما ليس يبقى فلا والله ما اتّزنا

خوف الإله وتقوى الله أخرجني

ويبيع نفسي بما ليست له ثمنا

وخرج نافع بن الأزرق في آخر خلافة يزيد ، فاعترض الناس ، فانتدب له أهل البصرة مع مسلم بن عبيس (٢) العبشمي القرشي ، فقتلا كلاهما.

قال معاوية بن قرّة : خرجت مع أبي في جيش ابن عبيس ، فلقيناهم بدولاب ، فقتل منا خمسة أمراء (٣).

وقال غيره : قتل في الوقعة قرّة بن إياس المزني أبو معاوية ، وله صحبة ورواية (٤).

وقال أبو اليقظان : قتل ربيعة السليطي مسلم بن عبيس فارس أهل

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٦.

(٢) هو مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة. كما في (تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٩ ، الكامل في التاريخ ٤ / ١٩٤).

(٣) تاريخ خليفة ٢٥٦ و ٢٥٧.

(٤) تاريخ خليفة ٢٥٧.

٣١

البصرة ، ولما قتل ابن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبد الله بن ماحوز ، فسار بهم إلى المدائن (١).

ولما قتل مسعود المعنّى غلبوا على الأهواز وجبوا المال ، وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين ، وخرج طوّاف بن المعلّى السّدوسيّ في نفر من العرب ، فخرج في يوم عيد ، فحكّم أبيّ قال : لا حكم إلا عند قصر أوس ، فرماه الناس بالحجارة ، وقاتله ابن زياد ثلاثة أيام ، قتل وتمزّق جمعه (٢).

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٦.

(٢) تاريخ خليفة ٢٥٩.

٣٢

[حوادث]

سنة أربع وستين

توفي فيها : ربيعة الجرشيّ في ذي الحجّة بمرج راهط ، وشقيق بن ثور السّدوسي ، والمسور بن مخرمة ، والضّحّاك بن قيس الفهري ، ويزيد بن معاوية ، ومعن بن يزيد السلمي ، وابنه ثور ، والنعمان بن بشير في آخرها ، ومعاوية بن يزيد بن معاوية ، والوليد بن عقبة بن أبي سفيان الأموي ، والمنذر ابن الزبير بن العوّام ، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف ، ومسعود بن عمرو الأزدي ، ومسلم بن عقبة.

* * *

قال محمد بن جرير (١) : لما فرغ مسلم بن عقبة المرّي من الحرّة ، توجّه إلى مكة ، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذاميّ ، فأدرك مسلما الموت ، وعهد بالأمر إلى حصين بن نمير ، فقال : انظر يا برذعة الحمار ، لا ترع سمعك قريشا ، ولا تردّنّ أهل الشام عن عدوّهم ، ولا تقيمنّ إلا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق ، ثم قال : اللهمّ إنّي لم أعمل عملا قطّ بعد الشهادتين أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة ، ولا أرجى عندي منه ، ثم مات ، فقدم حصين على ابن الزبير ، وقد بايعه أهل الحجاز ، وقدم عليه وفد أهل المدينة ، وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي الحروريّ ، في أناس من الخوارج ، فجرّد أخاه المنذر لقتال أهل الشام ، وكان ممّن شاهد الحرّة ، ثم لحق به ، فقاتلهم ساعة ، ثم دعي إلى المبارزة ، فضرب كلّ واحد صاحبه ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٦ و ٤٩٧.

٣٣

وخرّ ميتا. وقاتل مصعب بن عبد الرحمن حتى قتل ، صابرهم ابن الزبير على القتال إلى الليل ، ثم حاصروه بمكة شهر صفر ، ورموه بالمنجنيق ، وكانوا يوقدون حول الكعبة ، فأقبلت شررة هبّت بها الريح ، فأحرقت الأستار وخشب السقف ، سقف الكعبة ، واحترق قرنا الكبش الّذي فدى الله به إسماعيل ، وكانا في السقف. قال : فبلغ عبد الله بن الزبير موت يزيد بن معاوية ، فنادى بأهل الشام : إنّ طاغيتكم قد هلك. فغدوا يقاتلون ، فقال ابن الزبير للحصين ابن نمير : أدن منّي أحدّثك ، فدنا ، فحدّثه ، فقال : لا نقاتلك ، فائذن لنا نطف بالبيت وننصرف ، ففعل.

وذكر عوانة بن الحكم ، أنّ الحصين سأل ابن الزبير موعدا بالليل ، فالتقيا بالأبطح ، فقال له الحصين : إن يك هذا الرجل قد هلك ، فأنت أحقّ الناس بهذا الأمر ، هلمّ نبايعك ، ثم اخرج معي إلى الشام ، فإنّ هؤلاء وجوه أهل الشام وفرسانهم ، فو الله لا يختلف عليك اثنان ، وأخذ الحصين يكلّمه سرا ، وابن الزبير يجهر جهرا ، ويقول : أفعل ، فقال الحصين : كنت أظنّ أنّ لك رأيا ، ألا أراني أكلّمك سرا وتكلّمني جهرا ، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل! ثم قام وسار بجيشه ، وندم ابن الزبير فأرسل وراءه يقول : لست أسير إلى الشام ، إني أكره الخروج من مكة ، ولكن بايعوا لي الشام ، فإنّي عادل عليكم ، ثم سار الحصين ، وقلّ عليهم العلف ، واجترأ على جيشه أهل المدينة وأهل الحجاز ، وجعلوا يتخطّفونهم وذلّوا ، وسار معهم بنو أميّة من المدينة إلى الشام (١).

وقال غيره : سار مسرف بن عقبة وهو مريض من المدينة ، حتى إذا صدر عن الأبواء هلك ، وأمّر على جيشه حصين بن نمير الكندي ، فقال : قد دعوتك ، وما أدري أستخلفك على الجيش ، أو أقدّمك فأضرب عنقك؟ ، قال : أصلحك الله ، سهمك ، فارم به حيث شئت ، قال : إنك أعرابيّ جلف جاف ، وإنّ قريشا لم يمكّنهم رجل قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه ، فسر بهذا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٥٠٢ ، ٥٠٣ ، وانظر : الأخبار الطوال ٢٦٨.

٣٤

الجيش ، فإذا لقيت القوم فاحذر أن تمكّنهم من أذنيك ، لا يكون إلا الوقاف ثم الثقاف ثم الانصراف (١).

وقال الواقدي : ثنا عبد الله بن جعفر ، عن أبي عون قال : جاء نعي يزيد ليلا ، وكان أهل الشام يردّون ابن الزبير ، قال ابن عون : فقمت في مشربة لنا في دار مخرمة بن نوفل ، فصحت بأعلى صوتي : يا أهل الشام ، يا أهل النفاق والشؤم ، قد والله الّذي لا إله إلا هو مات يزيد ، فصاحوا وسبّوا وانكسروا ، فلما أصبحنا جاء شابّ فاستأمن ، فأمّنّاه ، فجاء ابن الزبير ، وعبد الله بن صفوان ، وأشياخ جلوس في الحجر ، والمسور يموت في البيت ، فقال الشابّ : إنكم معشر قريش ، إنما هذا الأمر أمركم ، والسلطان لكم ، وإنما خرجنا في طاعة رجل منكم ، وقد هلك ، فإن رأيتم أن تأذنوا لنا فنطوف بالبيت وننصرف إلى بلادنا ، حتى يجتمعوا على رجل. فقال ابن الزبير : لا ، ولا كرامة ، فقال ابن صفوان : لم! بلى نفعل ذلك ، فدخلا على المسور فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) الآية (٢) ، قد خرّبوا بيت الله ، وأخافوا عوّاده ، فأخفهم كما أخافوا عوّاده ، فتراجعوا ، وغلب المسور ومات من يومه.

قلت : وكان له خمسة أيام قد أصابه من حجر المنجنيق شقّه في خدّه فهشم خدّه.

وروى الواقدي ، عن جماعة ، أنّ ابن الزبير دعاهم إلى نفسه ، فبايعوه ، وأبى عليه ابن عباس وابن الحنفية وقالا : حتى تجتمع لك البلاد وما عندنا خلاف ، فكاشرهما ثم غلظ عليهما سنة ست وستين.

وقال غيره : لما بلغ ابن الزبير موت يزيد بايعوه بالخلافة ، لما خطبهم ودعاهم إلى نفسه ، وكان قبل ذلك إنما يدعو إلى الشورى ، فبايعوه في رجب. (٣)

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٤ ، ٢٥٥.

(٢) سورة آل عمران / ١١٤.

(٣) تاريخ خليفة ٢٥٧ و ٢٥٨.

٣٥

ولما هلك يزيد بويع بعده ابنه معاوية بن يزيد ، فبقي في الخلافة أربعين يوما ، وقيل شهرين ، أو أكثر متمرّضا ، والضّحّاك بن قيس يصلّي بالناس ، فلما احتضر قيل له : ألا تستخلف؟ فأبى وقال : ما أصبت من حلاوتها ، فلم أتحمّل مرارتها! وكان لم يغيّر أحدا من عمّال أبيه (١).

وكان شابا صالحا ، أبيض جميلا وسيما ، عاش إحدى وعشرين سنة (٢). وصلّى عليه عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان (٣) ، فأرادت بنو أميّة عثمان هذا على الخلافة ، فامتنع ولحق بخاله عبد الله بن الزبير.

وقال حصين بن نمير لمروان بن الحكم عند موت معاوية : أقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم ، فتكون فتنة ، فكان رأي مروان أن يردّ إلى ابن الزبير فيبايعه ، فقدم عليه عبد الله بن زياد هاربا من العراق ، وكان عند ما بلغه موت يزيد خطب الناس ، ونعى إليهم يزيد وقال : اختاروا لأنفسكم أميرا ، فقالوا : نختارك حتى يستقيم أمر الناس ، فوضع الديون وبذل العطاء ، فخرج عليه سلمة الرياحيّ بناحية البصرة ، فدعا إلى ابن الزبير ، فمال الناس إليه.

وقال سعيد بن يزيد الأزدي : قال عبيد الله لأهل البصرة : اختاروا لأنفسكم ، قالوا : نختارك ، فبايعوه وقالوا : أخرج لنا إخواننا ، وكان قد ملأ السجون من الخوارج ، فقال : لا تفعلوا فإنّهم يفسدون عليكم ، فأبوا عليه ، فأخرجهم ، فجعلوا يبايعونه ، فما تتامّ آخرهم حتى أغلظوا له ، ثم خرجوا في ناحية بني تميم (٤).

وروى جرير بن حازم ، عن عمّه ، أنهم خرجوا ، فجعلوا يمسحون أيديهم بجدر باب الإمارة ، ويقولون : هذه بيعة ابن مرجانة ، واجترأ عليه

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٥.

(٢) تاريخ دمشق (الظاهرية) ١٦ / ٣٩٥ ب.

(٣) في البداية والنهاية ٨ / ٢٣٧ : صلى عليه أخوه خالد ، وقيل عثمان بن عنبسة ، وقيل الوليد بن عقبة وهو الصحيح ، فإنه أوصى إليه بذلك.

(٤) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٥٠٥.

٣٦

الناس حتى نهبوا خيله من مربطه.

وقال غيره : فهرب بالليل ، فاستجار بمسعود بن عمرو رئيس الأزد ، فأجاره.

ثم إنّ أهل البصرة بايعوا عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي ببّه (١) ، ورضوا به أميرا عليهم ، واجتمع الناس لتتمة البيعة ، فوثبت الحروريّة على مسعود بن عمرو ، فقتلوه ، وهرب الناس ، وتفاقم الشرّ ، وافترق الجيش فرقتين ، وكانوا نحوا من خمسين ألفا ، واقتتلوا ثلاثة أيام ، فكان على الخوارج نافع بن الأزرق.

وقال الزبير بن الخرّيت ، عن أبي لبيد ، إنّ مسعودا جهّز مع عبيد الله بن زياد مائة من الأزد ، فأقدموه الشام.

وروى ابن الخرّيت ، عن أبي لبيد ، عن الحارث بن قيس الجهضمي قال : قال ابن زياد : إني لأعرف سورا كان في قومك ، قال الحارث : فوقفت عليه فأردفته على بغلتي ، وذلك ليلا ، وأخذ على بني سليم فقال : من هؤلاء؟ قلت : بنو سليم ، قال : سلمنا إن شاء الله ، ثم مررنا على بني ناجية وهم جلوس معهم السلاح ، فقالوا : من ذا؟ قلت : الحارث بن قيس ، قالوا : امض راشدا ، فقال رجل : هذا والله ابن مرجانة خلفه ، فرماه بسهم ، فوضعه في كور عمامته ، فقال : يا أبا محمد من هؤلاء؟ قلت : الذين كنت تزعم أنهم من قريش ، هؤلاء بنو ناجية ، فقال : نجونا إن شاء الله ، ثم قال : إنك قد أحسنت وأجملت ، فهل تصنع ما أشير به عليك ، قد عرفت حال مسعود بن عمرو وشرفه وسنّه ، وطاعة قومه له ، فهل لك أن تذهب بي إليه ، فأكون في داره ، فهي أوسط الأزد دارا ، فإنك إن لم تفعل تصدع عليك قومك؟ قلت : نعم ، فانطلقت به ، فأشعر مسعود وهو جالس يوقد له بقصب على لبنة ، وهو يعالج أحد خفّيه بخلعه ، فعرفنا فقال : إنه قد كان يتعوّذ من طوارق السوء ، فقلت له : أفتخرجه بعد ما دخل عليك بيتك! فأمره ، فدخل عليه بيت ابنه

__________________

(١) بتشديد الموحدة ، كما في (نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر العسقلاني).

٣٧

عبد الغافر ، وركب معي في جماعة من قومه ، وطاف في الأزد فقال : إنّ ابن زياد قد فقد ، وإنّا لا نأمن أن نلطخ به ، فأصبحت الأزد في السلاح ، وأصبح الناس قد فقدوا ابن زياد فقالوا : أين توجّه ، ما هو إلا في الأزد؟

قال خليفة (١) : قال أبو اليقظان : فسار مسعود وأصحابه يريدون دار الإمارة ، ودخلوا المسجد ، وقتلوا قصّارا كان في ناحية المسجد ، ونهبوا دار امرأة ، وبعث الأحنف حين علم بذلك إلى بني تميم ، فجاءوا ، ودخلت الأساورة المسجد فرموا بالنشّاب ، فيقال : فقئوا عين أربعين نفسا. وجاء رجل من بني تميم إلى مسعود فقتله ، وهرب مالك بن مسمع ، فلجأ إلى بني عديّ ، وانهزم الناس.

وقال الزبير بن الخرّيت ، عن أبي لبيد : إن عبد الله قدم الشام ، وقد بايع أهلها عبد الله بن الزبير ، ما خلا أهل الجابية ومن كان من بني أميّة ، فبايع هو ومروان وبنو أميّة خالد بن يزيد بن معاوية ، بعد موت أخيه معاوية ، في نصف ذي القعدة ، ثم ساروا فالتقوا هم والضّحّاك بن قيس الفهري بمرج راهط ، فاقتتلوا أياما في ذي الحجّة ، وكان الضّحّاك في ستين ألفا ، وكان مروان في ثلاثة عشر ألفا ، فأقاموا عشرين يوما يلتقون في كل يوم. فقال عبيد الله بن زياد لمروان : إنّ الضّحّاك في فرسان قيس ، ولن تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة ، فسلهم الموادعة ، وأعدّ الخيل ، فإذا كفّوا عن القتال فادهمهم ، قال : فمشت بينهم السفراء حتى كفّ الضّحّاك عن القتال ، فشدّ عليهم مروان في الخيل ، فنهضوا للقتال من غير تعبئة ، فقتل الضّحّاك ، وقتل معه طائفة من فرسان قيس (٢). وسنورد من أخباره في اسمه.

وقال أبو عبيدة : لما مات يزيد انتقض أهل الريّ ، فوجّه إليهم عامر بن مسعود أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد الدارميّ. وكان أصبهبذ (٣) الريّ

__________________

(١) تاريخ خليفة ٢٥٨.

(٢) تاريخ خليفة ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٣) الأصبهبذ : اسم يطلق على كل من يتولّى بلاد طبرستان (انظر معجم البلدان ٤ / ١٤ و ١٥) وهو أمير الأمراء ، وتفسيره حافظ الجيش لأن الجيش «إصبه» و «بذ» حافظ. وهذه ثالثة =

٣٨

يومئذ الفرخان (١) ، فانهزم الفرخان والمشركون.

* * *

(وفيها) ظهرت الخوارج الذين بمصر ، ودعوا إلى عبد الله بن الزبير ، وكانوا يظنّونه على مذهبهم ، ولحق به خلق من مصر إلى الحجاز ، فبعث ابن الزبير على مصر : عبد الرحمن بن جحدم الفهري (٢) ، فوثبوا على سعيد الأزدي فاعتزلهم.

وأما الكوفيون ، فإنّهم بعد هروب ابن زياد اصطلحوا على عامر بن مسعود الجمحيّ ، فأقرّه ابن الزبير (٣)

* * *

(وفيها) هدم ابن الزبير الكعبة لما احترقت ، وبناها على قواعد إبراهيم الخليل ، صلّى الله عليه وعلى نبيّنا ـ الحديث المشهور ـ ، وهو في البخاري ، ومتنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا عائشة ، لو لا أنّ قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة ، ولأدخلت الحجر في البيت ، ولجعلت لها بابين ، بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه ، وقال : «إنّ قريشا قصّرت بهم النفقة ، فتركوا من أساس إبراهيم الحجر ، واقتصروا على هذا» ، وقال : «إنّ قومك عملوا لها بابا عاليا ، ليدخلوا من أرادوا ، أو يمنعوا من أرادوا» (٤)

فبناه ابن الزبير كبيرا ، وألصق بابه بالأرض ، فلما قتل ابن الزبير وولّي الحجّاج على مكة أعاد البيت على ما كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونقض حائطه

__________________

= المراتب العظيمة عند الفرس. (التنبيه والإشراف للمسعوديّ ٩١).

(١) في تاريخ خليفة ٢٦١ «البرجان».

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٥٣٠ و ٥٤٠.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٢٤

(٤) أخرجه البخاري في العلم ١ / ١٩٨ ١ / ١٩٨ و ١٩٩ ، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه ، وفي الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، وفي الأنبياء ، باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، وفي تفسير سورة البقرة ، باب قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ، وفي التمنّي ، باب ما يجوز من اللّو. وأخرجه مسلم في الحجّ (١٣٣٣) باب نقض الكعبة وبنائها.

٣٩

من جهة الحجر فصغّره ، وأخرج منه الحجر ، وأخذ ما فضل من الحجارة ، فدكّها في أرض البيت ، فعلا بابه ، وسدّ الباب الغربي (١).

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ٢٠٦ و ٢٠٧ ، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (بتحقيقنا) ـ ج ١ / ٣٤٢ ، تاريخ خليفة ٢٦١ ، الطبري ٥ / ٥٨٢.

٤٠