إعراب القرآن - ج ٥

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٥

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٠

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥)

يقال لمن وقع في هلكة أو قاربها.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٣٦)

في موضع نصب أيضا على الحال ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن معنى «أن يترك سدّى» يقول مهملا.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧)

على تذكير المني ، وهو أقرب إليه و «تمنى» (١) للنطفة.

(ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (٣٨)

أي فخلقه الله جلّ وعزّ فسوّاه بشرا ناطقا سميعا بصيرا.

(فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩)

قيل : المعنى فجعل من الإنسان أولادا ذكورا وإناثا ، الذكر والأنثى على البدل من الزوجين.

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠)

فدلّ جلّ وعزّ دلالة بيّنة أنّ إحياءه إيّاه بعد الموت ليس بأكثر من خلقه إياه من نطفة ثم سوّاه إنسانا إلى أن ولد له ، وأجاز الفراء (٢) (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) بقلب حركة الياء الأولى على الحاء ويدغم الياء في الياء. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (٣) والعلّة في ذلك ، وهو معنى كلام أبي إسحاق أنك إذا قلت : «يحيي» لم يجز الإدغام بإجماع النحويين لئلا يلتقي ساكنان فإذا قلت : أن يحيي لم يجز الإدغام أيضا لأن الياء وإن كانت قد تحركت فحركتها عارضة وأيضا فكيف يجوز أن يكون حرف واحد يدغم في موضع لعامل دخل عليه غير ملازم ، ولا يجوز أن يدغم وهو في موضع رفع ، والرفع الأصل.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٦.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٣.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٥٤٠.

٦١

(٧٦)

شرح إعراب سورة هل أتى] الإنسان [

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢)

الإنسان الأول عند أهل التفسير يراد به آدم عليه‌السلام ، وقد يجوز أن يراد به الجنس والثاني للجنس لا غير. والنطفة عند العرب الماء القليل في وعاء (أَمْشاجٍ) من نعت نطفة على غير حذف ، في قول من قال : الأمشاج العروق التي تكون في النطفة كما تقول : الإنسان أعضاء مجموعة ، ومن قال : الأمشاج ماء الرجل وماء المرأة فهو على هذا أيضا سماها جميعا نطفة ، وهما يختلطان ويخلق الإنسان منهما. ومن قال : الأمشاج العلقة والمضغة فالتقدير عنده من نطفة ذات أمشاج. وواحدتهما مشيج مثل شريف وأشراف ، ويقال : مشج مثل عدل وأعدال (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) قال الفراء : هو على التقديم والتأخير ، والمعنى عنده جعلنا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه أي لنختبره. وقال من خالفه في هذا : هو خطأ من غير جهة فمنها أنه لا يكون مع الفاء تقديم ولا تأخير ؛ لأنها تدلّ على أن الثاني بعد الأول ، ومنها أن الإنسان إنما يبتلى أي يختبر ويؤمر وينهى إذا كان سوي العقل كان سميعا بصيرا ولم يكن كذلك ، ومنها أن سياق الكلام يدلّ على غير ما قال : وليس في الكلام لام كي ، وإنما سياق الكلام تعديد الله جلّ وعزّ نعمه علينا ودلالته إيّانا على نعمه.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣)

منصوبان على الحال أي إنّا خلقنا الإنسان شاكرا أو كفورا. ومعنى إمّا أو وإن كانت تجيء في أول الكلام ليدلّ على المعنى ويدلك على ذلك قول أهل التفسير أن المعنى إنّا هديناه السبيل إما شقيّا وإما سعيدا والشقاء والسعادة بفرع منهما وهو في بطن أمه وهكذا خبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هي حال مقدرة ، وأجاز الفراء (١) أن يكون «ما»

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٩.

٦٢

هاهنا زائدة وتكون «أن» للشرط والمجازاة على أن يكون المعنى إنّا هديناه السبيل إن شكر أو كفر. قال أبو جعفر : وهذا القول ظاهره خطأ لأن «إن» التي للشرط لا تقع على الأسماء وليس في الآية إما شكر إنما فيها إما شاكرا وإما كفورا. فهذان اسمان ، ولا يجازى بالأسماء عند أحد من النحويين.

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤)

هذه قراءة أبي عمرو وحمزة بغير تنوين إلّا أن الصحيح عن حمزة أنه كان يقف «سلاسلا»(١) بالألف اتباعا للسواد ؛ لأنها في مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة بالألف ، وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة غير حمزة «إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا» والحجّة لأبي عمرو وحمزة أن «سلاسل» لا ينصرف ؛ لأنه جمع لا نظير له في الواحد ، وهو نهاية الجمع فثقل فمنع الصرف ، والوقوف عليه بالألف والحجة فيه أن الرؤاسي والكسائي حكيا عن العرب الوقوف على ما لا ينصرف بالألف لبيان الفتحة فقد صحّت هذه القراءة من كلام العرب. والحجّة لمن لوّن ما حكاه الكسائي وغيره من الكوفيين أن العرب تصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل منك. فهذه حجة وحجة أخرى أن بعض أهل النظر يقول : كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام ؛ لأن الشعر أصل كلام العرب فكيف نتحكّم في كلامها ونجعل الشعر خارجا عنه؟ وحجة ثالثة أنه لما كان إلى جانبه جمع ينصرف فأتبع الأول الثاني.

(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٥)

واحد الأبرار برّ ربّما غلط الضعيف في العربية فقال : هو جمع فعل شبّه بفعل وذلك غلط. إنما هو جمع فعل يقال : بررت والدي فأنا بارّ وبرّ فبرّ فعل مثل حذرت فأنا حذر ، وفعل وأفعال قياس صحيح. وقيل : إنما سمّوا أبرارا لأنهم برّوا الله جلّ وعزّ بطاعته في أداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل : معنى (كانَ مِزاجُها كافُوراً) في طيب ريحها.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) (٦)

(عَيْناً) في نصبها غير وجه أني سمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : نظرت في نصبها فلم يصحّ لي فيه إلا أنها منصوبة بمعنى أعني ، وكذا الثانية فهذا وجه ، ووجه ثان أن يكون بمعنى الحال من المضمر في مزاجها ، ووجه رابع يكون مفعولا بها ، والتقدير يشربون عينا يشرب بها عباد الله كان مزاجها كافورا. وفي

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٧.

٦٣

يشرب بها وجهان : قال الفراء (١) : يشرب بها ويشربها واحد. قال أبو جعفر : وأحسن من هذا أن يكون المعنى يروى بها. وقد ذكرته (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) مصدر. ويروى أن أحدهم إذا أراد أن ينفجر له الماء شق ذلك الموضع بعود يجري فيه الماء.

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٧)

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ) وهو كل ما وجب على الإنسان أن يفعله نذره أو لم ينذره ، قال جلّ وعزّ : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)] الحج : ٢٩] . قال عنترة :] الكامل]

٥١٤ ـ الشّاتمي عرضي ولم أشتمهما

والنّاذرين إذا لم القهما دمي (٢)

وقول الفراء (٣) : كان فيه إضمار «كان» أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا ، وكذا (يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٨)

اختلف العلماء في الأسير هاهنا ، فقال بعضهم : هو من أهل الحرب ؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت أسير إلّا منهم ، وقال بعضهم : هو لأهل الحرب وللمسلمين ، وهذا أولى بعموم الآية فلا يقع فيها خصوص إلا بدليل قاطع فيكون لمن كان في ذلك الوقت ولمن بعد ، كما كان (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ).

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (٩)

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي يقولون لا نريد منكم جزاء ولا شكورا يكون جمع شكر ، ويكون مصدرا.

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١٠)

قال الفراء : القمطرير والقماطر الشديد وأنشد :] الطويل]

 ٥١٥ ـ بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر (٤) (٥)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٥.

(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ٢٢٢ ، والأغاني ٩ / ٢١٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٩ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٥٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٥١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٢٢٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٠٩.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٦.

(٤) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (قمطر) ، وتاج العروس (قمطر) ، وديوان الأدب ٢ / ٥٧ ، ومعاني الفراء ٣ / ٢١٦ ، وتفسير الطبري ٢٩ / ٢١.

(٥) انظر البحر المحيط ٨ / ٣٨٨.

٦٤

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (١١)

(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) نعت لذلك وإن شئت كان بدل. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) قال الحسن : النضرة في الوجه ، والسرور في القلب.

(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١٢)

قال قتادة : بما صبروا عن المعاصي. فهذا أصحّ قول يقال لمن صبر عن المعاصي صابر مطلقا فإن أردت لغير المعاصي قلت صابر على كذا.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣)

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) قال الفراء : نصب. (مُتَّكِئِينَ) على القطع وهو عند البصريين منصوب على الحال من التاء والميم ، والعامل فيه جزاء ولا يجوز أن يعمل فيه صبروا ؛ لأن (مُتَّكِئِينَ) إنما هو في الجنة ، والصبر في الدنيا ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه نعت لجنة ، ولذلك حسن لأنه قد عاد الضمير عليها (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) القول فيه كالقول في «متكئين» ، ويكون معناه غير رائعين.

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) (١٥)

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) فيه ستة أوجه يجوز أن يكون معطوفا على (جَنَّةً) أقيمت الصفة مقام الموصوف أي وجزاهم جنّة دانية عليهم ظلالها ، ويجوز أن يكون معطوفا على متكئين ، ويجوز أن يكون معطوفا على لا يرون لأن معناه غير رائين ويجوز أن يكون منصوبا على المدح مثل (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)] النساء : ١٦٢] وإن كان نكرة فهو يشبه المعرفة فهذه أربعة أوجه. وفي قراءة ابن مسعود «ودانيا عليهم ظلالها» (١) على تذكير الجمع ، وفي قراءة أبيّ «ودان عليهم ظلالها» «دان» في موضع رفع أصله داني استثقلت الحركة في الياء فحذفت الضمة ، وحذفت الياء لسكونها وسكون التنوين ، ولم تستثقل الحركة في ودانيا لخفة الفتحة (ظِلالُها) مرفوع بالدنو من قول من نصب الأول ، ومن قال : «ودان ظلالها» عنده مرفوع بالابتداء ، ودان خبره. كما تقول : مررت بزيد جالس أبوه أي أبوه جالس. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) عطف جملة على جملة فذلك صلح أن يأتي بالماضي وقبله اسم الفاعل ، وبعده (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أهل التفسير منهم مجاهد : يقولون : الكوب الكوز الذي لا عروة له إلا قتادة فإنه قال : هو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٧.

٦٥

القدح (كانَتْ قَوارِيرَا) (١) قراءة أبي عمرو الثاني بغير ألف وفرق بينهما لجهتين : أحداهما أنه كذا في مصاحف أهل البصرة ، والثانية أن الأولى رأس آية فحسن إثبات الألف فيها. فأما حمزة فقرأ «كانت قوارير قوارير من فضّة» لأنهما لا ينصرفان فهذا شيء بيّن لو لا مخالفة السواد ، وقرأ المدنيون فيهما جميعا ، والذي يحتجّ به لهم لا يوجد إلا من قول الكوفيين وهو أن الكسائي والفراء أجازا صرف ما لا ينصرف إلّا أفعل منك واحتجّ الفراء بكثرة ذلك في الشعر.

(قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (١٦)

(قَدَّرُوها تَقْدِيراً) عن الشّعبي وقتادة وابن أبزى وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرءوا (قَدَّرُوها) (٢) أي قدّروا عليها أي على قدر ربّهم لا يزيد ذلك ولا ينقص.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧)

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً) قال أبو الحسن بن كيسان : لا يقال للقدح : كأس حتّى تكون فيه الخمر وكذا لا يقال : مائدة للخوان حتى يكون عليه طعام ، وكذا الظعينة (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي كالزّنجبيل في لذعه وكانوا يستطيبون ذلك فخوطبوا على ما يعرفون.

(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) (١٨)

(عَيْناً) قد تقدّم ما يغني عن الكلام في نصبها (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) فعلليل من السّلاسة ، ومن قال : هو اسم العين صرف ما لا يجب أن ينصرف.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (١٩)

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي بما يحتاجون إليه. (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أهل التفسير على أن المعنى في هذا التشبيه لكثرتهم وحسنهم ، وقال عبد الله بن عمر : ما أحد من أهل الجنة إلّا له إلف غلام كلّ غلام على عمل ليس عليه صاحبه.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠)

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) لأهل العربية فيه ثلاثة أقوال : فأكثر البصريين يقول : «ثمّ» ظرف ، ولم تعدّ رأيت كما تقول : ظننت في الدار فلا تعدّى ظننت على قول سيبويه (٣) ، وقال الأخفش ، وهو أحد قولي الفراء (٤) : «ثمّ» مفعول بها أي فإذا نظرت ثمّ وقول آخر

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٩.

(٢) انظر الكتاب ١ / ١٨٠.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٨.

(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ١٣ ، والطبري في تفسيره ١٩ / ١٢٠ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٣٠٥.

٦٦

للفراء قال : التقدير : وإذا رأيت ما ثمّ وحذف «ما». قال أبو جعفر : «وثمّ» عند جميع النحويين مبنيّ غير معرب لتنقّله وحذف «ما» خطأ عند البصريين لأنه يحذف الموصول ويبقى الصلة فكأنه جاء ببعض الاسم (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) جواب «إذا» ، ويبيّن لك معنى هذا كما حدّثنا أحمد بن علي بن سهل قال : حدّثنا زهير يعني ابن حرب ثنا محمد بن حازم ثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر في ملكه ألفي عام ينظر أزواجه وسرره وخدمه وإنّ أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله جلّ وعزّ في كل يوم مرتين» (١).

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١)

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) مبتدأ وخبره ، والأصل عاليهم حذفت الضمة لثقلها. وهذه قراءة بيّنة ، وهي قراءة أبي جعفر ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ، وقرأ أبو عبد الرّحمن والحسن وأبو عمرو والكسائي وابن كثير وعاصم (عالِيَهُمْ) بالنصب على أنه ظرف ، ومثّله الفراء (٢) بقوله : زيد داخل الدار. قال أبو جعفر : أما عاليهم فبيّن أنه منصوب على الظرف ، وفي معناه قولان : أحدهما أن الخضرة تعلو ثياب أهل الجنة ، والقول الآخر أن هذه النبات الخضر فوق حجالهم لا عليهم وأما زيد داخل الدار فلا يجوز عند جماعة من النحويين كما لا يقال : زيد الدار ، ولكن لو قلت : زيد خارج الدار جاز ، وروى عبد الوارث عن حميد عن مجاهد أنه قرأ «عليهم ثياب سندس» قال أبو جعفر : وهذا لا يحتاج إلى تفسير ، وفي قراءة ابن مسعود «عاليتهم ثياب سندس» (٣) على تأنيث الجماعة ، وقرأ الحسن ونافع «ثياب سندس خضر وإستبرق» (٤) وقرأ الأعمش وحمزة «ثياب سندس خضر وإستبرق» بخفضهما ، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر «ثياب سندس خضر وإستبرق» برفع «خضر» وخفض «إستبرق» ، وقرأ ابن كثير وعاصم «ثياب سندس خضر وإستبرق» قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وبغير تنوين. قال أبو جعفر: القراءة الأولى حسنة متّصل الرفع بعضه ببعض فخضر نعت للثياب وإستبرق معطوف عليها : وانصرف لأنه نكرة وقطعت الألف لأنه اسم ولو سمّيت رجلا باستكبر لقلت : جاءني استكبر. هذا قول الخليل وسيبويه والقراءة الثانية على أن من قرأ بها نعت سندسا بخضر. وفي ذلك بعد ؛ لأنه إنّما يقال : هذا سندس أخضر كما يقال. هذا حرير أخضر إلا أن ذلك جائز لأنه جنس والجنس يؤدّي عن الجميع كقولك :

__________________

(١) و (٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٩.

(٣) انظر تيسير الداني ١٧٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩١.

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ٢١٩.

٦٧

سندس وسندسات واحد ، وعطف وإستبرق على سندس أي وثياب وإستبرق ، والقراءة الثالثة حسنة أيضا جعله (خُضْرٌ) نعتا للثياب ، وهو الوجه البين الحسن ، وخفض إستبرق نسقا على سندس أيضا. والقراءة الرابعة خفض فيها خضر على أنها نعت لسندس كما مر ورفع وإستبرق لأنه عطف على ثياب ، وقراءة ابن محيصن عند كل من ذكر القراءات ممن علمناه من أهل العربية لحن ؛ لأنه منع إستبرق من الصرف وهو نكرة ، ولا يخلو منعه إياه من إحدى وجهين : إما أن يكون منعه من الصرف لأنه أعجمي ، وإما أن يكون ذلك لأنه على وزن الفعل ، والعجمي وما كان على وزن الفعل ينصرفان في النكرة ، وأيضا فإنه وصل الألف ، وذلك خطأ عند الخليل وسيبويه لما ذكرنا ونصب «إستبرق» وإن كان هذا يتهيّأ أن يحتال في نصبه فهذا ما فيه مما قد ذكر بعضه. قال أبو جعفر : ولو احتيل فيه فقيل : هو فعل ماض أي وبرق هذا الجمع لكان ذلك عندي شيئا يجوز وإن كنت لا أعلم أحدا ذكره. (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وقد طعن في هذا بعض الملحدين. إما لجهله باللغة وإما لقصده الكفر اجتراء على الله عزوجل وأخذ شيء من حطام الدنيا وذلك أن الجنة لا بيع فيها ولا شراء ولا معنى لطعنه لقلة قيمة الفضة ، ولأن هذا لا يحسن للرجال فجهل معنى التفسير لأن في التفسير أن هذا يكون لأزواجهن ، ولو كان لهم ما دفع حسنه ، وقد طعن في الإستبرق ولم يدر معناه أو داره وتعمّد الكفر. والإستبرق عنه العرب ما كان متينا وغلظ في نفسه لا غلظ خيوطه. قال أبو جعفر : فقد ذكرنا أن هذا الإستبرق يكون فوق حجالهم (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي طاهرا من الأقذار والأدناس والأوساخ.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢)

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) ويجوز رفع جزاء على خبر «إنّ» وتكون «كان» ملغاة (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) خبر «كان» ولو كان مرفوعا جاز أن يكون اسم كان فيها مضمرا ولا تغلى إذا كانت مبتدأة لأن الكلام مبنيّ عليها.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) يكون «نحن» في موضع نصب صفة لاسم إنّ ، ويجوز أن تكون فاصلة لا موضع لها ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر «نزّلنا» (تَنْزِيلاً) مصدر جيء به للتوكيد.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٢٤)

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي اصبر على أذاهم ، وكان السبب في نزول هذا على ما ذكر قتادة أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأطأنّ عنقه (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) قال

٦٨

الفراء (١) «أو» بمنزلة «لا» أي لا تطع من أثم ولا كفر. قال أبو جعفر : و «أو» تكون في الاستفهام والمجازاة والنفي بمنزلة «لا». قال أبو جعفر : ويجوز أن يكون المعنى لا تطيعنّ من أثم وكفر بوجه فتكون قريبة المعنى من الواو. قال أبو جعفر : فالقول الأول صواب على قول سيبويه ، والثاني خطأ لا يكون «أو» بمعنى الواو لأنك إذا قلت : لا تكلّم زيدا أو عمرا ، فمعناه لا تكلّم واحدا منهما ولا تكلّمهما إن اجتمعا وليس كذا الواو إذا قلت : لا تكلّم المأمور واحدا منهما لم يكن عاصيا أمره ، «أو» إذا كلّم واحدا منهما كان عاصيا أمره وكذا الآية لا يجوز أن يطاع الآثم ولا الكفور.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥)

(بُكْرَةً) يكون معرفة فلا ينصرف ويكون نكرة فينصرف. فهي هاهنا نكرة فلذلك صرفت لأن بعدها (وَأَصِيلاً) وهو نكرة ولا تكون معرفة إلا أن تدخل فيه الألف واللام.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) التقدير فاسجد له من الليل (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) قيل : هو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل ، وقيل : هو على الندب وقيل : هو خاص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧)

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي يحبون خير الدنيا. (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) قال سفيان : يعني الآخرة. قال أبو جعفر : وقيل : وراء بمعنى قدّام ومن يمنع من الأضداد يجيز هذا لأن وراء مشتقّ من توارى فهو يقع لما بين يديك وما خلفك. وقيل : التقدير : ويذرون وراءهم عمل يوم ثقيل. أي لا يعملون للآخرة.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (٢٨)

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) عن أبي هريرة قال : المفاصل. وقال ابن زيد : القوة ، وقيل : هو موضع الحديث. ومن أحسن ما قيل فيه قول ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا : أسرهم خلقهم. قال أبو جعفر : يكون من قولهم : ما أحسن أسر هذا الرجل أي خلقه ومن هذا أخذه بأسره أي بجملته وخلقته لم يبق منه شيئا (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) قال ابن زيد يعني بني آدم الذين خالفوا طاعة الله جلّ وعزّ وأمثالهم من بني آدم أيضا.

__________________

(١) قرأ الكوفيون ونافع بالتاء والباقون بالياء ، انظر تيسير الداني ١٧٧.

٦٩

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩)

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) قيل : أي هذه الأمثال والقصص (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي فمن شاء اتّخذ إلى رضاء ربه طريقا بطاعة الله عزوجل والانتهاء عن معاصيه.

(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠)

(وَما تَشاؤُنَ) (١) اتّخاذ السبيل إلا بأن يشاء الله ذلك لأن المشيئة إليه ، وحذفت الباء فصارت «أن» في موضع نصب ومن النحويين من يقول : هي في موضع خفض. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بما يشاء أن يتّخذ إلى رضاه طريقا (حَكِيماً) في تدبيره ، لا يقدر أحد أن يخرج عنه.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١)

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي بأن يوفّقه للتوبة فيتوب فيدخل الجنة. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) نصب الظالمين عند سيبويه بإضمار فعل يفسره ما بعده أي ويعذّب الظالمين. وأما الكوفيون فقالوا : نصبت لأن الواو ظرف للفعل أي ظرف لأعدّ. قال أبو جعفر : وهذا يحتاج إلى أن يبيّن ما الناصب ، وقد زاد الفراء (٢) في هذا إشكالا فقال : يجوز رفعه وهو مثل (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)] الشعراء : ٢٢٤] . قال أبو جعفر: وهذا لا يشبه من ذلك شيئا إلا على بعد. لأن قبل هذا فعلا فاختير فيه النصب ليضمر فعلا ناصبا فيعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل ، والشعراء ليس يليهم فعل ، وإنما يليهم مبتدأ وخبره. قال جلّ وعزّ:

(وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)] الشعراء : ٢٢٣] وهاهنا يدخل من يشاء في رحمته ويجوز الرفع على أن يقطعه من الأول. قال أبو حاتم حدثني الأصمعي. قال : سمعت من يقرأ :

«والظّالمون أعدّ لهم عذابا أليما» بالرفع ، وفي قراءة عبد الله «وللظّالمين أعدّ لهم عذابا أليما» (٣) بتكرير اللام.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٠.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٣.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٥١).

٧٠

(٧٧)

شرح إعراب سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) قال أبو جعفر : قد ذكرنا في هذه الآيات أقوالا ، ونزيد ذلك شرحا وبيانا. قرئ على محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى ثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله عزوجل : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) قال : الرياح (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) قال : الريح (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) قال : الريح. قال أبو جعفر : وقد روي عن ابن مسعود أنه قال (الْمُرْسَلاتِ) الملائكة : والقول بأنها الرياح قول ابن عباس وأبي صالح ومجاهد وقتادة و (فَالْعاصِفاتِ) الرياح وذلك عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم (وَالنَّاشِراتِ) قد روي عن ابن مسعود أنها الملائكة والرواية الأولى أنها الريح قول ابن عباس ، وعن أبي صالح أن (النَّاشِراتِ) المطر.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) (٤)

عن ابن مسعود وابن عباس أنها الملائكة ، وروى سعيد عن قتادة (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) قال القرآن فرّق بين الحقّ والباطل ، والتقدير على هذا : فالآيات الفارقات.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥)

عن ابن مسعود وابن عباس قالا : الملائكة. قال قتادة : الملائكة تلقي الذّكر إلى الأنبياءعليهم‌السلام ، وعن أبي صالح في بعض هذه ، قال الأنبياء. قال أبو جعفر : قد ذكرنا أن الصفة في هذا أقيمت مقام الموصوف فلهذا وقع الاختلاف فإذا كان التقدير : وربّ المرسلات فالمعنى واحد والقسم بالله جلّ وعزّ ، وإذا زدنا هذا شرحا قلنا قد ذكرنا ما قيل إنها الرياح وأنها الملائكة وأنها الرسل عليهم‌السلام ولم نجد حجّة قاطعة تحكم لأحد هذه الأقوال فوجب أن يردّ إلى عموم الظاهر فيكون عاما لهذه الأشياء

٧١

كلها. (عُرْفاً) منصوب على الحال إذا كان معناه متتابعة وإذا كان معناه والملائكة المرسلات بالعرف أي بأمر الله جلّ وعزّ وطاعته وكتبه ، فالتقدير بالعرف فحذف الباء فتعدّى الفعل ، كما أنشد سيبويه :] البسيط]

٥١٦ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

(عَصْفاً) و (نَشْراً) و (فَرْقاً) مصادر تفيد التوكيد (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) مفعول به.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦)

قراءة أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أهل الحرمين وابن عامر وعاصم (عُذْراً) بإسكان الذال «أو نذرا» بضم الذال ، ويروى عن زيد بن ثابت والحسن «عذرا أو نذرا» (٢) بضم الذالين فإسكانهما جميعا على أنهما مصدران كما تقول : شكرته شكرا ، ويجوز أن يكون الأصل فيهما الضمّ فحذفت الضمة استثقالا لها ، وضمهما جميعا على أنهما جمع عذير ونذير ، ويجوز أن يكونا مصدرين مثل شغلته شغلا. وعذير بمعنى اعذار كما قال :] الوافر]

 ٥١٧ ـ أريد حباءه ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد (٣)

أي إعذارك وكما قال :] الهزج]

٥١٨ ـ نذير الحيّ من عدوان

كانوا حيّة الأرض (٤)

قال أبو جعفر : هكذا ينشد هذان البيتان بالنصب ، وأنشد سيبويه :] الطويل]

 ٥١٩ ـ عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم

يقول الخنا أو تعتريك زنابره (٥)

أي عذيرك من هذا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٦ ، وتيسير الداني ١٧٧.

(٢) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ١٠٧ ، والكتاب ١ / ٣٣٢ ، والأغاني ١٠ / ٢٦ ، وحماسة البحتري ٧٤ ، والحماسة الشجرية ١ / ٤٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٦١ ، والدرر ٣ / ٨ ، وسمط اللآلي ٦٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٩٥ ، وعجزه لعلي بن أبي طالب في لسان العرب (عذر) ، وبلا نسبة في شرح المفصّل ٢ / ٢٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٩.

(٣) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه ٤٦ ، والاشتقاق ٢٦٩ ، والأغاني ٣ / ٨٥ ، وأمالي الزجاجي ١ / ٢٢١ ، والحيوان ٤ / ٢٣٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٨٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٩٨ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧١٢ ، ولسان العرب (عذر) و (جيا) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٦٤ ، وبلا نسبة في الكتاب ١ / ٣٠٣ ، ولسان العرب (عدا) ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٥٠.

(٤) الشاهد بلا نسبة في الكتاب ١ / ٣٧٤ ، وشرح الشواهد للشنتمري ١ / ١٥٨.

(٥) انظر الكتاب ٣ / ١١٩.

٧٢

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧)

أي من البعث والحساب والمجازاة. وهذا جواب القسم و «ما» هاهنا بمعنى الذي مفصولة من «إنّ» ، ولا يجوز أن تكون هاهنا فاصلة و «لا» زائدة ألا ترى أن في خبرها اللام المؤكدة لخبر إنّ وحذفت الهاء لطول الاسم ، والتقدير أن الذي توعدونه لواقع من الحساب والثواب والعقاب.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨)

رفعت النجوم بإضمار فعل مثل هذا ؛ لأن إذا هاهنا بمنزلة حروف المجازاة فإن قال قائل : قد قال سيبويه (١) في قول الله جلّ وعزّ (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)] الروم : ٣٦] «إذا» جواب بمنزلة الفاء ، وإنما صارت جوابا بمنزلة الفاء لأنها لا يبتدأ بها كما لا يبتدأ بالفاء. فقد ابتدئ بها هاهنا ، وأنت تقول : إذا قمت قمت مبتدأ. قال أبو جعفر : فلم أعلم أحدا غلط سيبويه في هذا ، والحجة له أنّ «إذا» كانت للمفاجأة لم يبتدأ بها نحو قوله : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) وإذا كانت بمعنى المجازاة ابتدئ بها ولكن قد عوض سيبويه بأن الفاء تدخل عليها فكيف تكون عوضا منها؟ فالجواب أنها إنما تدخل توكيدا ، وجواب (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وقيل الفاء محذوفة ، وقيل الجواب محذوف.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١١)

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (٢) بهمزة وتشديد القاف ، وقرأ عيسى بن عمر النحوي وخالد بن إلياس (أُقِّتَتْ) بهمزة وتخفيف القاف ، وقرأ أبو عمرو «وقّتت» بواو وتشديد القاف ، وقرأ الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو وتخفيف القاف. قال أبو جعفر : الأصل فيها الواو لأنه مشتق من الوقت قال جلّ وعزّ : (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)] النساء : ١٠٣] فهذا من وقتت مخففة إلّا أن الواو تستثقل فيها الضمة فتبدل فيها همزة ، وقد ذكر سيبويه اللغتين وقّتت وأقّتت فلم يقدّم إحداهما على الأخرى فإذا كانتا فصيحتين فالأولى اتباع السواد.

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣)

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) قيل : حذف الفعل الذي تتعلق به اللام والتمام لأي يوم أجّلت ثم أضمر فعل أجلت ليوم الفصل ، وقيل : ليوم الفصل بدل وأعدت اللام مثل (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) وقيل : اللام بمعنى إلى.

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة في تيسير الداني ١٧٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٦ ، ومعاني الفراء ٣ / ٢٢٢.

(٢) انظر البحر المحيط : ٨ / ٣٩٧.

٧٣

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤)

«ما» الأولى والثانية في موضع رفع بالابتداء.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥)

أي الذين يكذبون بيوم القيامة وما فيه.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧)

وقرأ الأعرج (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١) جزم (نُتْبِعُهُمُ) لأنه عطف على نهلك قال أبو جعفر : هذا لحن ، وقال أبو حاتم : هذا لحن ، وذكر إسماعيل أنه لا يجوز. قال أبو جعفر : «ثم» من حروف العطف وإنما معناه من جهة المعنى وهو في المعنى غير مستحيل ؛ لأنه قد قيل في معنى (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) أنهم قوم نوح وعاد وثمود ، وأن الآخرين قوم إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحاب مدين وفرعون. قال أبو جعفر : فعلى هذا تصحّ القراءة بالجزم.

(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨)

أي كذلك سنتي فيمن أقام على الإجرام أن أهلكه بإجرامه.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩)

أي لمن كذّب بما أخبر الله جلّ وعزّ وبقدرته على ما يشاء.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣)

ويجوز إدغام القاف في الكاف وعن ابن عباس «مهين» ضعيف. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة (فَقَدَرْنا) (٢) مخفّفة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والكسائي (فَقَدَرْنا) مشددة والأشبه التخفيف ؛ لأن بعده (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) وليس بعده المقدّرون على أن القراءة بالتشديد حسنة ؛ لأنه قد حكي أنهما لغتان بمعنى واحد. يقال : قدر وقدره. وقد قال : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)] الواقعة : ٦٠] ولا ينكر أن تأتي لغتان بمعنى واحد في موضع واحد ، قال : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)] الطارق : ١٧] وقال الشاعر :] البسيط]

 ٥٢٠ ـ وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (٣)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٧.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢١٨).

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ١٦٧.

٧٤

وقد قيل : معنى فقدرنا النطفة والعلقة والمضغة ، وقال الضحاك : فقدرنا فملكنا. (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) رفع بنعم ، والتقدير : فنعم القادرون نحن.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤)

بقدرة الله جلّ وعزّ على هذه الأشياء وغيرها.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (٢٥)

يقال : كفته إذا جمعه وأحرزه فالأرض تجمع الناس على ظهرها أحياء وفي بطنها أمواتا. واشتقاق هذا من الكفتة وهي وعاء الشيء وكذا الكفتة.

(أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦)

نصب على الحال أي نكفتهم في هذه الحال ، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه أي تكفت الأحياء والأموات.

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧)

(وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : يقول جبالا مشرفات ، قال : و (ماءً فُراتاً) عذبا وروى عنه عكرمة «ماء فراتا» سيحان وجيحان والفرات والنيل ، قال : وكل ماء عذب في الدنيا فمن هذه الأنهار الأربعة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩)

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٩) أي يقال لهم ، وزعم يعقوب الحضرمي أن بعض القراء قرأ «انطلقوا» بفتح اللام على أنه فعل ماضي ، وأما الأول فلم يختلف فيها.

(لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١)

(لا ظَلِيلٍ) نعت لظلّ أي غير ظليل من الحرّ ولا يقي لهب النار.

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) (٣٢)

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) لغة أهل الحجاز كما قال :] الوافر]

 ٥٢١ ـ وتوقد ناركم شررا ويرفع

لكم في كلّ مجمعة لواء (١)

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ٨٥ ، ولسان العرب (جمع) ، وتاج العروس (جمع) ، وديوان المفضليات ٥٦.

٧٥

ولغة بني تميم شرار ، (كَالْقَصْرِ) (١) يقرأ على ثلاثة أوجه ؛ فقراءة العامة (كَالْقَصْرِ) ، وعن ابن عباس وجماعة من أصحابه (كَالْقَصْرِ) بفتح الصاد ، وعن سعيد بن جبير روايتان في إحداهما (كَالْقَصْرِ) والأخرى (كَالْقَصْرِ) كما قرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال نصر بن علي قال : ثنا يزيد بن زريع ثنا يونس عن الحسن أنها ترمي بشرر (كَالْقَصْرِ) بكسر القاف. قال نصر : وحدّثنا أبي ثنا يونس عن الحسن (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : أصول النخل. قال أبو جعفر : والقصر بفتح القاف وإسكان الصاد في معناه قولان. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (كَالْقَصْرِ) قال : يقول : كالقصر العظيم وكذا قال محمد بن كعب هو القصر من القصور. وقال أبو عبيد عن حجاج عن هارون قال : القصر الخشب الجزل مثل جمرة وجمر وتمر وتمر. قال أبو جعفر : وأصحّ من هذا عن الحسن كما قرئ على إبراهيم ابن موسى عن إسماعيل عن نصر قال : ثنا يزيد ثنا يونس عن الحسن قال : «كالقصر» واحد القصور. قال أبو جعفر : فهذا قول بيّن والعرب تشبه الناقة والجمل بالقصر كما قال :] البسيط]

٥٢٢ ـ كأنها برج روميّ يشيّده

بان بجصّ وآجرّ وأحجار (٢)

فأما القصر فقال مجاهد وقتادة : هو أصول النخل ، وروى عبد الرّحمن بن عابس عن ابن عباس قال : القصر الخشبة تكون ثلاثة أذرع أو أكثر ودون ذلك. قال أبو جعفر : وهذا أصح ما قيل فيه ومنه قيل : قصّار لأنه يعمل بمثل هذا الخشب ، والقصر بهذا المعنى يكون جمع قصرة وقد سمع من العرب حاجة وحوج ، ويجوز أن يكون جمع قصرة وقد سمع حلقة وحلق فقال : الشرر جماعة والقصر واحد فكيف شبهت به؟ الجواب أن يكون واحدا يدلّ على جمع أو جمع قصرة أو يراد به الفعل أي كعظيم القصر وتكلم الفراء (٣) في أن الأولى أن يقرأ «كالقصر» بإسكان الصاد ؛ لأن الآيات على هذا. ألا ترى أن بعده «صفر» ، واحتجّ بقراءة القراء : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ)] القمر : ٦] بضم الكاف ؛ لأن الآيات كذا ، وفي موضع آخر (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً)] الطلاق : ٨] بإسكان الكاف فقال : فقد أجمع القراء على تحريك الأولى وإسكان الثانية قال أبو جعفر : وهذا غلط قبيح قد قرأ عبد الله بن كثير (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) بإسكان الكاف. وهذا الذي جاء به من اتفاق الآيات لا يستتب ولا ينقاس.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٣٩٨.

(٢) الشاهد للأخطل التغلبي في ديوانه ٧٦ ، وتفسير الطبري ١٩ / ٣٠.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٤.

٧٦

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣)

قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بن عيسى وطلحة وحمزة والكسائي «كأنه جماله صفر» (١) وعن ابن عباس «جمالات صفر» (٢) بضم الجيم فالقراءة الأولى تكون جمع جمال أو جمالة وجمالة جمع جمل كحجر وحجارة ، وجمالات يجوز أن يكون بمعنى جمال كما يقال : رخل ورخال وظئر وظؤار والتاء لتأنيث الجماعة إلا أن أهل التفسير يقولون : هي حبال السفن منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلّا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس ، قال : قطع النحاس ويجوز أن يكون مشتقا من الشيء المجمل.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥)

مبتدأ وخبره ، وزعم الفراء (٣) أن القراء اجتمعت على رفع يوم. قال أبو جعفر : وهذا قريب مما تقدّم. روي عن الأعرج والأعمش أنهما قرءا (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) بالنصب وفي نصبه قولان : أحدهما أنه ظرف أي هذا الذي ذكرنا في هذا اليوم ، والقول الآخر ذكره الفراء يكون «يوم» مبنيا. وهذا خطأ عند الخليل وسيبويه (٤) لا تبنى الظروف عندهما مع الفعل المستقبل ؛ لأنه معرب وإنما يبنى مع الماضي ، كما قال :] الطويل]

٥٢٣ ـ على حين عاتبت المشيب على الصّبا (٥)

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦)

عطف ، وزعم الفراء (٦) أنه اختير فيه الرفع لتتفق الآيات.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨)

مبتدأ وخبره (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) نسق على الكاف والميم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٣٩)

حذفت الياء لأن النون صارت عوضا منها لأنها مكسورة وهو رأس آية.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) (٤١)

ومن كسر العين كره الضمة مع الياء.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٣٩٨ ، ومعاني الفراء ٣ / ٢٢٥.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٥.

(٤) انظر الكتاب ٣ / ١٣٦.

(٥) مرّ الشاهد رقم (١٢٩).

(٦) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٦.

٧٧

(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢)

الأصل يشتهونه حذفت الهاء الاسم.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

أي يقال لهم هذا.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤٤)

الكاف في موضع نصب أي جزاء كذلك.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦)

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) متصل بما يليه أي قيل للمكذبين (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) أي وقتا قليلا وتمتعا قليلا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (٤٨)

قال الفراء : وإذا قيل لهم صلّوا ، وقال غيره : كان الركوع أشدّ الأشياء على العرب حتى أسلم بعضهم وامتنع من أن يركع.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

وقعت الباء قبل أي والاستفهام له صدر الكلام لأن حروف الخفض مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد. ألا ترى أن قولك : نظرت إلى زيد ، ونظرت زيدا بمعنى واحد؟

٧٨

(٧٨)

شرح إعراب سورة عمّ يتساءلون (النبأ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (١)

الأصل «عن ما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ؛ لأن المعنى : عن أي شيء يتساءلون ، وحكى الفراء : أن المعنى لأي شيء يتساءلون. قال أبو جعفر : و «عن» بمعنى اللام لا يعرف والتقدير : يتساءلون عن النبأ العظيم ، وحذف لدلالة الكلام.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣)

في موضع خفض.

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) (٤)

(كَلَّا) قيل : هو التمام أي ليس الأمر على ما زعم المشركون من إنكار البعث. «ستعلمون» (١) تهديد لهم على قراءة الحسن التقدير قل لهم : ستعلمون. «ثم كلا ستعلمون» يعلمون معطوف عليه وقراءة العامة بالياء.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦)

يكون واحدا ، ويكون جمع مهده.

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧)

معطوف عليه جمع وتد ومن أدغم قال ودّ. ولا يجوز الإدغام في الجميع لأن الألف قد فصلت بين الحرفين.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٢٢٧.

٧٩

نصب على الحال أي أصنافا أي ذكورا وإناثا وقصارا وطوالا فنبههم جلّ وعزّ على قدرته.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠)

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) مفعولان وكذا (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠) أي يغشيكم ويغطيكم كالثياب أي فعلنا هذا لتناموا فيه وتسكنوا كما قال قتادة : لباسا سكنا.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١)

أي ذا معاش أي جعلناه مضيئا ليعيشوا فيه ويتصرّفوا كما قال مجاهد : معاشا تتصرفون فيه وتبتغون من فضل الله جلّ وعزّ.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (١٢)

حذفت الهاء لأن اللغة الفصيحة تأنيث السماء (شِداداً) جمع شديدة ولا تجمع على فعلاء استثقالا للتضعيف.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١٣)

(وَجَعَلْنا سِراجاً) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهَّاجاً) أي مضيئا.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (١٤)

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قولين لأهل التفسير : أن المعصرات الرياح والسحاب وأولاهما أن يكون السحاب لقوله جلّ وعزّ : (الْمُعْصِراتِ) ولم يقل : بالمعصرات ، وكما قرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حريث قال : حدّثني علي بن الحسين عن أبيه قال : حدّثني الأعمش عن المنهال عن قيس بن السكن عن ابن مسعود قال : يرسل الله سبحانه الرياح فتأخذ الماء فتجريه في السحاب فتدر كما تدرّ اللّقحة. وروي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس (ماءً ثَجَّاجاً) قال يقول : منصبّا ، وقال ابن يزيد : ثجّاجا كثيرا. قال أبو جعفر : القول الأول المعروف في كلام العرب يقال : ثجّ الماء ثجوجا إذا انصبّ وثجّه فلان ثجا إذ صبّه صبّا متتابعا. وفي الحديث «أفضل الحجّ العجّ والثجّ» (١) فالعجّ رفع الصوت بالتلبية ، والثجّ صبّ دماء الهدي.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) (١٥)

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٢٤ ، وابن حجر في المطالب العالية ١٢٠٠ ، وابن كثير في تفسيره ٨ / ٣٢٧ ، والزيلعي في نصب الراية ٣ / ٣٣ ، وابن حجر في تلخيص الحبير ٢ / ٢٣٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤ / ٣٨٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال (١١٨٨٣).

٨٠