تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

مالك بن ربيعة قال : لو كان معي بصري وكنت ببدر لأريتكم (١) الشّعب الّذي خرجت منه الملائكة (٢).

قال ابن إسحاق : فحدّثني أبي ، عن رجال ، عن أبي داود المازني قال : إنّي لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه بالسيف ، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنّه قتله غيري.

وعن ابن عبّاس قال : لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر.

وأمّا أبو جهل بن هشام فاحتمى في مثل الحرجة ـ وهو الشجر الملتفّ ـ ، وبقي أصحابه يقولون : أبو الحكم لا يوصل إليه. قال معاذ بن عمرو بن الجموح : فلمّا سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه فضربت ضربة أطنّت (٣) قدمه بنصف ساقه. فو الله ما أشبهها حين طارت (٤) إلّا بالنّواة تطيح من تحت مرضخة النّوى (٥) حين تضرب بها. فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي ، فتعلّقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه (٦). فلقد قاتلت عامّة يومي ، وإنّي لأسحبها خلفي. فلما آذتني وضعت عليها قدمي. ثم تمطّيت بها عليها حتى طرحتها. قال : ثم عاش بعد ذلك إلى زمن عثمان.

ثم مرّ بأبي جهل معوّذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، وتركه وبه رمق. وقاتل معوّذ حتى قتل. وقتل أخوه عوف قبله. واسم أبيهما : الحارث بن

__________________

(١) في طبعة القدسي ٤٠ «لأريت لكم».

(٢) وفي السيرة ٣ / ٤١ «لا أشك فيه ولا أتمارى».

(٣) أطنّت قدمه : أطارتها.

(٤) في ح : طاحت. والسيرة ٣ / ٤٢.

(٥) المرضخة والمرضحة : حجر يرضخ به النّوى. (أي يكسر) (تاج العروس ٧ / ٢٥٨).

(٦) أجهضه عن الأمر : أعجله عنه.

٦١

رفاعة بن الحارث الزّرقيّ (١).

ثم مرّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتماسه ، وقال فيما بلغنا : إن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته ، فإنّي ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان (٢) ، ونحن غلامان ، وكنت أشفّ منه (٣) بيسير ، فدفعته ، فوقع على ركبته فجحش (٤) فيها. قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق ، فوضعت رجلي على عنقه.

وقد كان ضبث (٥) بي مرّة بمكة ، فآذاني ولكزني. فقلت له : هل أخزاك الله يا عدوّ الله؟ قال : وبما ذا أخزاني ، وهل فوق رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قلت : لله ولرسوله. قال لقد ارتقيت ، يا رويعي الغنم مرتقى صعبا. قال فاحترزت رأسه وجئت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، هذا رأس عدوّ الله أبي جهل. قال : الله الّذي لا إله غيره؟ قلت : نعم. وألقيت الرأس بين يدي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أمر بالقتلى أن يطرحوا في قليب (٦) هناك. فطرحوا فيه إلّا ما كان من أميّة بن خلف ، فإنّه انتفخ في درعه فملأها ، فذهبوا ليخرجوه فتزايل ، فأقرّوه به ، وألقوا عليه التراب فغيّبوه.

__________________

(١) الزّرقيّ : نسبة إلى زريق ، بطن من الأنصار. (اللباب ٢ / ٦٥)

(٢) هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب ، وهو الّذي اجتمعت قريش في داره وصنع لهم طعاما يوم حلف الفضول ، فتعاهدوا وتعاقدوا أن يكونوا مع المظلوم. وفي هذا الحلف

يقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحبّ أنّ لي بحلف حضرته بدار ابن جدعان حمر النّعم ، وأنّي أغدر به ، ولو دعيت به لأجبت».(سيرة ابن هشام ١ / ١٥٥).

(٣) أشفّ منه : ينقص عنه أو يزيد عليه (من الأضداد).

(٤) الجحش : سحج الجلد وقشره من شيء يصيبه ، أو كالخدش.

(٥) في هامش ح : (ضبث به : أمسكه). وقال الزبيدي ٥ / ٢٨٧ : قبض عليه بكفّه.

(٦) القليب : البئر (تاج العروس ٤ / ٧٢).

٦٢

فلما ألقوا في القليب ، وقف عليهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فقال] (١) : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا. فقالوا : يا رسول الله أتنادي أقواما قد جيّفوا؟ فقال : ما أنتم بأسمع [١٠ ب] لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا (٢).

وفي رواية : فناداهم في جوف اللّيل : يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أميّة بن خلف ، ويا أبا جهل بن هشام. فعدّد من كان في القليب.

زاد ابن إسحاق : وحدّثني بعض أهل العلم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أهل القليب ، بئس عشيرة النّبي كنتم لنبيّكم ، كذّبتموني وصدّقني النّاس ، وأخرجتموني وآواني النّاس وقاتلتموني ونصرني الناس.

وعن أنس رضي‌الله‌عنه : لما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجه أبي حذيفة ابنه ، فإذا هو كئيب متغيّر. فقال : لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال : لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنّي كنت أعرف منه رأيا وحلما ، فكنت أرجو أن يسلم ، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه أحزنني ذلك. فدعا له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له خيرا.

وكان الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعليّ بن أميّة بن خلف ، والعاص بن منبّه ابن الحجّاج قد أسلموا. فلما هاجر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبسهم آباؤهم وعشائرهم ، وفتنوهم عن الدّين فافتتنوا ـ نعوذ بالله من فتنة الدّين ـ ثم ساروا مع قومهم يوم

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع ، ح. والسيرة ٣ / ٥١.

(٢) انظر السيرة ٣ / ٥١ والمغازي لعروة ١٤٣ ، ١٤٤.

٦٣

بدر ، فقتلوا جميعا. وفيهم نزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) (١) الآية.

وعن عبادة بن الصّامت رضي‌الله‌عنه قال : فينا أهل بدر نزلت (الأنفال) حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا. فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله. فقسّمه بين المسلمين على السّواء.

ثم بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن رواحة ، وزيد بن حارثة ، بشير بن إلى المدينة. قال أسامة : أتانا الخبر حين سوّينا على رقيّة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبرها. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلّفني عليها مع عثمان.

ثم قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه الأسارى ، فيهم : عقبة بن أبي معيط والنّضر بن الحارث. فلما خرج من مضيق الصّفراء (٢) قسّم النّفل. فلما أتى الرّوحاء لقيه المسلمون يهنّئونه بالفتح. فقال لهم سلمة بن سلامة : ما الّذي تهنّئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلّا عجائز صلعا كالبدن المعقلة (٣) فنحرناها. فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أي ابن أخي ، أولئك الملأ. يعني الأشراف والرؤساء.

ثم قتل النّضر بن الحارث العبدري بالصّفراء. وقتل بعرق الظّبية (٤). عقبة بن أبي معيط. فقال عقبة حين أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله : من للصّبية يا

__________________

(١) سورة النّساء : من الآية ٩٧.

(٢) الصّفراء : قرية فوق ينبع كثيرة المزارع والنخل. (معجم ما استعجم ٣ / ٨٣٦).

(٣) في الأصل و (ح) : (المعلقة) والتصحيح من ع ومن السيرة ٣ / ٥٣. والبدن : جمع بدنة وهي الناقة. والمعلقة : المقيّدة.

(٤) عرق الظّبية : هو من الرّوحاء على ثلاثة أميال مما يلي المدينة. وقيل بين مكة والمدينة قرب الرّوحاء. وقيل هو الرّوحاء نفسها ، (معجم البلدان) والمغانم المطابة ص ٢٤٠ ، ومعجم ما استعجم ٣ / ٩٠٣ و ٩٣٤.

٦٤

محمد؟ قال : النّار. فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. وقيل : عليّ رضي‌الله‌عنه.

وقال حمّاد بن سلمة عن عطاء بن السّائب عن الشّعبيّ قال : لما أمر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل عقبة قال : أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال : نعم ، أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي [١١ أ] وغمزها ، فما رفع حتّى ظننت أنّ عينيّ ستندران (١). وجاء مرّة أخرى بسلى شاة (٢) فألقاه على رأسي وأنا ساجد ، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي (٣).

واستشهد يوم بدر :

مهجع ، وذو الشّمالين عمير بن عبد عمرو الخزاعي ، وعاقل بن البكير ، وصفوان بن بيضاء ، وعمير بن أبي وقّاص أخو سعد ، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف المطّلبيّ الّذي قطع رجله عتبة ، مات بعد يومين بالصّفراء. وهؤلاء من المهاجرين.

وعمير بن الحمام ، وابنا عفراء ، وحارثة بن سراقة ، ويزيد بن الحارث فسحم (٤) ، ورافع بن المعلّى الزّرقيّ ، وسعد بن خيثمة الأوسي ، ومبشّر بن عبد المنذر أخو أبي لبابة.

فالجملة أربعة عشر رجلا.

__________________

(١) ستسقطان.

(٢) سلى الشّاة : الجلد الرقيق الّذي يخرج فيه الولد من بطن أمّه ملفوفا فيه.

(٣) روى البخاري في صحيحه قال : «بينما النّبيّ يصلّي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم» ، وذكر مسلم هذه الرواية في صحيحة أيضا.

(٤) فسحم اسم أمّه ، ويقال له يزيد فسحم ، ويزيد بن فسحم (المحبّر لابن حبيب ٧٢).

٦٥

وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وهما ابنا أربعين ومائة سنة. وكان شيبة أكبر بثلاث سنوات.

قال ابن إسحاق : وكان أوّل من قدم مكّة بمصاب قريش : الحيسمان بن عبد الله الخزاعي. فقالوا : ما وراءك؟ قال : قتل عقبة ، وشيبة ، وأبو جهل ، وأميّة ، وزمعة بن الأسود ، ونبيه ، ومنبّه ، وأبو البختريّ ابن هشام. فلما جعل يعدّد أشراف قريش قال صفوان بن أميّة وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عنّي : فقالوا : ما فعل صفوان؟ قال : ها هو ذاك جالس ، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا (١).

وعن أبي رافع مولى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كنت غلاما للعبّاس وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العبّاس وأسلمت. وكان العبّاس يهاب قومه ويكره الخلاف ويكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه. وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر ، فلما جاءه الخبر بمصاب قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعزّا ، وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أنحت الأقداح (٢) في حجرة زمزم. فإنّي لجالس أنحت أقداحي ، وعندي أمّ الفضل ، وقد سرّنا الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه (٣) بشرّ ، حتى جلس على طنب (٤) الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب قد قدم. فقال أبو لهب : إليّ ، فعندك الخبر. قال : فجلس إليه ، والناس قيام عليه ، فقال : يا بن أخي ، أخبرني كيف كان أمر النّاس؟ قال : والله ما هو إلّا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا

__________________

(١) السيرة لابن هشام ٣ / ٥٤ وانظر المغازي لعروة ص ١٤٣.

(٢) في ع : (سهام الأقداح) وفي ح : (السهام أو الأقداح). وفي السيرة ٣ / ٥٥ «أعمل الأقداح».

(٣) في ع : (رجل).

(٤) الطنب : حبل الخباء والسرادق ، ويقال : الوتد. (تاج العروس ٣ / ٢٧٨).

٦٦

كيف شاءوا ويأسروننا ، وايم الله ما لمت النّاس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق (١) بين السماء والأرض ، والله ما تليق (٢) شيئا ولا يقوم لها شيء (٣).

قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ، ثم قلت : تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة. قال : وثاورته (٤) ، فحملني وضرب بي الأرض. ثم برك عليّ يضربني ، وكنت رجلا ضعيفا. فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربة ، فلقت في رأسه شجّة منكرة ، وقالت : استضعفته أن غاب عنه سيّده؟ فقام مولّيا ذليلا. فو الله ما عاش إلّا سبع ليال ، حتى رماه [١١ ب] الله بالعدسة (٥) فقتلته (٦).

وكانت قريش تتّقي هذه العدسة كما يتّقى الطّاعون. حتى قال رجل من قريش لا بنيه : ويحكما؟ أما (٧) تستحيان أنّ أبا كما قد أنتن في بيته لا تدفنانه؟ فقالا : نخشى عدوى هذه القرحة. فقال : انطلقا فأنا أعينكما فو الله ما غسّلوه إلّا قذفا بالماء عليه من بعيد. ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، فأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا (٨) عليه الحجارة (٩).

رواه محمد بن إسحاق من طريق يونس بن بكير عنه بمعناه. قال :

__________________

(١) البلق : جمع أبلق وبلقاء ، وهو ما يجتمع فيه البياض والسواد.

(٢) ما تليق شيئا ، ما تمسكه.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٥٥

(٤) ثاورته : واثبته وساورته. (تاج العروس ١٠ / ٣٤٣).

(٥) العدسة : بثرة صغيرة شبيهة بالعدسة تخرج بالبدن مفرّقة كالطّاعون فتقتل غالبا وقلّما يسلم منها.

(٦) سيرة ابن هشام ٣ / ٥٥.

(٧) في ع ، ح. (ألا).

(٨) رضموا عليه الحجارة : وضعوا بعضها فوق بعض.

(٩) الروض الأنف ٣ / ٦٧.

٦٧

حدّثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبّاس ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : حدّثني أبو رافع مولى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى عبّاد بن عبد الله بن الزّبير ، عن أبيه قال : ناحت قريش على قتلاها ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم.

وكان الأسود بن المطّلب قد أصيب له ثلاثة من ولده (١) : زمعة ، وعقيل ، والحارث. فكان يحبّ أن يبكي عليهم.

قال ابن إسحاق : ثم بعثت قريش في فداء الأسارى. فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. فقال عمر رضي‌الله‌عنه : دعني يا رسول الله أنزع ثنيّتي سهيل (٢) فلا يقوم عليك خطيبا في موطن (٣) أبدا فقال : لا أمثّل به فيمثّل الله بي ، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمّه. فقام في أهل مكة بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو من خطبة أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وحسن إسلامه.

وانسلّ (٤) المطّلب بن أبي وداعة ، ففدى أباه بأربعة آلاف درهم ، وانطلق به.

وبعثت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع ابن عبد شمس ، بمال. وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص. فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقّ لها ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها [مالها] (٥). قالوا : نعم ، يا رسول الله. وأطلقوه.

__________________

(١) في ع : (الولد).

(٢) زاد في ح : «ليدلع لسانه». أي يخرج من الفم ويسترخي ويسقط على العنقفة كلسان الكلب.

(٣) في ح : (موضع) وكتب إزاءها في الهامش (موطن).

(٤) انسلّ : انطلق في استخفاء.

(٥) سقطت من الأصل وبقيّة النسخ ، وزدناها من ابن الملّا.

ورواية ابن سعد «وتردّوا عليها متاعها».

٦٨

فأخذ عليه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخلّي سبيل زينب ، وكانت من المستضعفين من النّساء. واستكتمه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك. وبعث زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار ، فقال : كونا ببطن يأجج (١) حتى تمرّ بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر (٢).

فلمّا قدم أبو العاص مكّة أمرها باللّحوق بأبيها ، فتجهّزت. فقدّم أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا ، فركبته وأخذ قوسه وكنانته ، ثم خرج بها نهارا يقودها. فتحدّث بذلك رجال ، فخرجوا في طلبها. فبرك كنانة ونثر كنانته لمّا أدركوها (٣) بذي طوى (٤) ، فروّعها هبّار بن الأسود (٥) بالرّمح. فقال كنانة : والله لا يدنو منّي رجل إلّا وضعت فيه سهما. فتكركر النّاس عنه. وأتى أبو سفيان في أجلّة (٦) من قريش ، فقال : أيّها الرجل كفّ عنّا نبلك حتى نكلّمك. فكفّ. فوقف عليه أبو سفيان فقال : إنّك لم تصب. خرجت بالمرأة على رءوس النّاس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من [١٢ أ] محمد ، فيظن النّاس إذا خرجت بابنته إليه علانية أنّ ذلك على ذلّ أصابنا ، وأنّ ذلك منّا وهن وضعف ، ولعمري ما بنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، ولكن ارجع بالمرأة ، حتّى إذا هدأت الأصوات ، وتحدّث الناس أنّا رددناها ، فسلّها سرّا وألحقها بأبيها. قال : ففعل. ثم خرج بها ليلا ، بعد ليال ، فسلّمها إلى زيد وصاحبه. فقدما بها على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقامت عنده (٧).

__________________

(١) بطن يأجج : مكان من مكة على ثمانية أميال ، (معجم البلدان).

(٢) السيرة ٣ / ٥٨.

(٣) في ع : (أدركوه).

(٤) ذو طوى ، مثلثة الطّاء ، والفتح أشهر : موضع قرب مكة ، به كان البئر المعروف بالطّوى.

(معجم ما استعجم ٣ / ٨٩٦).

(٥) هو : هبّار بن الأسود بن المطّلب بن عبد العزّى.

(٦) في الأصل والسيرة ٣ / ٥٨ : جلّة. وأثبتنا نصّ ع ، ح.

(٧) سيرة ٣ / ٥٨.

٦٩

فلما [كان] (١) قبل الفتح ، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بماله ، وبمال كثير لقريش. فلما رجع لقيته سريّة فأصابوا ما معه ، وأعجزهم هاربا ، فقدموا بما أصابوا. وأقبل أبو العاص في الليل ، حتى دخل على زينب ، فاستجار بها فأجارته ، وجاء في طلب ماله. فلما خرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصّبح فكبّر وكبّر الناس معه ، صرخت زينب من صفّة النّساء : أيّها النّاس إنّي قد أجرت أبا العاص بن الربيع (٢).

وبعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السّريّة الذين أصابوا ماله فقال : إنّ هذا الرجل منّا حيث قد علمتم ، وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردّوا عليه الّذي له ، فإنّا نحبّ ذلك. وإن أبيتم فهو فيء الله الّذي أفاء عليكم ، فأنتم أحقّ به. قالوا : بل نردّه. فردّوه كلّه. ثم ذهب به إلى مكة ، فأدّى إلى كلّ ذي مال ماله. ثم قال : يا معشر قريش ، هل بقي لأحد عندي منكم مال؟ قالوا : لا ، فجزاك الله خيرا ، فقد وجدناه وفيّا كريما. قال : فإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ (٣) محمداً عبده ورسوله. والله ما منعني من الإسلام عنده إلّا تخوّف أن تظنّوا أنّي إنّما أردت أكل أموالكم.

ثم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما قال : ردّ عليه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب على النّكاح الأول ، لم يحدث شيئا (٤).

ومن الأسارى : الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ ، أسره عبد الله ابن جحش ، وقيل : سليط المازني.

وقدم في فدائه أخواه : خالد بن الوليد ، وهشام بن الوليد ، فافتكّاه

__________________

(١) سقطت من الأصل ، واستدركناها من ع ، ح.

(٢) السيرة ٣ / ٥٩ ، ٦٠.

(٣) في ع : (وأشهد أن).

(٤) السيرة ٣ / ٦٠.

٧٠

بأربعة آلاف درهم ، وذهبا به.

فلما افتدي أسلم ، فقيل له في ذلك فقال : كرهت أن تظنّوا بي أنّي جزعت من الأسر. فحبسوه بمكة. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو له في القنوت ، ثم هرب ولحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الحديبيّة. وتوفّي قديما ، لعلّ في حياة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبكته أمّ سلمة ، وهي بنت عمّه (١).

يا عين فابكي للوليد ـ

بن الوليد بن المغيرة

 قد كان غيثا في السنين

ورحمة فينا وميره

 ضخم الدّسيعة ماجدا

يسموا إلى طلب الوتيره

 مثل الوليد بن الوليد

أبي الوليد كفى العشيرة (٢)

* * *

ومن الأسرى : أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحيّ. كان محتاجا ذا بنات.

قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد عرفت أنّي لا مال لي ، وأنّي ذو حاجة وعيال ، فامنن (٣) عليّ. فمنّ عليه ، وشرط عليه أن لا يظاهر عليه أحدا (٤).

* * *

وقال عروة بن الزّبير ، جلس عمير بن وهب الجمحيّ مع صفوان بن أميّة ، بعد مصاب أهل بدر بيسير ، في الحجر ، وكان عمير من شياطين

__________________

(١) في الأصل : (عمّته). والتصحيح من ع ، ح. وانظر أسد الغابة (٥ / ٤٥٥) والإصابة (٣ / ٦٤٠).

(٢) الميرة : الطعام. والدّسيعة : اسم للعطيّة الجزيلة ، يقال للجواد : هو ضخم الدّسيعة أي كثيرة العطية. والوتيرة : الثأر. والأبيات في : الإصابة ٣ / ٦٤٠.

(٣) في ع : (فمنّ).

(٤) انظر سيرة ابن هشام ٣ / ٦١.

٧١

قريش ، [١٢ ب] وممّن يؤذي المسلمين. وكان ابنه وهيب في الأسرى. فذكر أصحاب القليب ومصابهم. فقال صفوان : والله إنّ في العيش بعدهم لخير (١) فقال عمير : صدقت ، والله لو لا دين عليّ ليس عندي له قضاء ، وعيال أخشى عليهم ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإنّ لي فيهم علّة ، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال : عليّ دينك وعيالك. قال : فأكتم عليّ. ثم شحذ سيفه وسمّه ، ومضى إلى المدينة.

فبينا عمر في نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر ، إذ نظر عمر رضي‌الله‌عنه إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشّحا بالسّيف. فقال : هذا الكلب عدوّ الله عمير ، وهو الّذي حزرنا يوم بدر. ثم دخل على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هذا عمير. قال : أدخله عليّ. فأقبل عمر (٢) حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه (٣) ، فلبّبه به (٤) ، وقال لرجال ممّن كانوا معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث. ثم دخل به فقال : أرسله يا عمر ، أدن يا عمير. فدنا ، ثم قال : انعموا صباحا ، قال : فما جاء بك؟ قال : جئت لهذا الأسير الّذي في أيديكم. قال : فما بال السيف في عنقك؟ قال : قبّحها الله من سيوف ، وهل أغنت شيئا؟ قال : اصدقني ما الّذي جئت له؟ قال : ما جئت إلّا لذلك. قال : بلى ، قعدت أنت وصفوان في الحجر. وقصّ له ما قالا. فقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله. قد كنّا يا رسول الله نكذّبك بما تأتينا به من خبر السّماء ، وهذا أمر لم يحضره إلّا أنا وصفوان فو الله [إنّي] (٥)

__________________

(١) في ح : (والله إنّ ما في العيش بعدهم خير).

(٢) في ح : (فأقبل عمر على عمير).

(٣) في ح : (وهو في عنقه) وحمّالة السيف علّاقته التي يحمل منها.

(٤) لبّبه تلبيبا : إذا جمع ثوبه عند نحره وقبضه إليه. (تاج العروس ٤ / ١٩١).

(٥) في الأصل ، ع : (فو الله لأعلم). وفي ح : (فو الله إنّي لا أعلم). والزيادة من السيرة لابن هشام ٣ / ٧١ وعيون الأثر لابن سيّد النّاس (١ / ٢٧٠).

٧٢

لأعلم ما أتاك به إلّا الله ، فالحمد لله الّذي هداني للإسلام. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقّهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره. ففعلوا.

ثم قال : يا رسول الله إنّي كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله ، وأنا أحبّ أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله ورسوله ، لعلّ الله أن يهديهم. وإلّا آذيتهم في دينهم. فأذن له ولحق بمكة. وكان صفوان يعد قريشا يقول : أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان ، حتى قدم راكبا فأخبره عن إسلامه ، فحلف لا يكلّمه أبدا ولا ينفعه بشيء أبدا. ثم أقام يدعو إلى الإسلام ، ويؤذيهم. فأسلم على يديه ناس كثير (١).

* * *

بقيّة أحاديث غزوة بدر

وهي كالشّرح لما قدّمناه فيها :

قال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه ، قال : انطلق سعد بن معاذ معتمرا : فنزل على أميّة ابن خلف (٢) ـ وكان أميّة ينزل عليه إذا سافر إلى الشام ـ فقال لسعد : انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل النّاس فطف. قال : فبينا هو يطوف إذا أتاه أبو جهل فقال : من أنت : قال : أتطوف آمنا وقد أويتم محمّدا وأصحابه ، وتلاحيا. فقال أميّة لسعد : لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنّه سيّد أهل الوادي. فقال : [١٣ أ] والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعنّ عليك متجرك بالشّام. وجعل أميّة يقول : لا ترفع صوتك. فغضب وقال : دعنا منك ، فإنّي سمعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزعم أنه قاتلك قال : إيّاي؟ قال : نعم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٧٠ ، ٧١.

(٢) انظر عنه : المحبّر ١٤٠ و ١٦٠ و ١٦٢ و ١٧٠ و ١٧٤ ، تهذيب ابن هشام ٧٠ و ٨٢ و ٨٤.

٧٣

قال : والله ما يكذب محمد. فكاد أن يحدث. فرجع فقال لامرأته : أتعلمين ما قال أخي اليثربيّ؟ قالت : وما قال؟ قال : زعم أنّ محمدا يزعم أنّه قاتلي. قالت : فو الله ما يكذب. فلما خرجوا لبدر وجاء الصّريخ قالت له امرأته : أما علمت ما قال اليثربيّ. قال : فإنّي إذن لا أخرج. فقال أبو جهل : إنّك من أشراف أهل الوادي فسر معنا يوما أو يومين. فسار معهم ، فقتل. أخرجه البخاري (١).

وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف [بن إسحاق] (٢) بن أبي إسحاق السّبيعي ، عن أبيه ، عن جدّه. وفيه ، فلما استنفر (٣) أبو جهل النّاس وقال : أدركوا عيركم كره أميّة أن يخرج. فأتاه أبو جهل فقال : يا أبا صفوان إنّك متى يراك النّاس تخلّفت ـ وأنت سيّد أهل الوادي ـ تخلّفوا معك. فلم يزل به حتى قال : [أما] (٤) إذا غلبتني فو الله لأشترينّ أجود بعير بمكة. ثم قال : يا أمّ صفوان جهّزيني فما أريد أن أجوز معهم إلّا قريبا. فلما خرج أخذ لا ينزل منزلا إلّا عقل بعيره. فلم يزل بذاك حتى قتله الله ببدر (٥).

وذكر الزّهري قال : إنّما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن خرج من أصحابه يريدون عير قريش التي قدم بها أبو سفيان من الشام ، حتى جمع الله بين الفئتين من غير ميعاد. قال الله تعالى ، (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) (٦).

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الأنبياء ، باب علامات النبوّة في الإسلام (٤ / ٢٤٩).

(٢) زيادة في اسمه من تهذيب التهذيب (١ / ١٨٣).

(٣) في الأصل (استفزّ) والتصحيح من ع ، ح.

(٤) سقطت من الأصل وبقية النسخ ، وزدناها من صحيح البخاري.

(٥) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب ذكر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يقتل ببدر (٥ / ٩١).

(٦) سورة الأنفال : من الآية ٤٢.

٧٤

رؤيا عاتكة

قال يونس بن بكير (١) ، عن ابن إسحاق ، حدّثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبّاس ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ،

(ح) قال ابن إسحاق (٢) : وحدّثني يزيد بن رومان ، عن عروة قال :

رأت عاتكة بنت عبد المطّلب فيما يرى النّائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو الغفاريّ على قريش مكة بثلاث ليال ، رؤيا ، فأصبحت عاتكة فأعظمتها ، فبعثت إلى أخيها العبّاس فقالت له : يا أخي لقد رأيت الليلة رؤيا ليدخلنّ منها على قومك شرّ وبلاء. فقال : وما هي؟ فقالت :

رأيت فيما يرى النّائم أنّ رجلا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح (٣) فقال : انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث (٤) ، فاجتمعوا إليه ، ثم أري بعيره دخل به المسجد واجتمع النّاس إليه ، ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة ، فقال : انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أري بعيره مثل به على رأس أبي قبيس (٥) ، فقال : انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل فأقبلت تهوي ، حتى إذا

__________________

(١) في طبعة القدسي ٥٥ «بكر» والتصحيح من : تهذيب التهذيب ١١ / ٤٣٤ ، ٤٣٥.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ٣٠.

(٣) كل مسيل فيه دقاق الحصى فهو أبطح. والأبطح والبطحاء الرمل المبسط على وجه الأرض.

وهو يضاف إلى مكة وإلى منى لأنّ المسافة بينه وبينهما واحدة ، وربما كان إلى منى أقرب ، وهو المحصّب ، وهو خيف بني كنانة. وقد قيل إنه ذو طوى وليس به. وذكر بعضهم أنه إنّما سمّي أبطح لأنّ آدم عليه‌السلام بطح فيه. (معجم البلدان) وانظر تاج العروس ٦ / ٣١٤ و ٣١٥.

(٤) يا آل غدر : أكثر ما يستعمل في النداء في الشتم. يقال للمفرد : يا غدر ، وللجمع يا آل غدر. وقد ضبطه السهيليّ بضم الغين والدال. (الروض الأنف ٢ / ٦١)

(٥) أبو قبيس : الجبل المشرف على مكة من شرقيّها ، وفي أصل تسميته أكثر من رواية ذكرها ياقوت في معجم البلدان ١ / ٨٠ ، ٨١.

٧٥

كانت في أسفله ارفضّت (١) فما بقيت دار من دور مكة (٢) ولا بيت إلّا دخل فيه بعضها.

فقال العبّاس : والله إنّ هذه لرؤيا ، فاكتميها. فقالت : وأنت فاكتمها ، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذننا (٣).

فخرج العبّاس من عندها ، فلقي الوليد بن عتبة ـ وكان له صديقا ـ فذكرها له واستكتمه. فذكرها الوليد [١٣ ب] لأبيه ، فتحدّث بها ، ففشا الحديث. فقال العبّاس : والله إنّي لغاد إلى مكة لأطوف بها ، فإذا أبو جهل في نفر يتحدّثون عن رؤيا عاتكة ، فقال أبو جهل : يا أبا الفضل تعال.

فجلست إليه فقال : متى حدّثت هذه النبيّة فيكم؟ ما رضيتم يا بني عبد المطّلب أن تنبّأ (٤) رجالكم حتى تنبّأ نساؤكم ، سنتربّص بكم هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة ، فإن كان حقّا فسيكون ، وإلّا كتبنا عليكم كتابا أنّكم أكذب أهل بيت في العرب.

قال : فو الله ما كان منّي إليه من كبير (٥) ، إلّا أنّي أنكرت ما قالت ، وقلت : ما رأت شيئا ولا سمعت بهذا ، فلمّا أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطّلب إلّا أتتني فقلن : صبرتم (٦) لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في

__________________

(١) ارفضّت : تفرّقت.

(٢) في الأصل : (قومك). وأثبتنا نص ع ، ح. وانظر السيرة ٣٠.

(٣) في ع ، ح. (ليؤذوننا).

(٤) في السيرة «يتنبّأ».

(٥) (كبير) : كذا بالأصل وسائر النّسخ وابن الملا. وفي السيرة : ما كان منّي إليه كبير. وهذا الاستعمال يرد في كلام العرب ، ومنه الحديث الشريف «إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير» (البخاريّ كتاب الوضوء). قال في اللسان : أي ليس في أمر كان يكبر عليهما ويشقّ فعله لو أرادا.

(٦) في السيرة «أقررتم».

٧٦

رجالكم ، ثم قد تناول النّساء وأنت تسمع ، فلم يكن عندك في ذلك غير (١). فقلت : قد والله صدقتنّ وما كان عندي في ذلك من غير (١) إلّا أنّي أنكرت. ولأتعرّضنّ له ، فإن عاد لأكفينّكه.

فغدوت في اليوم الثالث أتعرّض له ليقول شيئا فأشاتمه. فو الله إنّي لمقبل نحوه ، وكان رجلا حديد الوجه ، حديد النّظر ، حديد اللّسان ، إذ ولّى نحو باب المسجد يشتدّ. فقلت في نفسي : اللهمّ العنة ، كل [هذا] (٢) فرقا (٣) أن أشاتمه. وإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم ابن عمرو [الغفاريّ] (٤) ، وهو واقف [على] (٥) بعيره بالأبطح ، قد حوّل رحله وشقّ قميصه وجدّع بعيره ، يقول : يا معشر قريش ، اللّطيمة (٦) اللّطيمة! أموالكم مع أبي سفيان ، قد عرض لها محمد ، فالغوث الغوث! فشغله ذلك عنّي ، وشغلني عنه. فلم يكن إلّا الجهاز حتى خرجنا ، فأصاب قريشا ما أصابها يوم بدر. فقالت عاتكة :

ألم تكن الرؤيا بحقّ وجاءكم

بتصديقها فلّ من القوم هارب (٧)

 __________________

(١) في ح : (غيره) في الموضعين. قال «ابن الأنباري» في قولهم «لا أراني الله بك غيرا» الغير تغيّر الحال ، وهو اسم واحد بمنزلة القطع والعنب وما أشبههما ، ويجوز أن يكون جمعا واحدته غيرة.

قال بعض بني كنانة :

فمن يشكر الله يلق المزيد

ومن يكفر الله يلق الغير

انظر : الزاهر ٢ / ٣١٣ ولسان العرب ، والنهاية في غريب الحديث ، وتاج العروس ١٣ / ٢٨٧.

(٢) إضافة من سيرة ابن هشام ٣ / ٣١.

(٣) في هامش ح (أي خوفا).

(٤) إضافة من السيرة.

(٥) سقطت من الأصل ، ح ، وزدناها من ع. والسيرة.

(٦) اللّطيمة : العير التي تحمل الطّيب وبزّ التجارة وسائر المتاع غير الميرة ، أو كل سوق ويجلب إليها ذلك.

(٧) الفلّ القوم المنهزمون : وفي هامش ح : ويقال جاء فلّ القوم أي منهزموهم. يستوي فيه الواحد والجمع.

٧٧

فقلتم (١) ولم أكذب : كذبت وإنّما

يكذّبنا بالصّدق من هو كاذب (٢)

 وقال أبو إسحاق. (٣) : سمعت البراء يقول : استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر. وكنّا ـ أصحاب محمّد ـ نتحدّث أنّ عدّة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر ، كعدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النّهر ، وما جازه إلّا مؤمن. أخرجه البخاري (٤).

وقال : سمعت البراء يقول : كان المهاجرون يوم بدر نيّفا وثمانين (٥). أخرجه البخاري (٦).

وقال ابن لهيعة : حدّثني يزيد بن أبي حبيب ، حدّثني أسلم أبو عمران أنّه سمع أبا أيّوب الأنصاريّ يقول : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن بالمدينة : هل لكم أن نخرج فنلقي العير لعلّ الله يغنمنا؟ قلنا : نعم. فخرجنا ، فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا أن نتعادّ ، ففعلنا ، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فأخبرناه بعدّتنا ، فسرّ بذلك وحمد الله ، وقال : عدّة أصحاب طالوت.

وقال ابن وهب : حدّثني حييّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي (٧) ، عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في طبعة القدسي ٥٨ «فلقتم».

(٢) في ح : (من كان كاذب) وكتب فوقها : كان تامّة. وفي الهامش (خ) : أي في نسخة.

والبيتان ليسا في سيرة ابن هشام.

(٣) في الأصل ، ع : (ابن إسحاق) وكذلك في نسخة شعيرة ص ١١٥ والتصحيح من البخاري ، وتهذيب التهذيب ١ / ٤٢٥ في ترجمة البراء بن عازب.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عدة أصحاب بدر (٥ / ٩٤).

(٥) رواية البخاري : نيّفا على ستين. كذلك في البداية والنهاية ٣ / ٢٦٩.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عدّة أصحاب بدر (٥ / ٩٣).

(٧) في طبعة القدسي ٥٨ «الجبليّ» والتصحيح من اللباب ١ / ٣٣٧ قال : بضم الحاء المهملة والباء الموحّدة ، وذكر سيبويه النحويّ «الحبلي» بفتح الباء ، وهو منسوب إلى بني الحبلي.

٧٨

[خرج] (١) يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خرج فقال : اللهمّ إنّهم حفاة فاحملهم ، [١٤ أ] اللهمّ إنّهم عراة فاكسهم (٢) ، اللهمّ إنّهم جياع فأشبعهم. ففتح الله لهم ، فانقلبوا وما منهم ، رجل إلّا وقد رجع بجمل أو جملين ، واكتسوا وشبعوا.

وقال أبو إسحاق عن البراء قال : لم يكن يوم بدر فارس غير المقداد.

وقال أبو إسحاق عن حارثة بن مضرّب : إنّ عليّا رضي‌الله‌عنه قال : لقد رأيتنا ليلة بدر وما منّا أحد إلّا وهو نائم إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه يصلّي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح ، ولقد رأيتنا وما منّا أحد فارس يومئذ إلا المقداد. رواه شعبة عنه.

ومن وجه آخر عن عليّ ، قال : ما كان معنا إلّا فرسان. فرس للزبير (٣) وفرس للمقداد بن الأسود.

وعن إسماعيل بن أبي خالد ، عن البهيّ قال : كان يوم بدر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارسان ، الزبير على الميمنة ، والمقداد على الميسرة.

وقال عروة : كان على الزبير يوم بدر عمامة صفراء ، فنزل جبريل على سيما الزّبير.

وقال حمّاد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله قال : كنّا يوم بدر نتعاقب ثلاثة على بعير ، فكان عليّ وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع ، ح.

(٢) في طبعة القدسي ٥٩ «فاكسبهم» وهو غلط.

(٣) في طبعة القدسي ٥٩ «للزمن» والتصحيح من نسخة شعيرة ١١٦ ومن السياق.

٧٩

فكانت (١) إذا حانث (٢) عقبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولان له : اركب حتى نمشي. فيقول : إنّي لست بأغنى عن الأجر منكما ، ولا أنتما بأقوى على المشي منّي.

المشهور عند أهل المغازي : مرثد بن أبي مرثد الغنوي بدل أبي لبابة. فإنّ أبا لبابة ردّه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلفه على المدينة.

وقال معمر : سمعت الزّهريّ يقول : لم يشهد بدرا إلّا قريشيّ أو أنصاريّ أو حليف لهما.

وعن الحسن ، قال : كان فيهم اثنا عشر من الموالي.

وقال عمرو العنقزيّ ، أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرّب ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه ، قال : أخذنا رجلين يوم بدر. أحدهما عربيّ والآخر مولى ، فأفلت العربيّ وأخذنا المولى ، مولى لعقبة بن أبي معيط ، فقلنا : كم هم؟ قال : كثير عددهم شديد بأسهم. فجعلنا نضربه. حتى انتهينا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبى أن يخبره. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كم ينحرون من الجزور؟ فقال : في كلّ يوم عشرا. فقال رسول الله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوم ألف ، لكلّ جزور مائة.

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، ثنا عبد الله بن أبي بكر ، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا نبني لك عريشا ، فتكون فيه ، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدوّنا ، فإذا أظهرنا الله عليهم فذاك ، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبّا منهم ، ولو علموا أنّك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك ،

__________________

(١) في ح : (فكان). وكذلك في نهاية الأرب ١٨ / ١٦.

(٢) في نهاية الأرب «كانت».

٨٠