تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

العرب ودهاتهم ، دعا قومه إلى الإسلام فقتلوه. فيروي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثله مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله فقتلوه» (١).

* * *

وفيها : توفّيت السيدة أم كلثوم بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، زوجة عثمان رضي‌الله‌عنهما (٢).

* * *

وفيها : توفّي عبد الله ذو البجادين (٣) رضي‌الله‌عنه ، ودفن بتبوك ، وصلّى عليه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأثنى عليه ونزل في حفرته ، وأسنده في لحده. وقال : «اللهمّ [١٢٠ ب] إنّي أمسيت عنه راضيا ، فارض عنه» (٤).

وقال محمد بن إسحاق : حدّثني محمد بن إبراهيم التّيميّ ، قال : كان عبد الله ذو البجادين (٥) من مزينة. وكان يتيما في حجر عمّه ، وكان يحسن إليه. فلما بلغه أنه قد أسلم قال : لئن فعلت لأنزعنّ منك جميع ما أعطيتك. قال : فإنّي مسلم. فنزع كلّ شيء أعطاه ، حتى جرّده ثوبه. فأتى أمّه ، فقطعت بجادا (٦) لها باثنين ، فائتزر نصفا وارتدى نصفا. ولزم باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان يرفع صوته بالقرآن والذّكر. وتوفّي في حياة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

وفيها : قدم وفد ثقيف من الطّائف ، فأسلموا بعد تبوك ، وكتب لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا (٧).

__________________

(١) انظر المحبّر لابن حبيب ١٠٥ ، ١٠٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٩٧.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ١٢٤.

(٣) في الأصل ، ع : «ذو النجادين» ، والتصحيح من (ح) ، وهو عبد الله بن عبد نهم المزني.

(الاستيعاب ٢ / ٢٩٢).

(٤) الاستيعاب ٢ / ٢٩٣.

(٥) في الأصل ، ع : «ذو النجادين». والتصحيح من ح. والاستيعاب لابن عبد البر ٢ / ٢٩٢. وقال ابن هشام في السيرة ٤ / ١٧٩ : وأنّما سمّي ذو البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام ، فيمنعه قومه من ذلك ويضيّقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره. والبجاد : الكساء الغليظ الجافي.

(٦) في الأصل ، ع : «نجادا».

(٧) انظر تاريخ الطبري ٣ / ٩٧ و ٩٩.

٦٦١

وفيها : مرجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك ، مات سهيل بن بيضاء ، أخو سهل بن بيضاء ، وهي أمّهما ، واسمها دعد بنت جحدم. وأما أبوه فوهب بن ربيعة الفهريّ. ولسهيل صحبة ورواية حديث ، وهو حديث يحيى بن أيّوب المصريّ ، عن ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن سعيد بن الصّلت ، عن سهيل بن بيضاء ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة» (١). وليحيى بن سعيد الأنصاريّ ، عن محمد بن إبراهيم ، نحوه.

وأما الدّراورديّ فقال : عن ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن سعيد ابن الصّلت ، عن عبد الله بن أنيس. وهذا متّصل عن سهيل. إذ سعيد بن الصلت تابعيّ كبير لا يمكنه أن يسمع من سهيل. ولو (٢) سمع منه لسمع من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكان صحابيا. لكنّ المرسل أشهر. وكان سهيل (٣) بن بيضاء من السابقين الأولين ، شهد بدرا وغيرها. وكذلك أخوه سهل ، وقد توفّي أيضا في حياة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

وقال عبد الوهاب بن عطاء ، أنبأ حميد ، عن أنس ، قال : كان أبو عبيدة ، وأبيّ بن كعب ، وسهيل بن بيضاء ، عند أبي طلحة ، وأنا أسقيهم ، حتى كاد الشّراب أن يأخذ فيهم. ثم ذكر تحريم الخمر بطوله.

* * *

وقال ابن أبي فديك ، عن الضحّاك بن عثمان ، عن أبي النّضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : لما توفّي سعد : أدخلوه المسجد حتّى أصلّي عليه ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : والله لقد صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وسهل (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٦ / ٢٥٧ و ٢٥٨ رقم (٦٠٣٣) و (٦٠٣٤).

(٢) في الأصل «ولم» والتصحيح من (ع) و (ح).

(٣) في الأصل «سهل» وهو خطأ ، والتصحيح من (ع) و (ح).

(٤) الاستيعاب ٢ / ٩٢ ، الإصابة ٢ / ٨٥ رقم : ٣٥٢.

(٥) الاستيعاب ٢ / ٩٣.

٦٦٢

وقال فيه غير الضحّاك : ما أسرع ما نسوا ، لقد صلّى على سهيل بن بيضاء في المسجد.

* * *

وفيها : توفي زيد بن سعنة ، بالياء [وبالنون] (١) ، وبالنّون أشهر ، وهو أحد الأحبار (٢) الذين أسلموا. وكان كثير العلم والمال. وخبر إسلامه رواه الوليد بن مسلم ، عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، عن جدّه عبد الله ، قال : لما أراد الله هدي زيد بن سعنة ، قال : ما من علامات النبوّة شيء إلّا وقد عرفتها في (١٢١ أ] وجه محمد حين نظرت إليه ، إلّا شيئين لم أخبرهما منه : يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدّة الجهل إلّا حلما. وذكر الحديث بطوله. وهو في الطّوالات للطّبرانيّ (٣). وآخره (٤) : فقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا عبده ورسوله. وآمن به وتابعه ، وشهد معه مشاهد. وتوفّي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر. والحديث غريب ، من الأفراد (٥).

* * *

قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى : وفيها قتلت فارس ملكهم شهرا برز (٦) بن شيرويه ، وملّكوا عليهم بوران بنت كسرى (٧). وبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أَمْرَهم امرأة» (٨).

__________________

(١) سقطت من الأصل ، والمثبت من : (ع) و (ح).

(٢) في الأصل «الأجناد» ، والتصحيح من (ع) و (ح) ، والاستيعاب ١ / ٥٦٣ ، والإصابة ١ / ٥٦٦ رقم ٢٩٠٤.

(٣) في المعجم الكبير ٥ / ٢٥٣ ـ ٢٥٥ رقم ٤٨٩.

(٤) في الأصل «وأخبره» ، والتصحيح من (ع) و (ح).

(٥) في هامش ح : «هو في صحيح ابن حبان». انظر : صحيح ابن حبان ، رقم (٢١٠٥) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ / ٦٠٤ ، ٦٠٥ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وهو من غرر الحديث. وقد تعقّبه الذهبي بقوله في تلخيص المستدرك ٣ / ٦٠٥. «وما أنكره وأركّه لا سيما قوله : مقبلا غير مدبر ، فإنه لم يكن في غزوة تبوك قتال».

(٦) هكذا في جميع النسخ. وفي تاريخ خليفة «شهربراز».

(٧) تاريخ خليفة ٩٣.

(٨) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (٥ / ١٣٦) باب كتاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر. وفي

٦٦٣

وفيها : توفّي عبد الله بن سعد بن سفيان الأنصاريّ ، من بني سالم بن عوف. كنيته أبو سعد (١). شهد أحدا والمشاهد. وتوفّي منصرف النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك. فيقال : إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفّنه في قميصه (٢).

* * *

وفيها : في هذه المدّة : توفّي زيد بن مهلهل بن زيد (٣) أبو مكنف الطّائيّ ، فارس طيِّئ. وهو أحد المؤلّفة قلوبهم. أعطاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة من الإبل ، وكتب له بإقطاع. وكان يدعى زيد الخيل ، فسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد الخير. ثم إنه رجع إلى قومه فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ينج زيد من حمّى المدينة». فلما انتهى (٤) إلى نجد أصابته الحمّى ومات (٥).

وفيها : حجّ بالناس أبو بكر الصدّيق ، بعثه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموسم في أواخر ذي القعدة ليقيم للمسلمين حجّهم. فنزلت (براءة) (٦) إثر خروجه (٧).

* * *

وفي أوّلها نقض ما بين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين من العهد الّذي كانوا عليه. قال ابن إسحاق : فخرج عليّ ، رضي‌الله‌عنه ، على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، العضباء ، حتى أدرك أبا بكر بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ قال : لا ، بل مأمور. ثم مضيا. فأقام أبو بكر للناس حجّهم ، حتّى إذا كان يوم النّحر ، قام عليّ عند الجمرة فأذّن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أيها النّاس ، إنه لا يدخل الجنّة إلّا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد

__________________

= الفتن (٨ / ٩٧) باب : حدّثنا عثمان بن الهيثم ، وأحمد في المسند ٥ / ٤٣ و ٥١ و ٦ / ٣٨ و ٤٧.

(١) في الأصل «أبو سعيد» ، والتصحيح من (ع) و (ح) ، ومن ترجمته في : أسد الغابة ٣ / ٢٦١.

(٢) الإصابة ٢ / ٣١٨ رقم ٤٧١٢.

(٣) في جميع النسخ «يزيد» ، والتصحيح من : أسد الغابة ٢ / ٣٠١ ، وتجريد أسماء الصحابة ١ / ٢٠٢ ، والإصابة ١ / ٥٧٢ رقم ٢٩٤١.

(٤) في الأصل «وصل» ، والمثبت من (ع) و (ح).

(٥) الإصابة ١ / ٥٧٣.

(٦) أول سورة التوبة.

(٧) تاريخ الطبري ٣ / ١٢٢ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٦٨ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٦.

٦٦٤

العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو له إلى مدّته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ، ليرجع كلّ قوم إلى مآمنهم من بلادهم. ثمّ لا عهد لمشرك (١).

وقال عقيل ، عن الزّهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، أنّ أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذّنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

قال حميد بن عبد الرحمن : ثم أردف النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعليّ بن أبي طالب فأمره أن يؤذّن ببراءة. قال : فأذّن معنا عليّ في أهل منى يوم النّحر ببراءة ، أن لا يحجّ بعد [١٢١ ب] العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. أخرجه البخاريّ (٢). وأخرجاه من حديث يونس ، عن الزهريّ (٣).

وقال سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر وأتبعه عليّا. فذكر الحديث. وفيه : فكان عليّ نادي بها ، فإذا بحّ قام أبو هريرة فنادى بها.

وقال أبو إسحاق السّبيعي ، عن زيد بن يثيع (٤) ، قال : سألنا عليّا رضي‌الله‌عنه : بأيّ شيء بعثت في ذي الحجّة؟ قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنّة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٨ ، وانظر المغازي للواقدي ٣ / ١٦٨ ، ١٦٩.

(٢) في كتاب الصلاة (١ / ٩٧) باب ما يستر من العورة ، وكتاب تفسير القرآن ، سورة براءة (٥ / ٢٠٢) باب قوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) .. ، وباب قوله (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ..

(٣) البخاري في كتاب الحج (٢ / ١٦٤) باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحجّ مشرك ، ومسلم في كتاب الحج (١٣٤٧) باب لا يحجّ البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وبيان يوم الحجّ الأكبر. وأبو داود في المناسك (١٩٤٦) باب يوم الحج الأكبر. والترمذي في الحج (٨٧٢) باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا ، من طريق سفيان بن عيينة ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن أثيع قال : «سألت عليّا ..». وأحمد في المسند ١ / ٣ و ٧٩ و ٢ / ٢٩٩ من طريق الشعبي ، عن محرر بن أبي هريرة أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : كنت مع عليّ ... ، وخليفة في تاريخه ٩٣.

(٤) يثيع أو أثيع : رجل من همدان.

٦٦٥

إلّا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا ، ومن كان بينه وبين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فعهده إلى مدّته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر (١).

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٧٩ و ٢ / ٢٩٩.

٦٦٦

ذكر قدوم وفود العرب

[قدوم عروة بن مسعود الثّقفيّ]

قال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير ، قال : فلما صدر أبو بكر وعليّ ، رضي‌الله‌عنهما ، وأقاما للناس الحجّ ، قدم عروة بن مسعود الثقفيّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلما. وكذا قال موسى بن عقبة. وأما ابن إسحاق فذكر

أنّ قدوم عروة بن مسعود كان في إثر رحيل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل الطائف وعن مكة ، وأنه لقيه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم ، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهم قاتلوك» (١).

ثم بعد أشهر ، قدم :

وفد ثقيف (٢)

وقال حاتم بن إسماعيل ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع ، عن عبد الكريم ، عن علقمة بن سفيان بن عبد الله الثّقفي ، عن أبيه ، قال : كنّا في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٩٦ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٤.

(٢) ثقيف : هم ثقيف بن منبه ، بطن متسع من هوازن من العدنانية ، اشتهروا باسم أبيهم. وكان موطنهم بالطائف (معجم قبائل العرب ١ / ١٤٨).

٦٦٧

الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فضرب لنا قبّتين عند دار المغيرة ابن شعبة. قال : وكان بلال يأتينا بفطرنا فنقول : أفطر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فيقول : نعم ، ما جئتكم حتى أفطر ، فيضع يده فيأكل ونأكل (١).

وقال حمّاد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلهم في قبّة في المسجد ، ليكون أرقّ لقلوبهم. واشترطوا عليه حين أسلموا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبّوا (٢). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ، ولكم أن لا تحشروا ولا تعشروا» (٣).

وقال أبو داود في «السنن» (٤) : حدّثنا الحسن بن الصباح ، نا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدّثني إبراهيم ، عن أبيه ، عن وهب ، قال : سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت قال : اشترطت على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يقول : «سيتصدّقون ويجاهدون إذا أسلموا».

وقال موسى بن عقبة ، وعن عروة بمعناه ، قال : فأسلم عروة بن مسعود ، واستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرجع إلى قومه. فقال : إنّي أخاف [١٢٢ أ] أن يقتلوك قال : لو وجدوني نائما ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرجع إلى الطائف ، وقدم الطائف عشيّا فجاءته ثقيف فحيّوه ، ودعاهم إلى الإسلام

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٥.

(٢) أن لا يحشروا : من الحشر ، وهو الخروج مع النفير ، أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث. وقيل : لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم ، بل يأخذها في أماكنهم. ولا يعشروا : من التعشير ، وهو أخذ عشر المال. ولا يجبّوا : من التجبية ، وهي وضع اليدين على الركبتين أو على الأرض ، وهي هنا كناية عن الركوع والسجود في الصلاة.

(٣) أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء (٣٠٢٦) باب ما جاء في خبر الطائف.

وأحمد في المسند ٤ / ٢١٨.

(٤) في كتاب الخراج والإمارة والفيء (٣٠٢٥) باب ما جاء في خبر الطائف.

٦٦٨

ونصح لهم ، فاتّهموه وعصوه ، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه. فخرجوا من عنده ، حتى إذا أسحر وطلع الفجر ، قام على غرفة [له] (١) في داره فأذّن بالصلاة وتشهّد ، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله.

فزعموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين بلغه قتله : «مثل عروة مثل صاحب ياسين ، دعا قومه إلى الله فقتلوه» (٢).

وأقبل ـ بعد قتله ـ من وفد ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف ، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ ، وفيهم عثمان بن أبي العاص بن بشر ، وهو أصغرهم. حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة يريدون الصّلح ، حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلمت عامّة العرب.

فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله ، أنزل على قومي فأكرمهم ، فإنّي حديث الجرم (٣) فيهم. فقال : لا أمنعك أن تكرم قومك ، ولكن منزلك حيث يسمعون القرآن. وكان من جرم (٣) المغيرة في قومه أنّه كان أجيرا لثقيف ، وأنهم أقبلوا من مصر ، حتى إذا كانوا ببصاق (٤) ، عدا عليهم وهم نيام فقتلهم ، ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، خمِّس مالي هذا. فقال : «وما نبأه»؟ فأخبره ، فقال : «إنّا لسنا نغدر». وأبي أن يخمّسه.

وأنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ثقيف في المسجد ، وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه. فلما سمعه وفد ثقيف قالوا : يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ، ولا يشهد به في خطبته. فلما بلغه ذلك قال : فإنّي أول من شهد أنّي رسول الله.

__________________

(١) سقطت من الأصل ، والمثبت من نسختي (ع) و (ح).

(٢) انظر : سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٤ ، المحبّر ١٠٥ ـ ١٠٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٧.

(٣) في الأصل : «الحزم» ، حزم في الموضعين. والتصحيح من ع ، ح.

(٤) بصاق : موضع قرب مكة ، ويقال بساق (بالسين). وقيل : جبل قرب أيلة فيه نقب. (معجم البلدان ١ / ٤٢٩).

٦٦٩

وكانوا يغدون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ يوم ، ويخلّفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم. فكان عثمان ، كلّما رجعوا وقالوا بالهاجرة ، عمد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الدّين واستقرأه القرآن ، حتى فقه في الدّين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائما عمد إلى أبي بكر. وكان يكتم ذلك من أصحابه. فأعجب ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعجب منه وأحبّه.

فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فأسلموا. فقال كنانة بن عبد يا ليل : هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ فقال : «نعم ، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم ، وإلّا فلا قضيّة ولا صلح بيني وبينكم». قالوا : أفرأيت الزّنا ، فإنّا قوم نغترب لا بدّ لنا منه؟ قال : «هو عليكم حرام». قالوا : فالرّبا؟ قال : «لكم رءوس أموالكم». قالوا : فالخمر؟ قال : «حرام». وتلا عليهم [١٢٢ ب] الآيات في تحريم هذه الأشياء. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض ، فقالوا : ويحكم ، إنّا نخاف ـ إن خالفناه ـ يوما كيوم مكة. انطلقوا نكاتبه على ما سألنا. فأتوه فقالوا : نعم ، لك ما سألت. أرأيت الرّبّة (١) ما ذا نصنع فيها؟ قال : «اهدموها». قالوا : هيهات ، لو تعلم الربّة أنك تريد هدمها قتلت أهلها. فقال عمر : ويحك يا بن عبد ياليل ، ما أحمقك ، إنّما الربّة حجر. قالوا : إنّا لم نأتك يا بن الخطّاب. وقالوا : يا رسول الله ، تولّ أنت هدمها ، فأما نحن فإنّا لن نهدمها أبدا. قال : «فسأبعث إليكم من يهدمها». فكاتبوه وقالوا : يا رسول الله ، أمّر علينا رجلا يؤمّنا. فأمّر عليهم عثمان لما رأى من حرصه على الإسلام. وكان قد تعلّم سورا من القرآن.

وقال ابن عبد يا ليل : أنا أعلم الناس بثقيف. فاكتموهم الإسلام وخوّفوهم الحرب ، وأخبروا أنّ محمدا سألنا أمورا أبيناها.

__________________

(١) الربّة : بيت اللات التي كانت تعبدها ثقيف ، أو هي اللات ذاتها.

٦٧٠

قال : فخرجت ثقيف يتلقّون الوفد. فلما رأوهم قد ساروا العنق (١) ، وقطروا الإبل ، وتغشّوا ثيابهم ، كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير. فلما رأت ثقيف ما في وجوههم قالوا : ما وفدكم بخير ولا رجعوا به. فدخل الوفد فعمدوا (٢) اللّات فنزلوا عندها. واللّات بيت بين ظهري الطائف يستر ويهدى له الهدي ، كما يهدى للكعبة.

فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها : إنه لا عهد لهم برؤيتها. ثم رجع كل واحد إلى أهله ، وجاء كل رجل منهم خاصّته فسألوهم فقالوا : أتينا رجلا فظّا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء ، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودانت له الناس. فعرض علينا أمورا شدادا : هدم اللّات ، وترك الأموال في الرّبا إلّا في رءوس أموالكم ، وحرّم الخمر والزّنا ، فقالت ثقيف : والله لا نقبل هذا أبدا. فقال الوفد : أصلحوا السلام وتهيّئوا للقتال ورمّوا حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال. ثم ألقى الله في قلوبهم الرّعب ، فقالوا : والله ما لنا به طاقة ، وقد أداخ العرب كلّها ، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل. فلما رأى ذلك الوفد أنهم قد رعبوا قالوا : فإنّا قد قاضيناه وفعلنا ووجدناه أتقى الناس وأرحمهم وأصدقهم. قالوا : لم كتمتمونا وغممتمونا أشدّ الغمّ؟ قالوا : أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. فأسلموا مكانهم.

ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد أمّر عليهم خالد بن الوليد ، وفيهم المغيرة. فلما قدموا عمدوا للّات ليهدموها ، واستكفّت ثقيف كلها ، حتى خرج العواتق (٣) ، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المغيرة فأخذ الكرزين (٤) وقال لأصحابه : والله لأضحكّنكم منهم. فضرب بالكرزين ، ثم

__________________

(١) العنق : ضرب من السير فسيح سريع ، للإبل والخيل.

(٢) عمد الشيء يعمده ، كعمد له وإليه : قصده.

(٣) العواتق : جمع عاتق وهي الجارية أول ما أدركت أو التي لم تتزوج.

(٤) الكرزين : فأس كبيرة لها حدّ ورأس واحد ، أو نحو المطرقة.

٦٧١

[١٢٣ أ] سقط يركض. فارتجّ أهل الطائف بصيحة واحدة ، وقالوا : أبعد الله المغيرة ، قد قتلته الرّبّة. وفرحوا ، وقالوا : من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها ، فو الله لا يستطاع أبدا. فوثب المغيرة بن شعبة فقال : قبّحكم الله ، إنما هي لكاع حجارة ومدر ، فاقبلوا عافية الله واعبدوه. ثم ضرب الباب فكسره ، ثم علا على سورها ، وعلا الرجال معه ، فهدموها. وجعل صاحب المفتح (١) يقول : ليغضبنّ الأساس ، فليخسفنّ بهم. فقال المغيرة لخالد : دعني أحفر أساسها. فحفره حتى أخرجوا ترابها ، وانتزعوا حليتها ، وأخذوا ثيابها. فبهتت ثقيف ، فقالت عجوز منهم : أسلمها الرّضّاع وتركوا المصاع (٢).

وأقبل الوفد حتى أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحليتها وكسوتها ، فقسمه.

وقال ابن إسحاق : أقامت ثقيف ، بعد قتل عروة بن مسعود ، أشهرا.

ثم ذكر قدومهم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسلامهم. وذكر أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة يهدمان الطّاغية (٣).

وقال سعيد بن السّائب ، عن محمد بن عبد الله بن عياض ، عن عثمان ابن أبي العاص ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم.

رواه أبو همّام محمد بن محبّب الدلّال ، عن سعيد (٤).

* * *

__________________

(١) المفتح : الخزانة أو المخزن حيث يوجد كنز الربة وحليتها وثيابها. ويجوز أن يكون المفتح (بالكسر) أي المفتاح.

(٢) الرضاع : كالرضّع ، جمع راضع ، وهو اللئيم الّذي رضع اللؤم من ثدي أمه ، يريد أنه ولد في اللؤم. والمصاع : الجلاد والضراب بالسيوف. وفي هامش ح. : الرضاع الذين يرضعون إبلهم لئلا يسمع الفقراء صوت حلبهم ، وقيل يرضعون الناس أي يسألونهم. والمصاع الجلاد والضراب أي تركوا القتال.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٥ ، تاريخ الطبري ٩٩ ـ ١٠٠.

(٤) رواه الطبراني في المعجم الكبير ٩ / ٣٩ رقم (٨٣٥٥) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٦١٨.

٦٧٢

ولما فرغ ابن إسحاق من شأن ثقيف ، ذكر بعد ذلك حجّة أبي بكر الصدّيق بالناس (١).

* * *

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٦.

٦٧٣
٦٧٤

السّنة العاشرة

ثم قال ابن إسحاق (١) :

ولمّا فتح الله على نبيّه مكّة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، ضربت إليه وفود العرب من كلّ وجه. وإنما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحيّ من قريش ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك أنّ قريشا كانوا إمام الناس.

[وفد بني تميم]

قال : فقدم عطارد بن حاجب في وفد عظيم من بني تميم (٢) ، منهم الأقرع بن حابس ، والزّبرقان بن بدر ، ومعهم عيينة بن حصن. فلما دخلوا المسجد. نادوا رسول الله من وراء حجراته : اخرج إلينا يا محمد ، جئناك نفاخرك ، فائذن لشاعرنا وخطيبنا. قال : قد أذنت لخطيبكم ، فليقم. فقام عطارد ، فقال :

الحمد لله الّذي له علينا الفضل والمنّ ، وهو أهله ، الّذي جعلنا ملوكا ،

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٤ / ١٩٤.

(٢) بنو تميم بن مر : قبيلة عظيمة من العدنانية تنتسب إلى تميم بن مرّ بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. كانت منازلهم بأرض نجد. (معجم قبائل العرب ١ / ١٢٦).

٦٧٥

ووهب [لنا] (١) أموالا عظاما نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعزّ أهل المشرق ، وأكثره عددا ، وأيسره عدّة. فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ، وإنّا لو نشأ لأكثرنا الكلام ، ولكن نستحي من الإكثار. أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا.

ثم جلس. فقال رسول [١٢٣ ب] الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس بن الشّمّاس الخزرجيّ : قم فأجبه. فقام ، فقال :

الحمد لله الّذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهنّ أمره ، ووسع كرسيّه علمه ، ولم يكن شيء قطّ إلّا من فضله. ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثا ، وأفضله حسبا ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة الله من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه ، أكرم الناس أحسابا ، وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا ، ثم كان أول الخلق استجابة إذ دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نحن فنحن الأنصار ، أنصار الله ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله. فمن آمن منع ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا ، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم.

فقام الزّبرقان بن بدر ، فقال :

 نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا

منّا الملوك وفينا تنصب البيع

 وكم قسرنا من الأحياء كلّهم

عند النّهاب ، وفضل العزّ يتّبع

 ونحن نطعم عند القحط مطعمنا

من الشّواء إذا لم يؤنس القزع

 بما ترى النّاس تأتينا سراتهم

من كلّ أرض هويّا ثم نصطنع

 __________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

٦٧٦

في أبيات (١).

فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم يا حسّان ، فأجبه. فقال حسّان (٢) :

إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم

قد بيّنوا سنّة للنّاس (٣) تتّبع

 يرضى بها كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع

 قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا في أشياعهم نفعوا

 سجيّة تلك منهم غير محدثة

إنّ الخلائق ، فاعلم ، شرّها البدع

في أبيات (٤).

فقال الأقرع بن حابس : وأبى ، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له إنّ خطيبه أفصح من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا.

قال : فلما فرغ القوم أسلموا ، وأحسن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوائزهم. وفيهم نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥) (٦).

وقال سليمان بن حرب ، ثنا حمّاد بن زيد ، عن محمد بن الزّبير الحنظليّ ، قال :

قدم على النبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الزّبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم ، وعمرو بن الأهتم. فقال لعمرو بن الأهتم : أخبرني عن هذا الزّبرقان ، فأمّا هذا فلست أسألك عنه. قال : وأراه قال قد عرف قيسا. فقال : مطاع في أدنيه (٧) ، شديد

__________________

(١) انظر بقيتها في سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٤ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١١٧.

(٢) ديوانه : ص ٢٤٨ البرقوقي ، ٢٣٨ د. حنفي.

(٣) في الأصل «سنة الله». والتصويب من ع ، ح.

(٤) انظر بقيّتها في سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٥ وتاريخ الطبري ٣ / ١١٨.

(٥) سورة الحجرات ، الآية ٤.

(٦) حتى هنا تنتهي رواية ابن إسحاق التي ينقلها المؤلّف من سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١١٦ ـ ١١٩ ، وانظر : طبقات ابن سعد ١ / ٢٩٤.

(٧) رسمت في النسخ الثلاث بغير إعجام. وهي في ابن الملا : «مطاع في قومه» وأثبتنا عبارة الروض الأنف (٤ / ٢٢٣).

٦٧٧

العارضة ، مانع لما وراء ظهره. فقال الزّبرقان : قد قال ما قال وهو يعلم أنّي أفضل مما قال. فقال عمرو : ما علمتك (١) إلّا زمر المروءة (٢) ضيّق العطن ، أحمق الأرب ، لئيم الخال.

ثم [١٢٤ أ] قال : يا رسول الله ، قد صدقت فيهما جميعا ، أرضاني فقلت بأحسن ما أعلم ، وأسخطني فقلت بأسوا ما فيه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من البيان سحرا» (٣).

وقد روى نحوه عليّ بن حرب الطائيّ ، عن أبي سعيد الهيثم بن محفوظ ، عن أبي المقوّم الأنصاريّ يحيى بن زيد ، عن الحكم بن عيينة ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، متّصلا.

[وفد بني عامر]

وقال مسلم بن إبراهيم ، ثنا الأسود بن شيبان ، ثنا أبو بكر بن ثمامة بن النعمان الرّابسيّ ، عن يزيد بن عبد الله بن الشّخّير ، قال :

وفد أبي وفد بني عامر (٤) إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أنت سيّدنا وذو الطّول علينا. فقال : «مه مه ، قولوا بقولكم ولا يستجرئنّكم الشيطان ، السيّد الله ، السيّد الله» (٥).

وقال الزّبير بن بكّار : حدّثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن مؤمّلة ، عن أبيها ، عن جدّها مؤمّلة بن جميل ، قال :

أتى عامر بن الطّفيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا عامر ، أسلم. قال : أسلم

__________________

(١) في الأصل : «وما عليك». والتصحيح من ع ، ح.

(٢) زمر المروءة : قليلها.

(٣) انظر الروض الأنف ٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٤) بنو عامر بن صعصعة : بطن من هوازن ، من قيس بن عيلان ، من العدنانية ، كانت منازلهم بنجد ، ثم نزلوا ناحية من الطائف (معجم قبائل العرب ٢ / ٧٠٨).

(٥) أخرج الإمام أحمد نحوه في المسند من طرق مختلفة. انظر ج ٤ / ٢٥٤.

٦٧٨

على أنّ الوبر لي والمدر لك (١). قال : يا عامر أسلم. فأعاد قوله. قال : لا. فولّى وهو يقول : يا محمد ، لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ، ولأربطنّ بكلّ نخلة فرسا. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ اكفني عامرا واهْدِ قَوْمَه». فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها سلوليّة ، فنزل عن فرسه ونام في بيتها ، فأخذته غدّة في حلقه ، فوثب على فرسه ، وأخذ رمحه ، وأقبل يجول ، ويقول : غدّة كغدّة البكر ، وموت في بيت سلولية. فلم تزل تلك حاله حتى سقط ميّتا (٢).

وقال ابن إسحاق (٣) :

قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد بني عامر ، فيهم : عامر بن الطّفيل. وأربد ابن قيس ، وخالد بن جعفر ، وحيّان بن سلم ، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم. فقدم عامر عدوّ الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يريد أن يغدر به. فقال له قومه : إنّ الناس قد أسلموا. فقال : قد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال لأربد : إذ قدمنا عليه فإنّي شاغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.

فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عامر : يا محمد ، خالّني (٤). فقال : لا والله ، حتى تؤمن بالله وحده ، فقال : والله لأملأنّها عليك خيلا ، ورجالا. فلما ولّى قال : «اللهمّ اكفني عامرا». ثم قال لأربد : أين ما أمرتك به؟ قال : لا أبا لك ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرّة إلّا دخلت بيني وبينه ،

__________________

(١) الوبر : وبر الإبل كنى به عن البوادي لأن بيوتهم يتخذونها منه. والمدر : قطع الطين اليابس ، ويعني به المدن أو الحضر.

(٢) انظر : الشعر والشعراء لابن قتيبة ١ / ٢٥٢ ومجمع الأمثال للميداني ٢ / ٣ ، وفصل المقال للمامقاني ٢٩٨ ، وإمتاع الأسماع للمقريزي ٥٠٧ ، وعيون الأثر لابن سيد الناس ٢ / ٢٣٢ ، وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٧.

(٣) الخبر في سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٤) خالّه وخالله : اتخذه خليلا.

٦٧٩

أفأضربك بالسّيف؟ فبعث الله ببعض الطريق على عامر الطّاعون في عنقه ، فقتله الله في بيت امرأة من سلول. وأما الآخر فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما.

وقال همّام ، عن إسحاق ، بن عبد الله بن أبي طلحة ، حدّثني أنس ، قال : كان رئيس المشركين عامر بن الطفيل ، وكان أتى رسول الله صلى الله [١٢٤ ب] عليه وسلم فقال : أخيّرك بين ثلاث خصال ، فيكون لك أهل السّهل ويكون لي أهل المدر ، أو أكون خليفتك من بعدك ، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء.

قال : فطعن في بيت امرأة. فقال : غدّة كغدّة البكر في بيت امرأة من بني فلان ، ائتوني بفرسي. فركب فمات على ظهر فرسه. أخرجه البخاري (١).

* * *

[وافد بني سعد]

وقال ابن إسحاق (٢) ، عن محمد بن الوليد ، عن كريب ، عن ابن عباس : بعثت بنو سعد بن بكر (٣) ، ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان جلدا أشعر غدا غديرتين ، فأقبل حتّى (٤) وقف فقال : أيّكم ابن عبد المطّلب؟ فقال : أنا. فقال : أنت محمد؟ قال : «نعم». قال : إنّي سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدنّ في نفسك. أنشدك الله إلهك وإله من

__________________

(١) في كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل ، والقارة إلخ. (٥ / ٤٠).

(٢) الخبر في سيرة هشام ٤ / ٢٠٩ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٢٤ ـ ١٢٥ وانظر طبقات ابن سعد ١ / ٢٩٩.

(٣) بنو سعد بن بكر : بطن من هوازن ، من قيس بن عيلان ، من العدنانية ، وهم حضنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (معجم قبائل العرب ٢ / ٥١٣) ، وإليهم تنسب السيدة حليمة السعدية.

(٤) في الأصل : «حين». والتصحيح من ع ، ح.

٦٨٠