تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

قال البكّائي : قال ابن إسحاق : فلما أصبح الناس ، يعني من يوم الحجر ، ولا ماء معهم ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل الله سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس (١).

فحدّثني عاصم ، قال : قلت لمحمود بن لبيد : هل كان الناس يعرفون النّفاق فيهم؟ قال : نعم والله ، لقد أخبرني رجال من قومي ، عن رجل من المنافقين ، لمّا كان من أمر الحجر ما كان ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعا فأرسل الله السحابة ، فأمطرت. قالوا : أقبلنا عليه نقول : ويحك ، له بعد هذا شيء؟ قال : سحابة سائرة (٢).

قال ابن إسحاق : ثم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سار ، فضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها. وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أصحابه يقال له عمارة بن حزم ، وكان عقبيّا بدريّا. وكان في رحله زيد بن اللّصيت (٣) القينقاعيّ وكان منافقا. فقال زيد ، وهو في رحل عمارة : أليس يزعم محمد أنه نبيّ ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمارة عنده : «إنّ رجلا قال كذا وكذا. وإنّي والله ما أعلم إلا ما علّمني الله. وقد دلّني الله عليها ، وهي في هذا الوادي في شعب كذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها». فذهبوا فجاءوا بها. فذهب عمارة إلى رحله فقال : والله عجب من شيء حدّثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آنفا ، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا ، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ، ولم يحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زيد ، والله ، قال هذه المقالة قبل أن يأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في (٤) عنقه ، ويقول : أي عباد الله ، إنّ في رحلي لداهية وما أشعر. أخرج أي عدوّ الله من رحلي.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٧٦.

(٢) السيرة ٤ / ١٧٦.

(٣) في الأصل «زيد بن الصليت» ، وهو تحريف ، والتصحيح من نسختي : (ع) و (ح).

(٤) في السيرة لابن هشام ٤ / ١٧٧ والمثبت يتّفق مع تاريخ الطبري ٣ / ١٠٦.

٦٤١

فزعم بعضهم أنّ زيدا تاب بعد ذلك.

* * *

قال ابن إسحاق : وقد كان رهط ، منهم وديعة بن ثابت ، ومخشّن (١) بن حميّر ، يشيرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشّن بن حميّر : والله لوددت أنّي أقاضى على أن يضرب كلّ منّا مائة جلدة ، وأنّا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما بلغني ، لعمّار بن ياسر : أدرك القوم ، فإنّهم قد اخترقوا (٢) ، فسلهم عمّا قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمّار ، فقال ذلك لهم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون. فقال وديعة بن ثابت : يا رسول الله ، إنّما كنّا نخوض ونلعب. فنزلت : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٣). فقال مخشّن بن حميّر : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الّذي عفي عنه في هذه [١١٦ ب] الآية مخشّن ، يعني (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) (٤). فتسمّى عبد الرحمن ، فسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه. فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر (٥).

__________________

(١) قال ابن هشام : ويقال مخشى ، وهو ما ورد في النسخة (ع).

وجاء في هامش نسخة (ح) : «وضبطه الأمير : مخشي بن حميّر الأشجعي». والأمير هو ابن ماكولا في كتابه الإكمال ٧ / ٢٢٨.

(٢) في الأصل ، وسيرة ابن هشام ٤ / ١٧٧ «احترقوا» بالحاء المهملة ، وفي تحقيق محمود محمد شاكر لإمتاع الأسماع للمقريزي ١ / ٤٥٣ أثبتها بالخاء المعجمة ، لأنها أجود وأبين. وقال :

الاختراق والاختلاق والافتراء والكذب ، وذلك من قوله تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ) (الأنعام ـ ١٠٠) أي اختلقوا كذبا وكفرا.

(٣) سورة التوبة ، الآية ٦٥.

(٤) سورة التوبة ، الآية ٦٥.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ١٧٧ ، ١٧٨ ، تاريخ الطبري ٣ / ١٠٨.

٦٤٢

ولما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، أتاه يحنّة بن رؤبة صاحب أيلة ، فصالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعطاه الجزية. وأتاه أهل جرباء وأذرح (١) فأعطوه الجزية. وكتب لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا ، فهو عندهم (٢).

[فائدة]

قال ابن إسحاق : أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل أيلة بردة مع كتابه ، فاشتراها منهم أبو العبّاس عبد الله بن محمد ـ يعني السّفّاح ـ بثلاثمائة دينار (٣).

وقال موسى بن عقبة ، قال ابن شهاب : بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوته تلك تبوكا ولم يتجاوزها. وأقام بضع عشرة ليلة ، يعني بتبوك (٤).

وقال يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن جابر ، قال : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصّلاة. أخرجه أبو داود (٥). وإسناده صحيح.

__________________

(١) جرباء : موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشأم. وأذرح من أعمال الشراة في أطراف الشأم ثم من نواحي البلقاء. وبين أذرح والجرباء ميل واحد وأقل (معجم البلدان) ٢ / ١١٨).

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٧٨ ، تاريخ الطبري ٣ / ١٠٨.

(٣) ما بين الحاصرتين ، من «فائدة» حتى هنا ليس في الأصل ، والمثبت من نسختي : (ع) و (ح).

(٤) تاريخ الطبري ٣ / ١٠٩.

(٥) في كتاب الصلاة (١٢٣٥) باب إذا أقام بأرض العدوّ يقصر.

٦٤٣
٦٤٤

بعث خالد بن الوليد الى أكيدر دومة (١)

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني عبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك ، رجل من كندة ، وكان ملكا على دومة (٢) وكان نصرانيّا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالد : إنك ستجده يصيد البقر. فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين في ليلة مقمرة صافية ، وهو على سطح ومعه امرأته ، [فأتت البقر تحكّ بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته] (٣) : هل رأيت مثل هذا قطّ؟ قال : لا والله. قالت : فمن يترك مثل هذا؟ قال : لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج ، وركب معه نفر من أهل بيته ، فيهم أخوه حسّان. فتلقّتهم (٤) خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذته وقتلوا أخاه. وقدموا به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحقن دمه وصالحه على الجزية ، وأطلقه (٥).

__________________

(١) العنوان ليس في الأصل.

(٢) دومة : هي دومة الجندل ، وقد سبق التعريف بها.

(٣) سقطت هذه الجملة من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح. وسيرة ابن هشام ٤ / ١٧٨.

(٤) في الأصل : «فلقيتهم» ، والمثبت من ع ، ح. والسيرة لابن هشام.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ١٧٨ ، وانظر المغازي للواقدي ٣ / ١٠٢٥ ، ١٠٢٦ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ١٦٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٠٩.

٦٤٥

[فائدة]

قال عبيد الله بن إياد بن لقيط ، عن أبيه ، عن قيس بن النّعمان السّكونيّ قال : خرجت خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع بها أكيدر ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بلغنا أن خيلك انطلقت فخفّت (١) على أرضي ، فاكتب لي كتابا فإنّي مقرّ بالذي عليّ. فكتب له. فأخرج قباء من ديباج ممّا كان كسرى يكسوهم ، فقال : يا محمد اقبل عنّي هذا هديّة. قال : «ارجع بقبائك فإنه ليس يلبس هذا أحد إلّا حرمه في الآخرة». فشقّ عليه أن ردّه. قال : «فادفعه إلى عمر». فأتى عمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أحدث فيّ أمر؟ فضحك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى وضع يده ، أو ثوبه ، على فيه ثم قال : «ما بعثت به إليك لتلبسه ، ولكن تبيعه وتستعين بثمنه] (٢).

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال (٣) : ولما توجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا إلى المدينة ، بعث خالدا في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة الجندل ، فلما عهد إليه عهده ، قال خالد : يا رسول الله ، كيف بدومة الجندل وفيها أكيدر ، وإنما نأتيها في عصابة من المسلمين؟ فقال : «لعلّ الله يكفيكه». فسار خالد ، حتى إذا دنا من دومة نزل في أدبارها. فبينما هو وأصحابه في منزلهم ليلا ، إذ أقبلت البقر حتى جعلت تحتك بباب الحصن ، وأكيدر يشرب ويتغنّى بين امرأتيه. فاطّلعت إحداهما فرأت البقر فقالت : لم أر كالليلة في اللّحم. فثار وركب فرسه ، وركب غلمته وأهله ، فطلبها. حتى مرّ بخالد وأصحابه فأخذوه ومن معه فأوثقوهم. ثم قال خالد لأكيدر : أرأيت إن أجرتك تفتح لي دومة؟ قال : نعم. فانطلق حتى دنا منها ، فثار أهلها وأرادوا أن يفتحوا له ، فأبى عليهم أخوه. فلما رأى ذلك قال لخالد : أيّها الرجل ،

__________________

(١) في النسخة (ح) : «فخفت» ، والمثبت عن نسخة (ع).

(٢) لم ترد هذه الفائدة في الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

(٣) الحديث ليس في المطبوع من مغازيه.

٦٤٦

حلّني (١) ، (١١٧ أ] فلك الله لأفتحنّها لك ، إنّ أخي لا يفتحها ما علم أنّي في وثاقك. فأطلقه خالد. فلما دخل أوثق أخاه وفتحها لخالد ، ثم قال : اصنع ما شئت. فدخل خالد وأصحابه. ثم قال : يا خالد ، إن شئت حكّمتك ، وإن شئت حكّمتني. فقال خالد : بل نقبل منك ما أعطيت. فأعطاهم ثمانمائة من السّبي وألف بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح (٢).

وأقبل خالد بأكيدر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقبل معه يحنّة بن رؤبة عظيم أيلة. فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشفق أن يبعث إليه كما بعث إلى أكيدر.

فاجتمعا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاضاهما على قضيّته ، على دومة وعلى تبوك وعلى أيلة وعلى تيماء ، وكتب لهم كتابا. ورجع قافلا إلى المدينة (٣).

ثم ذكر عروة قصّة في شأن جماعة من المنافقين (٤) همّوا بأذيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطلعه الله على كيدهم. وذكر بناء مسجد الضّرار (٥).

وقال ابن إسحاق ، عن ثقة من بني عمرو بن عوف : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل من تبوك حين نزل بذي أوان (٦) ، بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضّرار قد أتوه ، وهو يتجهّز إلى تبوك ، فقالوا : قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة ، وإنّا نحبّ أن تأتي فتصلّي لنا فيه. فقال : إنّي على جناح سفر ، فلو رجعنا إن شاء الله أتيناكم. فلما نزل

__________________

(١) في ع : «خلّني».

(٢) انظر السيرة النبويّة لابن كثير ٤ / ٣١ فهو مختصر عما هنا. وراجع المغازي للواقدي ٣ / ١٠٢٧ ففيه : «فصالحه على ألفي بعير» ، وكذا في طبقات ابن سعد ٢ / ١٦٦.

(٣) انظر المغازي للواقدي ٣ / ١٠٣١ وسيرة ابن هشام ٤ / ١٧٨.

(٤) في نسختي : (ع) و (ح) : «جماعة منافقين».

(٥) المغازي لعروة ٢٢١ وليس في المطبوع عن بناء مسجد الضرار ، وانظر السنن الكبرى للبيهقي ٩ / ٣٣.

(٦) ذو أوان ويقال : ذات أوان. موضع بطريق الشام ، (معجم البلدان ١ / ٢٧٥) على ساعة من المدينة. (وفاء ألوفا ٢ / ٢٥٠).

٦٤٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذي أوان ، أتاه خبر السماء ، فدعا مالك بن الدّخشم ومعن ابن عديّ فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدماه وأحرقاه. فخرجا سريعين حتى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا عنه. ونزل فيه من القرآن ما نزل (١).

وقال أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى الحرّانيّ (٢) : ثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختريّ ، عن حذيفة ، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقود به ، وعمّار يسوقه ، أو قال عمّار يقوده وأنا أسوقه ، حتى إذا كنا بالعقبة ، فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، فأنبهت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصرخ بهم فولّوا مدبرين. فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [هل] (٣) عرفتم القوم؟ قلنا : لا ، قد كانوا ملثّمين. قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، أرادوا أن يزحموني في العقبة لأقع. قلنا : يا رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كلّ قوم برأس صاحبهم؟ قال : لا ، أكره أن يتحدّث العرب أنّ محمدا قاتل بقوم حتّى إذا أظهره [الله] (٤) بهم أقبل عليهم فقتلهم. ثم قال : «اللهمّ ارمهم بالدّبيلة». قلنا : يا رسول الله ، وما الدّبيلة؟ قال : «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك» (٥).

وقال قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس بن عبّاد ، في حديث ذكره عن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٠ ، المغازي للواقدي ٣ / ١٠٤٥ ، ١٠٤٦ ، الطبري ٣ / ١١٠.

(٢) في الأصل «الخزاعي» ، وهو تصحيف ، والتصويب من نسختي (ع) و (ح) ، ومن ترجمته في تهذيب التهذيب ٦ / ٣٦٢.

(٣) ليست في أوصل ، أضفتها من نسختي : (ع) و (ح).

(٤) ليست في الأصل ، أضفتها من نسختي : (ع) و (ح).

(٥) أخرج مسلم نحوه في صفات المنافقين وأحكامهم (١٠ / ٢٧٧٩) قال غندر : أراه قال : «في أمّتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها ، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة. سراج من النار يظهر في أكتافهم. حتى ينجم من صدورهم».

٦٤٨

عمّار بن ياسر ، أنّ حذيفة حدّثه ، عن النّبيّ [١١٧ ب] صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فمنهم (١) ثمانية لا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط». أخرجه مسلم (٢).

وقال عبد الله بن صالح [المصريّ ، ثنا معاوية بن صالح] (٣) ، عن عليّ ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) (٤) ، قال : أناس بنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم واستمدّوا ما استطعتم من قوّة ومن سلاح ، فإنّي ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : نحبّ أن تصلّي فيه. فنزلت (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً). الآيات (٥).

* * *

وقال ابن عيينة ، عن الزّهري ، عن السّائب بن يزيد ، قال : أذكر أنّا ، حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك ، خرجنا مع الصبيان نتلقّاه إلى ثنيّة الوداع. أخرجه البخاري (٦).

وقال غير واحد ، عن حميد ، عن أنس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال : «إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد ، إلّا كانوا معكم فيه». قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة؟ قال : «نعم ، حبسهم العذر». أخرجه البخاري (٧).

__________________

(١) في الأصل «منهم» وما أثبتناه عن مسلم.

(٢) في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٩ / ٢٧٧٩) وفيه زيادة ، وأحمد ٤ / ٣٢٠.

(٣) ما بين الحاصرتين سقط من الأصل ، والمثبت من نسختي (ع) و (ح).

(٤) سورة التوبة ، الآية ١٠٧.

(٥) سورة التوبة ، الآية ١٠٨.

(٦) في كتاب المغازي (٥ / ١٣٦) باب كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر.

(٧) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير ، باب من حبسه العذر عن الغزو (٣ / ٢١٣). وكتاب المغازي ، باب حدثنا يحيى بن بكير ، بعد باب نزول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر (٥ / ١٣٦) ، وأحمد في المسند ٣ / ١٨٢.

٦٤٩
٦٥٠

أمر الّذين خلّفوا (١)

قال شعيب بن أبي حمزة ، عن الزّهري ، أخبرني سعيد بن المسيّب : أنّ بني قريظة كانوا حلفاء ، لأبي لبابة. فاطّلعوا إليه ، وهو يدعوهم إلى حكم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا لبابة ، أتأمرنا أن ننزل؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذّبح. فأخبر عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال له : لم ترعبني؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحسبت أنّ الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك؟» فلبث حينا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاتب عليه.

ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبوكا ، فتخلّف عنه أبو لبابة فيمن تخلّف. فلمّا قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه أبو لبابة يسلّم عليه ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ففزع أبو لبابة ، فارتبط بسارية التّوبة ، التي عند باب أم سلمة ، سبعا بين يوم وليلة ، في حرّ شديد ، لا يأكل فيهنّ ولا يشرب قطرة. وقال : لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ. فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصّوت من الجهد. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إليه بكرة وعشيّة. ثم تاب الله عليه فنودي : إنّ الله قد تاب عليك. فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليطلق عنه رباطه ، فأبى أن يطلقه عنه أحد إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجاءه فأطلق عنه بيده. فقال أبو

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٨٠.

٦٥١

لبابة حين أفاق : يا رسول الله ، إنّي أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذّنب ، وأنتقل إليك فأساكنك ، وإنّي أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله. فقال : «يجزئ عنك [١١٨ أ] الثّلث». فهجر دار قومه وتصدّق بثلث ماله ، ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلّا خير ، حتى فارق الدنيا. مرسل.

وقال ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) قال : هو أبو لبابة ، إذ قال لقريظة ما قال ، وأشار إلى حلقه بأنّ محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. وزعم محمد بن إسحاق أنّ ارتباطه كان حينئذ. ولعلّه ارتبط مرتين.

وقال عبد الله بن صالح : حدّثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) قال : كانوا عشرة رهط تخلّوا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. في غزوة تبوك. فلما حضر رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممرّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم. فلما رآهم قال : من هؤلاء؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلّفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم. قال : «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم ، حتّى يكون الله هو الّذي يطلقهم ، رغبوا عنّي وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين». فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الّذي يطلقنا. فأنزلت (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١) «عسى» من الله واجب (٢).

فلما نزلت ، أرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم. ونزلت ، إذ بذلوا أموالهم : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (٣). وروى نحوه عطية العوفيّ ، عن ابن عباس (٤).

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) واجب منه تعالى ، لا عليه سبحانه.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١٠٣.

(٤) السيرة لابن كثير ٤ / ٤٨ ، ٤٩.

٦٥٢

وقال عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أنّ أباه قال : سمعت كعبا يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك.

قال كعب : لم أتخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها قطّ ، إلّا في غزوة تبوك. غير أنّي تخلّفت عن غزوة بدر ، ولم يعاتب الله أحدا تخلّف عنها ، إنّما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يريد] (١) عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر : يعني أذكر في الناس منها.

كان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة. والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان حتى جمعتهما تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها. حتى كانت تلك الغزوة غزاها في حرّ شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوّا كثيرا : فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم (٢) ، وأخبرهم بوجهه الّذي كان يريد. والمسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ، يريد الديوان. [١١٨ ب] قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيّب إلّا ظنّ أنّه سيخفى [له] (٣) ما لم ينزل فيه وحي. وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال ، فأنا إليها أصعر (٤). [فتجهّز] (٥) والمسلمون معه.

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح. وسيرة ابن هشام ٤ / ١٨١.

(٢) في الأصل «عدوهم» والتصحيح من صحيح مسلم.

(٣) سقطت من الأصل. وأثبتناها من ع ، ح ، وهي في صحيح مسلم ، وسيرة ابن هشام.

(٤) أصعر : أميل. وجملة فأنا إليها أصعر تفرد بها الأصل ، ولم ترد في ع ، ح وهي في صحيح مسلم. وفي السيرة : «فالناس إليها أصعر».

(٥) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح. وصحيح مسلم ، والسيرة.

٦٥٣

وطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم ولم أقض شيئا. وأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردته. فلم يزل يتمادى بي الأمر حتى استمرّ بالناس الجدّ. فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا. فقلت : أتجهّز بعده يوما أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم (١) ، وليتني فعلت ، فلم يقدّر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس أحزنني أنّي لا أرى رجلا مغموصا (٢) من النفاق ، أو رجلا ممّن عذر الله من الضّعفاء. فلم يذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك ، [قال] (٣) وهو جالس في القوم : «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه والنّظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا.

فلما بلغني أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجّه قافلا من تبوك ، حضرني همّي فطفقت أتذكّر الكذب وأقول : بما ذا أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظلّ (٤) قادما زاح عنّي الباطل ، وعرفت أنّي لا أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه. وأصبح قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلّى فيه ركعتين ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر [لهم] (٥) ، ووكل سرائرهم إلى الله. فجئته فلمّا سلّمت عليه

__________________

(١) في الأصل : «وأدركهم». والمثبت من ع ، ح. وصحيح مسلم ، والسيرة.

(٢) مغموصا : أي متّهما.

(٣) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

(٤) في هامش ح : بمهملة : «أشرف» ، ومعجمة : دنا ، ومنه أظلكم شهر كذا.

(٥) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح. وصحيح مسلم.

٦٥٤

تبسّم تبسّم المغضب ثم قال : تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال : ما خلّفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ فقلت : بلى ، يا رسول الله ، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا. ولكن والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديثا كاذبا ترضى به [عنّي] (١) ليوشكنّ الله أن يسخط عليّ ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه ، إنّي لأرجو عفو الله. والله ما كان لي من عذر ، وو الله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمّا هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك.

فقمت ، وثار رجال من بني سلمة فقالوا : لا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، أعجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما اعتذر إليه المخلّفون ، قد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله (١١٩ أ] صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك. فو الله ما زالوا يؤنّبونني حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي. ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا : نعم ، رجلان قالا مثل ما قلت. ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت : من هما؟ فقالوا : مرارة بن الرّبيع (٢) العمريّ ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا ، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي.

ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلامنا أيّها الثّلاثة من بين من تخلّف عنه. واجتنبنا النّاس وتغيّروا لنا ، حتّى تنكّرت في نفسي الأرض فما هي الّتي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيتهما. وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ، فلا يكلّمني أحد. وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من (ع) و (ح) وصحيح مسلم.

(٢) في الأصل : «الرفيع». والتصحيح من ع ، ح وصحيح البخاري. وهو في مسلم : مرارة بن الربيعة العامري.

٦٥٥

في مجلسه بعد الصلاة فأسلّم عليه فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلّي فأسارقه النّظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي. حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين تسوّرت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمّي وأحبّ الناي إليّ ، فسلّمت عليه ، فو الله ما ردّ. فقلت : يا أبا قتادة ، أنشدك الله هل تعلم أنّي أحبّ الله ورسوله؟ [قال] (١) فسكت ، فعدت له فسكت ، فناشدته الثّالثة فقال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي. وتولّيت حتى تسوّرت الجدار.

قال : فبينا أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا نبطيّ من أنباط الشأم ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليّ. حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسّان ، وكنت كاتبا ، فإذا فيه : أمّا بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك. ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة. فالحق بنا نواسك. فقلت : وهذا أيضا من البلاء. فتيمّمت به التّنّور فسجرته به. حتى إذا مضى لنا أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت : أطلّقها أم ما ذا أفعل بها؟ فقال : لا ، بل اعتزلها فلا تقربنّها. وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.

قال كعب : فجاءت امرأة هلال رسول الله فقال : إنّ هلالا شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربنّك. قالت : إنّه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا. فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله في امرأتك؟ فقلت : لا والله ، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن استأذنته فيها ، وأنا

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح. وصحيح مسلم.

٦٥٦

[١١٩ ب] رجل شابّ. فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة. فلما أن صلّيت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة ، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا ، قد ضاقت عليّ نفسي ، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع : يا كعب بن مالك ، أبشر. فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء الفرج.

وآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوبة الله عليه ، حين صلّى صلاة الفجر. فذهب الناس يبشّروننا ، وذهب قبل صاحبيّ مبشّرون. وركض رجل إليّ فرسا ، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل ، وكان الصّوت أسرع إليّ من الفرس. فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني ، نزعت ثوبيّ وكسوتهما إيّاه ببشراه ، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتلقّاني الناس فوجا فوجا يهنّئوني بالتّوبة ، يقولون : ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني ، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها لطلحة. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبرق وجهه بالسّرور : «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك». قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : «لا ، بل من عند الله».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بشّر ببشارة يبرق وجهه كأنّه قطعة قمر ، وكنّا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله : إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى الرسول. قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك. فقلت : فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر. وقلت : يا رسول الله ، إنّ الله إنّما نجّاني بالصّدق ، وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت. فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين ابتلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن ممّا ابتلاني ، ما تعمّدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا ، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. وأنزل الله تعالى على رسوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى

٦٥٧

النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) إلى قوله : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١). فو اللهِ ما أنعم الله عليّ من نعمة ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإنّ الله تعالى قال للذين كذبوه ، حين نزل الوحي ، شرّ ما قال لأحد فقال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢).

قال كعب : وكنّا خلّفنا ـ أيّها الثّلاثة ـ عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خلفوا له ، وأرجأ أمرنا [١٢٠ أ] حتّى قضى الله فيه. فبذلك قال تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (٣) ، وليس الّذي ذكر الله تخلّفنا عن الغزو ، وإنّما هو تخليفه إيّانا [و] (٤) إرجاؤه أمرنا عمّن تخلّف واعتذر ، فقبل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. متّفق عليه (٥).

__________________

(١) سورة التوبة ، الآيات ١١٧ ـ ١١٩.

(٢) سورة التوبة ، الآيتان ٩٥ ، ٩٦.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١١٨.

(٤) سقطت من النسخ الثلاث ، وأثبتناها من الصحيحين.

(٥) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب حديث كعب بن مالك ، وقول الله عزوجل : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (٥ / ١٣٠) وصحيح مسلم : كتاب التوبة ، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (٣ / ٢٧٦٩) ، وابن هشام في السيرة ٤ / ١٨٠ ـ ١٨٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٥٤ و ٤٥٦ ـ ٤٦٠ و ٦ / ٣٨٧ ـ ٣٩٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٩ / ٤٢ وما بعدها رقم ٩٠ و ٩١ و ٩٥ ، وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٤٤).

٦٥٨

موت عبد الله بن أبيّ

قال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدّثني الزّهري ، عن عروة ، عن أسامة بن زيد ، قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن أبيّ يعوده في مرضه الّذي مات فيه ، فلما عرف فيه الموت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «[أما] (١) والله إن كنت لأنهاك عن حبّ يهود». فقال : قد أبغضهم أسعد بن زرارة ، فمه؟

وقال الواقديّ : مرض عبد الله بن أبيّ بن سلول في أواخر شوّال ، ومات في ذي القعدة. وكان مرضه عشرين ليلة (٢). فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوده فيها. فلما كان اليوم الّذي مات فيه. دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يجود بنفسه فقال : «قد نهيتك عن حبّ يهود». فقال : قد أبغضهم أسعد فما نفعه؟ ثم قال : يا رسول الله ، ليس هذا بحين عتاب. هو الموت ، فإن متّ فاحضر غسلي ، وأعطني قميصك أكفّن فيه ، وصلّ عليّ واستغفر لي (٣).

__________________

(١) ليست في الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ١٢٠.

(٣) قال ابن كثير في السيرة ٤ / ٦٥ : «وروى البيهقي من حديث سالم بن عجلان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوا مما ذكره الواقدي ، فالله أعلم». وانظر الخبر في المغازي للواقدي ٣ / ١٠٥٧.

٦٥٩

هذا حديث معضل واه ، لو أسنده الواقديّ لما نفع ، فكيف وهو بلا إسناد؟

وقال ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر عبد الله بن أبيّ بعد ما أدخل حفرته [فأمر به] (١) فأخرج ، فوضع على ركبتيه ، أو فخذيه ، فنفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. والله أعلم. متّفق عليه (٢).

وقال أبو أسامة ، وغيره : حدّثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما توفّي عبد الله بن أبيّ ، أتى ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفّنه فيه ، فأعطاه. ثم سأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي عليه ، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال : يا رسول الله ، أتصلّي عليه وقد نهاك الله عنه؟ قال : إنّ ربّي خيّرني ، فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣) ، وسأزيد على السبعين. فقال : إنّه منافق. قال : فصلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٤). متّفق عليه (٥).

* * *

وفيها : قتل عروة بن مسعود الثّقفيّ ، وكان سيّدا شريفا من عقلاء

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من نسختي (ع) و (ح).

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز (٢ / ٧٦) باب الكفن في القميص الّذي يكفّ أو لا يكفّ ، و (٢ / ٩٥) باب هل يخرج الميّت من القبر واللحد لعلّة؟ و (٧ / ٣٦) في اللباس ، باب ليس القميص وقول الله تعالى حكاية عن يوسف ... ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٢٧٧٣) ، والنسائي (٤ / ٣٧ ، ٣٨) في كتاب الجنائز ، باب القميص في الكفن ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٨١ ، والواقدي في المغازي ٣ / ١٠٥٧.

(٣) سورة التوبة ، الآية ٨٠.

(٤) سورة التوبة ، الآية ٨٤.

(٥) صحيح البخاري : كتاب الجنائز ، باب الكفن في القميص الّذي يكف أو لا يكف (٢ / ٧٦).

وصحيح مسلم : كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٢٧٧٤) ، وابن هشام في السيرة ٤ / ١٩١. وتفسير الطبري ١٨ / ٨٦ ـ ٨٧ ، وأسباب النزول للواحدي ٣٣٠ ـ ٣٣٦ ، والواقدي ٣ / ١٠٥٨.

٦٦٠