شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي
المحقق: الدكتور عمر عبدالسلام تدمري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢١
وقال شعيب ، وغيره ، عن الزهري ، حدّثني أنس ، أنّ ناسا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ، حين أفاء الله عليهم من أموال هوازن ما أفاءه ، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشا ويدعنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فجمعهم في قبّة من أدم ، ولم يدع معهم أحدا غيرهم. فلما اجتمعوا قال : ما حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم : أمّا ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا. فقال : «فإنّي أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به». قالوا : قد رضينا. فقال : «إنكم ستجدون بعدي أثرة (١) شديدة ، فاصبروا (٢) حتى تلقوا الله ، ورسوله على الحوض». قال أنس : فلم نصبر. متّفق عليه (٣).
وقال ابن إسحاق : حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد ، قال : لما قسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمتألّفين من قريش ، وفي سائر العرب ، ولم يكن في الأنصار [منها] (٤) قليل ولا كثير ، وجدوا في أنفسهم. وذكر نحو حديث أنس (٥).
وقال ابن عيينة ، عن عمر بن سعيد بن مسروق ، عن أبيه ، عن عباية بن رفاعة بن (٦) رافع بن خديج ، عن جدّه ، أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعطى المؤلّفة
__________________
(١) الأثرة : الاستئثار والانفراد بالشيء. والمقصود هنا استئثار أمراء الجور بالفيء.
(٢) في الأصل : «فاصطبروا». والمثبت عن ع ، ح.
(٣) صحيح البخاري : كتاب فرض الخمس ، باب ما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يعطي المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (٤ / ١١٤ ـ ١١٥). وصحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام إلخ (١٣٢ / ١٠٥٩).
(٤) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.
(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٣.
(٦) في النسخ الثلاث : «أن» وفي صحيح مسلم : عن ، دون جملة «عن جده». والمثبت موافق لما في المغازي لعروة ٢١٨.
قلوبهم من سبي حنين ، كل رجل منهم مائة من الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة ، وأعطى صفوان بن أميّة مائة. وأعطى عيينة بن حصن مائة ، وأعطى الأقرع بن حابس مائة ، وأعطى علقمة بن علاثة مائة ، وأعطى مالك ابن عوف النّصريّ مائة ، وأعطى العبّاس بن مرداس دون المائة.
فأنشأ العبّاس يقول :
أتجعل نهبي ونهب العبيـ |
|
د (١) بين عيينة والأقرع |
وما كان حصن ولا حابس |
|
يفوقان مرداس في المجمع |
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ (٢) |
|
فلم أعط شيئا ولم أمنع |
وما كنت دون امرئ منهما |
|
ومن تضع اليوم لا يرفع |
فأتمّ له مائة. أخرجه مسلم (٣) ، دون ذكر مالك بن عوف ، وعلقمة ، [و] (٤) دون البيت الثالث (٥).
وقال عثمان بن عطاء الخراسانيّ ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعطى المؤلّفة قلوبهم : أبا سفيان ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن هشام المخزوميّ ، وصفوان بن أميّة الجمحيّ ، وحويطب ابن عبد العزّى العامريّ ، أعطى كلّ واحد مائة ناقة. وأعطى قيس بن عديّ السّهميّ خمسين ناقة ، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين. فهؤلاء من أعطى من قريش.
__________________
(١) العبيد : اسم فرس العباس بن مرداس.
(٢) ذو تدرأ : ذو منعة وقوة على دفع أعدائه عن نفسه.
(٣) في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام إلخ (١٣٧ / ١٠٦٠).
(٤) سقطت من الأصل ، ع. وأثبتناها من ح.
(٥) انظر : سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٤ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٤٦ ، ٩٤٧ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٩٠ ، ٩١ ، ونهاية الأرب ، ١٧ / ٣٣٩ ، ٣٤٠ والمغازي لعروة وغيره ، ففيها أبيات أكثر ، مع اختلاف في الألفاظ.
وأعطى العلاء [١٠٨ ب] بن حارثة مائة ناقة ، وأعطى مالك بن عوف مائة ناقة ، وردّ إليه أهله ، وأعطى عيينة بن بدر الفزاريّ مائة ناقة ، وأعطى عبّاس بن مرداس كسوة.
فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول للأنصار : قد كنت أخبركم أنّكم ستلون حرّها ويلي بردها غيركم. فتكلّمت الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، عمّ هذه الأثرة؟ فقال : «يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم مفترقين فجمعكم الله ، وضلّالا فهداكم الله ، ومخذولين فنصركم الله». ثم قال : «والّذي نفسي بيده ، لو (١) تشاءون لقلتم ثم لصدقتم ولصدّقتم : ألم نجدك مكذّبا فصدّقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، ومحتاجا فواسيناك». قالوا : لا نقول ذلك ، إنّما الفضل من الله ورسوله والنصر من الله ورسوله. ولكنّا أحببنا أن نعلم فيم هذه الأثرة؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قوم حديثو عهد بعزّ وملك ، فأصابتهم نكبة فضعضعتهم ولم يفقهوا كيف الإيمان ، فأتألّفهم. حتى إذا علموا كيف الإيمان وفقهوا فيه علّمتهم (٢) كيف القسم وأين موضعه». وساق باقي الحديث (٣).
وقال جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : لمّا كان يوم حنين آثر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ناسا في القسمة ، فأعطى الأقرع مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ ، فقال رجل : والله إنّ هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت : والله لأخبرنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فأتيته فأخبرته ، فتغيّر وجهه حتى صار كالصّرف (٤) ، وقال : «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟» ثم قال :
__________________
(١) في الأصل «لقد» والتصحيح من نسختي (ع) و (ح).
(٢) في ع ، ح : علمتم.
(٣) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، ١٥٧ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٥٧ ، ٩٥٨ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٩٣ ، ٩٤ ، والمغازي لعروة ٢١٩ ، وفتح الباري ٨ / ٥١.
(٤) الصرف : صبغ أحمر يشبه به الدم فيقال دم صرف.
«يرحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». فقلت : لا جرم لا أرفع إليه بعد هذا حديثا. متّفق عليه (١).
وقال اللّيث ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أتى رجل بالجعرانة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو يقسم غنائم منصرفه من حنين ، وفي ثوب بلال فضّة ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال : يا محمد ، اعدل. فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر : دعني أقتل هذا المنافق. قال : «معاذ الله ، أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي ، إنّ هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة». أخرجه مسلم (٢).
وقال شعيب ، عن الزّهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : بينا نحن عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقسم قسما ، إذ أتاه ذو الخويصرة التّميميّ فقال : يا رسول الله اعدل. فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل». فقال عمر : ائذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه. قال : «دعه ، فإنّ له أصحابا يحقر [١٠٩ أ] أحدكم (٣) صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة» وذكر الحديث. أخرجه البخاري (٤).
وقال عقيل ، عن ابن شهاب ، قال عروة : أخبرني مروان ، والمسور بن
__________________
(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الطائف (٥ / ١٠٦). وصحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام (١٤٠ / ١٠٦٢) واللفظ له.
(٢) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. (١٤٢ / ١٠٦٣) وأخرجه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجة ، والدارميّ ، ومالك ، والإمام أحمد ، في مواضع كثيرة. (انظر : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ٦ / ٢٠٤).
(٣) في الأصل : «أحدهم». والتصحيح من ع ، ح.
(٤) صحيح البخاري : كتاب استتابة المرتدّين والمعاندين وقتالهم ، باب من ترك قتال الخوارج للتأليف (٩ / ٢١ ـ ٢٢) ، وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٤٨.
مخرمة : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه (١) أن يردّ إليهم أموالهم ونساءهم. فقال : «معي من ترون ، وأحبّ الحديث إليّ أصدقه. فاختاروا إمّا السّبي ، وإمّا المال ، وقد كنت استأنيت بكم». وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم انتظرهم تسع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. فلما تبيّن لهم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم غير رادّ إليهم إلّا إحدى الطّائفتين ، قالوا : إنّا نختار سبينا. فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين ، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. فمن أحبّ [منكم أن يطيّب ذلك فليفعل ، ومن أحبّ] (٢) منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيه إيّاه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل». فقال الناس : قد طيّبنا ذلك يا رسول الله لهم. فقال : «إنّا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممّن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم». فرجع الناس فكلّمهم (٣) عرفاؤهم. ثم رجعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبروه الخبر بأنهم قد طيّبوا وأذنوا. أخرجه خ (٤).
وقال موسى بن عقبة : ثم انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الطائف إلى الجعرانة ، وبها السّبي ، وقدمت عليه وفود هوازن مسلمين ، فيهم تسعة من أشرافهم فأسلموا وبايعوا. ثم كلّموه فيمن أصيب قالوا : يا رسول الله. إنّ فيمن أصبتم الأمّهات والأخوات والعمّات والخالات ، وهنّ مخازي (٥) الأقوام. ونرغب إلى الله وإليك. وكان صلىاللهعليهوسلم رحيما جوادا كريما. فقال :
__________________
(١) في الأصل : «يسألوه». والتصحيح من صحيح البخاري.
(٢) سقطت هذه الجملة من الأصل ، ع وأثبتناها من (ح).
(٣) في الأصل : «وكلمهم». والمثبت عن (ح) وصحيح البخاري.
(٤) في كتاب فرض الخمس ، باب ومن الدليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين إلخ. (٤ / ١٠٨ ـ ١٠٩). وكتاب المغازي ، باب قول الله تعالى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) (٥ / ١٩٥ ـ ١٩٦). وأبو داود في كتاب الجهاد (٢٦٩٣) باب في فداء الأسير بالمال ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٢٧.
(٥) في الأصل : «مجاري». والمثبت من (ح). وفي (ع) : «محارم». وهي جيّدة.
سأطلب لكم ذلك. قال : في القصة (١).
وقال ابن شهاب : حدّثني سعيد بن المسيّب ، وعروة : أنّ سبي هوازن كانوا ستة آلاف (٢).
وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدّثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : كنّا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحنين ، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم ، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا. فقالوا : يا رسول الله ، إنّا (٣) أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا ، منّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد. فقال : يا رسول الله : إنّما في الحظائر من السّبايا خالاتك وعمّاتك وحواضنك اللّاتي كنّ يكفلنك ، فلو أنّا ملحنا (٤) [للحارث] (٥) بن أبي شمر ، أو النّعمان بن المنذر ، ثم أصابنا منهما مثل الّذي أصابنا منك ، رجونا عائدتهما (٦) وعطفهما ، وأنت خير المكفولين. ثم [١٠٩ ب] أنشده أبياتا قالها :
امنن علينا رسول الله في كرم |
|
فإنّك المرء نرجوه وندّخر |
امنن على بيضة إعتاقها حزن (٧) |
|
ممزّق شملها في دهرها غير |
أبقت لها الحرب هتّافا على حزن |
|
على قلوبهم الغمّاء والغمر |
__________________
(١) القصة في المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٠ ، ٩٥١.
(٢) الحديث في الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٥٥.
(٣) في النسخ الثلاث «لنا» وأثبتنا لفظ ابن هشام ٤ / ١٥٢.
(٤) في الأصل «ملنحا» ، وهو تحريف ، تصحيحه من (ع) و (ح) وفي النسخة الأخيرة فسّرها في الهامش بقوله : «أي أرضعنا». والملح : الرضاع : (النهاية في غريب الحديث ٤ / ١٠٥).
وانظر السيرة لابن هشام ٤ / ١٥٢ وفيه أيضا : «ويروى : ولو أنّا مالحنا».
(٥) سقطت من النسخ الثلاث ، والاستدراك من سيرة ابن هشام.
(٦) في الأصل : «عائدهما». والمثبت من ع ، ح ، والمغازي للواقدي ٤ / ٩٥٠ والعائدة : المعروف والصلة والفضل. (شرح أبي ذر ـ ص ٤١١).
(٧) في الأصل ، ع : حزز. والمثبت عن النسخة (ح). وفي المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٠ «امنن على نسوة قد عاقها قدر» وفي الروض الأنف ٤ / ١٦٦ «امنن على بيضة قد عاقها قدر».
إن لم تداركهم (١) نعماء تنشرها |
|
يا أرجح النّاس حلما (٢) حين يختبر |
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
|
إذ فوك يملؤه من محضها درر (٣) |
امنن على نسوة قد كنت ترضعها |
|
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر |
لا تجعلنّا كمن شالت نعامته (٤) |
|
واستبق منّا ، فإنّا معشر زهر |
إنّا لنشكر آلاء وإن كفرت (٥) |
|
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» فقالوا : خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا ، أبناؤنا ونساؤنا أحبّ إلينا. فقال : «أما ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم ، وإذا أنا صلّيت بالناس فقوموا وقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله ، في أبنائنا ونسائنا ، سأعينكم عند ذلك وأسأل لكم». فلما صلّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالناس الظّهر ، قاموا فقالوا ما أمرهم به ، فقال : «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم». فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله. قالت الأنصار كذلك. فقال الأقرع بن حابس : أمّا أنا وبنو تميم فلا. فقال العبّاس بن مرداس السّلميّ : أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم : بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال عيينة بن بدر (٦) : أما أنا وبنو فزارة فلا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستّ فرائض (٧) من أوّل فيء نصيبه».
__________________
(١) في المغازي للواقدي «ألا تداركها». والمثبت يتفق مع الروض الأنف.
(٢) في المغازي «حتى» ، والمثبت يتفق مع الروض الأنف.
(٣) أي الدفعات الكثيرة من اللبن. (السيرة الحلبية ٢ / ٢٥٠) ، وانظر اختلافا يسيرا في البيت عند الواقدي والسهيليّ عما هنا.
(٤) شالت نعامته : أي تفرّقت كلمتهم. أو ذهب عزّهم. (القاموس المحيط ٣ / ٤٠٤)
(٥) في المغازي «وإن قدمت».
(٦) في المغازي للواقدي ٣ / ٩٥١ «عيينة بن حصن».
(٧) الفرائض : جمع فريضة ، وهو البعير المأخوذ في الزكاة ، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال.
فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم (١).
ثم ركب رسول الله صلىاللهعليهوسلم واتّبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا ، حتى اضطرّوه إلى شجرة فانتزعت عنه رداءه فقال :
«ردّوا عليّ ردائي ، فو الّذي نفسي بيده لو كان لكم عدد شجر تهامة [نعما] (٢) لقسمته عليكم ، ثم ما لقيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا». ثم قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه وقال : «أيّها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم. فأدّوا الخياط والمخيط (٣) ، فإن الغلول (٤) عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة». فجاء رجل من الأنصار بكبّة (٥) من خيوط شعر فقال : أخذت [١١٠ أ] هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر (٦). فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما حقّي منها فلك». فقال الرجل : أمّا إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها. فرمى بها (٧).
وقال أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنّ عمر سأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو بالجعرانة. فقال : إنّي نذرت في الجاهليّة أن أعتكف يوما في المسجد الحرام. قال : «اذهب فاعتكف». وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أعطاه جارية من الخمس. فلما أن أعتق رسول الله صلىاللهعليهوسلم سبايا الناس ، قال عمر : يا عبد الله ، اذهب إلى تلك الجارية فخلّ سبيلها. أخرجه مسلم (٨).
__________________
(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٢ وانظر المغازي للواقدي ٣ / ٩٥١ ، ٩٥٢ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٨٧.
(٢) زيادة من (ح) وابن هشام.
(٣) الخياط : الخيط ، والمخيط : الإبرة.
(٤) الغلول : الخيانة في المغنم والسرقة وكل من خان في شيء خفية فقد غلّ.
(٥) الكبّة : من الغزل أو الشعر ما جمع على شكل كرة أو أسطوانة.
(٦) الدبر : قروح تصيب ظهر البعير أو خفه ، فهو دبر وأدبر.
(٧) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، تاريخ الطبري ٣ / ٨٩ ، ٩٠.
(٨) صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم (٢٨ / ١٦٥٦).
وقال ابن إسحاق (١) : حدّثني أبو وجزة السعديّ : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعطى من سبي هوازن عليّ بن أبي طالب جارية ، وأعطى عثمان وعمر ، فوهبها عمر لابنه.
قال ابن إسحاق (٢) : فحدّثني نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدّون ، فقلت : ما شأنكم؟ فقالوا : ردّ علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءنا وأبناءنا. فقلت : دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح فانطلقوا فأخذوها.
قال ابن إسحاق (٣) : وحدّثني أبو وجزة يزيد بن عبيد : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لوفد هوازن : «ما فعل مالك بن عوف؟» قالوا : هو بالطائف. فقال : «أخبروه أنّه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله ، وأعطيته مائة من الإبل».
فأتي مالك بذلك ، فخرج إليه من الطائف. وقد كان مالك خاف من ثقيف على نفسه من قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فأمر براحلة فهيّئت ، وأمر بفرس له فأتي به ، فخرج ليلا ولحق برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأدركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. فقال :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله |
|
وفي النّاس كلّهم بمثل محمّد |
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي (٤) |
|
وإذا تشاء يخبرك عمّا في غد |
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها |
|
أمّ العدي فيها بكلّ مهنّد (٥) |
فكأنّه ليث لدى أشباله |
|
وسط المباءة خادر (٦) في مرصد |
__________________
(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٢ ، ١٥٣.
(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣.
(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣.
(٤) اجتدى : سئل الجدا أو الجدوى ، وهي العطية.
(٥) عردت أنيابها : غلظت واشتدت. المهند : السيد المصنوع من حديد الهند.
(٦) المباءة (وقد وردت في النسخ الثلاث) : المنزل وكناس الثور الوحشي. ولعلّها استعملت هنا
فاستعمله النبيّ صلىاللهعليهوسلم على من أسلم من قومه ، وتلك القبائل من ثمالة وسلمة وفهم (١) ، كان يقاتل بهم ثقيفا ، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى يصيبه (٢).
قال ابن عساكر : شهد مالك بن عوف فتح دمشق. وله بها دار (٣).
* * *
وقال أبو عاصم : ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان ، أخبرني عمّي عمارة بن ثوبان ، أن أبا الطّفيل أخبره قال : كنت غلاما أحمل عضو البعير ، ورأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم لحما بالجعرانة ، فجاءته امرأة فبسط لها رداءه. فقلت : من هذه؟ قالوا : أمّه التي أرضعته.
وروى الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة قال : لمّا كان يوم فتح هوازن جاءت امرأة [١١٠ ب] إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالت : أنا أختك شيماء بنت الحارث. قال : «إن تكوني صادقة فإنّ بك منّي أثرا لن يبلى». قال : فكشفت عن عضدها. ثم قالت : نعم يا رسول الله ، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضّة. فبسط لها رداءه ثم قال : «سلي تعطي ، واشفعي تشفّعي» (٤). الحكم ضعّفه ابن معين (٥).
__________________
= بمعنى العرين. ورواية ابن هشام والواقدي : الهباءة ، وهي الغبارة يثور عند اشتداد الحرب. خادر : مقيم في عرينه.
(١) ثمالة وسلمة وفهم : بطون من الأزد من القحطانية.
(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٥٥ ، ٩٥٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٨٩.
(٣) في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (٢ / ١٣٥) : الدار التي على شارع دار البطيخ الكبير التي فيها البناء القديم تعرف بدار بني نصر ، كانت كنيسة للنصارى فنزلها مالك بن عوف النصري أول ما فتحت دمشق فعرفت به.
(٤) ينظر عن شيماء : الاستيعاب ٤ / ٣٤٤ ، وأسد الغابة ٥ / ٤٨٩ ، والإصابة ٤ / ٣٤٤ رقم (٦٣٣).
(٥) قال فيه : ليس بشيء. (التاريخ ٢ / ١٢٥ رقم ١٣٣٢).
عمرة الجعرانة
قال همّام ، عن قتادة ، عن أنس : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم اعتمر أربع عمر كلّهنّ في ذي القعدة ، إلّا التي مع حجّته : عمرة زمن الحديبيّة ـ أو من الحديبيّة ـ في ذي القعدة ، وعمرة ، أظنّه قال (١) ، العام المقبل ، وعمرة من الجعرّانة ، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجّته. متّفق عليه (٢).
وقال موسى بن عقبة ، وهو في «مغازي عروة» (٣) : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهلّ بالعمرة من الجعرّانة في ذي القعدة ، فقدم مكة فقضى عمرته. وكان حين خرج إلى حنين استخلف معاذا على مكة ، وأمره أن يعلّمهم القرآن ويفقّههم في الدين. ثم صدر إلى المدينة وخلّف معاذا على أهل مكة (٤).
__________________
(١) في الأصل ، «قال أظنه». وهو سبق قلم تصحيحه من ع ، ح والصحيحين.
(٢) صحيح البخاري : كتاب الحج ، أبواب العمرة ، باب كم اعتمر النبي صلىاللهعليهوسلم (٣ / ٣). وصحيح مسلم : كتاب الحج ، باب بيان عدد عمر النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وزمانهن (٢١٧ / ١٢٥٣). وأبو داود في الحج (١٩٩٤) باب العمر. والترمذي في الحج (٨١٤) باب ما جاءكم اعتمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وابن ماجة في المناسك (٣٠٠٣) باب كم اعتمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وأحمد في المسند ١ / ٢٤٦ و ٣٢١ و ٢ / ١٣٩ و ٣ / ١٣٤ و ٢٥٦ و ٤ / ٢٩٧.
(٣) في الأصل «غزوة» والتصحيح من (ع) ، و (ح).
(٤) أول الحديث غير موجود في المطبوع من مغازي عروة ، انظر ص ٢١٣ ، وأخرجه الحاكم في
وقال ابن إسحاق (١) : ثم سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجعرانة معتمرا. وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنّة (٢). فلما فرغ من عمرته انصرف إلى المدينة ، واستخلف عتّاب بن أسيد على مكة ، وخلّف معه معاذا يفقّه الناس.
قلت : ولم يزل عتّاب على مكة إلى أن مات بها يوم وفاة أبي بكر. وهو عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة الأمويّ. فبلغنا أنّ النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قال له : يا عتّاب ، تدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله ، ولو أعلم لهم خيرا منك استعملته عليهم. وكان عمره إذ ذاك نيّفا وعشرين سنة ، وكان رجلا صالحا. روي عنه أنه قال : أصبت في عملي هذا بردين معقّدين كسوتهما غلامي ، فلا يقولنّ أحدكم أخذ منّي عتّاب كذا ، فقد رزقني رسول الله صلىاللهعليهوسلم كلّ يوم درهمين ، فلا أشبع الله بطنا لا يشبعه كلّ يوم درهمان (٣).
__________________
= المستدرك على الصحيحين ٣ / ٢٧٠.
(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٤.
(٢) مجنّة : بالفتح وتشديد النون. بمرّ الظهران أسفل مكة. (معجم البلدان ٥ / ٥٨).
(٣) انظر عن عتّاب بن أسيد : طبقات ابن سعد ٥ / ٤٤٦ ، طبقات خليفة ١١ و ٢٧٧ ، تاريخ خليفة ٨٧ و ٨٨ و ٩٢ و ٩٧ و ١١٧ و ١٢٣. المحبّر لابن حبيب ١١ و ١٢ و ١٢٦ و ١٢٧ و ٢٥٨ ، فتوح البلدان للبلاذري ٤٦ و ٦٣ و ٦٦ ، أنساب الأشراف له ١ / ٣٠٣ ، ٣٠٣ و ٣٦٤ ، ٣٦٥ ، ٣٦٨ ، ٥٢٩ ، نسب قريش لمصعب ١٨٧ و ٣١٢ و ٤١٨ ، أخبار مكة للأزرقي ١ / ٢٨٥ و ٢ / ١٥١ و ١٥٣ ، التاريخ الكبير ٧ / ٥٤ رقم ٢٤٤ ، المعارف لابن قتيبة ٧٣ و ٩١ و ١٦٣ و ٢٨٣ ، الأخبار الموفقيّات للزبير بن بكار ٣٣٣ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧٣ و ٩٤ و ٣١٨ و ٣١٩ و ٣٢٢ و ٣٤٢ و ٤١٩ و ٤٢٧ و ٤٧٩ و ٤٩٧ و ٥٩٧ و ٦٢٣ و ٤ / ٣٩ و ٩٤ و ١٦٠ ، المستدرك ٣ / ٥٩٤ ، ٥٩٥ ، جمهرة أنساب العرب ١١٣ و ١٤٥ و ١٦٦ ، المعجم الكبير للطبراني ١٧ / ١٦١ ، ١٦٢ ، العقد الفريد لابن عبد ربّه ٦ / ١٥٨ ، ربيع الأبرار ٤ / ٣٣٨ ، عيون الأخبار ١ / ٣٣٠ و ٢ / ٥٥ ، الخراج وصناعة الكتابة ٢٦٦ ، الاستيعاب لابن عبد البر ٣ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، ثمار القلوب للثعالبي ١٢ و ٥١٩ ، الجرح والتعديل ٧ / ١١ رقم ٤٦ ، مشاهير علماء الأمصار ٣٠ رقم ١٥٥ ، الزيارات للهروي ٩٤ ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي ق ١ ج ١ / ٣١٨ ، ٣١٩ رقم ٣٨٦ ، الكاشف ٢ / ٢١٢ ، ٢١٣ رقم ٣٧٠٦ ، تلخيص المستدرك ٣ / ٥٩٤ ، ٥٩٥ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٤ ، شفاء الغرام (بتحقيقنا) ١ / ٩٠ و ١٢٥ و ١٣٨ و ٢ / ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ و ٢٣٧ و ٢٥١ و ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٧ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٨٩ ، ٩٠ رقم ١٩١ ، تقريب التهذيب ٢ / ٣ رقم ١ ، الإصابة ٢ / ٤٥١ رقم ٥٣٩١ ، البدء والتاريخ للمقدسي ٥ / ١٠٧ ، الوفيات لابن قنفذ
وحجّ الناس في تلك السنة على ما كانت العرب تحجّ عليه (١).
__________________
٤١= ، خلاصة تذهب التهذيب ٢٥٧ وستأتي ترجمته في الجزء الخاص بالخلفاء الراشدين من هذا الكتاب ، في تراجم المتوفين في خلافة عمر بن الخطاب رضياللهعنه.
(١) تاريخ الطبري ٣ / ٩٥ ، تاريخ خليفة ٩٢.
قصّة كعب بن زهير
ولما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من منصرفه ، كتب بجير بن زهير ، يعني إلى أخيه كعب بن زهير ، يخبره أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قتل رجالا بمكة ممّن كان يهجوه ويؤذيه ، وأنّ من بقي من شعراء قريش ، ابن الزّبعرى (١) ، وهبيرة بن أبي وهب (٢) ، قد هربوا (٣) في كلّ وجه. فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.
وكان كعب [١١١ أ] قد قال (٤) :
ألا أبلغا عنّي بجيرا رسالة |
|
فهل لك (٥) فيما قلت ويحك هل لكا |
__________________
(١) هو عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عديّ القرشيّ السهمي الشاعر ، كان من أشعر قريش في الجاهلية ، وأسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. انظر ترجمته في الإصابة (٢ / ٣٠٨) وأسد الغابة (٣ / ٢٣٩) وطبقات فحول الشعراء (١ / ٢٣٥ ـ ٢٤٤).
(٢) في سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ «هبيرة بن وهب» والمثبت يتفق مع المصادر الأخرى.
(٣) في الأصل ، ع : «فذهبوا». والتصحيح من (ح).
(٤) شرح ديوانه (صنعة السكري) : ص ٣ ـ ٤ باختلاف في الألفاظ وترتيب الأبيات ، ولم يرد البيت الرابع في شرح الديوان.
(٥) في الأصل ، ع : «فهل كان». والمثبت من ح. وسيرة ابن هشام ٤ / ١٥٨.
فبيّن لنا إن كنت لست بفاعل |
|
على أيّ شيء غير ذلك دلّكا |
على خلق لم ألف أمّا ولا أبا (١) |
|
عليه وما تلفي عليه أخا (٢) لكا |
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف |
|
ولا قائل إمّا عثرت : لعا لكا |
سقاك بها المأمون كأسا رويّة |
|
فأنهلك المأمون منها وعلّكا |
فلما أتيت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنشده إيّاها. فقال لما سمع «[سقاك] (٣) بها المأمون» : «صدق وإنّه لكذوب». ولما سمع : «على خلق لم تلف أمّا ولا أبا عليه». قال : «أجل لم يلف عليه أباه ولا أمّه».
ثم قال بجير لكعب :
من مبلغ كعبا فهل لك في الّتي |
|
تلوم عليها باطلا وهي أحزم |
إلى الله ـ العزّى ولا اللّات ـ وحده |
|
فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم |
لدى يوم لا ينجو ولست بمفلت |
|
من النّاس إلّا طاهر القلب مسلم |
فدين زهير وهو لا شيء دينه |
|
ودين أبي سلمى عليّ محرّم |
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان في حاضره من عدوّه فقالوا : هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدّا قال قصيدته ، وقدم المدينة (٤).
وقال إبراهيم بن ديزيل ، وغيره ، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، ثنا الحجّاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى
__________________
(١) في الأصل ، ح وسيرة ابن هشام : «على خلق لم ألف يوما أبا له». وفي ع : «على خلق لم ألف أما ولا أبا له». والحرف الأخير زيادة لا يستقيم معها وزن الشعر ، وهو على التحقيق من أوهام النسخ. وقد أثبتنا رواية (ع) بعد حذف هذه الزيادة لاتفاقها مع ما يرد بعد ذلك في سياق الخبر ، ولأنها ، بعد ، رواية الديوان.
(٢) في النسخ الثلاث والسيرة لابن هشام : «أبا» ، والوجه ما أثبتناه من رواية الديوان.
(٣) سقطت من الأصل ، ع ، وأثبتناها من ح.
(٤) الخبر في سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ ، ١٥٨ ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ١ / ٨٠ ، والأغاني ١٧ / ٨٦ ، وإمتاع الأسماع للمقريزي ٤٩٤ وانظر ديوان كعب بن زهير.
المزنيّ ، عن أبيه ، عن جدّه قال : خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزّاف (١) فقال بجير لكعب : اثبت هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول. قال : فجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم ، فبلغ ذلك كعبا فقال :
ألا أبلغا عنّي بجيرا رسالة |
|
فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا |
سقاك بها المأمون كأسا رويّة |
|
وأنهلك المأمون منها وعلّكا |
ويروى * سقاك أبو بكر بكأس روية *
ففارقت أسباب الهدى وتبعته |
|
على أيّ شيء ويب (٢) غيرك دلّكا |
على مذهب لم تلف أمّا ولا أبا |
|
عليه ، ولم تعرف عليه أخا لكا (٣) |
فاتّصل الشعر بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم فأهدر دمه. فكتب بجير إليه بذلك ، ويقول له : النّجاء ، وما أراك تفلت (٤). ثم كتب إليه : اعلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله إلّا قبل ذلك منه ، وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب ، وقال القصيدة التي يمدح فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم دخل [١١١ ب] المسجد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم ، والقوم متحلّقون معه حلقة دون حلقة ، يلتفت إلى هؤلاء مرّة فيحدّثهم ، وإلى هؤلاء مرّة فيحدّثهم.
قال كعب : فأنخت راحلتي ، ودخلت ، فعرفت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالصّفة ،
__________________
(١) في الأصل ، ح «أبرق العراق» ، والتصحيح من (ع). وأبرق العزّاف : ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة ، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة يجاء من حومانة الدراج إليه ، ومنه إلى بطن نخل ثم الطرف ثم المدينة. وإنما سمّي العزّاف لأنهم يسمعون فيه عزيف الجنّ. (معجم البلدان ١ / ٦٨) ، والأبرق والبرقاء : جمعها أبراق : حجارة ورمل مختلطة. (معجم البلدان ١ / ٦٥).
(٢) ويب : مثل ويح ووي.
(٣) راجع الديوان ـ ص ٣ ، والأغاني ١٧ / ٨٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٨٠.
(٤) في الأصل ، ح : «تنفلت». وفي ع : «فقلب». وفي الأغاني ١٧ / ٨٧ «بمفلت».
فتخطّيت حتّى جلست إليه فقلت : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله. الأمان يا رسول الله. قال ، «ومن أنت؟» قلت : أنا كعب بن زهير. قال : «الّذي يقول» ثم التفت إلى أبي بكر فقال : «كيف [قال] (١) يا أبا بكر؟» فأنشده :
سقاك أبو بكر بكأس رويّة |
|
وأنهلك المأمور (٢) منها وعلّكا |
قلت : يا رسول الله ، ما قلت هكذا. قال : «فكيف قلت؟» قلت ، إنّما قلت :
وأنهلك المأمون منها وعلّكا
فقال : «مأمون ، والله».
[قال] (٣) : ثم أنشده (٤) :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول |
|
متيّم إثرها لم يلف مكبول |
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا |
|
إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول |
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت |
|
كأنّه منهل بالرّاح معلول |
شجّت بذي شبم من ماء محنية |
|
صاد بأبطح أضحى وهو مشمول (٥) |
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه |
|
من صوب سارية بيض يعاليل (٦) |
أكرم بها خلّة لو أنّها صدقت |
|
موعودها ، أو لو أنّ النّصح مقبول |
لكنها خلّة قد سيط من دمها |
|
فجع وولع وإخلاف وتبديل (٧) |
__________________
(١) سقطت من الأصل ، ح ، وأثبتناها من ع.
(٢) في الأصل ، ع والأغاني : «المأمون». والمثبت من (ح) وهو الوجه.
(٣) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.
(٤) شرح ديوانه : ٦ ـ ٢٥ ، وانظر أيضا : شرح قصيدة كعب بن زهير للخطيب التبريزي (تحقيق سالم الكرنكوي) ، وسيرة ابن هشام ٤ / ١٥٩ ، ١٦٠.
(٥) شجت : مزجت ، يعني الراح. وذي شبم : الماء البارد. والمحنية : ما انعطف من الوادي. ومشمول : أصابته ريح الشمال.
(٦) أفرطه : أي ملأه. سارية : سحابة تسري. بيض يعاليل : أي سحائب بيض رواء.
(٧) سيط : خلط.
فما تدوم على حال تكون بها |
|
كما تلوّن في أثوابها الغول (١) |
ولا تمسّك (٢) بالعهد الّذي زعمت |
|
إلّا كما يمسك الماء الغرابيل |
فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت |
|
إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل |
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا |
|
وما مواعيدها إلّا الأباطيل |
أرجو وآمل أن تدنو مودّتها |
|
وما إخال لدينا منك تنويل |
أمست سعاد بأرض لا يبلّغها |
|
إلّا العتاق النّجيبات المراسيل |
ولن يبلّغها إلّا عذافرة |
|
فيها على الأين إرقال وتبغيل (٣) |
من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت |
|
عرضتها طامس الأعلام مجهول (٤) |
ترى الغيوب بعيني مفرد لهق |
|
إذا توقّدت الحزّان والميل (٥) |
ضخم مقلّدها ، فعم (٦) مقيّدها |
|
في خلقها عن بنات الفحل تفضيل |
غلباء وجناء علكوم مذكّرة |
|
في دفّها سعة قدّامها ميل (٧) |
وجلدها من أطوم ما يؤيّسه |
|
طلح بضاحية المتنين مهزول (٨) |
حرف أبوها أخوها من مهجّنة |
|
وعمّها خالها قوداء شمليل (٩) |
يسعى الوشاة بدفيها (١٠) وقيلهم |
|
إنّك يا بن أبي سلمى لمقتول |
__________________
(١) الغول : الداهية (ح) ومن معانيها كذلك : السّعلاة ، وهو المقصود هنا.
(٢) في الأصل : «ولا تمسكت». وأثبتنا لفظ ع ، ح.
(٣) عذافرة : ناقة صلبة. والأين : الإعياء. والإرقال والتبغيل : ضربان من السير.
(٤) الذفرى : ما تحت الأذن. وعرضتها : من قولهم بعير عرضة السفر أي قوي عليه.
(٥) المفرد : بقر الوحش ، شبه الناقة به. واللهق : الأبيض. والحزان : الحزن وهو الغليظ من الأرض.
(٦) الفعم : الممتلئ.
(٧) الغلباء : الغليظة الرقبة ، والوجناء : العظيمة الوجنتين. وقدامها ميل : أي طويلة العنق.
(٨) الأطوم : الزرافة ، يصف جلدها بالنعومة. والطلح : القراد ، أي لملاسة جلدها لا يثبت عليه قراد.
(٩) الحرف : الناقة الضامر. ومهجنة : أي حمل عليها في صغرها. وقوداء : طويلة ، وشمليل :
سريعة.
(١٠) كذا في الأصل ، ح. وحرفت في ع إلى «فيها». وبها يختل الوزن.
[١١٢ أ] وقال كلّ صديق كنت آمله |
|
لا ألهينّك (١) ، إنّي عنك مشغول |
خلّوا طريق يديها (٢) لا أبا لكم |
|
فكلّ ما قدّر الرّحمن مفعول |
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته |
|
يوما على آلة حدباء محمول |
أنبئت أنّ رسول الله أوعدني |
|
والعفو عند رسول الله مأمول |
مهلا رسول الّذي أعطاك نافلة |
|
القرآن ، فيه مواعيظ وتفصيل |
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم |
|
أذنب ، ولو كثرت عنّي الأقاويل |
لقد أقوم مقاما لو يقوم به |
|
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل (٣) |
لظلّ يرعد إلّا أن يكون له |
|
من الرسول بإذن الله تنويل |
حتى وضعت يميني لا أنازعه |
|
في كفّ [ذي] (٤) نقمات قيله القيل |
لذاك أخوف عندي إذ أكلّمه |
|
وقيل إنّك منسوب ومسئول |
من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه |
|
من بطن عثّر غيل دونه غيل |
إنّ الرسول لنور يستضاء به |
|
مهنّد من سيوف الله مسلول |
في فتية من قريش قال قائلهم |
|
ببطن مكّة لمّا أسلموا : زولوا (٥) |
زالوا ، فما زال أنكاس ولا كشف (٦) |
|
عند اللّقاء ، ولا ميل معازيل (٧) |
شمّ العرانين أبطال لبوسهم |
|
من نسج داود في الهيجا سرابيل |
يمشون مشي الجمال الزّهر يعصمهم |
|
ضرب إذا عرّد السّود التّنابيل |
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم |
|
قوما ، وليسوا مجازيعا إذا نيلوا |
__________________
(١) ألهينك : خ ألفينك.
(٢) كذا في الأصل ، ح. وفي ع : «فقلت خلوا سبيلي». وهي الرواية.
(٣) فاعل يقوم الفيل. (ح).
(٤) سقطت من الأصل ، ع. وأثبتناها من ح.
(٥) أراد الهجرة. (ح).
(٦) أنكاس : جمع نكس وهو الرجل الضعيف. وكشف : جمع أكشف وهو الّذي لا ترس معه.
(٧) في ح : ولا خيل معازيل. وقال في الهامش : الخيل الفرسان. ويروى : ميل ، جمع مائل وهو الّذي لا يحسن الفروسية. ومعازيل من أعزل الّذي لا رمح معه في الحرب. أي زالوا من بطن مكة وما فيهم من هذه صفاته.