تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال شعيب ، وغيره ، عن الزهري ، حدّثني أنس ، أنّ ناسا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ، حين أفاء الله عليهم من أموال هوازن ما أفاءه ، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشا ويدعنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجمعهم في قبّة من أدم ، ولم يدع معهم أحدا غيرهم. فلما اجتمعوا قال : ما حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم : أمّا ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا. فقال : «فإنّي أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال ، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فو الله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به». قالوا : قد رضينا. فقال : «إنكم ستجدون بعدي أثرة (١) شديدة ، فاصبروا (٢) حتى تلقوا الله ، ورسوله على الحوض». قال أنس : فلم نصبر. متّفق عليه (٣).

وقال ابن إسحاق : حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد ، قال : لما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتألّفين من قريش ، وفي سائر العرب ، ولم يكن في الأنصار [منها] (٤) قليل ولا كثير ، وجدوا في أنفسهم. وذكر نحو حديث أنس (٥).

وقال ابن عيينة ، عن عمر بن سعيد بن مسروق ، عن أبيه ، عن عباية بن رفاعة بن (٦) رافع بن خديج ، عن جدّه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى المؤلّفة

__________________

(١) الأثرة : الاستئثار والانفراد بالشيء. والمقصود هنا استئثار أمراء الجور بالفيء.

(٢) في الأصل : «فاصطبروا». والمثبت عن ع ، ح.

(٣) صحيح البخاري : كتاب فرض الخمس ، باب ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (٤ / ١١٤ ـ ١١٥). وصحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام إلخ (١٣٢ / ١٠٥٩).

(٤) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٣.

(٦) في النسخ الثلاث : «أن» وفي صحيح مسلم : عن ، دون جملة «عن جده». والمثبت موافق لما في المغازي لعروة ٢١٨.

٦٠١

قلوبهم من سبي حنين ، كل رجل منهم مائة من الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة ، وأعطى صفوان بن أميّة مائة. وأعطى عيينة بن حصن مائة ، وأعطى الأقرع بن حابس مائة ، وأعطى علقمة بن علاثة مائة ، وأعطى مالك ابن عوف النّصريّ مائة ، وأعطى العبّاس بن مرداس دون المائة.

فأنشأ العبّاس يقول :

أتجعل نهبي ونهب العبيـ

د (١) بين عيينة والأقرع

 وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في المجمع

 وقد كنت في الحرب ذا تدرأ (٢)

فلم أعط شيئا ولم أمنع

 وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

 فأتمّ له مائة. أخرجه مسلم (٣) ، دون ذكر مالك بن عوف ، وعلقمة ، [و] (٤) دون البيت الثالث (٥).

وقال عثمان بن عطاء الخراسانيّ ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى المؤلّفة قلوبهم : أبا سفيان ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن هشام المخزوميّ ، وصفوان بن أميّة الجمحيّ ، وحويطب ابن عبد العزّى العامريّ ، أعطى كلّ واحد مائة ناقة. وأعطى قيس بن عديّ السّهميّ خمسين ناقة ، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين. فهؤلاء من أعطى من قريش.

__________________

(١) العبيد : اسم فرس العباس بن مرداس.

(٢) ذو تدرأ : ذو منعة وقوة على دفع أعدائه عن نفسه.

(٣) في كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام إلخ (١٣٧ / ١٠٦٠).

(٤) سقطت من الأصل ، ع. وأثبتناها من ح.

(٥) انظر : سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٤ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٤٦ ، ٩٤٧ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٩٠ ، ٩١ ، ونهاية الأرب ، ١٧ / ٣٣٩ ، ٣٤٠ والمغازي لعروة وغيره ، ففيها أبيات أكثر ، مع اختلاف في الألفاظ.

٦٠٢

وأعطى العلاء [١٠٨ ب] بن حارثة مائة ناقة ، وأعطى مالك بن عوف مائة ناقة ، وردّ إليه أهله ، وأعطى عيينة بن بدر الفزاريّ مائة ناقة ، وأعطى عبّاس بن مرداس كسوة.

فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول للأنصار : قد كنت أخبركم أنّكم ستلون حرّها ويلي بردها غيركم. فتكلّمت الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، عمّ هذه الأثرة؟ فقال : «يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم مفترقين فجمعكم الله ، وضلّالا فهداكم الله ، ومخذولين فنصركم الله». ثم قال : «والّذي نفسي بيده ، لو (١) تشاءون لقلتم ثم لصدقتم ولصدّقتم : ألم نجدك مكذّبا فصدّقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، ومحتاجا فواسيناك». قالوا : لا نقول ذلك ، إنّما الفضل من الله ورسوله والنصر من الله ورسوله. ولكنّا أحببنا أن نعلم فيم هذه الأثرة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوم حديثو عهد بعزّ وملك ، فأصابتهم نكبة فضعضعتهم ولم يفقهوا كيف الإيمان ، فأتألّفهم. حتى إذا علموا كيف الإيمان وفقهوا فيه علّمتهم (٢) كيف القسم وأين موضعه». وساق باقي الحديث (٣).

وقال جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : لمّا كان يوم حنين آثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا في القسمة ، فأعطى الأقرع مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ ، فقال رجل : والله إنّ هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت : والله لأخبرنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأتيته فأخبرته ، فتغيّر وجهه حتى صار كالصّرف (٤) ، وقال : «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟» ثم قال :

__________________

(١) في الأصل «لقد» والتصحيح من نسختي (ع) و (ح).

(٢) في ع ، ح : علمتم.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، ١٥٧ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٥٧ ، ٩٥٨ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٩٣ ، ٩٤ ، والمغازي لعروة ٢١٩ ، وفتح الباري ٨ / ٥١.

(٤) الصرف : صبغ أحمر يشبه به الدم فيقال دم صرف.

٦٠٣

«يرحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». فقلت : لا جرم لا أرفع إليه بعد هذا حديثا. متّفق عليه (١).

وقال اللّيث ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أتى رجل بالجعرانة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم غنائم منصرفه من حنين ، وفي ثوب بلال فضّة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال : يا محمد ، اعدل. فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر : دعني أقتل هذا المنافق. قال : «معاذ الله ، أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي ، إنّ هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة». أخرجه مسلم (٢).

وقال شعيب ، عن الزّهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم قسما ، إذ أتاه ذو الخويصرة التّميميّ فقال : يا رسول الله اعدل. فقال : «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل». فقال عمر : ائذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه. قال : «دعه ، فإنّ له أصحابا يحقر [١٠٩ أ] أحدكم (٣) صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة» وذكر الحديث. أخرجه البخاري (٤).

وقال عقيل ، عن ابن شهاب ، قال عروة : أخبرني مروان ، والمسور بن

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الطائف (٥ / ١٠٦). وصحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب إعطاء المؤلّفة قلوبهم على الإسلام (١٤٠ / ١٠٦٢) واللفظ له.

(٢) صحيح مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. (١٤٢ / ١٠٦٣) وأخرجه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجة ، والدارميّ ، ومالك ، والإمام أحمد ، في مواضع كثيرة. (انظر : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ٦ / ٢٠٤).

(٣) في الأصل : «أحدهم». والتصحيح من ع ، ح.

(٤) صحيح البخاري : كتاب استتابة المرتدّين والمعاندين وقتالهم ، باب من ترك قتال الخوارج للتأليف (٩ / ٢١ ـ ٢٢) ، وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٦ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٤٨.

٦٠٤

مخرمة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه (١) أن يردّ إليهم أموالهم ونساءهم. فقال : «معي من ترون ، وأحبّ الحديث إليّ أصدقه. فاختاروا إمّا السّبي ، وإمّا المال ، وقد كنت استأنيت بكم». وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظرهم تسع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. فلما تبيّن لهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير رادّ إليهم إلّا إحدى الطّائفتين ، قالوا : إنّا نختار سبينا. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءونا تائبين ، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. فمن أحبّ [منكم أن يطيّب ذلك فليفعل ، ومن أحبّ] (٢) منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيه إيّاه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل». فقال الناس : قد طيّبنا ذلك يا رسول الله لهم. فقال : «إنّا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممّن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم». فرجع الناس فكلّمهم (٣) عرفاؤهم. ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبروه الخبر بأنهم قد طيّبوا وأذنوا. أخرجه خ (٤).

وقال موسى بن عقبة : ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف إلى الجعرانة ، وبها السّبي ، وقدمت عليه وفود هوازن مسلمين ، فيهم تسعة من أشرافهم فأسلموا وبايعوا. ثم كلّموه فيمن أصيب قالوا : يا رسول الله. إنّ فيمن أصبتم الأمّهات والأخوات والعمّات والخالات ، وهنّ مخازي (٥) الأقوام. ونرغب إلى الله وإليك. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحيما جوادا كريما. فقال :

__________________

(١) في الأصل : «يسألوه». والتصحيح من صحيح البخاري.

(٢) سقطت هذه الجملة من الأصل ، ع وأثبتناها من (ح).

(٣) في الأصل : «وكلمهم». والمثبت عن (ح) وصحيح البخاري.

(٤) في كتاب فرض الخمس ، باب ومن الدليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين إلخ. (٤ / ١٠٨ ـ ١٠٩). وكتاب المغازي ، باب قول الله تعالى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) (٥ / ١٩٥ ـ ١٩٦). وأبو داود في كتاب الجهاد (٢٦٩٣) باب في فداء الأسير بالمال ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٢٧.

(٥) في الأصل : «مجاري». والمثبت من (ح). وفي (ع) : «محارم». وهي جيّدة.

٦٠٥

سأطلب لكم ذلك. قال : في القصة (١).

وقال ابن شهاب : حدّثني سعيد بن المسيّب ، وعروة : أنّ سبي هوازن كانوا ستة آلاف (٢).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدّثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحنين ، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم ، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا. فقالوا : يا رسول الله ، إنّا (٣) أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا ، منّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد. فقال : يا رسول الله : إنّما في الحظائر من السّبايا خالاتك وعمّاتك وحواضنك اللّاتي كنّ يكفلنك ، فلو أنّا ملحنا (٤) [للحارث] (٥) بن أبي شمر ، أو النّعمان بن المنذر ، ثم أصابنا منهما مثل الّذي أصابنا منك ، رجونا عائدتهما (٦) وعطفهما ، وأنت خير المكفولين. ثم [١٠٩ ب] أنشده أبياتا قالها :

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنّك المرء نرجوه وندّخر

 امنن على بيضة إعتاقها حزن (٧)

ممزّق شملها في دهرها غير

 أبقت لها الحرب هتّافا على حزن

على قلوبهم الغمّاء والغمر

 __________________

(١) القصة في المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٠ ، ٩٥١.

(٢) الحديث في الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٥٥.

(٣) في النسخ الثلاث «لنا» وأثبتنا لفظ ابن هشام ٤ / ١٥٢.

(٤) في الأصل «ملنحا» ، وهو تحريف ، تصحيحه من (ع) و (ح) وفي النسخة الأخيرة فسّرها في الهامش بقوله : «أي أرضعنا». والملح : الرضاع : (النهاية في غريب الحديث ٤ / ١٠٥).

وانظر السيرة لابن هشام ٤ / ١٥٢ وفيه أيضا : «ويروى : ولو أنّا مالحنا».

(٥) سقطت من النسخ الثلاث ، والاستدراك من سيرة ابن هشام.

(٦) في الأصل : «عائدهما». والمثبت من ع ، ح ، والمغازي للواقدي ٤ / ٩٥٠ والعائدة : المعروف والصلة والفضل. (شرح أبي ذر ـ ص ٤١١).

(٧) في الأصل ، ع : حزز. والمثبت عن النسخة (ح). وفي المغازي للواقدي ٣ / ٩٥٠ «امنن على نسوة قد عاقها قدر» وفي الروض الأنف ٤ / ١٦٦ «امنن على بيضة قد عاقها قدر».

٦٠٦

إن لم تداركهم (١) نعماء تنشرها

يا أرجح النّاس حلما (٢) حين يختبر

 امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوك يملؤه من محضها درر (٣)

 امنن على نسوة قد كنت ترضعها

وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

 لا تجعلنّا كمن شالت نعامته (٤)

واستبق منّا ، فإنّا معشر زهر

 إنّا لنشكر آلاء وإن كفرت (٥)

وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» فقالوا : خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا ، أبناؤنا ونساؤنا أحبّ إلينا. فقال : «أما ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم ، وإذا أنا صلّيت بالناس فقوموا وقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله ، في أبنائنا ونسائنا ، سأعينكم عند ذلك وأسأل لكم». فلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس الظّهر ، قاموا فقالوا ما أمرهم به ، فقال : «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم». فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله. قالت الأنصار كذلك. فقال الأقرع بن حابس : أمّا أنا وبنو تميم فلا. فقال العبّاس بن مرداس السّلميّ : أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم : بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عيينة بن بدر (٦) : أما أنا وبنو فزارة فلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستّ فرائض (٧) من أوّل فيء نصيبه».

__________________

(١) في المغازي للواقدي «ألا تداركها». والمثبت يتفق مع الروض الأنف.

(٢) في المغازي «حتى» ، والمثبت يتفق مع الروض الأنف.

(٣) أي الدفعات الكثيرة من اللبن. (السيرة الحلبية ٢ / ٢٥٠) ، وانظر اختلافا يسيرا في البيت عند الواقدي والسهيليّ عما هنا.

(٤) شالت نعامته : أي تفرّقت كلمتهم. أو ذهب عزّهم. (القاموس المحيط ٣ / ٤٠٤)

(٥) في المغازي «وإن قدمت».

(٦) في المغازي للواقدي ٣ / ٩٥١ «عيينة بن حصن».

(٧) الفرائض : جمع فريضة ، وهو البعير المأخوذ في الزكاة ، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال.

٦٠٧

فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم (١).

ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتّبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا ، حتى اضطرّوه إلى شجرة فانتزعت عنه رداءه فقال :

«ردّوا عليّ ردائي ، فو الّذي نفسي بيده لو كان لكم عدد شجر تهامة [نعما] (٢) لقسمته عليكم ، ثم ما لقيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذّابا». ثم قام إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه وقال : «أيّها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم. فأدّوا الخياط والمخيط (٣) ، فإن الغلول (٤) عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة». فجاء رجل من الأنصار بكبّة (٥) من خيوط شعر فقال : أخذت [١١٠ أ] هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر (٦). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما حقّي منها فلك». فقال الرجل : أمّا إذا بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها. فرمى بها (٧).

وقال أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنّ عمر سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالجعرانة. فقال : إنّي نذرت في الجاهليّة أن أعتكف يوما في المسجد الحرام. قال : «اذهب فاعتكف». وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعطاه جارية من الخمس. فلما أن أعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبايا الناس ، قال عمر : يا عبد الله ، اذهب إلى تلك الجارية فخلّ سبيلها. أخرجه مسلم (٨).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٢ وانظر المغازي للواقدي ٣ / ٩٥١ ، ٩٥٢ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٨٧.

(٢) زيادة من (ح) وابن هشام.

(٣) الخياط : الخيط ، والمخيط : الإبرة.

(٤) الغلول : الخيانة في المغنم والسرقة وكل من خان في شيء خفية فقد غلّ.

(٥) الكبّة : من الغزل أو الشعر ما جمع على شكل كرة أو أسطوانة.

(٦) الدبر : قروح تصيب ظهر البعير أو خفه ، فهو دبر وأدبر.

(٧) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، تاريخ الطبري ٣ / ٨٩ ، ٩٠.

(٨) صحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم (٢٨ / ١٦٥٦).

٦٠٨

وقال ابن إسحاق (١) : حدّثني أبو وجزة السعديّ : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى من سبي هوازن عليّ بن أبي طالب جارية ، وأعطى عثمان وعمر ، فوهبها عمر لابنه.

قال ابن إسحاق (٢) : فحدّثني نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدّون ، فقلت : ما شأنكم؟ فقالوا : ردّ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءنا وأبناءنا. فقلت : دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح فانطلقوا فأخذوها.

قال ابن إسحاق (٣) : وحدّثني أبو وجزة يزيد بن عبيد : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لوفد هوازن : «ما فعل مالك بن عوف؟» قالوا : هو بالطائف. فقال : «أخبروه أنّه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله ، وأعطيته مائة من الإبل».

فأتي مالك بذلك ، فخرج إليه من الطائف. وقد كان مالك خاف من ثقيف على نفسه من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأمر براحلة فهيّئت ، وأمر بفرس له فأتي به ، فخرج ليلا ولحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأدركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. فقال :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

وفي النّاس كلّهم بمثل محمّد

 أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي (٤)

وإذا تشاء يخبرك عمّا في غد

 وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

أمّ العدي فيها بكلّ مهنّد (٥)

 فكأنّه ليث لدى أشباله

وسط المباءة خادر (٦) في مرصد

 __________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٢ ، ١٥٣.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣.

(٤) اجتدى : سئل الجدا أو الجدوى ، وهي العطية.

(٥) عردت أنيابها : غلظت واشتدت. المهند : السيد المصنوع من حديد الهند.

(٦) المباءة (وقد وردت في النسخ الثلاث) : المنزل وكناس الثور الوحشي. ولعلّها استعملت هنا

٦٠٩

فاستعمله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من أسلم من قومه ، وتلك القبائل من ثمالة وسلمة وفهم (١) ، كان يقاتل بهم ثقيفا ، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى يصيبه (٢).

قال ابن عساكر : شهد مالك بن عوف فتح دمشق. وله بها دار (٣).

* * *

وقال أبو عاصم : ثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان ، أخبرني عمّي عمارة بن ثوبان ، أن أبا الطّفيل أخبره قال : كنت غلاما أحمل عضو البعير ، ورأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم لحما بالجعرانة ، فجاءته امرأة فبسط لها رداءه. فقلت : من هذه؟ قالوا : أمّه التي أرضعته.

وروى الحكم بن عبد الملك ، عن قتادة قال : لمّا كان يوم فتح هوازن جاءت امرأة [١١٠ ب] إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : أنا أختك شيماء بنت الحارث. قال : «إن تكوني صادقة فإنّ بك منّي أثرا لن يبلى». قال : فكشفت عن عضدها. ثم قالت : نعم يا رسول الله ، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضّة. فبسط لها رداءه ثم قال : «سلي تعطي ، واشفعي تشفّعي» (٤). الحكم ضعّفه ابن معين (٥).

__________________

= بمعنى العرين. ورواية ابن هشام والواقدي : الهباءة ، وهي الغبارة يثور عند اشتداد الحرب. خادر : مقيم في عرينه.

(١) ثمالة وسلمة وفهم : بطون من الأزد من القحطانية.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٣ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٩٥٥ ، ٩٥٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٨٩.

(٣) في تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (٢ / ١٣٥) : الدار التي على شارع دار البطيخ الكبير التي فيها البناء القديم تعرف بدار بني نصر ، كانت كنيسة للنصارى فنزلها مالك بن عوف النصري أول ما فتحت دمشق فعرفت به.

(٤) ينظر عن شيماء : الاستيعاب ٤ / ٣٤٤ ، وأسد الغابة ٥ / ٤٨٩ ، والإصابة ٤ / ٣٤٤ رقم (٦٣٣).

(٥) قال فيه : ليس بشيء. (التاريخ ٢ / ١٢٥ رقم ١٣٣٢).

٦١٠

عمرة الجعرانة

قال همّام ، عن قتادة ، عن أنس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتمر أربع عمر كلّهنّ في ذي القعدة ، إلّا التي مع حجّته : عمرة زمن الحديبيّة ـ أو من الحديبيّة ـ في ذي القعدة ، وعمرة ، أظنّه قال (١) ، العام المقبل ، وعمرة من الجعرّانة ، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجّته. متّفق عليه (٢).

وقال موسى بن عقبة ، وهو في «مغازي عروة» (٣) : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلّ بالعمرة من الجعرّانة في ذي القعدة ، فقدم مكة فقضى عمرته. وكان حين خرج إلى حنين استخلف معاذا على مكة ، وأمره أن يعلّمهم القرآن ويفقّههم في الدين. ثم صدر إلى المدينة وخلّف معاذا على أهل مكة (٤).

__________________

(١) في الأصل ، «قال أظنه». وهو سبق قلم تصحيحه من ع ، ح والصحيحين.

(٢) صحيح البخاري : كتاب الحج ، أبواب العمرة ، باب كم اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣ / ٣). وصحيح مسلم : كتاب الحج ، باب بيان عدد عمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمانهن (٢١٧ / ١٢٥٣). وأبو داود في الحج (١٩٩٤) باب العمر. والترمذي في الحج (٨١٤) باب ما جاءكم اعتمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وابن ماجة في المناسك (٣٠٠٣) باب كم اعتمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأحمد في المسند ١ / ٢٤٦ و ٣٢١ و ٢ / ١٣٩ و ٣ / ١٣٤ و ٢٥٦ و ٤ / ٢٩٧.

(٣) في الأصل «غزوة» والتصحيح من (ع) ، و (ح).

(٤) أول الحديث غير موجود في المطبوع من مغازي عروة ، انظر ص ٢١٣ ، وأخرجه الحاكم في

٦١١

وقال ابن إسحاق (١) : ثم سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجعرانة معتمرا. وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنّة (٢). فلما فرغ من عمرته انصرف إلى المدينة ، واستخلف عتّاب بن أسيد على مكة ، وخلّف معه معاذا يفقّه الناس.

قلت : ولم يزل عتّاب على مكة إلى أن مات بها يوم وفاة أبي بكر. وهو عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة الأمويّ. فبلغنا أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا عتّاب ، تدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله ، ولو أعلم لهم خيرا منك استعملته عليهم. وكان عمره إذ ذاك نيّفا وعشرين سنة ، وكان رجلا صالحا. روي عنه أنه قال : أصبت في عملي هذا بردين معقّدين كسوتهما غلامي ، فلا يقولنّ أحدكم أخذ منّي عتّاب كذا ، فقد رزقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّ يوم درهمين ، فلا أشبع الله بطنا لا يشبعه كلّ يوم درهمان (٣).

__________________

= المستدرك على الصحيحين ٣ / ٢٧٠.

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٩٤.

(٢) مجنّة : بالفتح وتشديد النون. بمرّ الظهران أسفل مكة. (معجم البلدان ٥ / ٥٨).

(٣) انظر عن عتّاب بن أسيد : طبقات ابن سعد ٥ / ٤٤٦ ، طبقات خليفة ١١ و ٢٧٧ ، تاريخ خليفة ٨٧ و ٨٨ و ٩٢ و ٩٧ و ١١٧ و ١٢٣. المحبّر لابن حبيب ١١ و ١٢ و ١٢٦ و ١٢٧ و ٢٥٨ ، فتوح البلدان للبلاذري ٤٦ و ٦٣ و ٦٦ ، أنساب الأشراف له ١ / ٣٠٣ ، ٣٠٣ و ٣٦٤ ، ٣٦٥ ، ٣٦٨ ، ٥٢٩ ، نسب قريش لمصعب ١٨٧ و ٣١٢ و ٤١٨ ، أخبار مكة للأزرقي ١ / ٢٨٥ و ٢ / ١٥١ و ١٥٣ ، التاريخ الكبير ٧ / ٥٤ رقم ٢٤٤ ، المعارف لابن قتيبة ٧٣ و ٩١ و ١٦٣ و ٢٨٣ ، الأخبار الموفقيّات للزبير بن بكار ٣٣٣ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧٣ و ٩٤ و ٣١٨ و ٣١٩ و ٣٢٢ و ٣٤٢ و ٤١٩ و ٤٢٧ و ٤٧٩ و ٤٩٧ و ٥٩٧ و ٦٢٣ و ٤ / ٣٩ و ٩٤ و ١٦٠ ، المستدرك ٣ / ٥٩٤ ، ٥٩٥ ، جمهرة أنساب العرب ١١٣ و ١٤٥ و ١٦٦ ، المعجم الكبير للطبراني ١٧ / ١٦١ ، ١٦٢ ، العقد الفريد لابن عبد ربّه ٦ / ١٥٨ ، ربيع الأبرار ٤ / ٣٣٨ ، عيون الأخبار ١ / ٣٣٠ و ٢ / ٥٥ ، الخراج وصناعة الكتابة ٢٦٦ ، الاستيعاب لابن عبد البر ٣ / ١٥٣ ، ١٥٤ ، ثمار القلوب للثعالبي ١٢ و ٥١٩ ، الجرح والتعديل ٧ / ١١ رقم ٤٦ ، مشاهير علماء الأمصار ٣٠ رقم ١٥٥ ، الزيارات للهروي ٩٤ ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي ق ١ ج ١ / ٣١٨ ، ٣١٩ رقم ٣٨٦ ، الكاشف ٢ / ٢١٢ ، ٢١٣ رقم ٣٧٠٦ ، تلخيص المستدرك ٣ / ٥٩٤ ، ٥٩٥ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٤ ، شفاء الغرام (بتحقيقنا) ١ / ٩٠ و ١٢٥ و ١٣٨ و ٢ / ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٦ و ٢٣٧ و ٢٥١ و ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٧ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٨٩ ، ٩٠ رقم ١٩١ ، تقريب التهذيب ٢ / ٣ رقم ١ ، الإصابة ٢ / ٤٥١ رقم ٥٣٩١ ، البدء والتاريخ للمقدسي ٥ / ١٠٧ ، الوفيات لابن قنفذ

٦١٢

وحجّ الناس في تلك السنة على ما كانت العرب تحجّ عليه (١).

__________________

٤١= ، خلاصة تذهب التهذيب ٢٥٧ وستأتي ترجمته في الجزء الخاص بالخلفاء الراشدين من هذا الكتاب ، في تراجم المتوفين في خلافة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٩٥ ، تاريخ خليفة ٩٢.

٦١٣
٦١٤

قصّة كعب بن زهير

ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منصرفه ، كتب بجير بن زهير ، يعني إلى أخيه كعب بن زهير ، يخبره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل رجالا بمكة ممّن كان يهجوه ويؤذيه ، وأنّ من بقي من شعراء قريش ، ابن الزّبعرى (١) ، وهبيرة بن أبي وهب (٢) ، قد هربوا (٣) في كلّ وجه. فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.

وكان كعب [١١١ أ] قد قال (٤) :

ألا أبلغا عنّي بجيرا رسالة

فهل لك (٥) فيما قلت ويحك هل لكا

 __________________

(١) هو عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عديّ القرشيّ السهمي الشاعر ، كان من أشعر قريش في الجاهلية ، وأسلم بعد الفتح وحسن إسلامه. انظر ترجمته في الإصابة (٢ / ٣٠٨) وأسد الغابة (٣ / ٢٣٩) وطبقات فحول الشعراء (١ / ٢٣٥ ـ ٢٤٤).

(٢) في سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ «هبيرة بن وهب» والمثبت يتفق مع المصادر الأخرى.

(٣) في الأصل ، ع : «فذهبوا». والتصحيح من (ح).

(٤) شرح ديوانه (صنعة السكري) : ص ٣ ـ ٤ باختلاف في الألفاظ وترتيب الأبيات ، ولم يرد البيت الرابع في شرح الديوان.

(٥) في الأصل ، ع : «فهل كان». والمثبت من ح. وسيرة ابن هشام ٤ / ١٥٨.

٦١٥

فبيّن لنا إن كنت لست بفاعل

على أيّ شيء غير ذلك دلّكا

 على خلق لم ألف أمّا ولا أبا (١)

عليه وما تلفي عليه أخا (٢) لكا

 فإن أنت لم تفعل فلست بآسف

ولا قائل إمّا عثرت : لعا لكا

 سقاك بها المأمون كأسا رويّة

فأنهلك المأمون منها وعلّكا

 فلما أتيت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنشده إيّاها. فقال لما سمع «[سقاك] (٣) بها المأمون» : «صدق وإنّه لكذوب». ولما سمع : «على خلق لم تلف أمّا ولا أبا عليه». قال : «أجل لم يلف عليه أباه ولا أمّه».

ثم قال بجير لكعب :

من مبلغ كعبا فهل لك في الّتي

تلوم عليها باطلا وهي أحزم

 إلى الله ـ العزّى ولا اللّات ـ وحده

فتنجو إذا كان النّجاء وتسلم

 لدى يوم لا ينجو ولست بمفلت

من النّاس إلّا طاهر القلب مسلم

 فدين زهير وهو لا شيء دينه

ودين أبي سلمى عليّ محرّم

فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان في حاضره من عدوّه فقالوا : هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدّا قال قصيدته ، وقدم المدينة (٤).

وقال إبراهيم بن ديزيل ، وغيره ، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، ثنا الحجّاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى

__________________

(١) في الأصل ، ح وسيرة ابن هشام : «على خلق لم ألف يوما أبا له». وفي ع : «على خلق لم ألف أما ولا أبا له». والحرف الأخير زيادة لا يستقيم معها وزن الشعر ، وهو على التحقيق من أوهام النسخ. وقد أثبتنا رواية (ع) بعد حذف هذه الزيادة لاتفاقها مع ما يرد بعد ذلك في سياق الخبر ، ولأنها ، بعد ، رواية الديوان.

(٢) في النسخ الثلاث والسيرة لابن هشام : «أبا» ، والوجه ما أثبتناه من رواية الديوان.

(٣) سقطت من الأصل ، ع ، وأثبتناها من ح.

(٤) الخبر في سيرة ابن هشام ٤ / ١٥٧ ، ١٥٨ ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ١ / ٨٠ ، والأغاني ١٧ / ٨٦ ، وإمتاع الأسماع للمقريزي ٤٩٤ وانظر ديوان كعب بن زهير.

٦١٦

المزنيّ ، عن أبيه ، عن جدّه قال : خرج كعب وبجير ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزّاف (١) فقال بجير لكعب : اثبت هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول. قال : فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم ، فبلغ ذلك كعبا فقال :

ألا أبلغا عنّي بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

 سقاك بها المأمون كأسا رويّة

وأنهلك المأمون منها وعلّكا

ويروى * سقاك أبو بكر بكأس روية *

ففارقت أسباب الهدى وتبعته

على أيّ شيء ويب (٢) غيرك دلّكا

 على مذهب لم تلف أمّا ولا أبا

عليه ، ولم تعرف عليه أخا لكا (٣)

فاتّصل الشعر بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأهدر دمه. فكتب بجير إليه بذلك ، ويقول له : النّجاء ، وما أراك تفلت (٤). ثم كتب إليه : اعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله إلّا قبل ذلك منه ، وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب ، وقال القصيدة التي يمدح فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دخل [١١١ ب] المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم ، والقوم متحلّقون معه حلقة دون حلقة ، يلتفت إلى هؤلاء مرّة فيحدّثهم ، وإلى هؤلاء مرّة فيحدّثهم.

قال كعب : فأنخت راحلتي ، ودخلت ، فعرفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّفة ،

__________________

(١) في الأصل ، ح «أبرق العراق» ، والتصحيح من (ع). وأبرق العزّاف : ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة ، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة يجاء من حومانة الدراج إليه ، ومنه إلى بطن نخل ثم الطرف ثم المدينة. وإنما سمّي العزّاف لأنهم يسمعون فيه عزيف الجنّ. (معجم البلدان ١ / ٦٨) ، والأبرق والبرقاء : جمعها أبراق : حجارة ورمل مختلطة. (معجم البلدان ١ / ٦٥).

(٢) ويب : مثل ويح ووي.

(٣) راجع الديوان ـ ص ٣ ، والأغاني ١٧ / ٨٦ ، والشعر والشعراء ١ / ٨٠.

(٤) في الأصل ، ح : «تنفلت». وفي ع : «فقلب». وفي الأغاني ١٧ / ٨٧ «بمفلت».

٦١٧

فتخطّيت حتّى جلست إليه فقلت : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله. الأمان يا رسول الله. قال ، «ومن أنت؟» قلت : أنا كعب بن زهير. قال : «الّذي يقول» ثم التفت إلى أبي بكر فقال : «كيف [قال] (١) يا أبا بكر؟» فأنشده :

سقاك أبو بكر بكأس رويّة

وأنهلك المأمور (٢) منها وعلّكا

قلت : يا رسول الله ، ما قلت هكذا. قال : «فكيف قلت؟» قلت ، إنّما قلت :

وأنهلك المأمون منها وعلّكا

فقال : «مأمون ، والله».

[قال] (٣) : ثم أنشده (٤) :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيّم إثرها لم يلف مكبول

 وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول

 تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت

كأنّه منهل بالرّاح معلول

 شجّت بذي شبم من ماء محنية

صاد بأبطح أضحى وهو مشمول (٥)

 تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه

من صوب سارية بيض يعاليل (٦)

 أكرم بها خلّة لو أنّها صدقت

موعودها ، أو لو أنّ النّصح مقبول

 لكنها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل (٧)

 __________________

(١) سقطت من الأصل ، ح ، وأثبتناها من ع.

(٢) في الأصل ، ع والأغاني : «المأمون». والمثبت من (ح) وهو الوجه.

(٣) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ع ، ح.

(٤) شرح ديوانه : ٦ ـ ٢٥ ، وانظر أيضا : شرح قصيدة كعب بن زهير للخطيب التبريزي (تحقيق سالم الكرنكوي) ، وسيرة ابن هشام ٤ / ١٥٩ ، ١٦٠.

(٥) شجت : مزجت ، يعني الراح. وذي شبم : الماء البارد. والمحنية : ما انعطف من الوادي. ومشمول : أصابته ريح الشمال.

(٦) أفرطه : أي ملأه. سارية : سحابة تسري. بيض يعاليل : أي سحائب بيض رواء.

(٧) سيط : خلط.

٦١٨

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلوّن في أثوابها الغول (١)

 ولا تمسّك (٢) بالعهد الّذي زعمت

إلّا كما يمسك الماء الغرابيل

 فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت

إنّ الأمانيّ والأحلام تضليل

 كانت مواعيد عرقوب لها مثلا

وما مواعيدها إلّا الأباطيل

 أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

 أمست سعاد بأرض لا يبلّغها

إلّا العتاق النّجيبات المراسيل

 ولن يبلّغها إلّا عذافرة

فيها على الأين إرقال وتبغيل (٣)

 من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول (٤)

 ترى الغيوب بعيني مفرد لهق

إذا توقّدت الحزّان والميل (٥)

 ضخم مقلّدها ، فعم (٦) مقيّدها

في خلقها عن بنات الفحل تفضيل

 غلباء وجناء علكوم مذكّرة

في دفّها سعة قدّامها ميل (٧)

 وجلدها من أطوم ما يؤيّسه

طلح بضاحية المتنين مهزول (٨)

 حرف أبوها أخوها من مهجّنة

وعمّها خالها قوداء شمليل (٩)

 يسعى الوشاة بدفيها (١٠) وقيلهم

إنّك يا بن أبي سلمى لمقتول

 __________________

(١) الغول : الداهية (ح) ومن معانيها كذلك : السّعلاة ، وهو المقصود هنا.

(٢) في الأصل : «ولا تمسكت». وأثبتنا لفظ ع ، ح.

(٣) عذافرة : ناقة صلبة. والأين : الإعياء. والإرقال والتبغيل : ضربان من السير.

(٤) الذفرى : ما تحت الأذن. وعرضتها : من قولهم بعير عرضة السفر أي قوي عليه.

(٥) المفرد : بقر الوحش ، شبه الناقة به. واللهق : الأبيض. والحزان : الحزن وهو الغليظ من الأرض.

(٦) الفعم : الممتلئ.

(٧) الغلباء : الغليظة الرقبة ، والوجناء : العظيمة الوجنتين. وقدامها ميل : أي طويلة العنق.

(٨) الأطوم : الزرافة ، يصف جلدها بالنعومة. والطلح : القراد ، أي لملاسة جلدها لا يثبت عليه قراد.

(٩) الحرف : الناقة الضامر. ومهجنة : أي حمل عليها في صغرها. وقوداء : طويلة ، وشمليل :

سريعة.

(١٠) كذا في الأصل ، ح. وحرفت في ع إلى «فيها». وبها يختل الوزن.

٦١٩

[١١٢ أ] وقال كلّ صديق كنت آمله

لا ألهينّك (١) ، إنّي عنك مشغول

 خلّوا طريق يديها (٢) لا أبا لكم

فكلّ ما قدّر الرّحمن مفعول

 كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوما على آلة حدباء محمول

 أنبئت أنّ رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

 مهلا رسول الّذي أعطاك نافلة

القرآن ، فيه مواعيظ وتفصيل

 لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

أذنب ، ولو كثرت عنّي الأقاويل

 لقد أقوم مقاما لو يقوم به

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل (٣)

 لظلّ يرعد إلّا أن يكون له

من الرسول بإذن الله تنويل

 حتى وضعت يميني لا أنازعه

في كفّ [ذي] (٤) نقمات قيله القيل

 لذاك أخوف عندي إذ أكلّمه

وقيل إنّك منسوب ومسئول

 من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه

من بطن عثّر غيل دونه غيل

 إنّ الرسول لنور يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول

 في فتية من قريش قال قائلهم

ببطن مكّة لمّا أسلموا : زولوا (٥)

 زالوا ، فما زال أنكاس ولا كشف (٦)

عند اللّقاء ، ولا ميل معازيل (٧)

 شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

 يمشون مشي الجمال الزّهر يعصمهم

ضرب إذا عرّد السّود التّنابيل

 لا يفرحون إذا نالت سيوفهم

قوما ، وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

 __________________

(١) ألهينك : خ ألفينك.

(٢) كذا في الأصل ، ح. وفي ع : «فقلت خلوا سبيلي». وهي الرواية.

(٣) فاعل يقوم الفيل. (ح).

(٤) سقطت من الأصل ، ع. وأثبتناها من ح.

(٥) أراد الهجرة. (ح).

(٦) أنكاس : جمع نكس وهو الرجل الضعيف. وكشف : جمع أكشف وهو الّذي لا ترس معه.

(٧) في ح : ولا خيل معازيل. وقال في الهامش : الخيل الفرسان. ويروى : ميل ، جمع مائل وهو الّذي لا يحسن الفروسية. ومعازيل من أعزل الّذي لا رمح معه في الحرب. أي زالوا من بطن مكة وما فيهم من هذه صفاته.

٦٢٠