تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وأخرجاه (١) ، من حديث شعيب بن أبي حمزة ، عن الزّهري. وعنده : فهل عليّ حرج أن أطعم من الّذي له عيالنا. قال : لا عليك أن تطعميهم بالمعروف.

وقال الفريابيّ : ثنا يونس ، عن ابن إسحاق ، عن أبي السفر ، عن ابن عباس ، قال : رأى أبو سفيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشي والناس يطئون عقبه. فقال في نفسه : لو عاودت هذا الرجل القتال. فجاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ضرب بيده في صدره ، فقال : إذا [١٠٠ أ] يخزيك الله. قال : أتوب إلى الله وأستغفر الله.

وروى نحوه ، مرسلا ، أبو إسحاق السّبيعي ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم.

وقال موسى بن أعين ، عن إسحاق بن راشد ، عن الزّهري ، عن ابن المسيّب ، قال : لما كان ليلة دخل الناس مكة ، لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا. فقال أبو سفيان لهند : أترى هذا من الله؟ ثم أصبح فغدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : «قلت لهند أترين هذا من الله ، نعم ، هذا من الله». فقال : أشهد أنّك عبد الله ورسوله. والّذي يحلف به أبو سفيان ، ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلّا الله وهند.

وقال ابن المبارك ، أخبرنا عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس :

__________________

= (٤ / ٢٣٢) وكتاب المظالم (٣ / ١٠١ ، ١٠٢) باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه ، وكتاب النفقات (٦ / ١٩٢) باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها ونفقة الولد ، وكتاب الأحكام (٨ / ١٠٩) باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة ، ومسلم (ص ١٣٣٩) كتاب الأقضية (١٧١٤ / ٩) باب قضيّة هند.

(١) انظر ما قبله.

٥٦١

أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة تسعة عشر يوما ، يصلّي ركعتين. أخرجه البخاري (١).

وقال حفص بن غياث ، عن عاصم الأحول : سبعة عشر يوما. صحيح (٢).

وقال ابن عليّة ، أنا عليّ بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن عمران بن حصين : غزوت مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلّي إلا ركعتين ، يقول : يا أهل البلد صلّوا أربعة ، فإنّا سفر (٣). أخرجه أبو داود (٤). عليّ ضعيف (٥).

وقال ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة (٦).

ثم روى ابن إسحاق ، عن جماعة ، مثل هذا.

قال البيهقيّ : الأصحّ رواية ابن المبارك التي اعتمدها البخاري.

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة زمن الفتح (٥ / ٩٥) وأحمد في المسند ١ / ٢٢٣.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة (١٢٣٢) باب : متى يتمّ المسافر. وأحمد في المسند ١ / ٣٠٣ و ٣١٥.

(٣) السفر : بسكون الفاء. المسافرون.

(٤) في كتاب الصلاة (١٢٢٩) باب : متى يتمّ المسافر؟

(٥) انظر عنه : أحوال الرجال للجوزجانيّ ١١٤ رقم ١٨٥ ، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٦ / ١٨٦ رقم ١٠٢١ ، التاريخ الكبير للبخاريّ ٦ / ٢٧٥ رقم ٢٣٨٩ ، التاريخ لابن معين ٢ / ٤١٧ رقم ٣٥٢ ، تهذيب التهذيب لابن حجر ٨ / ٣٢٢ رقم ٥٤٤ ، تقريب التهذيب له ٢ / ٣٧ ، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عديّ ٥ / ١٨٤٠ ـ ١٨٤٥ ، المجروحين لابن حبّان ٢ / ١٠٣ ، الضعفاء الكبير للعقيليّ ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ رقم ١٢٣١ ، ترتيب الثقات للعجلي ٣٤٦ رقم ١١٨٦ ، تهذيب الكمال للمزّي ٢ / ٩٦٧ ، ميزان الاعتدال للذهبي ٣ / ١٢٧ رقم ٥٨٤٤ ، المغني في الضعفاء له ٢ / ٤٤٧ رقم ٤٢٦٥ ، الكاشف له ٢ / ٢٤٨ رقم ٣٩٧٥.

(٦) أخرجه النسائي في كتاب تقصير الصلاة في السفر ٣ / ١٢١ باب المقام الّذي يقصر بمثله الصلاة ، وانظر السيرة لابن هشام ٤ / ١١٣ ، والمغازي للواقدي ٢ / ٨٧١.

٥٦٢

وقال الواقديّ (١) : وفي رمضان بعث (٢) خالد بن الوليد إلى العزّى ، فهدمها (٣). وبعث عمرو بن العاص إلى سواع (٤) في رمضان ، وهو صنم هذيل ، فهدمه. وقال قلت للسّادن : كيف رأيت؟ قال : أسلمت لله (٥).

[قال] (٦) : وفي رمضان بعث سعد بن زيد الأشهليّ إلى مناة ، وكانت بالمشلّل ، للأوس والخزرج وغسّان. فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن زيد الأشهليّ في عشرين فارسا حتى انتهى إليها. وتخرج إلى سعد امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالويل ، فقال لها السّادن : مناة ، دونك بعض غضباتك. وسعد يضربها ، فقتلها. وأقبل إلى الصنم ، فهدموه لستّ بقين من رمضان (٧).

وقال منصور ، عن مجاهد ، [عن طاوس] (٨) ، عن ابن عباس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإن استنفرتم فانفروا». قاله يوم الفتح. متّفق عليه (٩).

__________________

(١) في المغازي ٢ / ٨٧٠.

(٢) في الأصل «بعثة» ، والتصحيح من نسخة (ح).

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١١٣ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٤٥ ، تاريخ الرسل والملوك للطبري ٣ / ٦٥ ، عيون الأثر لابن سيد الناس ٢ / ١٨٤ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣١٤ ، ٣١٥.

(٤) انظر عنه كتاب الأصنام للكلبي ٩ و ١٠.

(٥) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٤٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٦٦ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣١٥ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٥ ، عيون التواريخ ١ / ٣٢١ ، المغازي للواقدي ٢ / ٨٧٠.

(٦) ليست في الأصل. وأثبتناها من نسختي : ع ، ح.

(٧) المغازي للواقدي ٢ / ٨٧٠ ، الطبقات لابن سعد ٢ / ١٤٦ ، ١٤٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٦٦ ، عيون التواريخ ١ / ٣٢١ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٥.

قال الكلبي إنّ مناة أقدم الأصنام كلها ، وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد ، بين المدينة ومكة. (الأصنام ١٣).

(٨) الاستدراك على الأصل من صحيحي البخاري ومسلم.

(٩) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (٣ / ٢٠٠) باب فضل الجهاد والسير ، ومسلم في كتاب الإمارة (١٣٥٣ / ٨٥) باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد ، والخير ، وأبو داود في كتاب الجهاد (٢٤٨٠) باب في الهجرة هل انقطعت ، والترمذي في كتاب السير

٥٦٣

وقال عمرو بن مرّة : سمعت أبا البختريّ يحدّث عن أبي سعيد الخدريّ قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (١) قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «إنّي وأصحابي حيّز ، والناس حيّز ، لا هجرة بعد الفتح». فحدّثت به مروان ابن الحكم ـ وكان على المدينة ـ فقال : كذبت. وعنده زيد بن ثابت ، ورافع ابن خديج ، وكانا [١٠٠ ب] معه على السّرير. فقلت : إنّ هذين لو شاءا لحدّثاك ، ولكنّ هذا ، يعني زيدا ، يخاف أن تنزعه عن الصّدقة ، والآخر يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه. قال : فشدّ عليه بالدّرّة ، فلما رأيا ذلك قالا : صدق (٢).

وقال حمّاد بن زيد ، عن أيّوب ، حدّثني أبو قلابة ، عن عمرو بن سلمة ، ثم قال : هو حيّ ، ألا تلقاه فتسمع منه؟ فلقيت عمرا فحدّثني بالحديث ، قال : كنّا بممرّ الناس ، فتمرّ بنا الرّكبان فنسألهم : ما هذا الأمر؟ وما للنّاس؟ فيقولون : نبيّ يزعم أنّ الله قد أرسله ، وأنّ الله أوحى إليه كذا وكذا. وكانت العرب تلوّم (٣) بإسلامها الفتح ، ويقولون : انظروه ، فإنّ ظهر فهو نبيّ فصدّقوه. فلما كان وقعة الفتح ، بادر (٤) كل قوم بإسلامهم. فانطلق أبي بإسلام حوائنا (٥) إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدم فأقام عنده كذا وكذا. ثم جاءنا فتلقّيناه ، فقال : جئتكم من عند رسول الله حقّا ، وإنه يأمركم بكذا ، وصلاة كذا وكذا. وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم ، وليؤمّكم أكثركم قرآنا. فنظروا في أهل حوائنا فلم يجدوا أكثر قرآنا منّي فقدّموني ، وأنا ابن سبع سنين ، أو ستّ سنين.

__________________

= (١٦٣٨) باب ما جاء في الهجرة ، وأحمد في المسند ١ / ٢٢٦ و ٣١٦ و ٣٥٥ ، و ٣ / ٢٢ و ٤٠١ ، و ٥ / ١٨٧ ، و ٦ / ٤٦٦.

(١) أول سورة النصر.

(٢) رواه أحمد في المسند ٣ / ٢٢ و ٥ / ١٨٧.

(٣) تلوّم : أصلها تتلوّم. وتلوّم في الأمر تمكّث وانتظر.

(٤) في الأصل : بادى. والتصحيح من ح وصحيح البخاري.

(٥) الحواء : جماعة البيوت المتدانية.

٥٦٤

فكنت أصلّي بهم ، فإذا سجدت تقلّصت بردة عليّ. تقول امرأة من الحيّ : غطّوا عنّا است قارئكم هذا. قال : فكسيت معقّدة من معقّد (١) البحرين بستة دراهم أو سبعة ، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك.

أخرجه البخاري (٢) ، عن سليمان بن حرب ، عنه.

__________________

(١) المعقد : ضرب من برود هجر.

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب : وقال الليث ، بعد باب مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة زمن الفتح (٥ / ٩٥ ، ٩٦) ، والنسائي في كتاب الأذان (٢ / ٩ ، ١٠) باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٧٥ و ٥ / ٣٠ و ٧١.

٥٦٥
٥٦٦

غزوة بني حذيمة (١)

قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السرايا فيما حول مكة يدعون إلى الله تعالى ، ولم يأمرهم بقتال. فكان ممّن بعث ، خالد بن الوليد ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ، ولم يبعثه مقاتلا. فوطئ بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، فأصاب منهم.

وقال معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى ـ أحسبه قال ـ بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام. فلم يحسنوا [أن] (٢) يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا ، صبأنا. وجعل خالد [يأمر] (٣) بهم قتلا وأسرا ، ودفع إلى كل رجل منّا أسيرا. حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منّا أسيره. فقال ابن عمر : فقلت والله لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. قال : فقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر : المغازي للواقدي ٣ / ٨٧٥ ، تاريخ الطبري ٣ / ٦٦ ، تاريخ خليفة ٨٧ ، ٨٨ ، عيون التواريخ ١ / ٣١٣ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٤٧ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٥ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣١٦ ، السيرة لابن كثيرة ٣ / ٥٩٣.

(٢) ليست في الأصل ، وأثبتناها من صحيح البخاري (٥ / ١٠٧).

(٣) في الأصل «وجعل خالد بهم قتلا وأسرا». وما زدناه على الأصل يقتضيه السياق ، ففي لفظ البخاري : «فجعل خالد يقتل منهم ويأسر».

٥٦٧

فذكر له صنيع خالد. فقال ، ورفع يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد». مرتين. أخرجه البخاري (١).

وقال ابن إسحاق : حدّثني حكيم بن حكيم بن عبّاد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة بعث خالد بن الوليد ، فخرج حتى [١٠١ أ) نزل ببني جذيمة ، وهم على مائهم ، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية عمّه الفاكه بن المغيرة ، ووالد عبد الرحمن بن عوف ، فذكر الحديث ، وفيه : فأمر خالد برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا عمل خالد بن الوليد». ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا فقال : «أخرج إلى هؤلاء القوم ، فأدّ دماءهم وأموالهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك». فخرج عليّ ، وقد أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا ، فودى لهم دماءهم وأموالهم ، حتى إنه ليعطيهم ثمن ميلغة (٢) الكلب. فبقي مع عليّ بقيّة من مال ، فقال : أعطيكم هذا احتياطا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما لا يعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيما لا تعلمون. فأعطاهم إياه. ثم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره الخبر فقال : أحسنت وأصبت (٣).

* * *

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة ، عن الزّهري ، حدّثني ابن أبي حدرد ، عن أبيه ، قال : كنت في الخيل التي أصاب فيها خالد بني جذيمة ، إذا فتى منهم مجموعة يده إلى عنقه

__________________

(١) في كتاب المغازي (٥ / ١٠٧) باب بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة. وانظر :

تاريخ الطبري ٣ / ٦٧ ، والمغازي للواقدي ٣ / ٨٨١ ، وطبقات ابن سعد ٢ / ٢٤٨. ومسند أحمد ٢ / ١٥١.

(٢) الميلغة والميلغ (بالكسر) : الإناء بلغ فيه الكلب. (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ٤ / ٢٣٠).

(٣) السيرة لابن هشام ٤ / ١١١ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٨٢ ، الطبقات لابن سعد ٢ / ١٤٨ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٦٧ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣١٦ و ٣١٩ و ٣٢١ و ٣٢٢ ، السيرة لابن كثير ٣ / ٥٩٢ ، عيون التواريخ ١ / ٣١٤ ، ٣١٥.

٥٦٨

برمّة ـ يقول : بحبل ـ فقال : يا فتى ، هل أنت آخذ بهذه الرّمّة فمقدّمي إلى هذه النّسوة ، حتى أقضي إليهنّ حاجة ، ثم تصنعون [بي] (١) ما بدا لكم؟ فقلت : ليسير ما سألت. ثم أخذت برمّته فقدّمته إليهنّ ، فقال : اسلمي (٢) حبيش ، على نفد العيش. ثم قال :

أريتك (٣) إن طالبتكم فوجدتكم

بحلية أو أدركتكم بالخوانق

 ألم يك حقّا أن ينوّل عاشق

تكلّف إدلاج السّرى والودائق (٤)

 فلا ذنب لي ، قد قلت ، إذ أهلنا معا

أثيبي (٥) بودّ قبل إحدى الصّفائق (٦)

 أثيبي بودّ قبل أن تشحط (٧) النّوى

وينأى الأمير (٨) بالحبيب المفارق

 فإنّي لا سرا لديّ أضعته

ولا راق عيني بعد وجهك رائق

 على أنّ ما بي للعشيرة شاغل

عن اللهو إلّا أن تكون بوائق (٩)

فقالت : وأنت حيّيت عشرا ، وسبعا وترا ، وثمانيا تترى. ثم قدّمناه فضربنا عنقه.

__________________

(١) زيادة من النسخة (ع).

(٢) في الأصل وبقية النسخ : «أسلم». والتصويب من سيرة ابن هشام ٤ / ١١١ وغيره. قال السهيليّ : ذكر قول الرجل للمرأة : أسلمي حبيش على نفد العيش. النفد : مصدر نفد إذا فني ، وهو النفاد. وحبيش مرخّم من حبيشة. (الروض الأنف ٤ / ١٢١) وحبيشة هي معشوقة قائل الأبيات المذكورة.

(٣) في الأصل ، ح : «أرأيت». وفي (ع) : «أرأيتك» ، وما أثبتناه عن سيرة ابن هشام وغيره.

(٤) الودائق : جمع وديقة ، وهي شدّة الحرّ في الظهيرة. والإدلاج : السير ليلا.

(٥) في الأصل : أبيني : والتصحيح من ع ، ح. وأثيبي : أفضلي بالثواب.

(٦) الصفائق : كالصوافق : الحوادث وصوارف الخطوب. الواحدة : صفيقة.

(٧) تشحط : تبعد.

(٨) في الأصل (ع) : الأمين ، والمثبت من (ح).

(٩) البوائق : جمع بائقة ، وهي الداهية والبليّة تنزل بالقوم.

انظر الأبيات باختلاف في الألفاظ في : سيرة ابن هشام ٤ / ١١٢ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٤٩ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٧٩ ، تاريخ الطبري ٣ / ٦٩ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٧ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، عيون التواريخ ١ / ٣١٧ ، السيرة لابن كثير ٣ / ٥٩٥ ، الأغاني ٧ / ٢٧٩ وفيه بيتان.

٥٦٩

قال ابن إسحاق : فحدّثنا أبو فراس الأسلميّ ، عن أشياخ من قومه قد شهدوا هذا مع خالد ، قالوا : فلما قتل قامت إليه ، فما زالت ترشفه حتى ماتت عليه (١).

__________________

(١) في هامش (ح) : «هذه القصة رواها النسائي : من حديث ابن عباس. ولها طريق أخرى».

٥٧٠

غزوة حنين (١)

قال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني عاصم بن عمر ، عن عبد الرحمن ابن جابر بن عبد الله ، عن أبيه. وحدّثني عمرو بن شعيب ، والزهري ، وعبد الله بن أبي بكر ، عن حديث حنين (٢) ، حين سار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وساروا إليه. فبعضهم يحدّث بما لا يحدّث [١٠١ ب] به بعض. وقد اجتمع حديثهم : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من فتح مكة ، جمع عوف بن مالك النّصريّ بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر ، وأوزاعا (٣) من بني هلال ، وهم قليل ، وناسا من بني عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، وأوعبت معه ثقيف (٤) الأحلاف ، وبنو مالك.

ثم سار بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وساق معه الأموال والنساء والأبناء.

__________________

(١) انظر عنها : المغازي لعروة ٢١٤ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٢١ ، الروض الأنف ٤ / ١٣٨ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٨٥ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٤٩ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧٠ ، تاريخ خليفة ٨٨ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣٢٣ ، عيون الأثر ٢ / ١٨٧ ، السيرة النبويّة لابن كثير ٣ / ٦١٠ ، عيون التواريخ ١ / ٣٢١.

(٢) حنين : واد قريب من مكة ، وقيل هو واد قبل الطائف ، وقيل : واد بجنب ذي المجاز. قال الواقدي بينه وبين مكة ثلاث ليال. وهو يذكّر ويؤنّث. (معجم البلدان ٢ / ٣١٣).

(٣) الأوزاع : الجماعات المتفرقة.

(٤) في الأصل : «نصف الأحلاف» ، والتصحيح من نسختي : ع ، ح.

٥٧١

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ ، فقال : «اذهب فادخل في القوم ، حتى تعلم لنا من علمهم». فدخل فيهم ، فمكث فيهم يوما أو اثنين. ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبرهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب : «ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد»؟ فقال عمر : كذب. فقال ابن أبي حدرد : والله لئن كذّبتني يا عمر لربّما كذّبت بالحق. فقال عمر : ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال : «قد كنت يا عمر ضالّا فهداك الله».

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صفوان بن أميّة ، فسأله أدراعا عنده ، مائة درع ، وما يصلحها من عدّتها. فقال : أغصبا يا محمد؟ قال : بل عارية مضمونة. ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سائرا (١).

قال ابن إسحاق : ثنا الزهري قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين في ألفين من مكة ، وعشرة آلاف كانوا معه ، فسار بهم (٢).

وقال ابن إسحاق : واستعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العيص ابن أميّة (٣).

وبالإسناد الأوّل : أنّ عوف بن مالك أقبل فيمن معه ممّن جمع من قبائل قيس وثقيف ، ومعه دريد بن الصّمّة (٤) ، شيخ كبير في شجار (٥) له يقاد به ، حتى

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٢ ، ١٢٣.

(٢) ، (٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٣.

(٤) دريد بن الصمّة : هو أبو قرّة الهوازني ، واسم الصمّة : معاوية. من شعراء العرب وشجعانهم وذوي أسنانهم. عاش نحوا من مائتي سنة حتى سقط حاجباه على عينيه. وخرجت به هوازن يوم حنين تتيمّن برأيه فقتل كافرا.

انظر عنه في : المحبّر لابن حبيب ٢٩٨ ، الشعر والشعراء ٢ / ٦٣٥ رقم ١٧٨ ، المؤتلف والمختلف للآمدي ١١٤ ، الأغاني ١٠ / ٣ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٨٩ ، السمط الثمين ٣٩ ، المعمّرين ٢٠ ، أسماء المغتالين ٢٢٣ ، تهذيب تاريخ دمشق ٥ / ٢٢٦ ، الوافي بالوفيات ١٤ / ١١ رقم ١١ ، التذكرة السعدية ١٠٢ ، معجم الشعراء في لسان العرب ١٥٠ رقم ٣٤٤ ، خزانة الأدب للبغدادي ٤ / ٤٢٢ ، شعراء النصرانية ١ / ٧٥٢ ، الأعلام ٣ / ١٦.

(٥) الشجار : الهودج الصغير الّذي يكفي شخصا واحدا فقط ، أو مركب دون الهودج مكشوف الرأس.

٥٧٢

نزل النّاس بأوطاس (١). فقال دريد حين نزلوها فسمع رغاء البعير ونهيق الحمير ويعار (٢) الشّاء وبكاء الصغيرة : بأيّ واد أنتم؟ فقالوا : بأوطاس. فقال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس (٣). ما لي أسمع رغاء البعير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا : ساق مالك مع الناس أموالهم وذراريّهم قال : فأين هو؟ فدعي مالك. فقال : يا مالك ، إنك أصبحت رئيس قومك ، وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، فما دعاك إلى أن تسوق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؟ قال : أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنقض به (٤) دريد وقال : راعي ضأن (٥) والله ، وهل يردّ وجه المنهزم شيء؟ إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. فارفع الأموال والنساء والذراريّ إلى عليا قومهم وممتنع بلادهم. ثم قال دريد : وما فعلت كعب وكلاب؟ فقالوا : لم يحضرها منهم أحد. فقال : غاب الحدّ والجدّ ، فمن حضرها؟ قالوا : عمرو ابن [١٠٢ أ] عامر ، وعوف بن عامر فقال : ذانك الجذعان (٦) لا يضرّان ولا ينفعان.

فكره مالك أن يكون لدريد فيها رأي ، فقال : إنّك قد كبرت وكبر علمك ، والله لتطيعنّني (٧) يا معشر هوازن ، أو لأتكئنّ على هذا السيف (٨) حتى

__________________

(١) أوطاس : واد في ديار هوازن.

(٢) اليعار : صوت الغنم أو المعزى ، أو الشديد من أصوات الشاء.

(٣) الحزن : بفتح الحاء المهملة ، ما غلظ من الأرض. والضرس : الأرض الخشنة. والدّهس :

المكان السهل اللين ليس برمل ولا تراب ، أو هو الّذي تغيب فيه القوائم.

(٤) أنقض به : نقر بلسانه في فيه ثم صوّت في حافّتيه ، . كما يزجر الدّابّة ، وكل ما نقرت به فقد أنقضت به. وفي تهذيب ابن عساكر : «أنغص».

(٥) في أوصل (ح) : «يا راعي ضأن والله». والمثبت هو لفظ (ع).

(٦) في الأصل ، ح : ذلك الجذعان. وأثبتنا لفظ ع وهو أصح. والجذعان : مثنى جذع ، وهو الشاب الحدث.

(٧) في الأصل ، ح : لتطيعن. وأثبتنا لفظ ع ، وبه يرد في كل المصادر التي روت هذا الخبر.

(٨) في الأصل : على سيفي هذا. وأثبتنا عبارة ع ، ح. وهي كذلك في جميع مصادر الخبر.

٥٧٣

يخرج من ظهري. فقالوا : أطعناك. ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم (١) ، ثم شدّوا شدّة رجل واحد (٢).

وقال الواقديّ (٣) : سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة لستّ خلون من شوّال ، في اثني عشر ألفا. فقال أبو بكر : لا نغلب اليوم من قلّة. فانتهوا إلى حنين ، لعشر خلون من شوال. وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بالتعبئة ووضع الألوية والرّايات في أهلها. وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله من السّواد والكثرة ، وذلك في غبش الصبح. وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشعبه. فحملوا حملة واحدة ، فانكشفت خيل بني سليم مولّية ، وتبعهم أهل مكة ، وتبعهم الناس.

فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا أنصار الله ، وأنصار رسوله ، أنا عبد الله ورسوله». وثبت معه يومئذ : عمّه العباس ، وابنه الفضل ، وعليّ بن أبي طالب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وأخوه ربيعة ، وأبو بكر ، وعمر ، وأسامة بن زيد ، وجماعة (٤).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني أميّة بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، أنه حدّث أنّ مالك بن عوف بعث عيونا ، فأتوه وقد تقطّعت أوصالهم. فقال : ويلكم ، ما شأنكم؟ فقالوا : أتانا رجال بيض على خيل بلق ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فما ردّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد (٥). منقطع.

__________________

(١) جفن السيف : غمده.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق ٥ / ٢٢٩ ، ٢٣٠ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧١ ، ٧٢ ، الأغاني ١٠ / ١٠ ، ٣١ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٢ ، نهاية الأرب ١٧ / ٣٢٤ ، ٣٢٥ ، معجم البلدان ١ / ٢٨١.

(٣) المغازي (٣ / ٨٨٩ وما بعدها).

(٤) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٤ ، الطبري ٣ / ٧٤ ، المغازي لعروة ٢١٥ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٥٠ ، ١٥١ نهاية الأرب ١٧ / ٣٢٨.

(٥) المغازي للواقدي ٣ / ٨٩٢ ، تاريخ الطبري ٣ / ٨٢ ، سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٢.

٥٧٤

وعن الربيع بن أنس ، أنّ رجلا قال : لن نغلب من قلّة. فشقّ ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) (١).

وقال معاوية بن سلّام ، عن زيد بن سلّام ، سمع أبا سلّام (٢) يقول : حدّثني السّلوليّ ، أنه حدّثه سهل بن الحنظليّة ، أنّهم ساروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى كان عشيّة ، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء فارس فقال : يا رسول الله إنّي انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذ أنا بهوازن على بكرة أبيهم ، بظعنهم ونعمهم وشائهم ، اجتمعوا إلى حنين. فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله» ثم قال : من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنويّ : أنا يا رسول الله. قال : فاركب. فركب فرسا له ، وجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «استقبل هذا الشّعب حتى تكون في أعلاه ، ولا تغرّنّ (٣) من قبلك الليلة».

فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصلّاه فركع ركعتين ، ثم قال :

أحسستم فارسكم؟ قالوا : يا رسول الله ، لا. فثوّب بالصلاة [١٠٢ ب] فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ويلتفت إلى الشّعب ، حتى إذا قضى صلاته وسلّم قال : «أبشروا ، فقد جاء فارسكم». فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشّعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني كنت انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أصبحت اطّلعت الشّعبين ، فنظرت فلم أر أحدا. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هل نزلت الليلة؟ قال : لا ، إلّا مصلّيا أو قاضي حاجة. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد

__________________

(١) سورة التوبة ـ الآية ٢٥.

(٢) في الأصل «سمع سلام أبا سلام» ، والتصحيح من ع ، ح ، وسنن أبي داود.

(٣) لا تغرّنّ : لا تؤخذ على غرّة.

٥٧٥

أوجبت (١) ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها». أخرجه أبو داود (٢).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني عاصم بن عمر ، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، عن أبيه ، قال : خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، فأعدّوا وتهيّئوا في مضايق الوادي وأحنائه. وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فانحطّ بهم في الوادي في عماية الصبح. فلما انحطّ الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدّت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات اليمين يقول : «أيّها الناس ، هلمّوا ، إنّي أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله». فلا ينثني (٣) أحد. وركبت الإبل بعضها بعضا. فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس ، ومعه رهط من أهل بيته ورهط من المهاجرين ، والعبّاس آخذ بحكمة (٤) بغلته البيضاء ، وثبت معه عليّ ، وأبو سفيان ، وربيعة ، ابنا الحارث ، والفضل بن عباس ، وأيمن بن أمّ أيمن ، وأسامة ، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر. قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء أمام هوازن ، إذا أدرك الناس طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فيتبعوه. فلما انهزم من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جفاة أهل مكة ، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّعن. فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحور. وإنّ الأزلام لمعه في كنانته (٥).

قال ابن إسحاق : فحدّثني عبد الله بن أبي بكر قال : سار أبو سفيان إلى حنين ، وإنّه ليظهر الإسلام ، وإنّ الأزلام التي يستقسم بها في كنانته (٦).

__________________

(١) أوجبت : أي عملت عملا يوجب لك الجنة.

(٢) سنن أبي داود : كتاب الجهاد ، باب في فضل الحرس في سبيل الله تعالى (٢٥٠١).

(٣) في الأصل : «يثني». وفي ع : «يلبي». وأثبتنا لفظ ح.

(٤) الحكمة : ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٤ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٩٨ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧٤.

(٦) المغازي للواقدي ٣ / ٨٩٦.

٥٧٦

قال شيبة بن عثمان العبدريّ : اليوم أدرك ثأري ـ وكان أبوه قتل يوم أحد ـ اليوم أقتل محمدا. قال : فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتّى تغشّى فؤادي ، فلم أطق ، فعرفت أنه ممنوع (١).

وحدّثني عاصم ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى من الناس ما رأى قال : «يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السّمرة» : فأجابوه : لبّيك لبيك. فجعل الرجل منهم يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيقذف (٢) درعه من عنقه ، ويؤمّ [١٠٣ أ] الصوت ، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم مائة. فاستعرضوا الناس ، فاقتتلوا. وكانت الدّعوة أوّل ما كانت للأنصار ، ثم جعلت آخرا بالخزرج ، وكانوا صبرا عند الحرب ، وأشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ركائبه ، فنظر إلى مجتلد القوم فقال : «الآن حمي الوطيس». قال : فو الله ما رجعت راجعة الناس إلّا والأسارى عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقتل الله من قتل منهم ، وانهزم من انهزم منهم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم (٣).

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة (٤). وقال موسى بن عقبة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى حنين ، فخرج معه أهل مكة ، لم يتغادر منهم أحد ، ركبانا ومشاة ، حتى خرج النّساء مشاة (٥) ، ينظرون ويرجون الغنائم ، ولا يكرهون الصّدمة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

وقال ابن عقبة : جعل أبو سفيان كلّما سقط ترس أو سيف من الصحابة ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٤.

(٢) في الأصل : «فنفذت». والتصحيح من ع ، ح.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢٥ ، المغازي للواقدي ٣ / ٨٩٩ ، ٩٠٠ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٥١ ، تاريخ الطبري ٣ / ٧٦.

(٤) في المغازي ٢١٤.

(٥) في المغازي لعروة زيادة «على غير دين».

٥٧٧

نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعطونيه أحمله ، حتّى أوقر جمله.

قالا : فلما أصبح القوم ، اعتزل أبو سفيان ، وابنه معاوية ، وصفوان بن أميّة ، وحكيم بن حزام ، وراء تلّ ، ينظرون لمن تكون الدّبرة (١). وركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستقبل الصفوف ، فأمرهم ، وحضّهم على القتال. فبينا هم على ذلك حمل المشركون عليهم حملة (٢) رجل واحد ، فولّوا مدبرين. فقال حارثة بن النّعمان : لقد حزرت من بقي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أدبر الناس فقلت مائة رجل : ومرّ رجل من قريش على صفوان فقال : أبشر بهزيمة محمد وأصحابه ، فو الله لا يجتبرونها (٣) أبدا. فقال : أتبشّرني بظهور الأعراب؟ فو الله لربّ من قريش أحبّ إليّ من ربّ من الأعراب. ثم بعث غلاما له فقال : اسمع لمن الشّعار؟ فجاءه الغلام فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن ، [يا بني عبد الله] (٤) ، يا بني عبيد الله. فقال : ظهر محمد. وكان ذلك شعارهم في الحرب. وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا غشيه القتال قام في الرّكابين ، ويقولون رفع يديه إلى الله تعالى يدعوه ، يقول : «اللهمّ إنّي أنشدك ما وعدتني ، اللهمّ لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا». ونادى أصحابه : «يا أصحاب البيعة يوم الحديبيّة ، الله الله ، الكرّة على نبيّكم». ويقال قال : «يا أنصار الله وأنصار رسوله ، يا بني الخزرج» (٥). وأمر من يناديهم بذلك. وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ، ونواصيهم كلّها. وقال : «شاهت الوجوه». وأقبل إليه أصحابه سراعا ، وهزم الله المشركين. وفرّ مالك بن عوف

__________________

(١) في المغازي لعروة «الدائرة».

(٢) في الأصل «حمل» ، والمثبت من نسختي : ع ، ح.

(٣) في الأصل ، ح : «يحتبرونها» ، وفي ع : «يختبرونها». ولعل الوجه ما أثبتناه ، أخذا عن لفظ المقريزي في الإمتاع : والله لا يجتبرها محمد وأصحابه أبدا. من جبر الكسر والمصيبة وغيرهما ، واجتبر الشيء أصلح أمره وأقامه.

(٤) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع ، ح. ومغازي عروة.

(٥) في مغازي عروة زيادة «يا أصحاب سورة البقرة».

٥٧٨

حتى دخل حصن الطّائف في ناس من قومه.

وأسلم حينئذ ناس كثير من أهل مكة ، حين رأوا نصر الله رسوله.

مختصر من حديث ابن عقبة (١). وليس عند عروة قيام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرّكابين (٢) ، ولا قوله : يا أنصار الله.

وقال شعبة : عن أبي إسحاق ، سمع البراء ، وقال له رجل : يا أبا عمارة ، [١٠٣ ب] أفررتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين؟ قال : لكنّ رسول الله لم يفرّ. إنّ هوازن كانوا رماة ، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلوا بالسّهام ، فانهزم الناس. فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

أنا النّبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب

 متّفق عليه (٣).

وأخرجه البخاري (٤) ومسلم (٥). من حديث زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق. وفيه : ولكن خرج شبّان أصحابه وأخفّاؤهم حسّرا ليس عليهم كثير سلاح ، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم. وزاد فيه مسلم ، من حديث زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق : اللهمّ نزّل نصرك. قال : وكنا إذا

__________________

(١) انظر النص في المغازي لعروة ٢١٤ ، ٢١٥ ، ورواه البيهقي.

(٢) يقول خادم العلم عمر بن عبد السلام تدمري إن قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الركابين ، موجود في المغازي لعروة ، خلافا لقول المؤلّف رحمه‌الله. (انظر المغازي ٢١٥).

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب قول الله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) (٥ / ٩٨). وصحيح مسلم : كتاب الجهاد والسير ، باب في غزوة حنين (٧٨ / ١٧٧٦) ، والترمذي في كتاب الجهاد (١٧٣٨) باب ما جاء في الثبات عند القتال ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨٠ و ٢٨١ و ٢٨٩ و ٣٠٤.

(٤) في كتاب الجهاد والسير (٣ / ٢٣٣) باب من صفّ أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابّته واستنصر.

(٥) في كتاب الجهاد والسير (٨٠ / ١٧٧٦) باب في غزوة حنين.

٥٧٩

حميّ (١) البأس نتّقي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن سعيد بن العاص ، أخبرني سيابة بن عاصم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم حنين : «أنا ابن العواتك» (٢).

وقال أبو عوانة ، عن قتادة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في بعض مغازيه : «أنا ابن العواتك».

وقال يونس ، عن ابن شهاب : حدّثني كثير بن العبّاس بن عبد المطّلب ، قال : قال العباس : شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء ، أهداها له فروة ابن نفاثة الجذاميّ. فلما التقى المسلمون والكفّار ، ولّى المسلمون مدبرين. فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يركض بغلته قبل الكفّار ، وأنا آخذ بلجامها ، أكفّها إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركابه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي عباس ، ناد أصحاب السّمرة (٣). فقال عباس ـ وكان رجلا صيّتا ـ فقلت بأعلى صوتي : أيّ (٤) أصحاب السّمرة. قال : فو الله ، لكأنّما عطفتهم حين سمعوا صوتي ، عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يا لبّيكاه ، يا لبّيكاه (٥). فاقتتلوا هم والكفّار ، والدّعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار ، يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج ، فقالوا : يا بني الحارث بن الخزرج ، يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على بغلته ، كالمتطاول

__________________

(١) في صحيح مسلم «إذا احمرّ» ، والمثبت عن الأصل وبقية النسخ.

(٢) العواتك : جمع عاتكة اسم علم للأنثى منقول من الصفات. والعاتكة المرأة المحمّرة من الطيب أو هي المصفّرة من الزعفران.

(٣) السمرة : هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان.

(٤) كذا في النسخ الثلاث ، ولفظ مسلم : «أين».

(٥) عند مسلم : «يا لبّيك يا لبّيك».

٥٨٠