تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

فتح مكّة (١)

«زادها الله شرفا» (٢)

قال البكّائي ، عن ابن إسحاق (٣) : ثم إنّ بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة (٤) ، وهم على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير (٥). وكان الّذي هاج ما بين بكر وخزاعة رجلا من بني الحضرميّ (٦) خرج تاجرا ، فلما توسّط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله. فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب

__________________

(١) انظر عن الفتح : سيرة ابن هشام ٤ / ٨٤ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٣٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٨ ، تاريخ خليفة ٨٧ ، المغازي لعروة ٢٠٨ ، المغازي للواقدي ٢ / ٧٨٠ ، فتوح البلدان ١ / ٤١ ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٢ ، الروض الأنف ٤ / ٩٥ ، عيون الأثر ٢ / ١٦٣ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٧٨ ، نهاية الأرب ١٧ / ٢٨٧ ، عيون التواريخ ١ / ٢٨٨ ، الدرر في المغازي والسير لابن عبد البرّ ٢٢٤ ، جوامع السيرة لابن حزم ٢٢٣ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ / ١٢٠ ، فتح الباري لابن حجر ٨ / ٤ ، صحيح البخاري ٥ / ٨٩ ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٠٥ (١٧٨٠) جامع الأصول لابن الأثير ٨ / ٣٥٨.

(٢) هذا الدعاء من زيادات الأصل ولم يرد في ع ، ح.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ٨٤.

(٤) بنو بكر : بطن من كنانة بن خزيمة من العدنانية. وخزاعة : قبيلة من الأزد من القحطانية ، اختلف في نسبهم بين المعديّة واليمانيّة.

(٥) الوتير ماء لخزاعة بأسفل مكة ، قيل إنه ما بين عرفة إلى أدام.

(٦) هو فيما يرويه ابن هشام : مالك بن عبّاد الحضرميّ ، وكذا عند الطبري ٣ / ٤٣.

٥٢١

بني الأسود بن رزن الدّيليّ ، وهم منخر (١) بني كنانة وأشرافهم ، فقتلوهم بعرفة.

فبينا [٩٠ ب] بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل النّاس به. فلما كان صلح الحديبيّة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرط لهم أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل فيه (٢) ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنها وكافرها.

فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الدّيل ، أحد بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك الإخوة. فخرج نوفل بن معاوية الدّيليّ في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير ، فاقتتلوا. وردفت قريش بني الدّيل بالسلاح ، وقوم من قريش أعانت خزاعة بأنفسهم ، مستخفين بذلك ، حتى حازوا (٣) خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل ، اتّق إلهك ولا تستحلّ الحرم. فقال : لا إله لي اليوم ، والله يا بني كنانة إنّكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة. ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ، ودار رافع مولى خزاعة.

فلما تظاهر (٤) بنو بكر وقريش على خزاعة ، كان ذلك نقضا للهدنة التي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ فقدم على النّبيّ

__________________

(١) في طبعة القدسي ٤٨٥ «مفخر» والتصحيح من سيرة ابن هشام ، وتاريخ الطبري. والمنخر هم المتقدّمون ، لأن الأنف هو المقدّم من الوجه.

(٢) في النسخ الثلاث (معه) وما أثبتناه عن السيرة ، وتاريخ الطبري.

(٣) في الأصل : جازوا. وحازوهم : ساقوهم.

(٤) في السيرة ٤ / ٨٦ وتاريخ الطبري ٣ / ٤٤ «تظاهرت».

٥٢٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة مستغيثين به ، فوقف عمرو عليه ، وهو جالس في المسجد بين ظهري (١) النّاس فقال :

 يا ربّ إنّي ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

 قد كنتم ولدا وكنّا والدا

ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا

 فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

 فيهم رسول الله قد تجرّدا

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

 في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

 ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

 وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا

 هم بيّتونا بالوتير هجّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

فانصر ، هداك الله ، نصرا أيّدا (٢)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت يا عمرو بن سالم».

ثم عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنان (٣) من السماء ، فقال : إنّ هذه السحابة لتستهلّ (٤) بنصر بني كعب ، يعني خزاعة. ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كأنّكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد في المدّة. ومضى بديل وأصحابه فلقوا أبا سفيان ابن حرب بعسفان ، قد جاء ليشدّ العقد ويزيد في المدّة ، وقد رهبوا الّذي

__________________

(١) يقال هو بين ظهريهم وظهرانيهم أي وسطهم وفي معظمهم.

(٢) انظر الأبيات في السيرة ، والمغازي للواقدي ٢ / ٧٨٩ ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٥ ، نهاية الأرب ١٧ / ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، عيون التواريخ ١ / ٢٨٨ ، عيون الأثر ٢ / ١٦٤ البداية والنهاية ٤ / ٢٧٨ ، وشفاء الغرام بتحقيقنا ٢ / ١٧٥.

(٣) العنان : السحاب ، واحدته عنانة.

(٤) استهلّ المطر ، واستهلّ السّحاب بالمطر : اشتدّ انصبابه وارتفع صوت وقعه.

٥٢٣

صنعوا. فلمّا لقي بديل بن ورقاء قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظنّ أنّه أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سرت في خزاعة على الساحل. قال : أو ما جئت محمّدا؟ قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء إلى المدينة لقد علف بها النّوى. فأتى مبرك راحلته ففتّه فرأى فيه النّوى فقال : أحلف بالله لقد أتى محمّدا.

ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أمّ حبيبة أمّ المؤمنين. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوته عنه ، فقال : ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنّي؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت رجل مشرك ، نجس. قال : والله لقد أصابك يا بنيّة بعدي شرّ.

ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يردّ عليه شيئا. فذهب إلى أبي بكر فكلّمه أن يكلّم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما أنا بفاعل. ثم أتى إلى عمر فكلّمه فقال : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! فو الله لو لم أجد إلّا الذّرّ لجالدتكم عليه. ثم خرج حتى أتى عليّا وعنده فاطمة وابنها الحسن وهو غلام يدبّ ، فقال : يا عليّ إنّك أمسّ القوم بي رحما ، وإنّي قد جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا ، فاشفع لي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين النّاس فيكون سيّد العرب إلى آخر الدّهر؟ قالت : والله ما بلغ بنيّ ذلك ، وما يجير أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : يا أبا حسن ، إنّي أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني. قال : والله ما أعلم شيئا يغني عنك ، ولكنّك سيّد بني كنانة ، فقم فأجر بين النّاس ثم الحق بأرضك. قال : أو ترى ذلك مغنيا عنّي؟ قال : لا والله ما أظنّه ،

* * *

٥٢٤

ولكن لا أجد لك غير [ذلك] (١). فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيّها النّاس إنّي قد أجرت بين النّاس. ثم ركب بعيره وانطلق. فلما قدم على قريش ، قالوا : ما وراءك؟ فقصّ شأنه ، وأنّه أجار بين النّاس. قالوا : فهل أجاز ذلك محمد؟ قال : لا. قالوا : والله إن زاد الرجل على أن لعب بك.

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهّزوه. ثم أعلى النّاس بأنّه يريد مكة ، وقال : اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم.

فعن عروة وغيره قالوا : لما أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السّير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك مع امرأة ، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي بفعله. فأرسل في طلبها عليّا والزّبير. وذكر الحديث (٢).

أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشيّ [٩١ ب] وجماعة ، قالوا : ثنا الحسن بن يحيى المخزوميّ ، ثنا عبد الله بن رفاعة ، أنا عليّ بن الحسن الشافعيّ ، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النّحّاس ، أنبأ عثمان بن محمد السمرقندي ، ثنا أحمد بن شعبان ، ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن حسن بن محمد ، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع ـ وهو كاتب عليّ ـ قال : سمعت عليّا يقول : بعثني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزّبير والمقداد ، قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (٣) ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها.

__________________

(١) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع ، ح ، ومن السيرة لابن هشام ٤ / ٨٧ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٤٧.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٨٤ ـ ٨٨ ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٢ ـ ٤٩ ، المغازي للواقدي ٢ / ٧٨٠ ـ ٧٩٨ ، نهاية الأرب ١٧ / ٢٨٧ ـ ٢٩١ ، عيون الأثر ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٧ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٧٨ ـ ٢٨٣ ، عيون التواريخ ١ / ٢٨٨ ـ ٢٩١ ، شفاء الغرام ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٨.

(٣) روضة خاخ : موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة. ذكرها ياقوت ولم يعرّف بموقعها (معجم البلدان ٢ / ٨٨).

٥٢٥

فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الرّوضة. قلنا : أخرجي الكتاب قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لنقلعنّ الثياب. فأخرجته من عقاصها (١) فأتينا به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا حاطب ما هذا»؟ قال : يا رسول الله لا تعجل ، إنّي كنت امرأ ملصقا (٢) في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكان من كان من المهاجرين معك لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة ، ولم يكن لي قرابة ، فأحببت أن أتّخذ فيهم يدا ـ إذ فاتني ذلك ـ يحمون بها قرابتي ، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه قد صدقكم». فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال : «إنّه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعلّ الله تعالى اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

أخرجه البخاري عن قتيبة (٣) ومسلم عن ابن أبي شيبة (٤) وأبو داود عن مسدّد (٥) كلّهم عن سفيان (٦).

__________________

(١) العقاص : جمع عقيصة ، وهي ضفيرة الشعير.

(٢) عند السهيليّ في الروض الأنف ٤ / ٩٨ «كنت عريرا» ثم فسّر العرير وقال : هو الغريب.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح. (٥ / ٨٩) وهو عن قتيبة عن سفيان بالسند المذكور. وباب فضل من شهد بدرا ، وفي كتاب الجهاد ، باب الجاسوس ، وباب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمّة والمؤمنات إذا عصين الله وتجريدهنّ ، وفي تفسير سورة الممتحنة في فاتحتها ، وفي الاستئذان ، باب من نظر في كتاب من يحذر من المسلمين ليستبين أمره ، وفي استتابة المرتدّين ، باب ما جاء في المتأولين. (جامع الأصول ٨ / ٣٦٠ ، ٣٦١).

(٤) صحيح مسلم (٢٤٩٤) كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة.

(٥) سنن أبي داود : كتاب الجهاد. باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما (٢ / ٤٤).

(٦) وأخرجه الترمذي رقم (٣٣٠٢) في تفسير القرآن ، باب ومن سورة الممتحنة. وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ٨٨.

٥٢٦

أبو حذيفة النّهدي (١) : ثنا عكرمة بن عمّار ، عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس قال : قال عمر : كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء به إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا حاطب ما دعاك إلى هذا؟ قال : كان أهلي فيهم وخشيت أن يصرموا عليهم ، فقلت أكتب كتابا لا يضرّ الله ورسوله. فاخترطت (٢) السيف فقلت : يا رسول الله ، أضرب عنقه فقد كفر. فقال : «وما يدريك لعلّ الله اطّلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». هذا حديث حسن (٣).

وعن ابن إسحاق نحوه (٤) ، وزاد : فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) (٥).

وعن ابن إسحاق (٦) ، قال : عن ابن عبّاس قال : ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسفره ، واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاريّ. وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام وصام النّاس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج أفطر. اسم أبي رهم : كلثوم بن حصين.

وقال سعيد بن بشير ، عن قتادة : إنّ خزاعة أسلمت في دارهم ، فقبل رسولا الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلامها ، وجعل إسلامها في دارها.

وقال سعيد بن عبد العزيز ، وغيره : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدخل في عهده يوم الحديبيّة خزاعة.

__________________

(١) في الأصل : الزيدي. والتصحيح من ع ، ح ومن ترجمته في تهذيب التهذيب (١٠ / ٣٧٠).

(٢) في الأصل : فاختطفت. وأثبتنا عبارة ع ، ح.

(٣) قال ابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ٢٨٤ : أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث سفيان ابن عيينة ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وانظر الطبري ٣ / ٤٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٤ / ٨٨.

(٥) سورة الممتحنة : من الآية الأولى.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ / ٨٨ ، تاريخ الطبري ٣ / ٥٠ ، شفاء الغرام ٢ / ١٨٠.

٥٢٧

وقال [٩٢ أ] الوليد بن مسلم : أخبرني من سمع عمرو بن دينار ، عن ابن عمر قال : كانت خزاعة حلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونفاثة (١) حلف أبي سفيان. فعدت نفاثة على خزاعة ، فأمدّتها قريش. فلم يغز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة ، فخيّرهم بين إحدى ثلاث : أن يدوا قتلى خزاعة ، وبين أن يبرءوا من حلف نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء. قالوا : ننبذ على سواء. فلمّا سار ندمت قريش ، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد.

وقال : ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال (٢) : كانت بين نفاثة من بني الدّيل ، وبين بني كعب ، حرب. فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب. فنكثوا العهد إلّا بنو مدلج ، فإنّهم وفوا بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فذكر القصّة ، وشعر عمرو بن سالم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي». فأنشأت سحابة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذه السحابة تستهلّ بنصر بني كعب ، أبصروا أبا سفيان فإنّه قادم عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة في المدّة» (٣).

فأقبل أبو سفيان فقال : يا محمد جدّد العهد وزدنا في المدّة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو لذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم؟» قال : معاذ الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن على عهدنا وصلحنا». ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وأنّه قال له : أنت أكبر قريش فأجر بينها. قال : صدقت إنّي كذلك فصاح : ألا إنّي قد أجرت بين النّاس ، وما أظنّ أن يردّ جواري ولا يحقر بي. قال : أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة؟ ثم خرج.

__________________

(١) نفاثة : بطن من كنانة من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة.

(٢) المغازي لعروة ٢٠٨.

(٣) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٣٤ والمغازي للواقدي ٢ / ٧٩١.

٥٢٨

فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أدبر : «اللهمّ سدّ على أبصارهم وأسماعهم فلا يروني إلّا بغتة». فانطلق أبو سفيان حتى قدم مكة فحدّث قومه ، فقالوا : أرضيت بالباطل وجئتنا بما لا يغني عنّا شيئا ، وإنّما لعب بك عليّ.

وأغبر (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهاز ، مخفيا لذلك. فدخل أبو بكر على ابنته ، فرأى شيئا من جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنكر وقال : أين يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت عائشة : تجهّز (٢) ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاز قومك ، قد غضب لبني كعب. فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشفقت عائشة أن يسقط أبوها بما أخبرته قبل أن يذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأشارت إلى أبيها بعينها ، فسكت. فمكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة يتحدّث مع أبي بكر ثم قال : «هل تجهّزت يا أبا بكر»؟ قال : لما ذا يا رسول الله؟ قال : «لغزو قريش ، فإنّهم قد غدروا ونقضوا العهد ، وإنّا غازون إن شاء الله».

وأذّن في النّاس بالغزو ، فكتب حاطب إلى قريش فذكر حديثه. وقال : ثم (٣) خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين ، [٩٢ ب] والأنصار ، وأسلم ، وغفار ، ومزينة ، وجهينة ، وبني سليم. وقادوا الخيول حتى نزلوا بمرّ الظّهران ، ولم تعلم بهم قريش. قال ، فبعثوا حكيم بن حزام وأبا سفيان وقالوا : خذوا لنا جوارا أو آذنوا (٤) بالحرب. فخرجا فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه ، فخرج معهما حتى إذا كانوا بالأراك (٥) بمكة ، وذلك عشاء ، رأوا الفساطيط والعسكر ، وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا. فقال :

__________________

(١) أغبر في الأمر : جدّ في طلبه.

(٢) في الأصل : نجهزه والتصحيح من ح.

(٣) من هنا يبدأ الحديث في المطبوع من المغازي لعروة ٢٠٩.

(٤) في مغازي عروة «آذنوه».

(٥) الأراك : فرع من دون ثافل (جبل) قرب مكة ، وقيل موضع من نمرة في موضع من عرفة.

(معجم البلدان ١ / ١٣٥).

٥٢٩

هؤلاء بنو كعب جاشت بهم الحرب. قال بديل : هؤلاء أكثر من بني كعب ، ما بلغ تأليبها هذا (١).

وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث بين يديه خيلا (٢) لا يتركون أحدا يمضي. فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت اللّيل وأتوا بهم. فقام عمر إلى أبي سفيان فوجأ عنقه ، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، فحسبه الحرس أن يخلص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخاف القتل ، وكان العبّاس بن عبد المطّلب خالصة له في الجاهلية ، فنادى بأعلى صوته : ألا تأمر بي (٣) عبّاس؟ فأتاه فدفع عنه ، وسأل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبضه إليه. فركب به تحت اللّيل ، فسار به في عسكر القوم حتى أبصره (٤) أجمع. وكان عمر قال له حين وجأه : لا تدن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تموت. فاستغاث بالعبّاس وقال : إنّي مقتول. فمنعه من النّاس. فلما رأى كثرة الجيش قال : لم أر كاللّيلة جمعا لقوم. فخلّصه (٥) عبّاس من أيديهم ، وقال : إنّك مقتول إن لم تسلم وتشهد أنّ محمدا رسول الله. فجعل يريد أن يقول الّذي يأمره عبّاس ، ولا ينطلق به لسانه وبات معه.

وأما حكيم وبديل فدخلا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلما. وجعل يستخبرهما عن أهل مكّة.

فلما نودي بالفجر تجسّس القوم ، ففزع أبو سفيان وقال : [يا] (٦)

__________________

(١) في المغازي لعروة زيادة بعدها : «أفتنتجع هوازن أرضنا؟ والله ما نعرف هذا أيضا إن هذا لمثل حاج النّاس».

(٢) في المغازي لعروة ٢٠٩ «بين يديه خيلا تقبض العيون وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدا يمضي». وانظر فتح الباري لابن حجر ٨ / ٧.

(٣) في المغازي لعروة ٢٠٩ «لي».

(٤) في المغازي لعروة ٢٠٩ «أبصروه».

(٥) في الأصل : فجعله. والتصحيح من ح. ومغازي عروة ٢١٠.

(٦) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ح. ومن مغازي عروة.

٥٣٠

عبّاس ، ما يريدون؟ قال : سمعوا النّداء بالصلاة فتبشّروا (١) بحضور النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا أبصرهم أبو سفيان يمرّون إلى الصّلاة ، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : يا عبّاس ، ما يأمرهم بشيء إلّا فعلوه؟! فقال : لو نهاهم عن الطّعام والشّراب لأطاعوه ، فقال ، يا عبّاس ، فكلّمه في قومك ، هل عنده من عفو عنهم؟ فانطلق عبّاس بأبي سفيان حتى أدخله على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان. فقال أبو سفيان : يا محمد قد استنصرت بإلهي واستنصرت بإلهك ، فو الله ما لقيتك من مرّة إلّا ظهرت عليّ ، فلو كان إلهي محقّا وإلهك باطلا ظهرت عليك ، فأشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله.

وقال عبّاس : يا رسول الله إنّي أحبّ أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم ما نزل بهم ، وأدعوهم إلى الله ورسوله. فأذن له. قال : كيف أقول لهم؟ قال : «من قال لا إله إلّا الله [٩٣ أ] وحده لا شريك له ، وشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، وكفّ يده ، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن». قال : يا رسول الله ، أبو سفيان ابن عمّنا ، فأحبّ أن يرجع معي ، وقد خصصته (٢) بمعروف. فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فجعل أبو سفيان يستفهمه (٣). ودار أبي سفيان بأعلى مكة. وقال : من دخل دارك يا حكيم فهو آمن. ودار حكيم في أسفل مكة.

وحمل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم العبّاس على بغلته البيضاء التي أهداها إليه دحية الكلبيّ ، فانطلق العبّاس وأبو سفيان قد أردفه. ثم بعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثره ، فقال : أدركوا العبّاس فردّوه عليّ. وحدّثهم بالذي خاف عليه. فأدركه

__________________

(١) في المغازي لعروة «يتيّسرون لحضور».

(٢) في المغازي لعروة : ٢١ «فلو اختصصته بمعروف».

(٣) في المغازي لعروة «يستفقهه».

٥٣١

الرسول ، فكره عبّاس الرجوع ، وقال : أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغبا في قلّة النّاس فيكفر بعد إسلامه؟ فقال : احبسه فحبسه. فقال أبو سفيان : غدرا يا بني هاشم؟ فقال عبّاس : إنّا لسنا نغدر ، ولكن بي إليك بعض الحاجة. فقال : وما هي ، فأقضيها لك؟ قال : إنّما نفاذها حين يقدم عليك خالد بن الوليد والزّبير بن العوّام. فوقف عبّاس بالمضيق دون الأراك ، وقد وعى منه أبو سفيان حديثه.

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخيل بعضها على أثر بعض ، وقسم الخيل شطرين ، فبعث الزّبير في خيل عظيمة. فلما مرّوا بأبي سفيان قال للعبّاس : من هذا؟ قال : الزّبير. وردفه خالد بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة ، فقال أبو سفيان : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا يا عبّاس؟ قال : لا ، ولكن هذا خالد بن الوليد. وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار ، فقال : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة. ثم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار.

فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها قال : يا رسول الله ، اخترت هذه الوجوه على قومك؟ قال : أنت فعلت ذلك وقومك. إنّ هؤلاء صدّقوني إذ كذّبتموني ، ونصروني إذ أخّرتموني ، ومع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ الأقرع بن حابس ، وعبّاس بن مرداس السّلمي ، وعيينة بن بدر ، فلما أبصرهم حول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من هؤلاء يا عبّاس؟ قال : هذه كتيبة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع هذه الموت الأحمر ، هؤلاء المهاجرون والأنصار ، قال : امض يا عبّاس ، فلم أر كاليوم جنودا قطّ ولا جماعة ، وسار الزّبير بالنّاس حتى إذا وقف بالحجون (١) ، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة. فلقيته بنو بكر فقاتلهم

__________________

(١) الحجون : جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها. وهو بالفتح ثم الضم. (معجم البلدان ٢ / ٢٢٥).

٥٣٢

فهزمهم ، وقتل منهم قريبا من عشرين ، ومن هذيل ثلاثة [٩٣ ب] أو أربعة ، وهزموا وقتلوا بالحزورة (١) ، حتى دخلوا الدّور ، وارتفعت طائفة منه على الجبل على الخندمة ، واتّبعهم المسلمون بالسّيوف.

ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخريات النّاس ، ونادى مناد : من أغلق عليه داره وكفّ يده فهو آمن (٢). وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نازلا بذي طوى ، فقال : «كيف قال حسّان»؟ فقال رجل من أصحابه : قال :

عدمت بنيّتي (٣) إن لم تروها

تثير النّفع من كتفي كداء (٤)

 فأمرهم فأدخلوا الخيل من حيث قال حسّان. فأدخلت من ذي طوى من أسفل مكة. واستحرّ القتل ببني بكر. فأحلّ الله له مكّة ساعة من نهار ، وذلك قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (٥) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أحلّت الحرمة لأحد قبلي ولا بعدي ، ولا أحلّت لي إلّا ساعة من نهار.

ونادى أبو سفيان بمكة : أسلموا تسلموا (٦). وكفّهم الله عن عباس.

فأقبلت هند فأخذت بلحية أبي سفيان ، ثم نادت : يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق. قال : أرسلي لحيتي ، فأقسم لئن أنت لم تسلمي ليضربنّ

__________________

(١) الحزورة : بالفتح ثم السكون وفتح الواو والراء. وهو في اللغة : الرابية الصغيرة وجمعها حزاور. سوق مكة وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه. (معجم البلدان ٢ / ٢٥٥).

(٢) حتى هنا رواية عروة في المغازي ٢١١.

(٣) وفي رواية «ثنيّتي» ، والبيت من جملة أبيات ستأتي بعد قليل.

(٤) كداء : (بالفتح والمد) بأعلى مكة عند المحصب ، دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من ذي طوى إليها. وقيل هي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة وهي التي تهبط منها إلى الأبطح والمقبرة منها عن يسارك ، و

أما العقبة الوسطى التي بأسفل مكة فهي كدي (بالضمّ والقصر). وقد اختلف في ذلك ، (انظر معجم البلدان ٤ / ٤٣٩ ـ ٤٤١).

(٥) سورة البلد. الآيتان ١ ، ٢.

(٦) في الأصل : أسلموا أسلموا. وأثبتنا عبارة ع ، ح. ومغازي عروة ٢١١.

٥٣٣

عنقك ، ويلك ، جاءنا بالحقّ ادخلي بيتك واسكني.

ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطاف سبعا على راحلته (١).

وفرّ صفوان بن أميّة عامدا للبحر ، وفرّ عكرمة عامدا لليمن. وأقبل عمير بن وهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبيّ الله أمّن صفوان فقد هرب ، وقد خشيت أن تهلك نفسه فأرسلني إليه بأمان قد أمّنت الأحمر والأسود ، وفقال : أدركه فهو آمن. فطلبه عمير فأدركه ودعاه فقال : قد أمّنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال صفوان : والله لا أوقن لك حتى أرى علامة بأماني أعرفها. فرجع فأعطاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردّ حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة ، فأقبل عمير ، فقال صفوان : يا رسول الله ، أعطيتني ما يقول هذا من الأمان؟ قال : نعم. قال : أجعل لي شهرا قال : لك شهران ، لعلّ الله أن يهديك (٢).

واستأذنت أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام وهي يومئذ مسلمة ، وهي تحت عكرمة بن أبي جهل. فاستأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلب زوجها ، فأذن لها وأمّنه ، فخرجت بعبد لها روميّ فأرادها عن نفسها ، فلم تزل تمنّيه وتقرّب له حتى قدمت على ناس من عكّ (٣) فاستغاثتهم عليه فأوثقوه ، فأدركت زوجها ببعض تهامة وقد ركب في السّفينة ، فلما جلس فيها نادى باللّات والعزّى. فقال أصحاب السفينة : لا يجوز هاهنا من دعاء بشيء إلّا الله وحده مخلصا ، فقال عكرمة : والله لئن كان في البحر ، إنّه لفي البرّ وحده (٤) ، أقسم بالله ،

__________________

(١) المغازي لعروة ٢١١ وقال : رواه الطبراني مرسلا وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن وفيه ضعف.

وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ / ١٧٠ ـ ١٧٣.

(٢) وفي سيرة هشام ٤ / ١٠٥ «قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر».

(٣) عك قبيلة من قبائل اليمن.

(٤) في ح : لئن كان في البحر إنه لفي البر وحده. وما أثبتناه عن الأصل وع ، وعن المغازي لعروة ٢١٢.

٥٣٤

لأرجعنّ إلى محمد ، فرجع عكرمة مع امرأته ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعه ، وقبل منه.

ودخل [٩٤ أ] رجل من هذيل على امرأته ، فلامته وعيّرته بالفرار ، فقال :

وأنت لو رأيتنا بالخندمه

إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة

 قد لحقتهم السّيوف المسلمة

يقطعنّ كلّ ساعد وجمجمة

لم تنطقي في اللّوم أدنى كلمه (١)

وكان دخول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة في رمضان. واستعار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفوان فيما زعموا مائة درع وأداتها ، وكان أكثر شيء سلاحا.

وأقام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بضع عشرة ليلة.

وقال ابن إسحاق (٢) : مضى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل مرّ الظّهران في عشرة آلاف. فسبّعت سليم ، وبعضهم يقول : ألّفت سليم ، وألّفت مزينة (٣). ولم يتخلّف أحد من المهاجرين والأنصار.

وقد كان العبّاس لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض الطريق. قال عبد الملك ابن هشام : لقيه بالجحفة (٤) مهاجرا بعياله.

__________________

(١) الخبر والشعر في المغازي لعروة ٢١٢ وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ٩٢ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٥٨ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٣٠٦ ، وعيون الأثر ٢ / ١٧٣ ، وعيون التواريخ ١ / ٣٠٠ والبداية والنهاية ٤ / ٢٩٧ وقال عروة : رواه الطبراني ، وهو مرسل ، وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن ، وفيه ضعف. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٦ / ١٧٤ ، ١٧٥ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٢٤١ ، ٢٤٢ ، والقاضي المكيّ الفاسي في شفاء الغرام ٢ / ٢٢٢.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ١٠٦.

(٣) سبّعت سليم ، يعني كانوا سبعمائة ، وألّفت : كانوا ألفا.

(٤) الجحفة : قرية على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل ، وهي أحد المواقيت وكانت تسمّى مهيعة ، فاجتحفها السيل في بعض الأعوام فسمّيت الجحفة. (معجم البلدان ٢ / ١١١).

٥٣٥

وقال ابن إسحاق (١) : وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة ، قد لقيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنبق العقاب (٢) ـ فيما بين مكّة والمدينة ـ فالتمسا الدخول عليه ، فكلّمته أمّ سلمة فيهما ، فقالت : يا رسول الله ابن عمّك وابن عمّتك وصهرك. قال : لا حاجة لي بهما ، أمّا ابن عمّي فهتك عرضي ، وأما ابن عمّتي فهو الّذي قال لي بمكة ما قال. فلمّا بلغهما قوله قال أبو سفيان : والله لتأذننّ لي أو لآخذنّ بيد بنيّ هذا ثم لنذهبنّ في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقّ لهما ، وأذن لهما فدخلا وأسلما وقال أبو سفيان :

لعمرك إنّي يوم أحمل راية

لتغلب خيل اللّات خيل محمّد

 لكالمدلج (٣) الحيران أظلم ليله

فهذا أواني حين أهدي وأهتدي

 هداني هاد غير نفسي ونالني

إلى الله من طردت (٤) كل مطرد

 أصدّ وأنأى جاهدا عن محمد

وأدعى وإن لم أنتسب من محمّد (٥)

 فذكروا أنّه حين أنشد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه ضرب في صدره وقال : أنت طردتني كلّ مطرد (٦).

وقال سعيد بن عبد العزيز ، عن عطيّة بن قيس ، عن أبي سعيد الخدريّ قال : خرجنا لغزوة فتح مكة لليلتين خلتا من شهر رمضان صواما. فلمّا كنّا بالكديد ، أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفطر.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٨٨ ، ٨٩.

(٢) نبق العقاب : موضع بين مكة والمدينة قرب الجحفة. (معجم ما استعجم ٥٩٥).

(٣) المدلج : الّذي يسير ليلا.

(٤) في طبعة القدسي ٥٠٠ «طرده» والتصحيح من السيرة وغيرها.

(٥) الأبيات في سيرة ابن هشام ٤ / ٨٩ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٣٠٧ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٨٧ ، وعيون التواريخ ١ / ٢٩٢ مع اختلاف بعض الألفاظ في بعضها.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ / ٨٩.

٥٣٦

وقال الزّهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صام في مخرجه ذلك حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطر النّاس. أخرجه البخاري (١).

وقال الأوزاعيّ : ثنا يحيى بن أبي كثير حدّثني أبو سلمة قال : دخل أبو بكر وعمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرّ الظّهران ، وهو يتغدّى فقال : «الغداء» فقالا : إنّا صائمان ، فقال : «اعملوا لصاحبيكم ، ارحلوا لصاحبيكم ، كلا ، كلا». مرسل [٩٤ ب] وقوله : هذا مقدّر بالقول يعني يقال هذا لكونكما صائمين (٢).

وقال معمر : سمعت الزّهري يقول : أخبرني عبيد الله ، عن ابن عبّاس ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف ، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة ، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة ، يصوم ويصومون. حتى بلغ الكديد ، وهو بين عسفان وقديد ، فأفطر ، وأفطر النّاس.

قال الزّهري : وكان الفطر آخر الأمرين. وإنّما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الزّهريّ : فصبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان. أخرجه (خ) و (م) دون قول الزّهريّ (٣). وكذا ورّخه يونس عن الزّهريّ (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح في رمضان (٥ / ٩٠).

(٢) أخرجه النسائي في كتاب الصيام ، ما يكره من الصيام في السفر ، باب ذكر اسم الرجل (٤ / ١٧٧).

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح في رمضان ٥ / ٩٠ وفي الصوم ، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر ، وفي الجهاد ، باب الخروج في رمضان ، وصحيح مسلم (١١٣) كتاب الصيام ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إلخ.

(٤) صحيح مسلم ٢ / ٧٨٥.

٥٣٧

وقال عبد الله بن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن ابن شهاب ، ومحمد ابن عليّ بن الحسين ، وعمرو بن شعيب ، وعاصم بن عمر وغيرهم قالوا : كان فتح مكة في شعر بقين من رمضان.

وقال الواقديّ (١) : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر. فما حلّ عقده حتى انتهى إلى الصلصل (٢). وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل ، وكانوا عشرة آلاف (٣).

وذكر عروة وموسى بن عقبة إنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في اثني عشر ألفا (٤).

وقال ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ، عن الزّهريّ ، عن عبيد الله ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه العبّاس بأبي سفيان فأسلم بمرّ الظّهران. فقال : يا رسول الله ، إنّ سفيان رجل يحبّ الفخر ، فلو جعلت له شيئا؟ قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، من أغلق بابه فهو آمن (٥).

زاد فيه الثقة ، عن ابن إسحاق بإسناده : فقال أبو سفيان : وما تسع داري؟ قال : من دخل الكعبة فهو آمن قال : وما تسع الكعبة؟ قال : من دخل المسجد فهو آمن. قال : وما يسع المسجد؟ قال : من أغلق بابه فهو آمن. فقال : هذه واسعة (٦).

وقال حمّاد بن زيد ، عن أيّوب ، عن عكرمة قال : فلما نزل رسول الله

__________________

(١) انظر : المغازي للواقدي (٢ / ٨٠١).

(٢) الصلصل : موضع بنواحي المدينة على سبعة أميال منها. (معجم البلدان ٣ / ٤٢١).

(٣) وهذا الرقم يؤيّده ابن هشام في السيرة ٤ / ١٠٦.

(٤) هذا الخبر ليس موجودا في المطبوع من المغازي لعروة. وانظر : شفاء الغرام ٢ / ٢٤٨.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ٩٠.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ / ٩١.

٥٣٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرّ الظّهران ، قال العبّاس وقد خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة : يا صباح قريش ، والله لئن بغتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عنوة ، إنّه لهلاك قريش آخر الدّهر. فجلس على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيضاء ، وقال أخرج إلى الأراك لعلّي أرى حطّابا أو صاحب لبن ، أو داخلا يدخل مكة. فيخبرهم بمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليأتوه فيستأمنوه ، فخرجت فو الله إنّي لأطوف بالأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وقد خرجوا يتجسّسون الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعت صوت أبي سفيان وهو يقول : ما رأيت كاليوم قطّ نيرانا ، فقال بديل : هذه نيران خزاعة حمشتها (١) الحرب ، فقال [٩٥ أ] أبو سفيان : خزاعة الأم من ذلك وأذلّ. فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة ، فقال : أبو الفضل؟ قلت : نعم. فقال : لبّيك ، فداك أبي وأمي ، ما وراءك؟ قلت : هذا رسول الله في النّاس قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من المسلمين. قال : فكيف الحيلة؟ فداك أبي وأمّي. فقلت : تركب في عجز هذه البغلة ، فأستأمن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه والله لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك. فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا إليّ وقالوا : عمّ رسول الله على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حتى مررت بنار عمر فقال لأبي سفيان : الحمد لله الّذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. ثم اشتدّ نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبّة وسبقت عمر بما تسبق به الدابّة البطيئة الرجل البطيء (٢).

ودخل عمر فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان عدوّ الله ، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد ، فدعني أضرب عنقه فقلت : يا رسول الله ، إنّي قد

__________________

(١) حمشتها الحرب : أي جمعتها وأثارتها.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٨٩ ، ٩٠.

٥٣٩

أمّنته. ثم جلست إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذت برأسه وقلت : والله لا يناجيه اللّيلة أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر ، قلت : مهلا يا عمر ، فو الله ما تصنع هذا إلّا لأنّه رجل من بني عبد مناف. ولو كان من بني عديّ بن كعب ما قلت هذا. فقال : مهلا يا عبّاس ، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطّاب لو أسلم. وما ذاك إلّا لأنّي قد عرفت أنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إسلام الخطّاب لو أسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهب به فقد آمنّاه ، حتى تغدو به عليّ الغداة ، فرجع به العبّاس إلى منزله (١).

فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلّا الله؟ فقال : بأبي وأمّي ما أوصلك وأكرمك ، والله ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا بعد. فقال : ويحك أو لم يأن أن تعلم أنّي رسول الله؟ قال : بأبي وأمّي ما أوصلك وأكرمك ، أمّا هذه فإنّ في النّفس منها شيئا. فقال العبّاس فقلت : ويلك تشهّد شهادة الحقّ قبل ، والله ، أن تضرب عنقك. فتشهّد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تشهّد : «انصرف به يا عبّاس فاحبسه عند حطم الجبل (٢) بمضيق الوادي ، حتى تمرّ عليه جنود الله».

فقلت له : يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر ، فاجعل له شيئا يكون له في قومك فقال : «نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن». فخرجت به حتى حبسته عند حطم الجبل بمضيق الوادي. فمرّت عليه القبائل ، فيقول : من

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٩٠.

(٢) حطم الجبل : الموضع الّذي حطم منه أي ثلم فبقي منقطعا ، أو هو مضيق الجبل حيث يزحم بعضه بعضا. وفي رواية : خطم الجبل أي أنفه البادر منه. وفي البخاري : حطم الخيل ، رواية أخرى. (انظر صحيح البخاري ـ المغازي ، باب أين ركّز النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الراية يوم الفتح ـ ٥ / ٩١).

٥٤٠