تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

ذكر رسل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وفي هذه السنة كتب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملوك النّواحي يدعوهم إلى الله تعالى.

قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب قبل موته : إلى كسرى ، وإلى قيصر ، وكتب إلى النّجاشيّ ، يعني الّذي ملك الحبشة بعد النّجاشيّ المسلم ، وإلى كلّ جبّار يدعوهم إلى الله. رواه مسلم (١).

وليس في هذا الحديث أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى النّجاشيّ الثاني يدعوه إلى الله في هذه السنة. بل ذلك مسكوت عنه ، وإنّما كان ذلك بعد موت النّجاشي الأول المسلم. وموته كما سيأتي في سنة تسع. والله أعلم.

وقال إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عبّاس أنّه أخبره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام. وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبيّ (٢) ، وأمره

__________________

(١) صحيح مسلم (١٧٧٤) كتاب الجهاد والسير ، باب كتب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملوك الكفّار إلخ.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٣٢.

٥٠١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر. فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، [وكان قيصر] (١) لما كشف الله عنه جنود فارس ، مشى من حمص إلى إيلياء (٢) شكرا لما أبلاه الله. فلما أن جاء قيصر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال حين قرأه : التمسوا لي هاهنا أحدا من قومه.

قال ابن عبّاس : فأخبرني أبو سفيان أنّه كان بالشام في رجال من قريش قدموا للتّجارة ، في المدّة التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفّار قريش.

قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام ، فانطلق بنا حتى قدمنا إيليا عليه ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلسه وعليه التّاج ، وحوله عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم أيّهم أقرب نسبا من هذا (٣) الرجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ قلت : أنا أقربهم إليه نسبا. قال : ما قرابة ما بينك وبينه؟ قلت : هو ابن عمّي. وليس في الرّكب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري ، قال : أدنوه. ثم أمر بأصحابي فجعلهم خلف ظهري ، عند كتفي ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه إنّي سائله عن هذا الّذي يزعم أنّه نبيّ ، فإن كذب فكذّبوه.

قال أبو سفيان : والله لو لا الحياء يومئذ أن يأثر عنّي أصحابي الكذب لكذّبته (٤) عنه. ثم قال لترجمانه : قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت : هو فينا ذو نسب : قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت : لا. قال : فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت : لا. قال : فهل من آبائه من ملك؟ قلت : لا. قال : فأشراف الناس يتبعونه أم

__________________

(١) سقطت من الأصل ، ع وأثبتناها من ح.

(٢) إيلياء : اسم مدينة بيت المقدس ، وقيل معناه بيت الله.

(٣) في الأصل : بهذا. وأثبتنا لفظ البخاري ومسلم.

(٤) في البداية والنهاية ٤ / ٢٦٤ «لكذبت».

٥٠٢

ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم. قال : [٨٦ ب] فيزيدون أو ينقصون؟ قلت : بل يزيدون. قال : فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ، قلت : لا قال : فهل يغدر؟ قلت : لا ، ونحن الآن منه في مدّة ـ يشير إلى المدّة التي قاضاهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها يوم الحديبيّة وآخرها يوم الفتح ـ ونحن نخاف منه أن يغدر ، ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه بها ، لا أخاف أن تؤثر عنّي غيرها. قال : فهل قاتلتموه وقاتلكم؟ قلت : نعم. قال : فكيف حربكم وحربه؟ قلت : كانت دولا وسجالا ، يدال علينا المرّة ويدال عليه الأخرى قال : فما ذا يأمركم به؟ قلت : يأمرنا أن نعبد الله ، ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

قال : فقال لترجمانه قل له : إنّي سألتك عن نسبه فيكم ، فزعمت أنّه ذو نسب ، وكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها. وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله ، فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتمّ بقول قد قيل قبله. وسألتك : هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس ويكذب على الله. وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ، فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك أشراف النّاس يتبعونه أو ضعفاؤهم ، فزعمت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه ، وهم أتباع الرّسل.

وسألتك : هل يزيدون أو ينقصون ، فزعمت أنّهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتمّ. وسألتك : هل يرتدّ أحد سخطة (١) لدينه بعد أن يدخل فيه ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه

__________________

(١) سخطة لدينه : كراهة له وعدم الرضا به.

٥٠٣

أحد. وسألتك : هل يغدر ، فزعمت أن لا ، وكذلك الرّسل لا يغدرون. وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم ، فزعمت أن قد فعل ، وأنّ حربكم وحربه يكون دولا ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة. وسألتك : ما ذا يأمركم به ، فزعمت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عمّا كان يعبد آباؤكم ، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

وهذه صفة نبيّ ، قد كنت أعلم أنّه خارج ، ولكن لم أظنّ أنّه منكم ، وإن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشّمت لقيه (١) ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. قال : ثم دعا بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر فقرئ فإذا فيه (٢) :

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ، [٨٧ أ] فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين. وإن تولّيت فعليك إثم الأريسيّين (٣). [و] (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ)

__________________

(١) لقيه : (بالضم والكسر) لقاءه. وهي في البدآية والنهاية ٤ / ٢٦٥ «لقاءه».

(٢) في مراجع هذا الكتاب الشريف واختلاف روآياته انظر : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله (ص ٨٠ ـ ٨٢) وانظر أيضا في إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين (ص ١٠ وما بعدها).

(٣) الأريسيون : الأكارون ، ويراد بهم فلاحو السواد ، وهي لغة شامية ، مفردة أريس وإريس (كجليس وسكيت). وقد ذكرت فيهم أقوال شتى ، فقيل هم قوم من المجوس لا يعبدون النار ويزعمون أنهم على دين إبراهيم عليه‌السلام. وقيل إنه كان في رهط هرقل تعرف بالأورسية نسبوا إليها. وقيل أنهم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول قتلوا نبيا بعثه الله إليهم. وقيل غير ذلك. (انظر لسان العرب ج ٧ / ٣٠٠ مصورة بولاق).

٥٠٤

اللهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (١).

قال أبو سفيان : فلمّا أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم ، فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا. فلما أنّ خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم : لقد أمر ابن أبي كبشة (٢) ، هذا ملك بني الأصغر يخافه.

قال أبو سفيان : والله ما زلت ذليلا ، مستيقنا بأنّ أمره سيظهره حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره. أخرجاه (٣) من حديث إبراهيم.

وأخرجاه من حديث معمر ، عن الزّهري ، عن عبيد الله ، [عن] (٤) ابن عبّاس أنّ أبا سفيان حدّثه قال : انطلقت في المدّة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينا أنّا بالشّام. فذكر كحديث إبراهيم (٥).

ورواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن الزّهري بسنده. وفيه قال أبو سفيان : فلما كانت هدنة الحديبيّة بيننا وبين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجت تاجرا إلى الشام. فو الله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلّا قد حمّلني بضاعة. فقدمت غزّة ، وذلك حين ظهر قيصر على من كان ببلاده من الفرس ، فأخرجهم

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ٦٤.

(٢) أمر أمره : عظم شأنه وكبر. وابن أبي كبشة أراد به النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر النوويّ أنّ أبا كبشة رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشّعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة في دينهم.

(٣) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسّير ، باب دعاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام والنّبوّة إلخ ٤ / ٢ ـ ٥ وصحيح مسلم (١٧٧٣) كتاب الجهاد والسير ، باب كتاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

(٤) في الأصل : عن عبد الله بن عبّاس. والتصحيح من ح وصحيح البخاري. (٤ / ٢).

(٥) صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة آل عمران باب قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ٥ / ١٦٧ وصحيح مسلم (١٧٧٣) كتاب الجهاد والسير ، باب كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

٥٠٥

منها. وردّ عليه صليبه الأعظم ، وكان منزله بحمص فخرج منها متنكّرا إلى بيت المقدس ، تبسط له البسط ويطرح له عليها الرّياحين. حتى انتهى إلى إيلياء ، فصلّى بها. فأصبح ذات غداة مهموما يقلّب طرفه إلى السماء ، فقالت له بطارقته : أيّها الملك ، لقد أصبحت مهموما. فقال : أجل. قالوا : وما ذاك؟ قال : أريت في هذه اللّيلة أنّ ملك الختان ظاهر. فقالوا : والله ما نعلم أمّة من الأمم تختتن إلّا يهود ، وهم تحت يدك وفي سلطانك ، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم ، فابعث في مملكتك كلّها فلا يبقى يهوديّ إلّا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهمّ.

فبينما هم في ذلك ، إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم. فقال : أيّها الملك هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل ، يحدّثك عن حدث كان ببلاده ، فسله عنه. فلما انتهى إليه قال لترجمانه : سله ما هذا الخبر الّذي كان في بلاده؟ فسأله فقال : هو رجل من قريش خرج يزعم أنّه نبيّ ، وقد تبعه أقوام وخالفه آخرون ، فكانت بينهم ملاحم فقال : جرّدوه. فإذا هو مختون فقال : هذا والله الّذي أريت ، لا ما تقولون. ثم دعا صاحب شرطته فقال له : قلّب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فو الله أنّي وأصحابي [٨٧ ب] لبغزّة (١) إذ هجم علينا فسألنا : ممّن أنتم؟ فأخبرناه. فساقنا إليه جميعا. فلما انتهى إليه ـ قال أبو سفيان : فو الله ما رأيت من رجل [قطّ] (٢) أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف (٣) ـ يعني هرقل ـ فلما انتهينا إلى قال : أيّكم أمسّ به رحما؟ فقلت : أنا. قال : أدنوه. وساق الحديث ، ولم يذكر فيه

__________________

(١) غزّة : المدينة المعروفة على ساحل فلسطين.

(٢) زيادة من (ح) ، والبداية والنهاية ٤ / ٣٦٣.

(٣) الأغلف : الّذي لم يختن ، ومثله الأقلف.

٥٠٦

كتابا. وفيه كما ترى أشياء عجيبة تفرّد بها ابن إسحاق دون معمر وصالح.

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، حدّثني الزّهريّ ، حدّثني أسقف من النّصارى قد أدرك ذلك الزمان ، قال : لما قدم دحية بن خليفة على هرقل بالكتاب ، وفيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ، فإن أبيت فإنّ إثم الأكّارين (١) عليك».

فلما قرأه وضعه بين فخذه وخاصرته ، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية (٢) ، كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ ، يخبره عمّا جاءه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكتب إليه أنّه النّبيّ الّذي ينتظر لا شكّ فيه فاتّبعه. فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ، ثم أمر بها فأشرجت (٣) عليهم ، واطّلع عليهم من علّيّة له ، وهو منهم خائف فقال : يا معشر الروم إنّه قد جاءني كتاب أحمد ، وإنّه والله للنّبيّ الّذي كنّا ننتظر ونجد ذكره في كتابنا ، نعرفه بعلاماته وزمانه. فأسلموا واتّبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم. فنخروا نخرة رجل واحد ، وابتدروا أبواب الدّسكرة ، فوجدوها مغلقة عليهم. فخافهم ، فقال : ردّوهم عليّ. فكرّوهم عليه ، فقال : إنّما قلت لكم هذه المقالة أغمزكم بها لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ، فقد رأيت منكم ما سرّني. فوقعوا له سجّدا ، ثم

__________________

(١) الأكارون : جمع أكار ، وهو الريفي الّذي يحرث الأرض ويزرعها. وفي رواية اليعقوبي : فإنّ عليك إثم الريفيين (انظر الوثائق السياسية ٨٢).

(٢) رومية : بتخفيف الياء : مدينة رياسة الروم وعلمهم ، واسمها بالرومية رومانس وتقع شمال وغربي القسطنطينية بينهما مسيرة خمسين يوما أو أكثر. (معجم البلدان ٢ / ١٠٠) وهي مدينة روما المعروفة.

(٣) في هامش ح : أغلقت.

٥٠٧

فتحت لهم الأبواب فخرجوا (١).

وقال ابن لهيعة : ثنا أبو الأسود ، عن عروة (٢) قال : خرج أبو سفيان تاجرا وبلغ هرقل شأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فأدخل عليه أبو سفيان في ثلاثين رجلا ، وهو في كنيسة إيلياء. فسألهم فقالوا : ساحر كذّاب. فقال : أخبروني بأعلمكم به وأقربكم منه. قالوا : هذا ابن عمّه. وذكر شبيها بحديث الزّهري.

وقال خ (٣) : ثنا يحيى بن أبي بكير ، نا اللّيث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، حدّثني عبيد الله ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بكتابه إلى كسرى ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ليدفعه إلى كسرى. فلما قرأه كسرى مزّقه. فحسبت ابن المسيّب قال : فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمزّقوا كلّ ممزّق (٤).

وقال الذّهليّ محمد بن يحيى : ثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد القاري ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وتشهّد ، ثم قال : «أما بعد ، فإنّي [٨٨ أ] أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم ، فلا تختلفوا عليّ كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى». فقال المهاجرون : والله لا نختلف عليك في شيء ، فمرنا وابعثنا. فبعث شجاع

__________________

(١) حديث هرقل مع أبي سفيان أخرجه البخاري في صحيحه ، بدء الوحي ٦ من طريق عبد الله بن عباس عن أبي سفيان بن حرب مطوّلا. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ٢٥٩ ومسند أحمد ٣ / ٤٤١ ، ٤٤٢ ، و ٤ / ٧٤.

(٢) المغازي لعروة ١٩٦ ، ١٩٧ ، فتح الباري لابن حجر ١ / ٣٦.

(٣) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير ، باب دعوة اليهوديّ والنّصرانيّ ... وما كتب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر. (٣ / ٢٣٥).

(٤) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ٢٦٠ ، وقد أخرجه أحمد في مسندة ١ / ٢٤٣ وفيه : «قال ابن شهاب : فحسبت ابن المسيّب قال ....» وانظر ١ / ٣٠٥.

٥٠٨

ابن وهب إلى كسرى. فخرج حتى قدم على كسرى ، وهو بالمدائن ، واستأذن عليه. فأمر كسرى بإيوانه أن يزيّن ، ثم أذن لعظماء فارس ، ثم أذن لشجاع بن وهب. فلما دخل عليه أمر بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبض منه. قال شجاع : لا ، حتى أدفعه أنا كما أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال كسرى : أدنه ، فدنا فناوله الكتاب ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه ، فإذا فيه :

«من محمد عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس».

فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ، وصاح وغضب ومزّق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه ، وأمر بشجاع فأخرج ، فركب راحلته وذهب ، فلما سكن غضب كسرى ، طلب شجاعا فلم يجده. وأتى شجاع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : «اللهمّ مزّق ملكه» (١).

وقال أبو عوانة ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لتفتحنّ عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر الأبيض.

أخرجه مسلم (٢). رواه أسباط بن نصر ، عن سماك ، عن جابر فزاد قال : فكنت (٣) أنا وأبي فيهم ، فأصابنا من ذلك ألف درهم.

وقال أحمد بن الوليد الفحّام : ثنا أسود بن عامر ، أنا حمّاد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أنّ رجلا من أهل فارس أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ ربّي قد قتل ربّك ، يعني كسرى.

__________________

(١) انظر مسند أحمد ٣ / ٤٤٢.

(٢) صحيح مسلم (٢٩١٩) كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيتمنّى أن يكون مكان الميت من البلاء. وفيه : «... من المسلمين أو من المؤمنين كنز آل كسرى ...».

(٣) في الأصل : كنت. وأثبتنا عبارة ع ، ح.

٥٠٩

قال : وقيل للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه قد استخلف بنته فقال : «لا يفلح قوم تملكهم (١) امرأة» (٢).

ويروى أنّ كسرى كتب إلى باذام عامله باليمن يتوعّده ويقول : ألا تكفيني رجلا خرج بأرضك يدعوني إلى دينه؟ لتكفينه أو لأفعلنّ بك. فبعث العامل إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسلا وكتابا ، فتركهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس عشرة ليلة ، ثم قال : «اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا : إنّ ربّي قد قتل ربّك الليلة» (٣).

وروى أبو بكر بن عيّاش ، عن داود بن أبي هند ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : أقبل سعد إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هلك ـ أو قال : قتل ـ كسرى. فقال : «لعن الله كسرى ، أوّل النّاس هلاكا فارس ثم العرب» (٤).

وقال محمد بن يحيى : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح قال : قال ابن شهاب. وقد رواه اللّيث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، كلاهما يقول عن أبي سلمة ، واللفظ لصالح قال : بلغني أنّ كسرى بينما هو في دسكرة ملكه ، بعث له ـ أو قيّض له ـ أو قيّض له ـ عارض فعرض عليه الحقّ ، فلم يفجأ كسرى إلّا الرجل يمشي وفي يده عصا فقال : يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟ قال كسرى : نعم؟ فلا تكسرها. فولّى الرجل. فلما ذهب [٨٨ ب] أرسل كسرى إلى حجابه فقال : من أذن لهذا؟ قالوا : ما دخل عليك أحد. قال : كذبتم. وغضب عليهم وعنّفهم ، ثم تركهم. فلما كان رأس الحول أتاه ذلك الرجل بالعصا فقال كمقالته. فدعا كسرى الحجّاب وعنّفهم. فلما كان الحول المستقبل ، أتاه ومعه العصا

__________________

(١) في طبعة القدسي أثبتها «تملكتهم» ... وما أثبتناه عن مسند أحمد.

(٢) أخرجه أحمد في مسندة ٥ / ٤٣.

(٣) أخرجه أحمد في مسندة ٥ / ٤٣ وهو في الحديث الّذي قبله ، وانظر طبقات ابن سعد ١ / ٢٦٠ و.

(٤) أخرجه أحمد في مسندة ٢ / ٥١٣ من طريق عبد الله عن أبيه عن الأسود بن عامر عن أبي بكر بن عياش ، عن داود ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وفيه قدّم هلاك العرب على الفرس.

٥١٠

فقال : هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر العصا؟ قال : لا تكسرها. فكسرها فأهلك الله كسرى عند ذلك.

وقال الزّهري ، عن ابن المسيّب ، عن أبي هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده. وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده. والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزها في سبيل الله». أخرجه مسلم (١).

وروى يونس بن بكير ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر. فأما قيصر فوضعه ، وأما كسرى فمزّقه ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أمّا هؤلاء فيمزّقون ، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقيّة».

وقال الربيع : أنّا الشافعيّ قال : حفظنا أنّ قيصر أكرم كتاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووضعه في مسك (٢). فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثبّت ملكه».

قال الشافعيّ : وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس ، وقطع قيصر ومن قام بالأمر بعده عن الشام. وقال في كسرى ، «مزّق ملكه» ، فلم يبق للأكاسرة ملك ، وقال في قيصر «ثبّت ملكه» فثبّت له ملك بلاد الروم إلى اليوم.

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : ثنا الزّهري ، عن عبد الرحمن بن عبد (القاري) (٣) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية ، فمضى بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبّل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن نزله ، وأهدى معه إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة وكسوة وجاريتين ، إحداهما أمّ

__________________

(١) صحيح مسلم (٢٩١٨) كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل إلخ. وأوّله : «قد مات كسرى ..».

(٢) مسك : بفتح الميم. أي جلد.

(٣) سقطت من النسخ الثلاث. وأثبتناه من السند نفسه في موضع سابق.

٥١١

إبراهيم ، والأخرى وهبها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجهم بن قثم (١) العبديّ ، فهي أمّ زكريا ابن جهم ، خليفة عمرو بن العاص على مصر (٢).

وقال أبو بشر الدّولابي : ثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهريّ ، ثنا هارون بن يحيى الحاطبي ، ثنا إبراهيم بن عبد الرحمن ، حدّثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه ، عن جدّه حاطب بن أبي بلتعة قال : بعثني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية ، فجئته بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزلني في منزله ، وأقمت عنده. ثم بعث إليّ وقد جمع بطارقته فقال : إنّي سأكلّمك بكلام وأحبّ أن تفهمه منّي. قلت : نعم ، هلمّ. قال : أخبرني عن صاحبك ، أليس هو نبيّ؟ قلت : بلى ، هو رسول الله. قال : فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه. قلت : عيسى ، أليس تشهد أنّه رسول الله ، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه أن لا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه إلى السماء (الدنيا) (٣) قال : أنت [٨٩ أ] حكيم جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث معك إليه. فأهدى ثلاث جوار ، منهنّ أمّ إبراهيم وواحدة وهبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي جهم بن حذيفة العدوي (٤) ، وواحدة وهبها لحسّان بن ثابت. وأرسل بطرف من طرفهم.

__________________

(١) في طبعة القدسي ٤٧٤ «قيس» والتصحيح من الإصابة. أما جهم بن قيس فهو ابن عبد شرحبيل بن هشام .. العبدري أبو خزيمة. وقد ذكره ابن حجر في الإصابة أيضا. وابن قثم ذكره ابن عبد البر في الإستيعاب ١ / ٢٤٥ مختصرا ، وقد تحرّف في البداية والنهاية ٤ / ٢٧٢ إلى محمد بن قيس.

(٢) رواه ابن حجر في الإصابة ١ / ٢٥٤ في ترجمة «جهم بن قثم العبديّ» رقم ١٢٤٧ ، وانظر طبقات ابن سعد ١ / ٢٦٠.

(٣) زيادة من ح.

(٤) ترجمته في الإصابة ٤ / ٣٥ رقم ٢٠٧ وليس فيها هذا الخبر ، ولا في أسد الغابة ٥ / ١٦٢ ، ١٦٣ وقد سبق في الخبر الّذي قبله أن الّذي وهبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو : الجهم بن قثم العبديّ. كما لم يذكر الحافظ الذهبي الخبر في ترجمة أبي الجهم بن حذيفة في سير أعلام النبلاء ١ / ٥٥٦.

٥١٢

غزوة ذات السّلاسل

قيل إنه ماء بأرض جذام (١).

قال ابن لهيعة : نا أبو الأسود ، عن عروة (٢). ورواه موسى بن عقبة ، واللفظ له ، قالا : غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام في بليّ (٣) وسعد الله ومن يليهم من قضاعة (٤).

وفي رواية عروة (٥) : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن العاص في بليّ ، وهم أخوال العاص بن وائل ، وبعثه فيمن يليهم من قضاعة وأمّره عليهم.

قال ابن عقبة : فخاف عمرو من جانبه الّذي هو به ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمدّه ، فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين ، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر

__________________

(١) جذام : حيّ أو قبيلة من اليمن كانت تنزل بجبال حسمى وراء وادي القرى ومساكنها بين مدين إلى تبوك فإلى أذرح ، ومنها فخذ مما يلي طبرية من أرض الأردن إلى عكا. وجذام أول من سكن مصر من العرب حين جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص (معجم قبائل العرب ١ / ١٧٤).

(٢) المغازي ٢٠٧.

(٣) بليّ : بفتح الباء وكسر اللام وتشديد الياء.

(٤) قضاعة : قبيلة من حمير من القحطانية ، وحمير من بني سبإ. وبليّ بطن من قضاعة ، وسعد الله بطن من بليّ (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب).

(٥) المغازي لعروة ٢٠٧.

٥١٣

وجماعة ، أمّر عليهم أبا عبيدة. فأمدّ بهم عمرا. فلما قدموا عليه قال : أنا أميركم ، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أستمدّه بكم. فقال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك ، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. قال : إنّما أنتم مدد أمددته. فلما رأى ذلك أبو عبيدة ، . وكان رجلا حسن الخلق ليّن الشيمة ، سعى لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده ، قال : تعلم يا عمرو أنّ آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ، وإنّك إن عصيتني لأطيعنّك. فسلّم أبو عبيدة الإمارة لعمرو (١).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق (٢) ، حدّثني محمد بن عبد الرحمن [بن عبد الله] (٣) بن الحصين التميمي ، عن غزوة ذات السلاسل من أرض بليّ وعذرة (٤) ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن العاص ليستنفر العرب إلى الإسلام. وذلك أنّ أمّ العاص بن وائل كانت من بليّ ، فبعثه إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتألّفهم بذلك. حتى إذا كان بأرض جذام ، على ماء يقال له السّلاسل ، خاف فبعث يستمدّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عليّ بن عاصم : أنا خالد الحذّاء ، عن أبي عثمان النّهدي ، سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جيش ذي السلاسل ، وفي القوم أبو بكر وعمر. فحدّثت نفسي أنّه لم يبعثني عليها إلّا لمنزلة لي عنده ، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت : يا رسول الله ، من أحبّ النّاس إليك؟ قال : «عائشة» قلت : إنّي لم أسألك عن أهلك. قال : «فأبوها» قلت : ثم من؟ قال : «عمر» قلت : ثم من حتى عدّ رهطا ،

__________________

(١) المغازي لعروة ٢٠٧ وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ٢٣٩.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٣٩.

(٣) زيادة من ح ، ولم أقف على ترجمته.

(٤) عذرة بطن من قضاعة ، وهم المعروفون بالحبّ العذريّ.

٥١٤

قال : قلت في نفسي لا أعود أسأل عن هذا.

رواه غيره عن خالد؟ وهو في الصّحيحين مختصرا (١).

(وكيع ، وغيره ، ثنا موسى بن عليّ بن رباح ، عن أبيه ، سمع عمرو بن العاص : قال لي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عمرو اشدد عليك سلاحك وائتني». ففعلت ، فجئته وهو يتوضّأ ، فصعّد فيّ البصر وصوّبه وقال : «يا عمرو إنّي أريد أن أبعثك وجها فيسلّمك الله ويغنمك ، وأرغب لك رغبة في المال صالحة». قلت : إنّي لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك. قال : «يا عمرو نعمّا بالمال الصالح للمرء الصالح» (٢).

أنبأ ابن عون وغيره ، عن محمد : استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرا على جيش ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر. رواه إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النّخعيّ بنحوه (٣).

وكيع ، عن المنذر بن ثعلبة ، عن ابن بريدة ، قال أبو بكر : إنّما ولّاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني عمرا علينا لعلمه بالحرب (٤).

قلت : ولهذا استعمل أبو بكر عمرا على غزو الشام) (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب قول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كنت متّخذا خليلا ٤ / ١٩٢ ، وكتاب المغازي ، غزوة ذات السلاسل ٥ / ١١٣ وصحيح مسلم (٢٣٨٤) كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصّديق رضي‌الله‌عنه.

(٢) أخرجه أحمد في مسندة ٤ / ١٩٧ و ٢٠٢ ، والبخاري في الأدب المفرد (٢٩٩) من طرق عن موسى ابن علي ، عن أبيه ، عن عمرو بن العاص ، وهذا سند صحيح. وصحّحه ابن حبّان (١٠٨٩) والحاكم في المستدرك ٢ / ٢ ووافقه الذهبي في تلخيصه.

(٣) أخرجه البخاري ٧ / ١٨ ، ١٩ في الفضائل و ٨ / ٥٩ ، ٦٠ في المغازي ، ومسلم (٢٣٨٤) كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصّديق.

(٤) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (مخطوط الظاهرية) ١٣ / ٢٥٤ ب.

(٥) ما بين الحاصرتين لم يرد في الأصل ع ، وهو في نسخة ح.

٥١٥

وقال الواقديّ (١) : حدّثني ربيعة بن عثمان ، عن يزيد بن رومان : أنّ أبا عبيدة لما أتى عمرا صاروا خمسمائة ، وسار اللّيل والنّهار حتى وطئ بلاد بليّ ودوّخها ، وكلّما [٨٠ ب] انتهى إلى موضع بلغه أنّه كان بذلك الموضع جمع ، فلما سمعوا به تفرّقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بليّ وعذرة وبلقين (٢). ولقي في آخر ذلك جمعا ، فاقتتلوا ساعة وتراموا بالنّبل. ورمي يومئذ عامر بن ربيعة ، فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا وأعجزوها هربا في البلاد. ودوّخ عمرو ما هناك. وأقام أياما يغير أصحابه على المواشي.

(وقال إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، فأصابهم برد فقال لهم عمرو : لا يوقدنّ أحد نارا. فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوه ، فقال : يا نبيّ الله ، كان في أصحابي قلّة فخشيت أن يرى العدوّ قلّتهم ، ونهيتهم أن يتبعوا العدوّ مخافة أن يكون لهم كمين. فأعجب ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (٣).

وقال جرير بن حازم : ثنا يحيى بن أيّوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيمّمت ثم صلّيت بأصحابي الصّبح. فذكروا ذلك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب». فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إنّي سمعت الله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ

__________________

(١) المغازي ٢ / ٧٦٩ ، ٧٧٠.

(٢) بلقين : وهي في البخاري برسم «بني القين» ، قبيلة من العرب المستعربة.

(٣) لم يرد هذا الخبر في الأصل ، ع ، وتفرّدت به ح وأثبتناه عنها. وقد رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ١٣ / ٢٥٤ ب.

٥١٦

بِكُمْ رَحِيماً) (١) ، فضحك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقل شيئا (٢).

وقال عمرو بن الحارث. وغيره ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران ابن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أنّ عمرا كان على سريّة فذكر نحوه. قال : فغسل مغابنه (٣) ، وتوضّأ وضوءه للصلاة ثمّ صلّى بهم. لم يذكر التيمّم. أخرجهما أبو داود (٤).

* * *

غزوة سيف البحر (٥)

قال ابن عيينة ، عن عمرو بن جابر : بعثنا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثمائة راكب ، وأميرنا أبو عبيدة بن الجرّاح ، نرصد عيرا لقريش. فأصابنا جوع شديد ، حتى أكلنا الخبط (٦) فسمّي جيش الخبط.

قال : ونحر رجل ثلاث جزائر ، ثم نحر ثلاث جزائر ، ثم نحر ثلاث جزائر. ثم إنّ أبا عبيدة نهاه. قال : فألقى لنا البحر دابّة يقال لها العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر وادّهنّا منه ، حتى ثابت منه أجسامنا وصلحت ، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه ، فنظر إلى رجل في الجيش وأطول جمل

__________________

(١) سورة النساء : من الآية ٢٩.

(٢) إسناده صحيح. أخرجه أبو داود (٣٣٥) في الطهارة ، باب إذا خاف الجنب البرد تيمّم ، والبيهقي ١ / ٢٢٦ من طريق ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، وعمرو بن الحارث بهذا الإسناد ، وصحّحه ابن حبّان (٢٠٢) ، ورواه ابن عساكر ١٣ / ٢٥٥ ب ، وصحّحه الحاكم ١ / ١٧٧ ، ووافقه الذهبي في التلخيص ، وحسّنه المنذري.

(٣) المغابن : الأرفاغ ، وهي بواطن الأفخاذ عند الحوالب جمع مغبن من غبن الثوب : إذا ثناه وعطفه.

(٤) سنن أبي داود : كتاب الطهارة ، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمّم؟ (٣٣٤ و ٣٣٥) ، وانظر مصادر تخريج الحديث الّذي قبله ، وزاد المعاد ٣ / ٣٨٨ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٧٥.

(٥) وتعرف بسريّة الخبط. (انظر طبقات ابن سعد ٢ / ١٣٢ والمغازي للواقدي ٢ / ٧٧٤).

(٦) الخبط : ورق العضاة من الطلح والسلم ونحوه يخبط بالعصا فيتساقط ، وكانت تعلفه الإبل.

يقال : عضه البعير ، كفرح إذا اشتكى من أكل العضاة ورعيه.

٥١٧

فحمله عليه ومرّ تحته. متّفق عليه (١).

(٢) (زاد البخاري (٣) في حديث عمرو بن جابر : قال جابر : وكان رجل في القوم نحر ثلاث جزائر ، ثم ثلاثا ، ثم ثلاثا. ثم إنّ أبا عبيدة نهاه. قال : وكان عمرو يقول : نا أبو صالح أنّ قيس بن سعد قال لأبيه : كنت في الجيش فجاعوا قال أبوه : انحر. قال : نحرت ، قال : ثم جاعوا. قال : انحر قال : نحرت ، قال : ثم جاعوا. قال : انحر. قال : نهيت).

وقال مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا قبل الساحل ، وأمرّ عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة وأنا فيهم. حتى إذا كنّا ببعض الطريق فني الزّاد. فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كلّه. فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كلّ يوم قليلا قليلا ، حتى فني. ولم يكن يصيبنا إلّا تمرة تمرة. قال فقلت : وما تغني تمرة؟ قال : لقد وجدنا فقدنا حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظّرب (٤) ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت ، ثم مرّت تحتهما (٥) فلم تصبهما. أخرجاه (٦).

وقال زهير بن معاوية ، عن أبي الزّبير ، عن جابر [٩٠ أ] قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتلقّى عيرا لقريش ، وزوّدنا جرابا من تمر. فكان أبو عبيدة

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة سيف البحر ٥ / ١١٣ وصحيح مسلم (١٩٣٥) كتاب الصيد والذبائح ، باب إباحة ميتة البحر.

(٢) هذا الخبر مما تفردت به ح وأثبتناه عنها.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة سيف البحر. (٥ / ١١٤).

(٤) الجبل الصغير. (النهاية في غريب الحديث ٣ / ٥٤).

(٥) في طبعة القدسي ٤٨١ «مرّ» وما أثبتناه عن صحيح البخاري.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة سيف البحر ٥ / ١١٤ وصحيح مسلم (١٩٣٥) كتاب الصيد والذبائح. باب إباحة ميتة البحر وانظر ، المغازي للواقدي ٢ / ٧٧٧.

٥١٨

يعطينا تمرة تمرة. وكنّا نضرب بعصيّنا الخبط ثم نبلّه بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا كهيئة الكثيب فأتيناه فإذا دابّة تدعى العنبر. فقال أبو عبيدة : ميتة ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا. فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنّا. ولقد كنّا نغترف من وقب (١) عينه بالقلال الدّهن ونقتطع منه الفدر (٢) كالثّور. ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينه ، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمرّ تحتها. وتزوّدنا من لحمه وشائق (٣) فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ذلك له فقال : «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعموننا؟» قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه فأكل. أخرجه مسلم (٤).

قلت : زعم بعض النّاس أنّ هذه السّرية كانت في رجب سنة ثمان

* * *

سريّة أبي قتادة إلى خضرة (٥)

قال الواقديّ في مغازيه (٦) : قالوا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا قتادة بن ربعيّ الأنصاريّ إلى غطفان في خمسة عشر رجلا. وأمره. أن يشنّ عليهم الغارة.

__________________

(١) الوقب : كلّ نقر في الجسد كنقر العين والكتف. ووقب العين نقرتها التي تستقرّ فيها. (انظر الصحاح ٢٣٤).

(٢) الفدرة : القطعة من كلّ شيء. أو القطعة من اللّحم المطبوخ البارد.

(٣) الوشائق : جمع وشقية ووشيق. وهو اللّحم يقدّد حتى ييبس أو يغلي إغلاءة ثم يقدّد.

(٤) صحيح مسلم (١٩٣٥) كتاب الصيد والذبائح. باب إباحة ميتة البحر. وانظر : تاريخ الطبري ٣ / ٣٣ ، وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٤٣ ، والمغازي للواقدي ٢ / ٧٧٧ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٢٨٤ ، ٢٨٥ ، وعيون الأثر ٢ / ١٦٠ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٧٦ ، وعيون التواريخ ١ / ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، والسيرة الحلبية ٢ / ٣١٥.

(٥) انظر عنها : الطبقات الكبرى ٢ / ١٣٢ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، وعيون الأثر ٢ / ١٦١ ، وإمتاع الأسماع ١ / ٣٥٦ ، وعيون التواريخ ١ / ٢٨٧ ، ٢٨٨.

(٦) انظر المغازي للواقدي ، ٢ / ٨٨٧ ـ ٧٨٠.

٥١٩

فسار وهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط به. فصرخ رجل منهم : يا خضرة (١) وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف (٢) لهم. واستاقوا النّعم ، فكانت مائتي بعير وألفي (٣) شاة. وسبوا سبيا كثيرا. وغابوا خمس عشرة ليلة. وذلك في شعبان من السّنة.

ثم كانت سريّته إلى إضم (٤) على أثر ذلك في رمضان (٥).

* * *

وفاة زينب

بنت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وكانت أكبر بناته. توفّيت في هذه السنة (٦) وغسّلتها أمّ عطيّة الأنصاريّة وغيرها. وأعطاهنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقوه (٧) فقال : «أشعرنها إيّاه» (٨).

وبنتها أمامة بنت أبي العاص (٩) ، هي التي كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحملها في الصّلاة.

__________________

(١) خضرة : أرض لمحارب بنجد. وقيل هي بتهامة من أعمال المدينة. (معجم البلدان ٢ / ٣٧٧).

(٢) في الأصل ، ع : أشراف. والتصحيح من ح والواقدي ٢ / ٧٧٩ وطبقات ابن سعد ٢ / ١٣٢.

(٣) في المغازي للواقدي ٢ / ٧٨٠ «ألف» والتصويب من المصادر الأخرى للسريّة.

(٤) إضم : بالكسر ثم الفتح ، ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة. ويقال هو واد بجبال تهامة ، وهو الوادي الّذي فيه المدينة. ويسمّى من عند المدينة القناة ، ومن أعلى منها عند السّدّ يسمّى الشظاة ، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمّى إضما إلى البحر. (معجم البلدان ١ / ٢١٤ ، ٢١٥).

(٥) انظر عنها : سيرة ابن هشام ٤ / ٢٤٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٣٣ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٥ ، ٣٦ ، نهاية الأرب ١٧ / ٢٨٦ ، عيون الأثر ٢ / ١٦١ ، ١٦٢ إمتاع الأسماع ١ / ٣٥٦.

(٦) تاريخ خليفة ٩٢ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٧.

(٧) الحقو : الكشح ، ويطلق مجازا على الإزار. يقال رمى فلان بحقوه إذا رمى بإزاره.

(٨) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٨ / ٣٥ من طريق معن بن عيسى ، عن مالك بن أنس ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين.

(٩) انظر عنها (الإصابة ٤ / ٢٣ رقم ٧٠).

٥٢٠