تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بطن سرف (١) وأقام المسلمون ، وخلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي. فأقام بسرف حتى قدمت عليه ، وقد لقيت عناء وأذى من سفهاء قريش ، فبنى بها. ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. وقدّر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد حين (٢).

وقال فليح ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج معتمرا ، فحال كفّار قريش بينه وبين البيت. فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية. وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا إلّا سيوفا ، ولا يقيم بها إلّا ما أحبّوا. فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما صالحهم. فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج ، فخرج. أخرجه البخاري (٣).

وقال الواقديّ (٤) : [٧٨ ب] ثنا عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن شرطا على المسلمين أن يعتمروا قابل في الشهر الّذي صدّهم المشركون.

وقال محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، سمعت أبا حاضر الحضرميّ أنّ ميمون بن مهران قال : خرجت معتمرا سنة حوصر ابن الزّبير. وبعث معي رجال من قومي بهدي. فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم فنحرت الهدي مكاني ، ثم أحللت ثم رجعت. فلما كان من العام المقبل ، خرجت لأقضي عمرتي ، فأتيت ابن عبّاس

__________________

(١) سرف : موضع على أميال من مكة ، وهو الّذي فيه مسجد ميمونة أمّ المؤمنين. (معجم البلدان ٣ / ٢١٢).

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٦٩ ، ٧٠ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٣ ـ ٢٥ ، تسمية أزواج النّبيّ لأبي عبيدة ٦٧ ، عيون الأثر ٢ / ١٤٨ ، ١٤٩ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٢٦ ـ ٢٣٠ ، عيون التواريخ ١ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، المغازي لعروة ٢٠١ ـ ٢٠٣.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء. (٥ / ٨٥).

(٤) المغازي ٢ / ٧٣١.

٤٦١

فسألته ، فقال : أبدل الهدي الّذي نحروا عام الحديبيّة في عمرة القضاء. زاد فيه يونس عن ابن إسحاق قال : فعزّت الإبل عليهم ، فرخّص لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البقر (١).

وقال الواقديّ (٢) : حدّثني غانم بن أبي غانم ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قد ساق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في القضية ستين بدنة. قال : ونزل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ الظّهران ، وقدّم السلاح إلى بطن يأجج ، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم. وتخوّفت قريش ، فذهبت في رءوس الجبال وخلّوا مكة.

وقال معمر ، عن الزّهري ، عن أنس قال : لما دخل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. مكة في عمرة القضاء ، مشى ابن رواحة بين يديه وهو يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

 بأنّ خير القتل في سبيله

نحن قتلناكم على تأويله

 كما قتلناكم على تنزيله

يا ربّ إنّي مؤمن بقيله (٣)

وقال أيّوب ، عن سعيد بن جبير ، حدّثه ، عن ابن عبّاس : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، وقد وهنتهم حمّى يثرب. فقال المشركون : إنّه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمّى ، ولقوا منها شرّا. فأطلع الله نبيّه على ما قالوه ، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا بين المشركين. فلما رأوهم رملوا ، قالوا : هؤلاء الذين ذكرتم أنّ الحمّى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منّا. قال ابن عبّاس : ولم

__________________

(١) تفرّد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري عن ابن عباس فذكره. وانظر الطبري ٣ / ٢٥.

(٢) المغازي ٢ / ٧٣٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٣١.

(٣) قارن الأبيات بالأبيات التي مرت قبل قليل.

٤٦٢

[يمنعه أن] (١) يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلّها إلّا الإبقاء عليهم. أخرجاه (٢).

وقال يزيد بن هارون : أنا الجريريّ عن أبي الطّفيل قال : قلت لابن عبّاس إنّ قومك يزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رمل وأنّها سنّة. قال : صدقوا وكذبوا ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم مكة والمشركون على قعيقعان (٣) ، وكان أهل مكة قوما حسّدا ، فجعلوا يتحدّثون بينهم أنّ أصحاب محمد ضعفاء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أروهم ما يكرهون منكم. فرمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليريهم قوّته وقوّة أصحابه ، وليست بسنّة. أخرجه مسلم (٤).

وقد بقي الرمل سنّة في طواف القدوم ، وإن كان قد زالت علّته فإنّ جابرا قد حكى في حجّة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنّه] (٥) رمل ورملوا في عمرة الجعرانة.

وقال إسماعيل بن أبي خالد ، عن ابن أبي أوفى سمعه يقول : اعتمرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكنّا [٧٩ أ] نستره ـ حين طاف ـ من صبيان مكة لا يؤذونه. وأرانا ابن أبي أوفى ضربة أصابته مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر. خ (٦).

* * *

__________________

(١) زيادة من الصحيحين تستقيم بها العبارة.

(٢) صحيح البخاري : كتاب الحجّ ، باب كيف بدأ الرمل ٢ / ١٦١. وكتاب المغازي ، باب عمرة القضاء ٥ / ٨٦ ، وصحيح مسلم (١٢٦٤) كتاب الحجّ ، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة. وانظر الطبقات الكبرى ٢ / ١٢٣.

(٣) قعيقعان : جبل بأسفل مكة. وهو بالضم ثم الفتح. (معجم البلدان ٤ / ٣٧٩).

(٤) صحيح مسلم (١٢٦٦) ، كتاب الحج ، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

(٥) سقطت من الأصل ، وحرفت (رمل) بعدها إلى رملة. وأثبتنا عبارة ع.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء (٥ / ٨٦).

٤٦٣
٤٦٤

تزويجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بميمونة

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (١) حدّثني أبان بن صالح ، وعبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعطاء ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّج ميمونة ، وكان الّذي زوّجه العبّاس. فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثلاثا. فأتاه حويطب بن عبد العزّى ، في نفر من قريش ، فقالوا : قد انقضى أجلك فاخرج عنّا. قال : «لو تركتموني فعرّست بين أظهركم ، وصنعنا طعاما فحضرتموه». قالوا : لا حاجة لنا به. فخرج ، وخلّف أبا رافع مولاه على ميمونة ، حتى أتاه بها بسرف ، فبنى عليها.

وقال وهيب : ثنا أيّوب ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم ، وبنى بها وهو حلال ، وماتت بسرف.

رواه البخاري (٢).

وقال عبد الرزّاق : قال لي الثّوري : لا تلتفت إلى قول أهل المدينة. أخبرني عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّج

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٧٠ تاريخ الطبري ٣ / ٢٥ ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٢٢ المغازي لعروة ٢٠١.

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء. (٥ / ٨٦) ، وانظر الطبقات لابن سعد ٨ / ١٣٣.

٤٦٥

وهو محرم. وقد رواه الثّوري أيضا عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس. وهما في الصحيح.

وقال الأوزاعي : ثنا عطاء ، عن ابن عبّاس أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوّج ميمونة وهو محرم. فقال سعيد بن المسيّب : وهو وإن كانت خالته. ما تزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا بعد ما أحلّ. أخرجه البخاري ، عن أبي المغيرة ، عنه (١).

وقال حمّاد بن سلمة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن مهران ، عن يزيد [بن] الأصمّ ، عن ميمونة قالت : تزوّجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه أبو داود (٢). وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد ابن الأصم (٣).

وقال سليمان بن حرب : نا حمّاد بن زيد ، نا مطر (٤) الورّاق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع قال : تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميمونة وهو حلال ، وبنى بها وهو حلال. وكنت الرسول بينهما.

وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي القعدة. فذكر الحديث بطوله. وفيه : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني من مكة ، فتبعتهم ابنة حمزة ، فنادت : يا عمّ. فتناولها عليّ رضي‌الله‌عنه ، وقال لفاطمة : دونك ، فحملتها. قال : فاختصم فيها عليّ وزيد بن حارثة وجعفر ، فقال عليّ : أنا أخذتها وهي ابنة عمّي ، وقال جعفر. ابنة عمّي ،

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المحصر وجزاء الصيد ، باب تزويج المحرم. (٢ / ٢١٤).

(٢) سنن أبي داود : كتاب المناسك ، باب المحرم يتزوّج (٢ / ١٦٩ رقم ١٨٤٣).

(٣) صحيح مسلم (١٤١١) كتاب النكاح ، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.

(٤) في طبقات ابن سعد ٨ / ١٣٤ «مطرّف» وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه ، انظر تهذيب التهذيب ١٠ / ١٦٧.

٤٦٦

وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي. فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها لخالتها ، وقال : «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعليّ «أنت منّي وأنا منك» ، وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ، وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا ، أخرجه [٧٩ ب] البخاري عن عبيد الله عنه (١).

وقال الواقديّ : حدّثني ابن أبي خيثمة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، أن عمارة بنت حمزة ، وأمّها سلمى بنت عميس كانتا بمكة. فلما قدم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلّم عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : علام نترك بنت عمّنا يتيمة بين ظهراني المشركين؟ فلم ينه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إخراجها.

فخرج بها ، فتكلّم زيد بن حارثة ، وكان وصيّ حمزة ، وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد آخى بينهما. وذكر الحديث ، وفيه : فقضى بها لجعفر وقال : تحتك خالتها ، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا عمّتها (٢).

وعن ابن شهاب ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من عمرته في ذي الحجّة سنة سبع بعث ابن أبي العوجاء (٣) في خمسين إلى بني سليم.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب عمرة القضاء. (٥ / ٨٥).

(٢) انظر فتح الباري لابن حجر ٧ / ٥٠٦.

(٣) في طبعة القدسي ٤٣٣ «العرجاء» ، والتصويب من طبقات ابن سعد ٢ / ١٢٣ ، وعيون الأثر ٢ / ١٤٩ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٦ وغيره.

٤٦٧
٤٦٨

ثمّ دخلت سنة ثمان من الهجرة

قال الواقديّ : حدّثني محمد بن عبد الله ، عن عمّه ابن شهاب قال : سار ابن أبي العوجاء (١) السّلمي في خمسين رجلا إلى بني سليم ، وكان عين لبني سليم معه. فلما فصل من المدينة ، خرج العين إلى قومه فحذّرهم. فجمعوا جمعا كثيرا. وجاءهم ابن أبي العوجاء وهم معدّون. فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأوا جمعهم ، دعوهم إلى الإسلام. فرشقوهم بالنّبل ، ولم يسمعوا قولهم ، فرموهم ساعة ، وجعلت الأمداد تأتي ، وأحدقوا بهم. فقاتلوا حتى قتل عامّتهم ، وأصيب بن أبي العوجاء جريحا في القتلى. ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدم المدينة في أوّل صفر (٢).

* * *

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد

وفيها : أسلم عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد.

__________________

(١) وفي طبعة القدسي ٤٣٤ «العرجاء» وهو تصحيف ، وقد صحّحت الاسم في أكثر من موضع.

(٢) الطبقات لابن سعد ٢ / ١٢٣ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٦ ، عيون الأثر ٢ / ١٤٩ ، ١٥٠ البداية والنهاية ٤ / ٢٣٥ ، ٢٣٦.

٤٦٩

قال الواقدي : (١) أنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه قال ، قال عمرو بن العاص :

كنت للإسلام مجانبا معاندا. حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ، ثم حضرت أحدا والخندق فنجوت. فقلت في نفسي : كم أوضع ، والله ليظهرنّ محمد على قريش. فلحقت بمالي بالوهط (٢). فلما كان الصلح بالحديبية ، جعلت أقول ، يدخل (٣) محمد قابلا مكة بأصحابه ، ما مكة بمنزل ولا الطّائف ، وما شيء خير من الخروج. فقدمت مكة فجمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون منّي ، فقلت : تعلّموا (٤) ـ والله ـ إنّي لأرى أمر محمد يعلو علوّا منكرا ، وإنّي قد رأيت رأيا. قالوا : وما هو؟ قلت : نلحق بالنّجاشيّ فنكون معه ، فإن يظهر محمد كنّا عند النّجاشيّ ، [فنكون تحت يد النّجاشيّ] (٥) ، وأحبّ إلينا من أن نكون تحت يد محمد. وإن تظهر قريش فنحن من عرفوا. قالوا : هذا الرأي. قلت : فأجمعوا ما تهدونه له. وكان أحبّ ما يهدى إليه من أرضنا الأدم.

فجمعنا له أدما كثيرا ، ثم خرجنا حتى أتيناه ، فإنّا لعنده ، إذ جاء عمرو ابن أميّة الضّمري بكتاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النّجاشيّ ليزوّجه بأمّ حبيبة بنت أبي

__________________

(١) المغازي ٢ / ٧٤٢.

(٢) الوهط : بستان عظيم كان لعمرو بن العاص بالطائف على ثلاثة أميال من وجّ ، وهو كرم موصوف.

(٣) في الأصل ، ع : يا رجل. والتصحيح من المغازي للواقدي (٢ / ٧٤٢) والبداية والنهاية (٤ / ٢٣٦).

(٤) (تعلّموا) فعل أمر بمعنى (اعلموا) ولا يستعمل ماضيا ولا مضارعا بهذا المعنى. وقوله (إنّي لأرى .. إلخ) جملة محتوية على لام الابتداء التي تقتضي تعليق الفعل. ولهذا كسرت همزة (إنّ) ولم تكسر في التي بعدها لعدم التعليق. وقد حرّف بعض المؤلّفين والنّساخ والمحقّقين هذه الكلمة إلى (تعلّمون) مع أنّ السياق ينكرها.

(٥) زيادة من الواقدي (٢ / ٧٤٢).

٤٧٠

سفيان [٨٠ أ] فدخل عليه ثم خرج من عنده ، فقلت لأصحابي : لو دخلت على النّجاشيّ ، وسألته (١) هذا فأعطانيه لقتلته لأسرّ بذلك قريشا. فدخلت عليه فسجدت له فقال : مرحبا بصديقي ، أهديت لي من بلادك شيئا؟ قلت : نعم أيّها الملك أهديت لك أدما. وقرّبته إليه ، فأعجبه ، ففرّق منه أشياء بين بطارقته. ثم قلت : إنّي رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدوّ لنا قد وترنا وقتل أشرافنا ، فأعطينه فأقتله. فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنّه كسره ، فابتدر منخراي فجعلت أتلقّى الدّم بثيابي. فأصابني من الذّلّ ما لو انشقّت لي الأرض دخلت فيها فرقا منه.

ثم قلت : أيّها الملك : لو ظننت أنّك تكره ما قلت ما سألتكه. قال : فاستحى وقال : يا عمرو ، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه النّاموس الأكبر الّذي كان يأتي موسى وعيسى عليهما‌السلام لتقتله؟ قال عمرو : وغيّر الله قلبي عمّا كنت عليه ، وقلت في نفسي : عرف هذا الحقّ العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت : أتشهد أيّها الملك بهذا؟ قال : نعم ، أشهد به عند الله يا عمرو ، فأطعني واتّبعه ، فو الله إنّه لعلى الحقّ ، وليظهرنّ على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون. قلت : أفتبايعني له على الإسلام؟ قال : نعم ، فبسط يده فبايعني على الإسلام ، ثم دعا بطست ، فغسل عنّي الدّم ، وكساني ثيابا ، وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها.

وخرجت على أصحابي ـ فلما رأوا كسوة النّجاشيّ سرّوا بذلك وقالوا : هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت : كرهت أن أكلّمه في أول مرّة ، وقلت أعود إليه ـ ففارقتهم ، وكأنّي أعمد لحاجة ـ فعمدت إلى موضع السفن

__________________

(١) في الأصل ، ع : «لو دخلت على النّجاشيّ لو سألت النّجاشيّ هذا ..» وقد عدلنا بالعبارة إلى ما أثبتناه وهو قريب من عبارة الواقدي وابن هشام. (٣ / ٢٩٦).

٤٧١

فأجد سفينة قد شحنت تدفع (١). فركبت معهم ، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة (٢). وخرجت من الشّعيبة (٣) ومعي نفقة ، فابتعت بعيرا ، وخرجت أريد المدينة ، حتى خرجت على مرّ الظّهران. ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة ، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير ، يريدان منزلا ، وأحدهما داخل في خيمة ، والآخر قائم يمسك الراحلتين. فنظرت فإذا خالد بن الوليد. فقلت : أبا سليمان؟ قال : نعم. أين تريد؟ قال : محمدا ، دخل النّاس في الإسلام فلم يبق أحد به طمع (٤) ، والله لو أقمت لاخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضّبع في مغارتها. قلت : وأنا والله قد أردت محمدا وأردت الإسلام. فخرج عثمان بن طلحة ، فرحّب بي ، فنزلنا جميعا ثم ترافقنا إلى المدينة ، فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عنبة (٥) يصيح : يا رباح ، يا رباح. فتفاءلنا بقوله ، وسرنا ثم نظر إلينا ، فأسمعه يقول : قد أعطت مكة المقادة بعد هذين. [٨٠ ب] فظننت أنّه [يعنيني وخالد بن الوليد. ثم ولّى مدبرا إلى المسجد سريعا فظننت أنّه] (٦) بشّر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدومنا ، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرّة فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالعصر ، فانطلقنا حتى اطّلعنا عليه ، وأنّ لوجهه تهلّلا ، والمسلمون حوله قد سرّوا بإسلامنا. وتقدّم خالد فبايع ، ثم تقدّم عثمان بن طلحة فبايع ، ثم تقدّمت فو الله ما هو إلّا أن جلست

__________________

(١) في الأصل : قد سحبت بدفع. وما أثبتناه من ع ، وهو لفظ البداية والنهاية (٤ / ٢٣٧). وفي المغازي للواقدي (٢ / ٧٤٤) : قد شحنت برقع. (الرقع جمع رقعة ، كهمزة ، شجرة عظيمة).

(٢) الشّعيبة : مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز ، وكان مرفأ ومرسى سفنها قبل جدّة. وقيل قرية على شاطئ البحر على طريق اليمن (معجم البلدان ٣ / ٣٥١).

(٣) هكذا في الأصل ، ع والواقدي ، وهي في البداية والنهاية وابن الملا : السفينة.

(٤) في الأصل ، ع وابن كثير : طعم. وأثبتنا لفظ الواقدي (٢ / ٧٤٤).

(٥) في الأصل ، بدير أبي عينه. وكذا في ع بغير إعجام. والتصحيح من الواقدي. وبئر أبي عنبة ، بلفظ واحدة العنب ، بئر بينها وبين المدينة مقدار ميل. (معجم البلدان ١ / ٣٠١).

(٦) سقطت من الأصل ، ع ، وزدناها من الواقدي (٢ / ٧٤٤).

٤٧٢

بين يديه ، فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه ، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدّم من ذنبي ، ولم يحضرني ما تأخّر. فقال : «إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله ، والهجرة تجبّ ما كان قبلها». فو الله ما عدل بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبخالد أحدا في أمر حزبه منذ أسلمنا. ولقد كنّا عند أبي بكر بتلك المنزلة. ولقد كنت عند عمر بتلك الحال ، وكان عمر على خالد كالعاتب.

قال عبد الحميد بن جعفر : فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب ، فقال : أخبرني راشد مولى حبيب بن أوس الثّقفي ، عن حبيب ، عن عمرو ، نحو ذلك. فقلت ليزيد : ألم يتوقّت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال : لا ، إلّا أنّه قال قبل الفتح. قلت : فإنّ أبي أخبرني أنّ عمرا وخالدا وعثمان قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان (١).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق حدّثني يزيد بن أبي حبيب ، عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس ، (عن حبيب بن أبي أوس) (٢) ، حدّثني عمرو بن العاص ، قال : لما انصرفنا من الخندق ، جمعت رجالا من قريش ، فقلت : والله إنّي لأرى أمر محمد يعلو علوا منكرا ، والله ما يقوم له شيء ، وقد رأيت رأيا ما أدري كيف رأيكم فيه؟ قالوا : وما هو؟ قلت : أن نلحق بالنّجاشيّ. فذكر الحديث ، لكن فيه : فضرب بيده أنف نفسه حتى ظننت أنّه قد كسره. والباقي بمعناه مختصر (٣).

وقال الواقدي (٤) : حدّثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن

__________________

(١) المغازي للواقدي ٢ / ٧٤٢ ـ ٧٤٤ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٣٦ ـ ٢٣٨.

(٢) سقطت من الأصل ، وهي زيادة واجبة في السند ، استدركناها من ابن هشام (٢ / ٢٧٦) والطبري ٣ / ٢٩ وغيره وترد في اسمه الروايتان : حبيب بن أوس ، وحبيب بن أبي أوس (انظر تهذيب التهذيب ٢ / ١٧٧).

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٩٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٩ ـ ٣١ ، عيون الأثر ٢ / ٨١ ـ ٨٣.

(٤) المغازي ٢ / ٧٤٥.

٤٧٣

الحارث بن هشام ، سمعت أبي يحدّث عن خالد بن الوليد ، قال : لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام ، وحضرني رشدي ، وقلت : قد شهدت هذه المواطن كلّها على محمد فليس موطن أشهده إلّا أنصرف وأنا أرى في نفسي أنّي موضع في غير شيء ، وأنّ محمدا سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبيّة ، خرجت في خيل المشركين ، فلقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه بعسفان ، فأقمت بإزائه وتعرّضت له ، فصلّى بأصحابه الظّهر أمامنا ، فهممنا أن نغير عليه. ثم لم يعزم لنا ، وكانت فيه خيرة ، فاطّلع على ما في أنفسنا من الهموم ، فصلّى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منّا موقعا ، وقلت : الرجل ممنوع. فافترقنا ، وعدل عن سنن خيلنا ، وأخذت ذات اليمين.

فلما صالح قريشا قلت : أيّ شيء بقي؟ أين المذهب؟ إلى النّجاشيّ؟ فقد اتّبع محمدا وأصحابه عنده آمنون. فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى النّصرانية واليهوديّة [٨١ أ] فأقيم مع عجم تابعا مع عنت ذلك (١)؟ أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك ، إذ دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرة القضيّة ، فتغيّبت.

وكان أخي الوليد (بن الوليد) (٢) قد دخل مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرة القضيّة. فطلبني فلم يجدني ، فكتب إليّ كتابا فإذا فيه : أما بعد ، فإنّي لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام. وعقلك عقلك ، ومثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين خالد؟ فقلت : يأتي الله به. فقال : ما مثله جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على

__________________

(١) في الأصل : فأقيم مع عجم تابع من عنت ذلك. ولعلّه تحريف عمّا أثبتناه ورواية الواقدي :

فأقيم مع عجم تابعا.

(٢) زيادة من ع.

٤٧٤

المشركين كان خيرا له ولقدّمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما قد فاتك. فلما جاءني كتابه ، نشطت للخروج ، وزادني رغبة في الإسلام. وأرى في النّوم كأنّي في بلاد ضيّقة جدبة ، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة قلت : إنّ هذه لرؤيا.

فلما قدمنا المدينة قلت : لأذكرنّها لأبي بكر ، فذكرتها ، فقال : هو مخرجك الّذي هداك الله للإسلام ، والضّيق هو الشّرك. قال : فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضّيق هو الشّرك. قال : فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلت : من أصحاب إلى محمد؟ فلقيت صفوان ابن أميّة ، فقلت يا أبا وهب. أما ترى إلى ما نحن فيه ، إنّما كنّا كأضراس (١) ، وقد ظهر محمد على العرب والعجم ، فلو قدمنا على محمد فاتّبعناه فإنّ شرفه لنا شرف. فأبى أشدّ الإباء وقال : لو لم يبق غيري ما اتّبعته أبدا. فافترقنا وقلت : هذا رجل قتل أخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان ، فقال لي مثل ما قال صفوان. قلت : فأكتم ذكر ما قلت لك. وخرجت إلى منزلي ، فأمرت براحلتي أن تخرج إليّ ، [فخرجت بها إلى] (٢) أن ألقى عثمان بن طلحة. فقلت : إنّ هذا لي صديق ، فذكرت له ، فقال : نعم ، إنّي عمدت اليوم ، وإنّي أريد أن أغدو ، وهذه راحلتي بفخّ (٣) مناخة ، قال : فاتّعدت أنا وهو بيأجج ، وأدلجنا سحرا ، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج ، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدّة (٤). فنجد عمرو بن العاص بها ، فقال : مرحبا بالقوم. فقلنا : وبك.

__________________

(١) في الواقدي (٢ / ٧٤٧) : «إنّما نحن أكلة رأس» أي هم قلّة يشبعهم رأس واحد. ورواية ابن كثير عن الواقدي كما في الأصل.

(٢) زيادة من الواقدي يقتضيها السياق.

(٣) فخّ : هو بفتح أوله وتشديد ثانيه واد بمكة ، هو فيما قيل وادي الزاهر.

(٤) الهدّة : بالفتح ثم التشديد موضع بين مكة والطّائف. وقد خفف بعضهم دالة. (معجم البلدان ٥ / ٣٩٥).

٤٧٥

فذكر الحديث. وقال : كان قدومنا في صفر سنة ثمان. فو الله ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه (١).

* * *

سريّة شجاع بن وهب الأسديّ

قال الواقديّ (٢) : حدّثني ابن أبي سبرة ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن عمر بن الحكم ، قال بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا ، إلى جمع من هوازن (٣). وأمره أن يغير عليهم. فخرج يسير الليل ويكمن النّهار ، حتى صبّحهم غارّين ، فأصابوا نعما وشاء ، فاستاقوا ذلك إلى المدينة. فكانت سهمانهم خمسة عشر بعيرا لكلّ رجل منهم. وعدلوا البعير بعشرة (٤) من الغنم. وغابت السرية [٨١ ب] خمس عشرة ليلة (٥).

قال ابن أبي سبرة : فحدّثت به محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، فقال : كذبوا. قد أصابوا في ذلك الحاضر نسوة فاستاقوهنّ ، فكانت فيهنّ جارية وضيئة ، فقدموا بها المدينة ، ثم قدم وفدهم مسلمين ، فكلّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السبي. فكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجاعا وأصحابه في

__________________

(١) المغازي للواقدي ٢ / ٧٤٥ ـ ٧٤٨ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ / ٢٥٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٣٨.

(٢) انظر : المغازي للواقدي (٢ ـ ٧٥٣).

(٣) زاد في الطبقات الكبرى أنّ هذا الجمع من هوازن كان بالسّيّ ناحية ركية من وراء المعدن ، وهي من المدينة على خمس ليال. (٢ / ١٢٧).

(٤) في الأصل ، ع : بعشرين من الغنم. وأثبتنا رواية الواقدي (٢ ـ ٧٥٤) ، وعند ابن سعد (٢ ـ ١٢٧) «بعشر».

(٥) حتى هنا ينتهي الخبر عند ابن سعد في الطبقات ٢ / ١٢٧ وورد مختصرا في تاريخ الطبري ٣ / ٢٩ وانظر عيون الأثر ٢ / ١٥٢ ، وعيون التواريخ ١ / ٢٧٧ والبداية والنهاية ٤ / ٢٤٠ ونهاية الأرب ١٧ / ٢٧٦.

٤٧٦

ردّهنّ. فردّهنّ. قال ابن أبي سبرة : فأخبرت شيخا من الأنصار بذلك ، فقال : أما الجارية الوضيئة فأخذها بثمن فأصابها. فلما قدم الوفد ، خيّرها فاختارت شجاعا. فقتل يوم اليمامة وهي عنده.

* * *

سرية نجد

قال نافع ، عن ابن عمر ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية قبل نجد وأنا فيهم. فغنموا إبلا كثيرة. فبلغت سهمانهم لكلّ واحد اثني عشر بعيرا ، ثم نفّلوا بعيرا بعيرا ، فلم يغيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. متّفق عليه (١).

سرية كعب بن عمير

قال الواقديّ (٢) : ثنا محمد بن عبد الله ، عن الزّهري قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن عمير الغفاريّ ، في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح (٣) من الشام. فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا ، فدعوهم إلى الإسلام ، فلم يستجيبوا لهم ، ورشقوهم بالنّبل ، فلما رأى ذلك المسلمون قاتلوهم أشدّ القتال ، حتى قتلوا ، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى ، فلما برد عليه اللّيل ، تحامل حتى أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهمّ بالبعث (٤) إليهم ، فبلغه (٥) أنّهم ساروا إلى موضع آخر ، فتركهم (٦).

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب فرض الخمس ، باب ومن الدليل على أنّ الخمس لنوائب المسلمين.

وصحيح مسلم (١٧٤٩) كتاب الجهاد والسير ، باب الأنفال.

(٢) المغازي للواقدي ٢ / ٧٥٢.

(٣) في الأصل ، ع : ذات أطالع. والتصحيح من الواقدي (٢ / ٧٥٢) وابن سعد (٢ / ١٢٧).

(وذات أطلاح موضع من وراء وادي القرى إلى المدينة. (معجم البلدان ١ / ٢١٨).

(٤) في الأصل ، ع : بالبعثة. وأثبتنا لفظ الواقدي وابن سعد.

(٥) في طبعة القدسي ٤٤٣ «فبلغتم» والتصحيح من المصادر المعتمدة.

(٦) انظر : المغازي للواقدي ٢ / ٧٥٢ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٤١.

٤٧٧
٤٧٨

غزوة مؤتة

قال محمد بن سعد (١) : أنا محمد بن عثمان ، حدّثني ربيعة بن عثمان ، عن عمر بن الحكم قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحارث بن عمير الأزديّ إلى ملك بصرى (٢) بكتابه. فلما نزل مؤتة (٣) عرض للحارث شرحبيل ابن عمرو الغسّاني ، فقال : أين تريد؟ قال : الشام. قال : لعلّك من رسل محمد؟ قال : نعم ، فأمر به فضربت عنقه. ولم يقتل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول غيره.

وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فاشتدّ عليه ، وندب النّاس فأسرعوا. وكان ذلك سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة (٤).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٥) ، حدّثني محمد بن جعفر بن

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٢ / ١٢٨.

(٢) بصرى : من أعمال دمشق بالشام ، وهي قصبة كورة حوران. (معجم البلدان ١ / ٤٤١).

(٣) مؤتة : قرية من قرى البلقاء في حدود الشام ، والبلقاء كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى. (معجم البلدان ٥ / ٢١٩ ، ٢٢٠).

(٤) ابن سعد ، نهاية الأرب للنويري ١٧ / ٢٧٧.

(٥) سيرة ابن هشام ٤ / ٧٠.

٤٧٩

الزّبير عن عروة قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عمرة القضاء في ذي الحجّة ، فأقام بالمدينة حتى بعث إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان ، وأمّر على النّاس زيد بن حارثة. وقال : إن أصيب فجعفر ، فإن أصيب جعفر فعبد الله ابن رواحة ، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا. فتهيّئوا للخروج ، وودّع النّاس أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبكى ابن رواحة ، فقالوا : ما يبكيك؟ فقال : أما والله ما بي حبّ للدنيا ، ولا صبابة إليها ، ولكنّي سمعت الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) ، فلست أدري [٨٢ أ] كيف لي بالصّدر بعد الورود؟ فقال المسلمون : صحبكم الله وردّكم إلينا صالحين ودفع عنكم. فقال ابن رواحة (٢) :

لكنّني أسأل الرّحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزّبدا (٣)

 أو طعنة بيدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

 حتّى يقولوا إذا مرّوا على جدثي

يا أرشد الله من غاز وقد رشدا (٤)

ثم إنّه ودّع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال (٥) :

فثبّت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ، ونصرا كالّذي نصروا

 إنّي تفرّست فيك الخير نافلة

والله يعلم أنّي ثابت البصر

 أنت الرسول فمن يحرم نوافله

والوجه منه فقد أزرى به القدر (٦)

 __________________

(١) سورة مريم : من الآية ٧١.

(٢) ديوانه : ص ٨٨ ، باختلاف يسير في البيت الثالث.

(٣) ذات فرغ : ذات سعة ، وفي رواية : ذات فرع. والزبد هنا : رغوة الدم.

(٤) في سيرة ابن هشام ٤ / ٧٠ «أرشده الله» وفي تاريخ الطبري ٣ / ٣٧ «أرشدك الله» وانظر عيون الأثر ٢ / ١٥٣ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٤٢ ، وعيون التواريخ ١ / ٢٧٩ ، ٢٨٠ وفيه كما هنا ، والمغازي لعروة ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٥) الديوان : ص ٩٤ ، باختلاف في ترتيب الأبيات وفي بعض الألفاظ.

(٦) انظر الأبيات باختلاف أيضا في : سيرة ابن هشام ٤ / ٧١ ، مغازي عروة ٢٠٥ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٤٢.

٤٨٠