تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وفي شهر رمضان عقد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لواء لحمزة بن عبد المطّلب يعترض عيرا لقريش. وهو أول لواء عقد في الإسلام (١).

وفيها : بعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة لينقلا بناته وسودة أمّ المؤمنين.

وفي ذي القعدة عقد لواء لسعد بن أبي وقّاص ، ليغير على حيّ من بني كنانة أو بني جهينة. ذكره الواقدي.

وقال عبد الرحمن بن أبي الزّناد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فكان أول راية عقدها راية عبيدة بن الحارث (٢).

وفيها : آخى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، على المواساة والحقّ.

وقد روى أبو داود الطّيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وورّث بعضهم من بعض ، حتى نزلت : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (٣).

والسبب في قلّة من توفي في هذا العام وما بعده من السّنين ، أنّ المسلمين كانوا قليلين بالنّسبة إلى من بعدهم. فإنّ الإسلام لم يكن إلّا ببعض الحجاز ، أو من هاجر إلى الحبشة ، وفي خلافة عمر ـ بل وقبلها ـ

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٠.

(٢) المحبّر ١١٦ وانظر سيرة ابن هشام ٣ / ١٨.

(٣) سورة الأنفال : من الآية ٧٥ ، وانظر ترتيب مسند الطّيالسي ، كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء في سورة الأنفال (٢ / ١٩).

٤١

انتشر الإسلام في الأقاليم. فبهذا يظهر لك سبب قلّة من توفّي في صدر الإسلام ، وسبب كثرة من توفّي في زمان التّابعين فمن بعدهم.

وكان في هذا القرب (١) أبو قيس بن الأسلت (٢) بن جشم بن وائل الأوسيّ الشاعر. وكان يعدل بقيس بن الخطيم (٣) في الشجاعة والشعر. وكان يحضّ الأوس على الإسلام. وكان قبل الهجرة يتألّه (٤) ويدّعي الحنيفيّة ، ويحضّ قريشا على الإسلام ، فقال قصيدته المشهورة التي أوّلها (٥) :

أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن

مغلغلة عنّي لؤيّ بن غالب

 أقيموا لنا دينا حنيفا ، فأنتمو

لنا قادة ، قد يقتدى بالذّوائب

(٦ ب) روى الواقديّ عن رجاله قالوا : خرج ابن الأسلت إلى الشام ، فتعرّض آل جفنة (٦) فوصلوه. وسأل الرّهبان فدعوه إلى دينهم فلم

__________________

(١) هكذا في جميع النّسخ ، ولعلّها بمعنى كان قريبا من ذلك الوقت. وجعلها ابن الملّا «وكان شاهد العرب» وهو قول لا معنى له.

(٢) في الأصل (الأسلم) تصحيف. وهو أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر. ترجمته في الأغاني (١٧ / ١١٧) وطبقات فحول الشعراء (١٨٩) والإصابة (٣ / ٢٥١ و ٤ / ١٦١) والاستيعاب على هامش الإصابة (٢ / ١٩٣ و ٤ / ١٦٠) ، والمحبّر ٤٢٠ ، وشرح المفضّليات ٧٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٩ ـ ٤١٣ ومعجم الشعراء في لسان العرب ٣٣٥ رقم ٨٦٤. للدكتور ياسين الأيوبي.

(٣) قيس بن الخطيم : شاعر مشهور من بني ظفر من الأوس ، أدرك الإسلام ، ولقي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل الهجرة ، فدعاه إلى الإسلام وحرص عليه ، ولكنّه قتل قبل أن يسلم. ترجمته في الأغاني (٣ / ١) وطبقات فحول الشعراء (١٩٠) ومعجم الشعراء للمرزباني (١٩٦) ، وطبقات الشعراء لابن سلام ٥٢ و ٦٥ ، ومعجم الشعراء في لسان العرب ٣٣٦ ، ٣٣٧ رقم ٨٦٧ وقد طبع ديوانه في ليبزغ سنة ١٩١٤

(٤) يتألّه : يتنسّك.

(٥) انظر القصيدة بتمامها في ديوانه (٦٤ ـ ٧٠) وابن هشام (١ / ٢٨٣ ـ ٢٨٦) والبداية والنهاية (٣ / ١٥٤ ـ ١٥٥) والروض الأنف (٣ / ٧٢ ـ ٧٤).

(٦) آل جفنة : ملوك غسّان بالشّام ، ترجع نسبتهم إلى جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر ، وغسّان اسم ماء نزلوه فسمّوا به ، ليس بأب ولا أمّ. (الاشتقاق لابن دريد ١ / ٤٣٥).

٤٢

يرده. فقال له راهب : أنت تريد دين الحنيفيّة ، وهذا وراءك من حيث خرجت. ثم إنّه قدم مكة معتمرا ، فلقي زيد بن عمرو بن نفيل (١) ، فقصّ عليه أمره. فكان أبو قيس بعد يقول : ليس أحد على دين إبراهيم إلّا أنا وزيد. فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وقد أسلمت الخزرج والأوس ، إلّا ما كان من أوس الله فإنّها وقفت مع ابن الأسلت ، وكان فارسها وخطيبها ، وشهد يوم بعاث ، فقيل له : يا أبا قيس ، هذا صاحبك الّذي كنت تصف. قال : رجل قد بعث بالحقّ. ثم جاء إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض عليه شرائع الإسلام ، فقال : ما أحسن هذا وأجمله ، انظر في أمري. وكاد أن يسلم. فلقيه عبد الله بن أبيّ ، فأخبره بشأنه فقال : كرهت والله حرب الخزرج. فغضب وقال : والله لا أسلم سنة. فمات قبل السّنة.

فروى الواقديّ عن ابن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، عن أشياخه أنّهم كانوا يقولون : لقد سمع يوحّد عند الموت (٢).

__________________

(١) زيد بن عمرو بن نفيل : ابن عمّ عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه : أحد المتفرّقين في طلب الأديان كما يقول ابن هشام. وكان يقول : أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ، ثم من بني عبد المطّلب ، ولا أراني أدركه ، وأنا أو من به وأصدّقه وأشهد أنه نبيّ وكان يستقبل الكعبة في المسجد ويقول : لبّيك حقّا حقا ، تعبّدا ورقّا.

وقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه يبعث أمّة وحده ، وأنه رآه في الجنّة يسحب ذيولا.

وخرّج البخاري في كتاب الفضائل من صحيحه حديثا مطوّلا عنه ، وفيه عن ابن عمر أنّ زيدا خرج إلى الشام يسأل عن الدّين ويتبعه ، فدلّ على الحنيفيّة دين إبراهيم ، وأنه لم يكن يهوديّا ولا نصرانيّا ، ولا يعبد إلّا الله ، فرفع يديه إلى السماء فقال : اللهمّ إنّي أشهد أنّي على دين إبراهيم.

ترجمته في ابن هشام (١ / ٢٢٢) والطبقات الكبرى (١ / ١٦١ و ٤ / ٣٨٤) والمحبّر ١٧٠ و ١٧١ و ١٧٥ وتاريخ الطبري (٢ / ٢٩٥) وانظر صحيح البخاري : كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب حديث : زيد بن عمرو بن نفيل.

(٢) انظر هذه القصة في ترجمة محصن بن أبي قيس بن الأسلت في الطبقات الكبرى (٤ / ٣٨٥).

٤٣
٤٤

سنة اثنتين

في صفرها :

(غزوة الأبواء) (١)

فخرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة غازيا ، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودّان (٢) يريد قريشا وبني ضمرة. فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة ، وعقد ذلك معه سيّدهم مخشيّ بن عمرو. ثم رجع إلى المدينة. وودّان على أربع مراحل (٣).

[بعث حمزة (٤)]

ثمّ في أحد الرّبيعين :

__________________

(١) وتسمّى كذلك غزوة ودّان. والأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة ، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم البلدان ١ / ٧٩).

(٢) ودّان : قرية جامعة من نواحي الفرع بين مكة والمدينة ، بينها وبين الأبواب نحو من ثمانية أميال ، قريبة من الجحفة. (معجم البلدان ٥ / ٣٦٥).

(٣) قال ابن هشام : هي أول غزوة غزاها. (السيرة ٣ / ١٨) وانظر : الطبقات الكبرى ٢ / ٨ وتهذيب سيرة ابن هشام ١٣٠ والروض الأنف ٣ / ٢٥ ، وتاريخ الرسل والملوك ٢ / ٤٧٠ ، وتاريخ خليفة ٥٦ وعيون الأثر ١ / ٢٢٤ والبداية والنهاية ٣ / ٢٤١ ، وعيون التواريخ ١ / ١٠٧.

(٤) العنوان مضاف إلى الأصل للتوضيح.

٤٥

بعث عمّه حمزة في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر من ناحية العيص (١). فلقي أبا جهل في ثلاثمائة ، وقال الزّهري : في مائة وثلاثين راكبا. وكان مجديّ بن عمرو الجهنيّ وقومه حلفاء الفريقين جميعا ، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهنيّ (٢).

[بعث عبيدة بن الحارث]

وبعث في هذه المدّة عبيدة بن الحارث بن المطّلب (٣) بن عبد مناف ، في ستّين راكبا أو نحوهم من المهاجرين. فنهض حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنيّة المرّة (٤). فلقي بها جمعا من قريش ، عليهم عكرمة بن أبي جهل ، وقيل مكرز بن حفص. فلم يكن بينهم قتال. إلّا أنّ سعد بن أبي وقّاص كان في ذلك البعث ، فرمي بسهم ، فكان أوّل سهم رمي به في سبيل الله.

وفرّ الكفّار يومئذ إلى المسلمين : المقداد بن عمرو البهرانيّ حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان المازنيّ حليف بني عبد مناف. وكانا مسلمين ، ولكنّهما خرجا ليتوصّلا بالمشركين (٥).

__________________

(١) العيص : عرض من أعراض المدينة على ساحل البحر. قال ابن إسحاق : من ناحية ذي المروة بطريق قريش التي كانوا يأخذون منها إلى الشام. (معجم البلدان ٤ / ١٧٣).

(٢) انظر : السيرة لابن هشام ٣ / ٢٠ ، التهذيب ١٣١ ، عيون الأثر ١ / ٢٢٤ البداية والنهاية ٣ / ٢٤٤.

(٣) في ع : عبد المطّلب ، خطأ. وانظر ترجمته في الإصابة (٢ / ٤٤٩).

(٤) ذكر ابن سعد والواقديّ : أنّ هذا الماء «أحياء» من بطن رابغ ، ورابغ على عشرة أميال من الجحفة. وثنيّة المرّة بالكسر وتشديد الرّاء ، وقال ياقوت بالفتح وتخفيف الراء من نواحي مكة.

(٥) انظر : السيرة ٣ / ١٨ ، التهذيب ١٣٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٧ ، الروض الأنف ٣ / ٢٥ ، ٢٦ ، عيون الأثر ١ / ٢٢٥.

٤٦

[غزوة بواط (١)]

وخرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ربيع الأول غازيا. فاستعمل على المدينة السّائب ابن عثمان بن مظعون. حتى بلغ بواط من ناحية رضوى (٢) ثم رجع ولم يلق حربا (٣).

[غزوة العشيرة]

وخرج غازيا في جمادى الأولى ، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ، حتى بلغ العشيرة (٤) ، فأقام هناك أياما ، ووادع بني مدلج. ثم رجع فأقام بالمدينة أياما. والعشيرة [من] (٥) بطن ينبع.

وقال يونس بن أبي إسحاق (٦) : حدّثني يزيد بن محمد بن خثيم (٧) عن محمد بن كعب [٧ أ] القرظيّ قال : حدّثني أبوك محمد بن خثيم المحاربيّ (٨) ، عن عمّار بن ياسر قال : كنت أنا وعليّ بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع. فلما نزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام به شهرا ،

__________________

(١) بواط : جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى (معجم البلدان ١ / ٥٠٣).

(٢) رضوى جبل بالمدينة معروف.

(٣) السيرة ٣ / ٢١ ، التهذيب ١٣١ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٨ ، ٩ ، الروض الأنصف ، ٣ / ٢٧ ، تاريخ خليفة ٥٧ ، تاريخ الرسل ٢ / ٤٠٧ ، عيون الأثر ١ / ٢٢٦ البداية والنهاية ٣ / ٢٤٦.

(٤) العشيرة : بلفظ تصغير العشرة ، يضاف إليه (ذو) فيقال ذو العشيرة ، وهي من ناحية ينبع بين مكة والمدينة : وفي صحيح البخاري أنّها العشيرة أو العشيراء ، وقيل العسيرة والعسيراء ، بالسّين المهملة ، والصّحيح أنّه العشيرة. قال ابن إسحاق : هو من أرض بني مدلج. (معجم البلدان ٤ / ١٢٧).

(٥) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع ، ح.

(٦) في الأصل و (ع) يونس عن ابن إسحاق ، والتصحيح من ح. وهو يونس بن أبي إسحاق عمرو ابن عبد الله الهمدانيّ السّبيعي أبو إسرائيل الكوفي ، توفي سنة ١٥٩ ه‍ ـ. (تهذيب التهذيب ١١ / ٤٣٣).

(٧) في الأصل و (ع) : خيثم ، تصحيف تصحيحه من ح وتهذيب التهذيب (١١ / ٣٥٧).

(٨) في ح : البخاري ، خطأ. والمحاربي نسبة إلى محارب بطن من قريش (اللباب ٣ / ١٧٠).

٤٧

فصالح بها بني مدلج. فقال لي عليّ : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء ، نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ، ننظر كيف يعملون؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ، ثم غشينا النّوم فنمنا. فو الله ما أهبّنا إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدمه ، فجلسنا. فيومئذ قال لعليّ : يا أبا تراب ، لما عليه من التّراب (١).

[غزوة بدر الأولى]

وخرج في جمادى الآخرة في طلب كرز بن جابر الفهريّ ، وكان قد أغار على سرح (٢) المدينة. فبلغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادي سفوان (٣) من ناحية بدر ، فلم يلق حربا. وسمّيت بدرا الأولى. ولم يدرك كرزا (٤).

[سريّة سعد بن أبي وقّاص]

وبعث سعد بن أبي وقّاص في ثمانية من المهاجرين ، فبلغ الخرار (٥). ثم رجع إلى المدينة (٦).

[بعث عبد الله بن جحش]

قال عروة : ثم بعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في رجب ـ عبد الله بن جحش

__________________

(١) انظر : السيرة ٣ / ٢١ ، ٢٢ ، التهذيب ١٣١ ، ١٣٢ ، الطبقات ٢ / ٩ ، ١٠ ، الروض الأنف ٣ / ٢٧ ، تاريخ خليفة ٥٧ ، تاريخ الرسل والملوك ٢ / ٤٠٨ عيون الأثر ١ / ٢٢٦ ، البداية والنهاية ٣ / ٢٤٦ ، عيون التواريخ ١ / ١٠٧ ، ١٠٨.

(٢) السرح : الإبل والغنم.

(٣) سفوان : بفتح أوّله وثانيه ، واد من ناحية بدر. (معجم البلدان ٣ / ٢٢٥).

(٤) وتسمّى غزوة سفوان. (السيرة ٣ / ٢٢ تاريخ الخليفة ٥٧).

(٥) في الأصل وسائر النّسخ : الحوار ، تصحيف. والخرار : موضع بالحجاز يقال هو قرب الجحفة ، وقيل واد من أودية ، وقيل ماء بالمدينة. (معجم البلدان ٢ / ٣٥٠).

(٦) السيرة ٣ / ٢٢ ، البداية والنهاية ٣ / ٢٤٨ ، عيون التواريخ ١ / ١٠٨.

٤٨

الأسديّ ، ومعه ثمانية. وكتب معه كتابا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين. فلمّا قرأ الكتاب وجده : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين نخلة والطائف (١) ، فترصد لنا قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله في الكتاب قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أمضي إلى نخلة ، ونهاني أن أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ، ومن كره الموت فليرجع. فأمّا أنا فماض لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمضى ومضى معه الثمانية ، وهم : أبو حذيفة بن عتبة ، وعكّاشة بن محصن ، وعتبة بن غزوان ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله التّميميّ ، وسهيل بن بيضاء الفهريّ ، وخالد بن البكير.

فسلك يهم على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران (٢) ، أضلّ سعد بن أبي وقّاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، فتخلّفا في طلبه. ومضى عبد الله بمن بقي حتى نزل بنخلة. فمرّت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما (٣) ، وفيها عمرو بن الحضرميّ وجماعة. فلما رآهم القوم هابوهم. فأشرف لهم عكّاشة ، وكان قد حلق رأسه ، فلمّا رأوه أمنوا ، وقالوا : عمّار (٤) لا بأس عليكم منهم.

وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر رجب ، فقالوا : والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في

__________________

(١) نخلة : وتسمى نخلة اليمانية : واد بينه وبين مكة مسيرة ليلتين (معجم البلدان ٥ / ٢٧٧) والطّائف : هي وادي وجّ ، وبه كانت تسمّى قديما ، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا (معجم البلدان ٤ / ٨).

(٢) بحران : بالضم ، وهو المشهور ، ويفتح : موضع بناحية الفرع ، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد. والمعدن مكان كلّ شيء فيه أصله. ويقال إنّ معدن بحران هذا كان للحجّاج بن علاط البهزيّ. (معجم البلدان ١ / ٣٤١).

(٣) الأدم : جمع أديم ، وهو الجلد المدبوغ.

(٤) العمّار : المعتمرون.

٤٩

الشهر الحرام. وتردّدوا ، ثم أجمعوا على قتلهم وأخذ تجارتهم ، فرمى واقد ابن عبد الله عمرو بن الحضرميّ فقتله ، واستأسروا عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان. وأفلت نوفل بن عبد الله.

وأقبل ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا المدينة. وعزلوا خمس ما غنموا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل القرآن كذلك. وأنكر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل ابن الحضرميّ ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (١)) الآية ، وقبل [٧ ب] النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفداء في الأسيرين. فأمّا عثمان فمات بمكة كافرا ، وأمّا الحكم فأسلم واستشهد ببئر معونة (٢).

وصرفت القبلة في رجب ، أو قريبا منه (٣).

* * *

[غزوة بدر الكبرى]

من السّيرة لابن إسحاق ، رواية البكّائيّ.

قال ابن إسحاق : سمع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ سفيان بن حرب قد أقبل من الشام في عير وتجارة عظيمة ، فيها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش ، منهم : مخرمة بن نوفل ، وعمرو بن العاص. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها. فانتدب النّاس ، فخفّ بعضهم ، وثقل بعض ، ظنّا منهم أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلقى حربا. واستشعر أبو

__________________

(١) سورة البقرة ، من الآية ٢١٧.

(٢) السيرة ٣ / ٢٢ ـ ٢٤ التهذيب ١٣٢ ـ ١٣٥ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٠ ، ١١ ، تاريخ الرسل والملوك ٢ / ٤١٠ ، الروض الأنف ٣ / ٢٨ ، ٢٩ ، عيون الأثر ١ / ٢٢٧ ـ ٢٣٠ ، البداية والنهاية ٣ / ٢٤٨ ـ ٢٥٢ ، عيون التواريخ ١ / ١٠٨ ـ ١١١.

(٣) السيرة ٣ / ٣٥ ، الطبري ٢ / ٤١٥.

٥٠

سفيان فجهّز منذرا إلى قريش يستنفرهم إلى أموالهم. فأسرعوا الخروج ، ولم يتخلّف من أشرافهم أحد ، إلّا أنّ أبا لهب قد بعث مكانه العاص أخا أبي جهل. ولم يخرج أحد من بني عديّ بن كعب. وكان أميّة بن خلف شيخا جسيما فأجمع القعود. فأتاه عقبة بن أبي معيط ـ وهو في المسجد ـ بمجمرة وبخور فوضعها بين يديه ، وقال : أبا عليّ ، استجمر! فإنّما أنت من النّساء. قال : قبّحك الله ، فتجهّز (١) وخرج معهم.

وخرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثامن رمضان ، واستعمل على المدينة عمرو بن أمّ مكتوم على الصّلاة. ثم ردّ أبا لبابة من الرّوحاء (٢) واستعمله على المدينة. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وكان أمام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رايتان سوداوان ، إحداهما مع عليّ رضي‌الله‌عنه ، والأخرى مع رجل أنصاريّ. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.

فكان مع المسلمين سبعون بعيرا يعتقبونها (٣) ، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليّ ، ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا. فلما قرب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصّفراء (٤) بعث اثنين يتجسسان أمر أبي سفيان. وأتاه الخبر بخروج نفير قريش ، فاستشار النّاس ، فقالوا : خيرا. وقال المقداد بن الأسود : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا

__________________

(١) في الأصل (فتجمّر) والتصحيح من ع ، ح. وسيرة ابن هشام ٣ / ٣١.

(٢) الرّوحاء : من عمل الفرع بالمدينة ، على نحو من ثلاثين أو أربعين يوما منها. (معجم البلدان) ، ويقول العلّامة الأستاذ حمد الجاسر إنّها لا تزال معروفة وتسمّى (الرحا) على طريقة البدو في الإبدال (المغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآبادي ، قسم المواضع ١٦١ هامش).

(٣) يعتقبونها : يتعاقبون عليها ويتناوبونها. والاعتقاب : كالتعاقب : التداول.

(٤) الصفراء : واد من ناحية المدينة كثير النّخل والزّرع في طريق الحاجّ. بينه وبين بدر مرحلة.

(معجم البلدان).

٥١

نقول (١) كما قالت بنو إسرائيل لموسى : «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» (٢) ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ، فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغماد (٣) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم له خيرا ودعا له.

وقال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، [والله] (٤) لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك. فسرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله ، وقال : سيروا وأبشروا ، فإنّ ربّي قد وعدني إحدى الطّائفتين : إمّا العير وإمّا النّفير.

وسار حتى نزل قريبا من بدر. فلما أمسى بعث عليّا والزّبير وسعدا في نفر إلى بدر [٨ أ] يلتمسون الخبر. فأصابوا راوية (٥) لقريش فيها أسلم وأبو يسار من مواليهم ، فأتوا بهما النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسألوهما فقالا : نحن سقاة لقريش. فكره. الصّحابة هذا الخبر ، ورجوا أن يكونوا سقاة للعير. فجعلوا يضربونهما ، فإذا آلمهما الضّرب قالا : نحن من عير أبي سفيان. وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، فلما سلّم قال : إذا صدقا ضربتموها ، وإذا كذبا تركتموهما. ثم قال : أخبراني أين قريش؟ قالا : هم وراء هذا الكثيب. فسألهما : كم ينحرون كلّ يوم؟ قالا : عشرا من الإبل أو تسعا : فقال : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف.

وأما اللّذان بعثهما النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجسّسان ، فأناخا بقرب ماء بدر واستقيا

__________________

(١) في ح : لا نقول لك. وكذلك في السيرة ٣ / ٣٣.

(٢) استشهاد بالآية ٢٤ من سورة المائدة.

(٣) برك الغماد : موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر ، وقيل بلد باليمن ، وقيل موضع في أقصى أرض هجر. (معجم البلدان).

(٤) زيادة من ع ، ح.

(٥) الإبل التي يستقى عليها.

٥٢

في شنّهما (١). ومجديّ بن عمرو بقربهما لم يفطنا به. فسمعا جاريتين من جواري الحيّ تقول إحداهما للأخرى : إنّما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ثمّ أقضيك. فصرفهما مجديّ ، وكان عينا لأبي سفيان. فرجعا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبراه. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدّم وحده حتى أتى ماء بدر فقال لمجديّ : هل أحسست أحدا؟ فذكر له الراكبين. فأتى أبو سفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ففتّه ، فإذا فيه النّوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعا فصرف العير عن طريقها ، وأخذ طريق الساحل ، وأرسل يخبر قريشا أنّه قد نجا فارجعوا. فأبى أبو جهل وقال : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، ونقيم عليه ثلاثا ، فتهابنا العرب أبدا.

ورجع الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ببني زهرة كلّهم ، وكان فيهم مطاعا. ثم نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي.

وسبق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ماء بدر. ومنع قريشا من السّبق إلى الماء مطر عظيم لم يصب المسلمين منه إلّا ما لبّد لهم الأرض. فنزل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة. فقال الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدّمه أو نتأخّر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال : بل الرأي والحرب والمكيدة. قال : يا رسول الله ، إنّ هذا ليس لك بمنزل ، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر ما وراءه من القلب (٢) ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، فنشرب ولا يشربون. فاستحسن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك من

__________________

(١) الشن : القربة الصغيرة ، أو كلّ آنية من جلد.

(٢) القلب : جمع قليب ، وهو البئر (تاج العروس ٤ / ٧٢) وغوّر البئر ، أي دفنها وطمّها وسدّها.

ووردت في بعض الروايات «نعوّر» بالعين ، ومنه حديث عليّ : أمره أن يغوّر آبار بدر.

٥٣

رأيه ، وفعل ما أشار به ، وأمر بالقلب فغوّرت ، وبنى حوضا وملأه ماء. وبني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عريش يكون فيه ، ومشى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موضع الوقعة ، فأرى أصحابه مصارع قريش ، يقول : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان. قال : فما عدا واحدا منهم مصرعه ذلك.

ثم بعثت قريش فحزروا المسلمين (١). وكان فيهم فارسان : المقداد والزّبير. وأراد عتبة بن ربيعة ، وحكيم بن حزام قريشا على الرجوع فأبوا. وكان الّذي صمّم على القتال أبو جهل. فارتحلوا من الغد قاصدين نحو الماء. فلما [٨ ب] رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلين قال : اللهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك (٢) وتكذّب رسولك ، اللهمّ فنصرك الّذي وعدتني ، اللهمّ أحنهم (٣) الغداة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر ـ إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب [الجمل] (٤) الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا.

وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاريّ بعث إلى قريش ، حين مرّوا به ، بجزائر (٥) هديّة ، وقال : إن أحببتم أن نمدّكم بسلاح ورجال فعلنا. فأرسلوا إليه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الّذي ينبغي ، فلعمري لئن كنّا إنّما نقاتل النّاس فما بنا ضعف ، وإن كنّا إنّما نقاتل الله ، كما يزعم محمد ،

__________________

(١) حزر الشيء أو القوم : قدّر عددهم بالحدس والتخمين.

(٢) حادّه : غاضبه وعاداه.

(٣) أحنهم : من الحين وهو الموت والهلاك ، أي أمتهم وأهلكهم. وفي الأصل و (ح) (أحتفهم) كأنه فعل من الحتف ، وله وجه. ولكنّ الرواية ما أثبتناه كما في ع وأغلب كتب السيرة. (انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٣٦).

(٤) سقطت من الأصل ، وأثبتناه من ع ، ح. والسيرة ٤ / ٣٦.

(٥) في ح : «حين مرّوا به ابنا له بجزائر هديّة» والجزائر : جمع جزور : البعير.

٥٤

ما لأحد بالله من طاقة.

فلمّا نزل النّاس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوهم. فما شرب يومئذ رجل إلّا قتل ، إلّا ما كان من حكيم بن حزام ، ثم إنّه أسلم بعد ، وكان إذا اجتهد في يمينه قال : لا والّذي نجّاني يوم بدر.

ثم بعثت قريش عمير بن وهب الجمحيّ ليحزر المسلمين. فجال بفرسه حول العسكر ، ثم رجع فقال : هم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصونه. ولكن أمهلوني حتى انظر [أ] للقوم كمين أو مدد؟ وضرب في الوادي ، فلم ير شيئا. فرجع إليهم فقال : ما رأيت شيئا. ولكن قد رأيت ـ يا معشر قريش ـ البلايا تحمل المنايا ، نواضح (١) يثرب تحمل الموت النّاقع. قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلّا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر بخير إلى آخر الدهر؟ قال : وما ذاك يا حكيم؟ قال : ترجع النّاس ، وتحمل أمر حليفك عامر (٢) بن الحضرميّ. قال : قد فعلت. أنت عليّ بذلك ، إنّما هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من ماله. فائت ابن الحنظليّة ـ والحنظليّة أمّ أبي جهل ـ فإنّي لا أخشى أن يشجر (٣) أمر النّاس

__________________

(١) النّواضح : جمع ناضح : البعير ، أو غيره ، الّذي يستقى عليه الماء.

(٢) في الأصل : عمرو ، خطأ سيصوبه بعد قليل. وكذا في سيرة ابن هشام بالصيغتين ٣ / ٣٧.

(٣) في الأصل : يسحر ، وفي ع (يسجر) وأثبتنا رواية ح. ويشجر فلان أمر النّاس أي يثير التخاصم والتنازع بينهم. (تاج العروس ١٢ / ١٤٠).

٥٥

غيره. ثم قام عتبة خطيبا فقال : يا معشر قريش ، إنّكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النّظر إليه ، قتل ابن عمّه وابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلّوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك ، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرّضوا منه ما تريدون.

قال حكيم : فأتيت أبا جهل فوجدته قد شدّ درعا من جرابها فهو يهيّؤها قلت : يا أبا الحكم ، إنّ عتبة قد أرسلني بكذا وكذا. فقال : انتفخ والله سحره (١) حين رأى محمدا وأصحابه. كلّا ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد. وما بعتبة ما قال ، ولكنّه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه قد تخوّفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرميّ فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالنّاس ، وقد رأيت [٩ أ] ثأرك بعينك ، فقم فأنشد خفرتك (٢) ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ : وا عمراه ، وا عمراه. فحميت الحرب (٣) وحقب (٤) أمر النّاس واستوسقوا (٥) على ما هم عليه من الشرّ. وأفسد على النّاس رأي عتبة الّذي دعاهم إليه.

فلما بلغ عتبة قول أبي جهل : انتفخ والله سحره ، قال : سيعلم مصفّر استه (٦) من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه ، فما وجد في الجيش

__________________

(١) السّحر : الرئة ، ويقال للجبان الّذي ملأ الخوف جوفه : انتفخ سحره. (تاج العروس ١١ / ٥١٠ ، ٥١١).

(٢) الخفرة : الذمّة والجوار. وانشد خفرتك ، أي أطلب من يجيرك. (تاج العروس ١١ / ٢٠٥).

(٣) في ح : (نار الحرب).

(٤) حقب : فسد واحتبس (تاج العروس ٢ / ٢٩٨).

(٥) استوسقوا : استجمعوا وانضمّوا.

(٦) مصفر استه : كلمة تقال في الشتم ، أو تقال للمتنعّم المترف الّذي لم تحنّكه التجارب والشدائد.

٥٦

بيضة تسعه من عظم هامته ، فاعتجر (١) على رأسه ببرد له.

وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ ـ وكان شرسا سيّئ الخلق ـ فقال : أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطّلب ، فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبرّ يمينه ، واتّبعه حمزة فقتله في الحوض.

ثم إنّ عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة ، ودعوا للمبارزة ، فخرج إليه عوف ومعوّذ ابنا عفراء وآخر من الأنصار. قالوا : من أنتم؟ قالوا : من الأنصار. قالوا : ما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، ويا حمزة ، ويا عليّ. فلما دنوا منهم ، قالوا : من أنتم؟ فتسمّوا لهم. فقال : أكفاء كرام. فبارز عبيدة ـ وكان أسنّ القوم ـ عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز عليّ الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأمّا عليّ فلم يمهل الوليد أنّ قتله. واختلف عتبة وعبيدة بينهما ضربتين : كلاهما أثبت (٢) صاحبه. وكرّ عليّ وحمزة على عتبة فدفّفا (٣) عليه. واحتملا عبيدة إلى أصحابهما (٤).

ثم تزاحف الجمعان. وقد أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال : انضحوهم عنكم بالنّبل. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش ، معه أبو بكر. وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان. ثم عدّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) الاعتجار : ليّ الثوب على الرأس من غير إدارة تحت الحنك. والعجرة ، بالكسر : نوع من العمّة ، يقال : فلان حسن العجرة (تاج العروس ١٢ / ٥٣٨).

(٢) أثبته : اصابه بحيث لا يتحرّك.

(٣) دفّف عليه : أجهز عليه ، ومثلها ذفّف.

(٤) انظر الخبر في المغازي لعروة بن الزبير ـ ص ١٤٠ ، ١٤١.

٥٧

الصفوف بنفسه ، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر فقط. فجعل يناشد ربّه ويقول : يا ربّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض. وأبو بكر يقول : يا نبيّ الله ، بعض مناشدتك ربّك. فإنّ الله منجز لك ما وعدك. ثم خفق (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتبه وقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك النّصر ، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النّقع.

فرمي مهجع ـ مولى عمر ـ بسهم ، فكان أوّل قتيل في سبيل الله. ثم رمي حارثة بن سراقة النّجّاريّ بسهم وهو يشرب من الحوض ، فقتل.

ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس يحرّضهم على القتال. فقاتل عمير ابن الحمام حتى قتل. ثم قاتل عوف بن عفراء ـ وهي أمّه ـ حتى قتل

ثم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمى المشركين بحفنة من الحصباء وقال : شاهت الوجوه. وقال لأصحابه : شدّوا (٢) عليهم. فكانت الهزيمة ، وقتل الله من قتل من صناديد الكفر : فقتل سبعون وأسر مثلهم.

ورجع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العريش. وقام سعد بن معاذ على الباب [٩ ب] بالسّيف في نفر من الأنصار ، يخافون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرّة العدوّ.

ثم قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : إنّي قد عرفت أنّ رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هاشم بن الحارث (٣) فلا يقتله ، ومن

__________________

(١) خفق : نعس نعسة ثم تنبه.

(٢) في الأصل : (صدوا) والتصحيح من ع. ح. والسيرة ٣ / ٣٩.

(٣) أبو البختريّ : هو العاص بن هاشم بن الحارث ، وقيل : ابن هاشم. وهو الّذي ضرب أبا جهل بلحى بعير فشجّه حين أراد أن يمنع ابن أخي السيّدة خديجة من الوصول إليها ، وهي مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب ، وكان يحمل قمحا يريد به عمّته. لذلك قيل إنّه كان أكفّ القوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإصابة ٣ / ١٢٤).

٥٨

لقي العبّاس فلا يقتله فإنّه إنّما خرج مستكرها. فقال أبو حذيفة (١) : أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العبّاس؟ والله لئن لقيته لألحمنّه (٢) بالسيف. فبلغت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لعمر : يا أبا حفص (٣) ، أيضرب وجه عمّ رسول الله (٤)؟ فقال عمر : دعني فلأضرب عنق هذا المنافق. فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا آمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلّا أن تكفّرها عنّي الشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.

وكان أبو البختريّ أكفّ القوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقام في نقض الصّحيفة. فلقيه المجذّر بن ذياد (٥) البلوي حليف الأنصار ، فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نهانا عن قتلك. فقال : وزميلي جنادة الليثيّ؟ فقال المجذّر : لا والله ما أمرنا إلّا بك وحدك. فقال : لأموتنّ أنا وهو ، لا يتحدّث عنّي نساء مكة أنّي تركت زميلي حرصا على الحياة. فاقتتلا ، فقتله المجذّر. ثم أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : والّذي بعثك بالحقّ لقد جهدت عليه أن يستأسر ، فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلني.

وعن عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه قال : كان أميّة بن خلف صديقا لي بمكة. قال فمررت به ومعي أدراع قد استلبتها ، فقال لي : هل لك فيّ ، فأنا خير لك من الأدراع؟ قلت : نعم ، ها الله إذن. وطرحت

__________________

(١) هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، من فضلاء الصّحابة ، ومن السابقين إلى الإسلام ، أسلم قبل دخول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دار الأرقم. وشهد بدرا وما بعدها ، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة. قتل يوم اليمامة شهيدا وهو ابن ثلاث ـ أو أربع ـ وخمسين سنة. (الإصابة ٤ / ٤٢ ، ٤٣ رقم ٢٦٤).

(٢) ألحمه السيف : أي أمكن منه لحمه. ولحمه : ضربه. ورواية ابن هشام «لألحمنّه السيف» قال : ويقال «لألجمنّه السيف» بالجيم. (السيرة ٣ / ٣٩)

(٣) في طبعة القدسي ٣٨ «أيا حفص».

(٤) في ح وفي السيرة ٣ / ٣٩ «أيضرب وجه عمّ رسول الله بالسيف»؟

(٥) المحبّر ٧٤ ، ١٧٧ ، و ٤٦٧ ، المشتبه للذهبي ٢ / ٥٧٣.

٥٩

الأدراع ، فأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قطّ ، أما لكم حاجة في اللّبن؟ يعني : من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللّبن. ثم جئت أمشي بهما ، فقال لي أميّة : من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت : حمزة. قال : ذاك الّذي فعل بنا الأفاعيل. فو الله إنّي لأقودهما ، إذ رآه بلال ، وكان يعذّب بلالا بمكة ، فلما رآه قال : رأس الكفر أميّة بن خلف؟ لا نجوت إن نجا (١). قال : أتسمع يا بن السّوداء ما يقول؟ ثم صرخ بلال بأعلى صوته : يا أنصار الله ، رأس الكفر أميّة بن خلف ، لا نجوت إن نجا. قال : فأحاطوا بنا ، وأنا أذبّ عنه. فأخلف رجل السّيف ، فضرب رجل ابنه فوقع ، فصاح أميّة صيحة عظيمة ، فقلت : أنج بنفسك ، ولا نجاء ، فو الله ما أغني عنك شيئا. فهبروهما بأسيافهم. فكان يقول : رحم الله بلالا ، ذهبت أدراعي ، وفجعني بأسيريّ.

وروى ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما ، عن رجل من غفار قال : أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر الدائرة على من تكون ، فننتهب (٢). فبينما نحن في الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعت فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم (٣). فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه [١٠ أ] فمات مكانه ، وأمّا أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت.

رواه عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عمّن حدّثه ، عن ابن عبّاس.

وروى الّذي بعده (٤) ابن حزم عمّن حدّثه من بني ساعدة عن أبي أسيد

__________________

(١) زاد في ح بعد هذا : «قلت : أي بلال ، أبأسيري؟ قال : لا نجوت إن نجا». وانظر :

السيرة ٣ / ٤١.

(٢) في ح : فننتهب مع من ينتهب. وانظر السيرة ٣ / ٤١.

(٣) حيزوم : اسم فرس جبريل عليه‌السلام ، وقيل اسم فرس من خيل الملائكة.

(٤) هكذا في الأصل وسائر النّسخ ،

٦٠