تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

حجرتها ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصبح ، فقالت : أيّها النّاس أنا زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنّي قد أجرت أبا العاص. فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصّلاة قال : أيّها النّاس إنّي لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ، ألا وإنّه يجير على النّاس أدناهم.

وقال ابن إسحاق (١) عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : ردّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [٥٧ أ] ابنته على أبي العاص على النّكاح الأول بعد ستّ سنين.

وقال حجّاج بن أرطاة ، عن محمد بن عبيد الله العرزميّ (٢) ـ وهو ضعيف ـ ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّها بمهر جديد ونكاح جديد.

قال الإمام أحمد : هذا حديث ضعيف ، والصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّها على النّكاح الأول.

وقال ابن إسحاق : ثم إنّ أبا العاص رجع إلى مكّة مسلما ، فلم يشهد مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهدا. ثم قدم المدينة بعد ذلك ، فتوفي في آخر سنة اثنتي عشرة.

* * *

سريّة عبد الله بن رواحة

إلى أسير بن زارم في شوّال

قيل إنّ سلّام بن أبي الحقيق لما قتل أمّرت يهود عليهم أسير بن رازم (٣)

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٦٠.

(٢) العرزميّ : نسبة إلى عرزم. بطن من فزارة. (اللباب ٢ / ٣٣٤).

(٣) في ع : زارم. وفي ابن هشام ٤ / ٢٣٧ اليسير بن رزام ، ويقال ابن رازم. وفي مغازي الواقدي

٣٦١

فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فوجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن رواحة في ثلاثة سرّا ، فسأل عن خبره وغرّته فأخبره بذلك. فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره. فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثين رجلا ، فبعث عليهم ابن رواحة. فقدموا على أسير فقالوا : نحن آمنون نعرض عليك ما جئنا له؟ قال : نعم ، ولي منكم مثل ذلك. فقالوا : نعم. فقالوا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك فخرج ، وخرج معه ثلاثون من اليهود ، مع كلّ رجل رديف من المسلمين. حتى إذا كانوا بقرقرة ثبار (١) ندم أسير فقال عبد الله بن أنيس ـ وكان في السّريّة ـ : وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري وقلت : غدرا ، أي عدوّ الله. فعل ذلك مرّتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف فأندرت (٢) عامّة فخذه ، فسقط وبيده مخرش (٣) فضربني فشجّني مأمومة (٤) ، وملنا على أصحابه فقتلناهم ، وهرب منهم رجل. فقدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لقد نجّاكم الله من القوم الظّالمين (٥).

* * *

__________________

= / ٥٦٦ وإمتاع الأسماع للمقريزي : أسير بن زارم. وفي طبقات ابن سعد ٢ / ٩٢ «زارم» ، وفي تاريخ الطبري ٣ / ١٥٥ «تيسير بن رزام».

(١) كتبت في الأصل بغير إعجام وفي ع : تيار. والتصحيح من معجم البلدان ووفاء ألوفا في (ثبار) ، وهو موضع على ستة أميال من خيبر. وانظر الطبقات الكبرى ٢ / ٩٢.

(٢) ندر الشيء : سقط ، وأندرته : أسقطته.

(٣) المخرش : المحجن وهو عصا معوجّة الرأس.

(٤) الشجّة المأمومة : التي بلغت أمّ الرأس وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ / ٩٢ ، وانظر تاريخ الطبري ٣ / ١٥٥ ، وعيون الأثر ٢ / ١١١ ، وسيرة ابن هشام ٣ / ٢٣٧.

٣٦٢

قصّة غزوة الحديبيّة

وهي على تسعة أميال من مكّة

خرج إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي القعدة سنة ست. قاله نافع ، وقتادة ، والزّهري ، وابن إسحاق ، وغيرهم. وعروة (١) في مغازيه (٢) ، رواية أبي الأسود.

وتفرّد عليّ بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى الحديبيّة في رمضان.

وكانت الحديبيّة في شوّال.

وفي الصّحيحين عن هدبة ، عن همّام ، ثنا قتادة ، أنّ أنسا أخبره أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتمر أربع عمر كلّهنّ في ذي القعدة ، إلّا العمرة التي مع حجّته : عمرة الحديبيّة في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل ، وعمرة من الجعرانة ، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجّته (٣).

__________________

(١) في طبعة القدسي ٣٣٤ «عروبة» وهو تصحيف.

(٢) المغازي ١٩٢.

(٣) صحيح البخاري : كتاب الحجّ ، أبواب العمرة ، باب كم اعتمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٢ / ١٩٨ ، ١٩٩

٣٦٣

وقال الزّهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عام الحديبيّة في بضع عشرة [٥٧ ب] مائة من أصحابه ، فلما كان بذي الحليفة (١) قلّد الهدي وأشعره وأحرم منها. أخرجه البخاري (٢).

وقال شعبة ، عن عمرو بن مرّة [حدّثني عبد الله] (٣) بن أبي أوفى ـ وكان قد شهد بيعة الرّضوان ـ قال : كنّا يومئذ ألفا وثلاثمائة. وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. أخرجه مسلم (٤). وعلّقه البخاري في صحيحه (٥).

وقال حصين بن عبد الرحمن ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : لو كنّا مائة ألف لكفانا ، كنّا خمس عشرة مائة. متّفق عليه (٦).

وخالفه الأعمش ، عن سالم عن جابر ، قال : كنّا أربع عشرة مائة ، أصحاب الشّجرة. اتّفقا أيضا عليه (٧).

وكأنّ جابرا قال ذلك على التقريب. ولعلّهم كانوا أربع عشرة مائة كاملة تزيد عددا لم يعتبره ، أو خمس عشرة مائة تنقض عددا لم يعتبره. والعرب

__________________

= وكتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ٥ / ٦١ ، ٦٢. وصحيح مسلم (١٢٥٣) ، كتاب الحج ، باب بيان عدد عمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة ستّة أميال أو سبعة ، وهي ميقات أهل المدينة. (معجم البلدان ٢ / ٢٩٥).

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة. (٥ / ٦١ ، ٦٢).

(٣) سقطت من الأصل ع ، واستدركناها من الصحيحين وكتب الرجال.

(٤) صحيح مسلم (١٨٥٧) كتاب الإمارة باب استحباب مبايعة الإمام الجيش وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة ٣ / ١٤٨٥.

(٥) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ٥ / ٦٣.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ٥ / ٦٣ وصحيح مسلم (١٨٥٦) كتاب الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام إلخ. (٣ / ١٤٨٤).

(٧) صحيح البخاري وصحيح مسلم في الموضعين السابقين.

٣٦٤

تفعل هذا كثيرا ، كما تراهم قد اختلفوا في سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاعتبروا تارة السّنة التي ولد فيها والتي توفّي فيها فأدخلوهما في العدد. واعتبروا تارة السّنين الكاملة وسكتوا عن الشهور الفاضلة.

ويبيّن هذا أنّ قتادة قال : قلت لسعيد بن المسيّب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال : خمس عشرة مائة. قلت : إنّ جابرا قال : كانوا أربع عشرة مائة. قال : يرحمه‌الله ، وهم. هو حدّثني أنّهم كانوا خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري (١).

وقال عمرو بن دينار : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنّا يوم الحديبيّة ألفا وأربعمائة. فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنتم خير أهل الأرض. اتّفقا عليه من حديث ابن عيينة (٢).

وقال اللّيث ، عن أبي الزّبير ، عن جابر : كنّا يوم الحديبيّة ألفا وأربعمائة. صحيح (٣).

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : نحرنا عام الحديبيّة سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة. قلنا لجابر : كم كنتم يومئذ؟ قال : ألفا وأربعمائة بخيلنا ورجلنا (٤).

وكذلك قاله البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصحّ الروايتين ، والمسيّب بن حزم ، من رواية قتادة ، عن سعيد ، عن أبيه.

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة (٥ / ٦٣).

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ٥ / ٦٣ ، وصحيح مسلم (١٨٥٦) كتاب الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش ٣ / ١٨٨٤.

(٣) صحيح مسلم (١٨٥٦) كتاب الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش ٣ / ١٤٨٣.

(٤) في الأصل : ورجالنا. والتصحيح من ع.

٣٦٥

وقال معمر ، عن الزّهري ، عن عروة ، عن المسور ، ومروان بن الحكم ، يصدّق كلّ واحد منهما حديث صاحبه ، قالا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الحديبيّة في بضع عشرة مائة من أصحابه. حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة. وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط (١) قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال : إنّي تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشيروا عليّ. أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجّوا تكن عنقا (٢) قطعها [٥٨ أ] الله. أم ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟ قال : أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنّما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. قال : فروحوا إذا (٣).

قال الزّهري في الحديث : فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين. فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش (٤) ، فانطلق يركض نذيرا (٥) لقريش. وسار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بالثّنيّة (٦) التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال النّاس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت

__________________

(١) غدير الأشطاط على ثلاثة أميال من عسفان مما يلي مكة (وفاء ألوفا ٢ / ٣٥٢).

(٢) العنق : الجماعة من النّاس ، أو الكبراء والاشراف منهم. وعبارة البخاري ٥ / ٦٧ : «فإن يأتونا كان الله عزوجل قد قطع عينا من المشركين وإلّا تركناهم محروبين». والعين الجاسوس ، قال في التاج : أي كفى الله منهم من كان يرصدنا ويتجسّس أخبارنا.

(٣) انظر صحيح البخاري ٥ / ٦٧ كتاب المغازي باب غزوة الحديبيّة ، ونهاية الأرب ١٧ / ٢٢٠.

(٤) في الأصل : حتى إذا هو بصره الجيش. وأثبتنا نصّ البخاري. وقترة الجيش : غباره.

(٥) في الأصل : تدبرا ، تصحيف.

(٦) هي ثنيّة المرار كما في سيرة ابن هشام ٤ / ٢٥.

٣٦٦

القصواء خلأت القصواء (١). قال : فرحوا إذا (٢)

قال الزّهري : قال أبو هريرة : ما رأيت أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال المسور ومروان في حديثهما : فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ـ رجع الحديث إلى موضعه ـ قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل (٣)». ثم قال : «والّذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها». ثم زجرها فوثبت به. قال : فعدل حتى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد (٤) قليل الماء ، إنّما يتبرّضه النّاس تبرّضا (٥) ، فلم يلبّثه النّاس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العطش. فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم [أن يجعلوه فيه ، فو الله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا] (٦) عنه.

فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح (٧) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل تهامة. فقال : إنّي تركت كعب ابن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد (٨) مياه الحديبيّة ، معهم العوذ

__________________

(١) حل حل : كلمة زجر لإناث الإبل. وألحت : حرنت. وخلأت النّاقة : إذا بركت وحرنت من غير علّة فلم تبرح مكانها. والقصواء : لقب ناقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) نهاية الأرب ١٧ / ٢٢١.

(٣) حابس الفيل : أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها.

(٤) الثمد : الماء القليل ، أو الحفرة في الأرض يكون فيها الماء القليل. (شرح المواهب ٢ / ١٨٥).

(٥) يتبرّضه الناس تبرّضا : أي يأخذونه قليلا قليلا. من البرض وهو الماء القليل : ضد الغمر.

(٦) سقطت من الأصل ، ع واستدركناها من صحيح البخاري ٣ / ١٧٨ ، ١٧٩ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٢٢٢ ، وشرح المواهب ٢ / ١٨٥ وتاريخ الطبري ٢ / ٦٢٥.

(٧) عيبة نصح رسول الله ، أي خاصته وأصحاب سرّه.

(٨) الأعداد : جمع عد وهو الماء الجاري الّذي له مادة لا تنقطع كماء العين والبئر.

٣٦٧

المطافيل (١) ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لم نجيء لقتال أحد ولكنّا جئنا معتمرين ، وإنّ قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدّة ويخلّوا بيني وبين النّاس (٢) ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس فعلوا ، وإلّا فقد جمّوا (٣) ، وإن هم أبوا فو الّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (٤) أو لينفذنّ الله أمره. فقال بديل : سأبلّغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته. قال : سمعته يقول كذا وكذا. فحدّثهم بما قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقام عروة بن مسعود الثّقفي فقال : أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا : بلى. قال : ألست بالولد؟ قالوا : بلى. قال : هل تتّهموني؟ قالوا : لا. قال : ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ (٥) [٥٧ ب] جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى. قال : فإنّ هذا قد عرض عليكم خطّة رشد ، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا : ائته. فأتاه فجعل يكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال نحوا من قوله لبديل. فقال : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى

__________________

(١) العوذ : الناقة ذات اللبن ، والمطافيل : الأمهات اللاتي معها أطفالها ، والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار. (شرح المواهب ٢ / ١٨٧).

(٢) في نهاية الأرب ١٧ / ٢٢٣ إضافة «فإن أظهر» وفي شرح المواهب اللدنيّة ٢ / ١٨٧ ، ١٨٨ «إن شاءوا فإن أظهر».

(٣) جمّوا : استراحوا من جهد الحرب.

(٤) السالفة : صفحة العنق ، وكنّي بانفرادها عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها إلّا بالموت ، وقيل أراد حتى يفرّق بين رأسي وجسدي (التاج).

(٥) بلّحوا عليّ : أبوا وامتنعوا.

٣٦٨

فو الله إنّي لأرى وجوها وأرى أوباشا (١) من النّاس خلقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر رضي‌الله‌عنه : امصص بظر اللّات (٢). أنحن نفرّ عنه وندعه؟ قال : من ذا؟ قال أبو بكر. قال : والّذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال : وجعل يكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلّما كلّمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلّما أهوى عروة إلى لحية النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ضرب يده بنعل السّيف وقال : أخّر يدك. فرفع رأسه فقال : من هذا؟ قالوا : المغيرة بن شعبة. فقال : أي غدر ، أو لست أسعى في غدرتك؟ قال : وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمّا الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء (٣).

ثم إنّ عروة جعل يرمق صحابة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فو الله ما تنخّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه ، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون (٤) إليه النّظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، وفدت على قيصر وكسرى والنّجاشيّ ، والله إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا (٥). والله إن تنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على

__________________

(١) الأوباش : الاخلاط والسّفلة. ومثلها الأوشاب والأشواب ، وهما نصّ البخاري ٣ / ١٧٩.

(٢) جاء في شرح نهاية الأرب ١٧ / ٢٢٤ (٥) أقام أبو بكر رضي‌الله‌عنه معبود عروة ، وهو صنمه اللات مقام أمه لأن عادة العرب الشتم بلفظ الأم ، فأبدله الصدّيق باللات ، فنزّله منزلة امرأة تحقيرا لمعبوده.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٢٦ ، ٢٧ ، والبداية والنهاية ٤ / ١٦٦ ، ١٦٧.

(٤) يحدّون : يحدّقون.

(٥) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٢٧ ، ونهاية الأرب ١٧ / ٢٢٥ ، ٢٢٦.

٣٦٩

وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، ولا يحدّون إليه النّظر تعظيما له ، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها (١). فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلمّا أشرف على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا فلان وهو من قوم يعظّمون البدن (٢) ، فابعثوها له. فبعثت له. واستقبله القوم يلبّون. فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت (٣) ، فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلّدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدّوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف عليهم قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله [٤٩ أ] عليه وسلّم : هذا مكرز وهو رجل فاجر. فجعل يكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو.

قال معمر : وأخبرني أيّوب ، عن عكرمة أنّه قال : لما جاء سهيل قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سهّل لكم من أمركم (٤).

قال الزّهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتابا. فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب [باسمك اللهمّ] (٥) كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب باسمك اللهمّ» ثم قال : «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله». فقال سهيل : والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن أكتب محمد بن

__________________

(١) انظر نهاية الأرب ١٧ / ٢٢٦.

(٢) البدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة ، وهي بالإبل أشبه.

(٣) حتى هنا انظر تاريخ الطبري ٢ / ٦٢٦ ، ٦٢٧.

(٤) تاريخ الطبري ٢ / ٦٢٩.

(٥) الإضافة من البداية والنهاية ٤ / ١٦٨ وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٨.

٣٧٠

عبد الله. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، أكتب محمد بن عبد الله.

قال الزّهري : وذلك لقوله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها.

فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف. فقال : والله لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة (١) ، ولكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل : على أنّه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا. فقال المسلمون : سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو [يوسف] (٢) في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل : وهذا أول ما أقاضيك عليه أن تردّه. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لم نقض الكتاب بعد. قال : فو الله إذا لا نصالحك على شيء أبدا. قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأجره لي. قال : ما أنا بمجيره لك. قال : بلى ، فافعل قال : ما أنا بفاعل. قال مكرز : بلى قد أجرناه. قال أبو جندل : معاشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا في الله.

فقال عمر : والله ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ (٣) ، فأتيت النّبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، ألست نبيّ الله؟ قال : «بلى» قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : «بلى» قلت : فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟ قال : «إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري». قلت : أو لست

__________________

(١) الضغطة : الضّيق والإكراه والشدّة.

(٢) ليست في الأصل : وأثبتناها من ع. والبداية والنهاية ٤ / ١٦٩.

(٣) في المغازي للواقدي ٢ / ٦٠٧ «ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت».

٣٧١

كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف حقّا؟ قال : «بلى ، أفأخبرتك (١) أنّك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنّك آتيه ومطوّف به. قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذا؟ قال : أيّها الرجل إنّه رسول الله وليس يعصي الله [٥٩ ب] وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه (٢) حتى تموت. فو الله إنّه لعلى الحقّ. قلت : أو ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى فأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنّك آتيه ومطوّف به (٣).

قال : الزّهري. قال عمر : فعملت ملك أعمالا.

فلما فرغ من قضيّة الكتاب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال : فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرّات. فلما لم يقم منهم [أحد] (٤) ، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس. فقالت : يا نبيّ الله أتحبّ ذلك؟ خرج ثمّ لا تكلّم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، ثم تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلّم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا. ثم جاء نسوة مؤمنات ، وأنزل الله : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) حتى بلغ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ

__________________

(١) في الأصل ، ع : أنا أخبرتك. ولعلّ الوجه ما أثبتناه هو عبارة البخاري في بعض الأصول وفي نهاية الأرب ١٧ / ٢٣٠ «هل أخبرتك».

(٢) الغرز : الركاب. واستمسك بغرزة أي اعتلق به واتّبعه ولا تخالفه.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ١٨٢.

(٤) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع والبخاري ٣ / ١٨٢ والبداية والنهاية ٤ / ١٧٦ ونهاية الأرب ١٧ / ٢٣٣.

٣٧٢

الْكَوافِرِ) (١). فطلّق عمر يومئذ امرأتين كانت له في الشّرك ، فتزوّج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أميّة (٢).

ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير (٣) ، رجل من قريش ، وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الّذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرّجلين. والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّدا حدّا. فاستلّه الآخر فقال : أجل (٤) ، والله إنّه لجيّد ، لقد جرّبت به ثم جرّبت. فقال أبو بصير : أرني إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفرّ الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قتل والله صاحبي وإنّي لمقتول. قال : فجاء أبو بصير فقال : يا نبيّ الله قد أوفى [الله] (٥) ذمّتك ، والله قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله بسيفهم. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ (٦) لو كان له أحد». فلما سمع ذلك عرف أنه سيردّه إليهم. فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت (٧) منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة.

__________________

(١) سورة الممتحنة : من الآية ١٠.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٨٢.

(٣) قال النويري في نهاية الأرب ١٧ / ٢٤٤ : اختلف في اسمه ، فقيل عبيد بن أسيد بن جارية ، وقال ابن إسحاق : عتبة بن أسيد بن جارية ، وعن أبي معشر قال : اسمه عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد.

(٤) في الأصل ، ع : الرجل وأثبتنا نصّ البخاري ٣ / ١٨٣.

(٥) زيادة من البخاري ٣ / ١٨٣ يقتضيها السياق.

(٦) المسعر : موقد نار الحرب. يقال هو مسعر حرب إذا كان يؤرثها ، أي تحمى به الحرب. أما عبارة ابن هشام ٤ / ٣١ فهي «محش حرب» وتاريخ الطبري ٢ / ٦٣٩.

(٧) في طبعة القدسي ٣٤٤ «ينفتل» والتصويب من صحيح البخاري ٣ / ١٨٣.

٣٧٣

قال : فو الله لا يسمعون بعير لقريش خرجت (١) إلى الشام إلّا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله (٢) والرّحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فأنزل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) حتى بلغ (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) (٣). وكانت حميّتهم أنّهم لم يقرّوا بنبيّ الله ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين الموت. أخرجه البخاري ، عن المسندي ، عن عبد الرزّاق ، عن معمر ، بطوله (٤).

وقال قرّة ، عن أبي الزّبير ، عن جابر ، عن النّبيّ صلّى الله [٦٠ أ] عليه وسلّم قال : من يصعد الثّنيّة ، ثنيّة المرار (٥) ، فإنّه يحطّ عنه ما حطّ عن بني إسرائيل. فكان أوّل من صعد خيل بني الخزرج. ثم تبادر النّاس بعد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّكم مغفور له إلّا صاحب الجمل الأحمر. فقلنا : تعالى يستغفر لك رسول الله. قال : والله لأن أجد ضالّتي أحبّ إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم. وإذا هو رجل ينشد ضالّة.

أخرجه مسلم (٦).

وقال (٧) عبيد (٨) الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ

__________________

(١) العبارة عند البخاري «بعير خرجت لقريش إلى الشام».

(٢) هكذا في الأصل ، وعند البخاري «بالله».

(٣) سورة الفتح : الآيات ٢٤ ـ ٢٦.

(٤) صحيح البخاري : كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ٣ / ١٧٨ ـ ١٨٣.

(٥) ثنيّة المرار : من نواحي مكة وهي مهبط الحديبيّة (المغانم المطابة : ٨٥).

(٦) صحيح مسلم : كتاب صفات المنافقين وأحكامهم. رقم (٢٨٨٠) ٤ / ٢١٤٤ ، ٢١٤٥.

(٧) في الأصل : وقال خ. وأحسبها مقحمة فليس هنا مكانها.

(٨) في الأصل ، ع : عبد الله والتصحيح من صحيح البخاري ٥ / ٦٢ وتهذيب التهذيب (٧ / ٥٠).

٣٧٤

الفتح بيعة الرّضوان يوم الحديبيّة. كنّا مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبيّة ، بئر ، فنزحناها فما تركنا (١) فيها قطرة. فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء منها فتوضّأ ثم تمضمض ودعا ثم صبّه فيها فتركها (٢) غير بعيد ، ثم إنّها أصدرتنا (٣) نحن وركابنا. أخرجه خ (٤).

وقال عكرمة بن عمّار ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه قال : قدمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبيّة ، ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة ما ترويها. فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جباها (٥) ، فإمّا دعا وإمّا بزق فيها فجاشت فسقتنا وأسقينا. أخرجه مسلم (٦).

وقال البكّائي : قال ابن إسحاق (٧) : حدّثني الزّهري ، عن عروة ، عن مسور ، ومروان بن الحكم أنّهما قالا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبيّة يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا. وساق معه للهدي سبعين بدنة ، وكان النّاس سبعمائة رجل ، فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر.

قال ابن إسحاق (٨) : وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول : كنّا أصحاب الحديبيّة أربع عشرة مائة.

قلت : قد ذكرنا عن جماعة من الصّحابة كقول جابر.

__________________

(١) عبارة البخاري «فلم نترك».

(٢) عند البخاري «فتركناها».

(٣) عند البخاري «أصدرنا ما شئنا».

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبيّة ٥ / ٦٢.

(٥) الجبا : ما حول البئر ، أو الحوض الّذي يجيء فيه الماء ، وقيل ما حول الحوض. ولفظ مسلم «جبا الركيّة» ٣ / ١٤٣٣.

(٦) صحيح مسلم : كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة قرد وغيرها. لفظه : «فسقينا واستقينا».

(١٨٠٧) ـ ج ٣ / ١٤٣٣.

(٧) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٥.

(٨) السيرة ٤ / ٢٥.

٣٧٥

ثم ساق ابن إسحاق ، حديث الزّهري بطوله ، وفيه ألفاظ غريبة ، منها ، وجعل عروة بن مسعود يكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديد. قال : فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول : اكفف يدك عن لحية (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قبل] (٢) أن لا تصل إليك. فيقول عروة : ويحك ما أفظّك وأغلظك. قال : فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عروة : من هذا يا محمد؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال : أي غدر ، وهل غسلت سوأتك إلّا بالأمس؟

قال ابن هشام (٣) : أراد عروة بقوله هذا أنّ المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من (٤) ثقيف ، فتهايج (٥) الحيّان من ثقيف [بنو مالك] (٦) المقتولين ، والأحلاف رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة [٦٠ ب] ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح الأمر.

وقال ابن لهيعة : ثنا أبو الأسود ، قال عروة : [و] (٧) خرجت قريش من مكة ، فسبقوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بلدح (٨) وإلى الماء ، فنزلوا عليه ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قد سبق نزل على الحديبيّة ، وذلك في حرّ شديد وليس بها إلّا بئر واحدة ، فأشفق القوم من الظّمإ وهم كثير ، فنزل فيها رجال يمتحونها ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلو من ماء فتوضّأ في الدّلو ومضمض فاه ثم

__________________

(١) في السيرة «وجه» بدل «لحية».

(٢) ليست في الأصل ، ع ، وزدناها من سيرة ابن هشام.

(٣) السيرة ٤ / ٢٧.

(٤) في الأصل ، ع : بن والتصحيح من سيرة ابن هشام (٤ / ٢٧).

(٥) في طبعة القدسي ٣٤٧ «فمتهايج».

(٦) زيادة من السيرة.

(٧) زيادة من ع.

(٨) بلدح : واد قبل مكة من جهة المغرب (معجم البلدان ١ / ٤٨٠).

٣٧٦

مجّ فيه ، وأمر أن يصبّ في البئر ، ونزع سهما من كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تعالى ، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها ، وهم جلوس على شفتها. وقد كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلك على غير الطريق التي بلغه أنّ قريشا بها.

قال ابن إسحاق (١) : فحدّثني عبد الله بن أبي بكر ، أنّ رجلا من أسلم قال : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فسلك بهم طريقا وعرا «أرجل (٢) بين (٣) شعاب ، فلما خرجوا منه وقد شقّ ذلك على المسلمين ، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا «أستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا : ذلك. فقال : «والله إنّها للحطّة (٤) التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».

قال عبد الملك بن هشام (٥) : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النّاس فقال : «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري المحمص (٦) في طريق تخرجه على ثنيّة المرار ، مهبط الحديبيّة من أسفل مكة» فلما رأت قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش.

وقال شعبة ، وغيره ، عن حصين ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قلت لجابر : كم كنتم يوم الشّجرة؟ قال : كنّا ألفا وخمس مائة : وذكر عطشا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٥.

(٢) في الأصل : أحزل. تصحيف والتصحيح من السيرة. وأجرل : صلب غليظ. يقال : أرض جرلة أي فيها حجارة وغلظ. والجرول الأرض ذات الحجارة ، أو هي الحجارة ذاتها.

(٣) في الأصل : من. والتصحيح من سيرة ابن هشام (٤ / ٢٥).

(٤) الحطّة : من قوله تعالى لبني إسرائيل (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي احطط عنّا خطايانا.

(٥) السيرة ٤ / ٢٥.

(٦) هكذا في الأصل ، ع ، ورواية ابن هشام في السيرة ، الحمش ٤ / ٢٥.

٣٧٧

أصابهم ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بماء في تور (١) فوضع يده فيه ، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون ، فشربنا ووسعنا وكفانا (٢) ، ولو كنّا مائة ألف لكفانا.

وقد أخرجه البخاري من وجه آخر عن حصين (٣).

وقال أبو عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي قال : قال جابر ابن عبد الله : غزونا أو سافرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحن يومئذ أربع عشرة مائة ، فحضرت الصّلاة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل في القوم من طهور؟ فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره ، فصبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قدح ثم توضّأ ، ثم انصرف وترك القدح. قال : فركب النّاس ذلك القدح وقالوا : تمسّحوا تمسّحوا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على رسلكم» ، حين سمعهم يقولون ذلك. قال : فوضع كفّه في الماء والقدح وقال : «سبحان الله». ثم قال : «أسبغوا الوضوء». فو الّذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون [٦١ ب] عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يرفعها حتى توضّئوا أجمعون. رواه مسدّد عنه.

وقال عكرمة بن عمّار العجليّ ، ثنا إياس بن سلمة ، عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، فأصابنا جهد ، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا. فأمر نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمعنا مزاودنا (٤) فبسطنا له نطعا (٥) ، فاجتمع زاد القوم على النّطع. فتطاولت لأحرزكم هو؟ فحزرته كربضة العنز (٦) ونحن

__________________

(١) التور : إناء تشرب فيه العرب (لسان العرب ـ مادة تور).

(٢) في طبقات ابن سعد ٢ / ٩٨ زيادة «قال : قلت كم كنتم؟ قال :».

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبة ٥ / ٦٣ وانظر الطبقات الكبرى ٢ / ٩٨.

(٤) المزاود : جمع مزود وهو الوعاء الّذي يجعل فيه الزاد.

(٥) النّطع : البساط أو السّفرة من الأديم.

(٦) ربضة العنز (بفتح الراء وكسرها) : أي قدر جسمها إذا ربضت.

٣٧٨

أربع عشرة مائة. قال : فأكلنا حتى شبعنا جميعا ثم حشونا جربنا. ثم قال نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل من وضوء؟ فجاء رجل بإداوة له ، فيها نطفة فأفرغها في قدح. فتوضّأنا كلّنا ، ندغفقه (١) دغفقة ، أربع عشرة مائة. قال : ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا : هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فرغ الوضوء». أخرجه مسلم (٢).

وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : قال ابن عبّاس : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبيّة كلّمه بعض أصحابه فقالوا : جهدنا وفي النّاس ظهر (٣) فانحره. فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله فإنّ النّاس إن يكن معهم بقيّة ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ابسطوا أنطاعكم وعباءكم. ففعلوا. ثم قال : من كان عنده بقيّة من زاد وطعام فلينثره. ودعا لهم ثم قال : قرّبوا أوعيتكم. فأخذوا ما شاء الله. يحدّثه نافع بن جبير.

وقال يحيى بن سليم الطّائفي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الطّفيل ، عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل مرّ [الظّهران] (٤) في صلح قريش قال أصحابه : لو انتحرنا يا رسول الله من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق أصبحنا غدا إذا عدونا عليهم وبنا جمام (٥). قال : [لا] (٦) ، ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم. فبسطوا أنطاعا ثم صبّوا عليها فضول أزوادهم. فدعا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبركة ، فأكلوا حتى تضلّعوا شبعا ، ثم لفّفوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم.

__________________

(١) دغفق الماء : إذا صبّه كثيرا. (لسان العرب ـ دغفق).

(٢) صحيح مسلم (١٧٢٩) : كتاب اللّقطة ، باب استحباب خلط الأزواد إذا قلّت والمؤاساة فيها.

(٣) الظهر : الإبل التي يحمل عليها وتركب. (لسان العرب ـ ظهر).

(٤) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع.

(٥) الجمام : الراحة.

(٦) سقطت من الأصل.

٣٧٩

[وقال] (١) ، مالك ، عن إسحاق [بن عبد الله] (٢) بن أبي طلحة ، عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحانت صلاة العصر والتمسوا الوضوء ، فلم يجدوه. فأتي بوضوء ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده في ذلك الإناء وأمر النّاس أن يتوضّئوا منه. قال : فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه. فتوضّأ النّاس حتى توضّئوا من عند آخرهم. متّفق عليه (٣).

وقال حمّاد بن زيد : ثنا ثابت ، عن أنس ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح (٤) فجعل القوم يتوضّئون. فحزرت ما بين السبعين (٥) إلى الثمانين من توضّأ منه ، فجعلت انظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. متّفق عليه (٦).

وقال عبد الله بن بكر : نا حميد عن أنس قال : حضرت الصّلاة ، فقام من كان قريب الدار إلى أهله يتوضّأ [٦١ ب] وبقي قوم. فأتي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخضب (٧) من حجارة فيه ماء ، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفّه فتوضّأ القوم. قلنا : كم هم؟ قال : ثمانون وزيادة ، أخرجه البخاري (٨). وجاء أنّهم كانوا بقباء.

__________________

(١) ليست في الأصل ، وزدناها من ع.

(٢) زيادة في اسمه من البخاري ومن ترجمته في تهذيب التهذيب (١ / ٢٣٩).

(٣) صحيح البخاري : كتاب المناقب ، باب علامات النبوّة في الإسلام ، وصحيح مسلم (٢٢٧٩) كتاب الفضائل ، باب في معجزات النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) رحراح : ويقال له رحرح ، وهو الواسع القصير الجدار.

(٥) عند مسلم «الستين».

(٦) صحيح البخاري : كتاب الوضوء ، باب الوضوء من التور ١ / ٥٧ ، ٥٨ وصحيح مسلم (٢٢٧٩) كتاب الفضائل ، باب في معجزات النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٧) المخضب : إناء يشبه الإجّانة التي تغسل فيها الثياب.

(٨) صحيح البخاري : كتاب الوضوء ، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة (١ / ٥٧).

٣٨٠