تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الملائكة بروح سعد واهتزّ له العرش (١).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني أميّة بن عبد الله أنّه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا؟ فقالوا : ذكر لنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصّر في بعض الطّهور من البول (٢).

وقال يزيد بن هارون : أنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عائشة قالت : خرجت يوم الخندق أقفو آثار النّاس ، فسمعت وئيد (٣) الأرض : تعني حسّ الأرض ورائي ، فالتفتّ فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس (٤) يحمل مجنّه. فجلست ، فمرّ سعد وهو يقول :

لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل

ما أحسن الموت إذا حان الأجل

قالت : وعليه درع قد خرجت منها أطرافه ، فتخوّفت على أطرافه ، وكان من أطول النّاس وأعظمهم. قالت : فاقتحمت حديقة (٥) ، فإذا فيها نفر فيهم عمر ، وفيهم رجل عليه مغفر. فقال لي عمر : ما جاء بك؟ والله إنّك لجريئة ، وما يؤمنك أن يصيبوا تحوّزا (٦) وبلاء. فما زال يلومني حتى تمنّيت أن الأرض انشقّت ساعتي ذي (٧) فدخلت فيها. فرفع الرجل المغفر عن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٤ ، ٢٧٥.

(٢) انظر الطبقات الكبرى ٣ / ٤٣٠.

(٣) في ع : وبيد. والوئيد الصوت.

(٤) هكذا ذكر في الحديث. وقد ورد قبل ، أنّ الحارث بن أوس ابن أخي سعد بن معاذ كان ممن استشهد يوم أحد. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ / ٤٣٧.

(٥) في ع : حذيفة والتصحيح من الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٢١.

(٦) أثبتها القدسي ٢٩٣ «تحرزا» معتمدا على الطبعة الأولى من سير أعلام النبلاء ١ / ٢٠٦ ، والعبارة في الطبعة الجديدة ١ / ٢٨٤ «ما يؤمنك أن يكون بلاء».

(٧) في الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٢ وسير أعلام النبلاء ١ / ٢٨٤ «ساعتئذ».

٣٢١

وجهه ، فإذا طلحة بن عبيد الله ، فقال : ويحك ، وأين التحوّز (١) والفرار إلّا إلى الله؟ قالت : ويرمي سعدا رجل من قريش ، يقال له ابن العرقة ، بسهم ، فقال : خذها ، وأنا ابن العرقة. فأصاب أكحله. فدعا الله سعد فقال : اللهمّ لا تمتني حتى تشفيني من قريظة. وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية. فرقأ كلمة وبعث الله الريح على المشركين. وساقت الحديث بطوله. وفيه قالت : فانفجر كلمه وقد كان بريء حتى ما يرى منه إلّا مثل الخرص (٢). ورجع إلى قبّته. قالت : وحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر. فإنّي لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر ، وأنا في حجرتي ، وكانوا كما قال الله تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٣). قال : فقلت ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع؟ قالت : كانت عيناه لا تدمع على أحد (٤) ولكنّه كان إذا وجد فإنّما هو آخذ بلحيته (٥).

وقال حمّاد بن سلمة ، عن محمد بن زياد ، عن عبد الرحمن بن عمرو ابن سعد بن معاذ ، أنّ بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلى سعد بن معاذ فأتي به محمولا على حمار وهو مضنى [من جرحه] (٦) ، فقال له : أشر عليّ في هؤلاء. فقال : إنّي أعلم أنّ الله قد أمرك فيهم بأمر أنت فاعله. قال : أجل ، ولكن أشر عليّ فيهم ، فقال : لو ولّيت أمرهم قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وقسمت أموالهم. فقال : والّذي نفسي بيده

__________________

(١) انظر الطبقات الكبرى ٣ / ٤٣٠.

(٢) الخرص : الخاتم أو حلقة القرط.

(٣) سورة الفتح : من الآية ٢٩.

(٤) بل كان عليه الصلاة والسلام رقيق القلب ، فقد وردت أحاديث في بكائه رحمة وشفقة على الميت أو خوفا على أمّته أو خشية من الله أو اشتياقا ومحبّة. (الشمائل للترمذي وجامع الأصول وغيرهما).

(٥) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٣ ورواه أحمده في مسندة ٦ / ١٤١ ، ١٤٢ وإسناده حسن.

(٦) الإضافة من سير أعلام النبلاء ١ / ٢٨٨.

٣٢٢

لقد أشرت فيهم بالذي أمرني الله به (١).

وقال محمد بن سعد : أنبأ خالد بن مخلد (٢) حدّثني محمد بن صالح التمّار ، عن سعد بن إبراهيم ، سمع عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أن يقتل من جرت عليه المواسي (٣) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد حكم فيهم بحكم الله الّذي حكم به من فوق سبع سماوات (٤).

وقال ابن سعد : أنا يزيد ، أنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن رجل من الأنصار قال : لما قضى سعد في بني قريظة ثمّ رجع انفجر جرحه ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره ، وسجّي بثوب أبيض إذا مدّ على وجهه بدت رجلاه ، وكان رجلا أبيض جسيما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهمّ إنّ سعدا قد جاهد في سبيلك وصدّق رسولك وقضى الّذي عليه ، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت روح رجل. فلما سمع سعد كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح عينيه ، فقال : السّلام عليك يا رسول الله ، أشهد أنّك رسول الله. قال : وأمّه تبكي وتقول :

ويل أمّ سعد سعدا (٥)

حزامة وجدّا

 __________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٥ وأخرجه أحمد في مسندة ٣ / ٢٢ ، والبخاري في الجهاد ٣٠٤٣ و ٣٨٠٤ و ٤١٢١ و ٦٢٦٢ ، ومسلم ١٧٦٨ في الجهاد.

(٢) في طبعة القدسي ٢٩٤ «محمد» والتصحيح من الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٦.

(٣) في ع : «الموسى» وكذلك في أنساب الأشراف ١ / ٣٤٧ ، وأثبتها القدسي في طبعته ٢٩٥ «المواثيق» بالاعتماد على الطبعة القديمة من سير أعلام النبلاء ١ / ٢٠٩ ، وما أثبتناه يؤيّد ما في الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٦ وسير أعلام النبلاء (الطبعة الجديدة) ١ / ٢٨٨ ، والمواسي : جمع موسى وهي الآلة التي يحلق بها.

(٤) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٦ وسنده حسن ، ورواه ابن حجر في فتح الباري ٧ / ٤١٢ ونسبه إلى النسائي.

(٥) في الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٢٧ وسير أعلام النبلاء ١ / ٢٨٦ «ويل أمّك سعدا».

٣٢٣

فقيل لها : أتقولين الشّعر على سعد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوها فغيرها من الشعراء أكذب.

وقال عبد الرحمن بن الغسيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود ابن لبيد قال : لما أصيب أكحل سعد حوّلوه عند امرأة يقال لها رفيدة ، وكانت تداوي الجرحى ، قال : وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مرّ به يقول : كيف أصبحت؟ وإذا أمسى قال : كيف أمسيت؟ فتخبره ، فذكر القصّة. وقال : فأسرع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشي إلى سعد ، فشكا ذلك إليه أصحابه ، فقال : إنّي أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسّلت حنظلة. فانتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت وهو يغسّل ، وأمّه تبكيه وتقول :

ويل أمّ سعد سعدا

حزامة وجدّا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّ نائحة تكذب إلّا أمّ سعد. ثم خرج به فقالوا : ما حملنا ميتا أخفّ منه. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يمنعه (١) أن يخفّ عليكم وقد هبط من الملائكة كذا ، وكذا لم يهبطوا قطّ ، قد حملوه معكم (٢).

وقال شعبة : أخبرني سماك بن حرب ، سمعت عبد الله بن شدّاد يقول : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سعد بن معاذ وهو يكيد (٣) بنفسه فقال : جزاك الله خيرا من سيّد قوم ، فقد أنجزت الله ما وعدته ولينجزنّك الله ما وعدك (٤).

وقال ابن نمير : حدّثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع قال : بلغني أنّه

__________________

(١) في ع وطبقات ابن سعد ٣ / ٤٢٨ : ما يمنعكم. والتصحيح من سير أعلام النبلاء (١ / ٢٨٧).

(٢) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٨ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٢٨٧.

(٣) يكيد بنفسه : يجود بها.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٩.

٣٢٤

شهد سعدا سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض. (١)

زاد غيره : عن عبيد الله ، عن نافع فقال : عن ابن عمر (٢).

وقال شبابه : أنا أبو معشر ، عن المقبري قال : لما دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا قال : لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضمّ ضمّة اختلفت فيها أضلاعه من أثر البول (٣).

وقال يزيد بن هارون : أنا محمد بن عمرو ، عن [محمد بن المنكدر ، عن] (٤) محمد بن شرحبيل ، أن رجلا أخذ قبضة من تراب قبر سعد يوم دفن ، ففتحها بعد فإذا هي مسك (٥).

وقال محمد بن موسى الفطري : أنا معاذ بن رفاعة الزّرقيّ قال : دفن سعد بن معاذ إلى أسّ دار عقيل بن أبي طالب (٦).

قال محمد بن عمرو بن علقمة حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استيقظ فجاءه جبريل ، أو قال : ملك [فقال] (٧) من رجل من أمّتك مات الليلة استبشر بموته [أهل] (٨) السماء؟ قال : لا أعلمه ، إلّا أنّ سعد ابن معاذ أمسى دنيّا (٩). ما فعل سعد؟ قالوا : يا رسول الله قبض وجاء قومه فاحتملوه إلى دارهم. فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّاس الصّبح ، ثم خرج وخرج

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٤٣٠.

(٢) الطبقات ٣ / ٤٣٠.

(٣) الطبقات ٣ / ٤٣٠.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط ، استدركته من الطبقات.

(٥) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٣١.

(٦) الطبقات ٣ / ٤٣٣.

(٧) زيادة يقتضيها السياق من طبقات ابن سعد.

(٨) سقطت من ع ، وزدناها من ابن الملا ، وابن سعد (٣ / ٤٢٣).

(٩) الدنيّ : الضعيف الّذي إذا آواه الليل لم يبرح ضعفا. وعبارة ابن سعد : «دنفا» (٣ / ٤٢٣).

٣٢٥

النّاس مشيا حتى إنّ شسوع نعالهم تقطع (١) من أرجلهم وإنّ أرديتهم لتسقط من عواتقهم ، فقال قائل : يا رسول الله قد بتّت (٢) النّاس مشيا قال : أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة (٣).

قال شعبة : أنا سعد بن إبراهيم ، عن نافع ، عن عائشة ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ للقبر ضغطة ، ولو كان أحد ناجيا منها لنجا منها سعد بن معاذ (٤).

وقال شعبة : حدّثني أبو إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل قال : لما انفجر جرح سعد بن معاذ التزمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل الدم يسيل على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء أبو بكر فقال : واكسر ظهراه ، فقال : مه يا أبا بكر. ثم جاء عمر فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

روى عقبة بن مكرم : ثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سعد بني إبراهيم ، عن نافع ، عن صفيّة بنت أبي عبيد ، عن عائشة ، مرفوعا : لو نجا أحد من ضمّة القبر لنجا منها سعد. وقد تقدّم هذا ، وما فيه صفيّة.

وليس هذا الضّغط من عذاب القبر في شيء ، بل هو من روعات المؤمن كنزع روحه ، وكألمه من بكاء حميمه ، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه ، وكروعته يوم الموقف وساعة (٥) ورود جهنّم ، ونحو ذلك. نسأل الله أن يؤمّن روعاتنا.

وقال يزيد بن هارون : أنا محمد بن عمرو ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن

__________________

(١) في طبقات ابن سعد ٤٢٤ «لتنقطع».

(٢) بتّت النّاس مشيا : انقطعت من التعب.

(٣) الطبقات لابن سعد ٤٢٣ ، ٤٢٤.

(٤) الطبقات ٤٣٠ من طريق شبابة بن سوّار عن أبي معشر عن سعيد المقبري.

(٥) في ع : سابحة ، تصحيف.

٣٢٦

عائشة قالت : ما كان أحد أشدّ فقدا على المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد بن معاذ (١).

وقال الواقديّ : أنا عتبة بن جبيرة ، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ قال : كان سعد بن معاذ [رجلا] (٢) أبيض طوالا (٣) ، جميلا ، حسن الوجه ، أعين ، حسن اللّحية. فرمي يوم الخندق سنة خمس فمات منها ، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ودفن بالبقيع (٤).

وقال أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اهتزّ عرش الله لموت سعد بن معاذ. (٥).

وقال عوف (٦) عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اهتز العرش لموت سعد بن معاذ (٧).

وقال يزيد بن هارون : أنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن إسحاق بن راشد ، عن امرأة من الأنصار يقال لها أسماء بنت يزيد بن السّكن ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأمّ سعد بن معاذ : ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أوّل من ضحك الله له واهتزّ له العرش؟ (٨).

وقال يوسف بن الماجشون ، عن أبيه ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن جدّته رميثة أنّها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولو أشاء أن أقبّل الخاتم

__________________

(١) الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٣٣.

(٢) إضافة من طبقات ابن سعد.

(٣) في ع : طويلا. وأثبتنا نص ابن سعد.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٣٣.

(٥) الطبقات ٣ / ٤٣٣ ، ٤٣٤.

(٦) في ع : عون. تصحيف ، وهو عوف الأعرابي. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٨ / ١٦٦).

(٧) طبقات ابن سعد ٣ / ٤٣٤.

(٨) الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٣٤.

٣٢٧

الّذي بين كتفيه من قربي منه لفعلت ـ يقول لسعد بن معاذ يوم مات : اهتزّ له عرش الرحمن (١).

وقال محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السّائب ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : اهتزّ العرش لحبّ لقاء الله سعدا. قال : إنّما يعني السّرير. قال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) (٢) قال : تفسّخت أعواده. قال : ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبره فاحتبس ، فلما خرج قيل له. يا رسول الله : ما حبسك؟ قال : ضمّ سعد في القبر ضمّة فدعوت الله أن يكشف عنه (٣).

وقال الثّوري وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بثوب حرير ، فجعل [أصحابه (٤)] يتعجّبون من لينه فقال : إنّ مناديل سعد ابن معاذ في الجنّة ألين من هذا (٥). متّفق على صحّته.

وقال يزيد بن هارون : أنا محمد بن عمرو ، عن واقد بن عمرو بن سعد ابن معاذ قال : دخلت على أنس بن مالك ، وكان واقد (٦) من أعظم النّاس وأطولهم ، فقال لي : من أنت؟ قلت : أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. فقال : إنّك بسعد لشبيه ، ثم بكى فأكثر البكاء. ثم قال : يرحم الله سعدا ، كان من أعظم النّاس وأطولهم. ثم قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيشا إلى أكيدر دومة ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحبّة من ديباج منسوج فيها الذّهب ، فلبسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل النّاس يمسحونها وينظرون إليها ، فقال : أتعجبون من هذه الجبّة؟ قالوا : يا رسول الله ما رأينا ثوبا قطّ أحسن منه ، قال : فو الله

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٤٣٥.

(٢) سورة يوسف : الآية ١٠٠.

(٣) الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٣٣.

(٤) سقطت من ع وزدناها من ابن الملا.

(٥) الطبقات لابن سعد ٣ / ٤٣٥.

(٦) في ع : ذا قد. والتصحيح من طبقات ابن سعد ٣ / ٤٣٥.

٣٢٨

لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن ممّا ترون (١).

قلت : هو سعد بن معاذ بن النّعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس ، أخي الخزرج ، وهما ابنا حارثة بن عمرو ، ويدعى حارثة العنقاء ، وإليه جماع الأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويكنى سعد أبا عمرو ، وأمّه المذكورة كبشة بنت رافع الأنصارية ، من المبايعات. أسلم هو وأسيد بن الحضير على يد مصعب بن عمير. وكان مصعب قدم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويقرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل ـ عشيرة سعد ـ أحد إلّا أسلم يومئذ. ثم كان مصعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة ، يدعون إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة. وآخى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجرّاح. قاله ابن إسحاق (٢).

وقال الواقديّ عن عبد الله بن جعفر ، عن سعد بن إبراهيم ، وغيره : آخى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينه وبين سعد بن أبي وقّاص (٣).

شهد سعد بدرا ، وثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد حين ولّى النّاس (٤).

روى أبو نعيم : ثنا إسماعيل بن مسلم العبديّ ، ثنا أبو المتوكّل ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الحمّى فقال : من كانت به فهي حظّه من النّار. فسألها سعد ابن معاذ ربّه ، فلزمته فلم تفارقه حتى فارق الدنيا (٥).

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٣٥ ، ٤٣٦.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٠ ، ٤٢١.

(٣) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢١.

(٤) الطبقات ٣ / ٤٢١.

(٥) الطبقات ٣ / ٤٢١.

٣٢٩

وكان لسعد من الولد : عمرو ، وعبد الله ، وأمّهما : عمّة أسيد بن الحضير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل ، صحابيّة. وكان تزوّجها أوس ابن معاذ أخو سعد ـ وقيل : عبد الله بن عمرو بن سعد ـ يوم الحرّة (١).

وكان لعمرو من الولد : واقد بن عمرو ، وجماعة قيل إنّهم تسعة.

وقتل عمرو وأخو سعد بن معاذ يوم أحد. وقتل ابن أخيهما (٢) الحارث ابن أوس يومئذ شابا. وقد شهدوا بدرا. والحارث أصابه السّيف ليلة قتل كعب بن الأشرف ، واحتمله أصحابه. وشهد بعد ذلك أحدا.

روى عن سعد بن معاذ : عبد الله بن مسعود ، وقصّته بمكة مع أميّة بن خلف ، وذلك في صحيح البخاري.

* * *

وحصن بني قريظة على أميال من المدينة ، حاصرهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين ليلة.

واستشهد من المسلمين : خلّاد بن سويد الأنصاريّ الخزرجي ، طرحت عليه رحى ، فشدخته (٣).

ومات في مدّة الحصار أبو سنان (٤) بن محصن ، بدريّ مهاجري ، وهو

__________________

(١) الطبقات ٣ / ٤٢٠.

(٢) في ع : ابن أختهما. وقد تقدم منذ قليل أنه ابن أخي سعد ، وذلك في حديث عائشة ، وفيه «فالتفتّ فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنّه» كما ورد كذلك في الكلام عن شهداء غزوة أحد «ومن الأنصار عمرو بن معاذ بن النّعمان الأوسي أخو سعد ، وابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ».

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٦.

(٤) في ع : سفيان. والتصحيح من السيرة ٣ / ٢٧٦ وترجمته في الإصابة (٤ / ٧٦). وقد ذكر ابن حجر أنه غير أبي سفيان بن محصن الّذي حضر حجّة الوداع. وروى عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث النّهي عن لبس القميص يوم النّحر حتى يفيض.

٣٣٠

أخو عكّاشة بن محصن الأسدي.

شهد هو وابنه سنان بدرا. ودفن بمقبرة بني قريظة التي يتدافن بها من نزل دورهم من المسلمين. وعاش أربعين سنة. ومنهم من قال : بقي إلى أن بايع تحت الشّجرة.

* * *

إسلام ابني سعية

وأسد بن عبيد

قال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن شيخ [من] (١) بني قريظة قال : هل تدري عمّ كان إسلام ثعلبة وأسد (٢) ابني سعية ، وأسد بن عبيد ، نفر من هدل (٣) ، لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير ، كانوا فوق ذلك (٤) ، قلت : لا. قال : إنّه قدم علينا رجل من الشام يهوديّ ، يقال له ابن الهيبان ، ما رأينا خيرا منه. فكنّا نقول إذا احتبس المطر : استسق لنا. فيقول : لا والله ، حتى تخرجوا صدقة صاع من تمر أو مدّين [من] شعير. فنفعل ، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا. فو الله ما يبرح مجلسه حتى تمرّ بنا الشّعاب بسيل. وفعل ذلك غير مرّة ولا مرّتين. فلما حضرته الوفاة قال : يا معشر يهود ، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا : أنت أعلم. قال : أخرجني نبيّ أتوقّعه يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره ، وإنّه يبعث بسفك الدماء وسبي

__________________

(١) زيادة لازمة لصحّة العبارة.

(٢) ويقال : أسيد (بفتح الهمزة وكسر السّين) وأسيد (بضم الهمزة وفتح السّين). قال ابن ماكولا : «أسيد بن سعية القرظي أسلم وأخوه ثعلبة وحسن إسلامهما» الإكمال ١ / ٥٣. انظر : أسد الغابة (١ / ٨٥ و ١١٠) ، والإصابة (١ / ٣٣ و ٤٩).

(٣) الهدل ـ بالدال المهملة ـ هم إخوة قريظة ، على ما في اللباب ٣ / ٣٨٢ وتبصير المنتبه.

(٤) عند ابن هشام ٣ / ٢٦٩ «نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم».

٣٣١

الذّريّة ، فلا يمنعنّكم ذلك منه ولا تسبقنّ إليه. ثم مات.

زاد يونس بن بكير في حديثه : فلما كانت الليلة التي افتتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة ، وكانوا شبّانا أحداثا : يا معشر يهود ، هذا الّذي كان ذكر لكم ابن الهيبان. قالوا : ما هو؟ قالوا : بلى والله إنّه لهو بصفته. ثم نزلوا فأسلموا وخلّوا أموالهم وأهلهم (١) ، وكانت في الحصن ، فلما فتح ردّ ذلك عليهم.

* * *

__________________

(١) انظر بعض الخبر في الإصابة لابن حجر ١ / ٣٣ وفي جرمة أسد بن سعية

٣٣٢

سنة ستّ من الهجرة

قال البكّائي ، عن ابن إسحاق (١) : ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ذا الحجّة والمحرّم وصفرا وشهري ربيع ، وخرج في جمادى الأولى إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرّجيع : خبيب بن عديّ وأصحابه ، وأظهر أنّه يريد الشام ليصيب من القوم غرّة ، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رءوس الجبال. فقال : لو أنّا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنّا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه حتى نزلوا عسفان. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا (٢) كراع الغميم ، ثم كرّا ، وراح قافلا (٣).

غزوة الغابة

أو غزوة ذي قرد (٤)

ثم قدم فأقام بها ليالي ، فأغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٩٧.

(٢) في ع : بلغ. والتصويب من سيرة ابن هشام.

(٣) انظر الخبر في تاريخ الطبري ٢ / ٥٩٥.

(٤) قرد : قال السهيليّ : بضمّتين ، هكذا ألفيته مقيّدا عن أبي علي ، والقرد في اللغة : الصوف

٣٣٣

لقاح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغابة (١) ، وفيها رجل من بني غفار وامرأة ، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللّقاح.

وكان أوّل من نذر (٢) بهم سلمة بن الأكوع ، غدا يريد الغابة ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرسه ، حتى إذا علا ثنيّة الوداع (٣) نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية من سلع ، ثم صرخ : وا صباحاه ، ثم خرج يشتدّ في آثار القوم ، وكان مثل السّبع ، حتى لحق بالقوم. وجعل يردّهم بنبله ، فإذا وجّهت الخيل نحوه هرب ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى. وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع. فنزلت (٤) الخيول إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وكان أول من انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفرسان] (٥) المقداد وعبّاد بن بشر ، وأسيد بن ظهير (٦) ، وعكّاشة بن محصن وغيرهم. فأمّر عليهم سعد (٧) بن زيد ، ثم قال : أخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالنّاس. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغني ـ لأبي عيّاش : لو أعطيت فرسك رجلا منك؟ فقلت : يا رسول الله أنا أفرس النّاس. وضربت الفرس فو الله ما مشي بي إلّا خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو أعطيته أفرس منك وجوابي له.

ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسا ، وكان أوّل من لحق القوم على رجليه. وتلاحق الفرسان في طلب القوم. فأول من أدركهم محرز بن نضلة

__________________

= الرديء ، يقال في مثل : عثرت على الغزل بآخرة فلم تدع بنجد قردة. (الروض الأنف ٤ / ١٤).

(١) موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة ، بينه وبين سلع ثمانية أميال. قال ابن سعد : الغابة وهي على بريد من المدينة طريق الشام.

(٢) في ع : بدر ، تصحيف. ونذر بالشيء : علم به فحذره (سيرة ابن هشام ٤ / ٣).

(٣) ثنيّة الوداع : هي ثنيّة مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة.

(٤) عند ابن هشام ٤ / ٣ «فترامت».

(٥) سقطت من ع ، وزدناها من سيرة ابن هشام (٤ / ٣).

(٦) شك فيه ابن إسحاق في رواية ابن هشام والطبري ٢ / ٦٠١ وعند الواقدي أنه أسيد بن حضير.

(٧) في ع : سعيد. والتصحيح من أسد الغابة والإصابة والسيرة ٤ / ٣ والطبري ٢ / ٦٠١.

٣٣٤

الأسدي. فأدركهم ووقف بين أيديهم ثم قال : قفوا يا معشر بني اللّكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المسلمين. فحمل عليه رجل منهم فقتله. ولم يقتل من المسلمين سواه (١).

قال عبد الملك بن هشام (٢) : وقتل من المسلمين وقاص بن مجزّز (٣) المدلجي. وقال البكّائي ، عن ابن إسحاق (٤) : حدّثني من لا أتّهم عن عبد الله بن كعب بن مالك ، أنّ مجزّزا إنّما كان على فرس عكّاشة يقال له الجناح ، فقتل مجزّز واستلب الجناح. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة بن ربعيّ ، حبيب بن عيينة بن حصن ، وغشاه ببرده ، ثم لحق بالنّاس. وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسلمين ، فاسترجعوا وقالوا : قتل أبو قتادة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس بأبي قتادة ولكنّه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرفوا به صاحبه.

وأدرك عكّاشة بن محصن أو بارا (٥) وابنه عمرو بن أوبار ، كلاهما على بعير ، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا. واستنقذوا بعض اللّقاح.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل بالجبل (٦) ومن ذي قرد (٧) ، وتلاحق [النّاس به] (٨) فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة. وقال سلمة : يا رسول الله لو سرّحتني في مائة رجل لاستنقذت بقيّة السّرح وأخذت بأعناق

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٣ ، ٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٠٢ ، ٦٠٣.

(٢) السيرة ٤ / ٤.

(٣) في ع : محرز. والتصحيح من أسد الغابة والاستيعاب والسيرة. وفي تاريخ الطبري «محرز» وهو تحريف.

(٤) السيرة ٤ / ٤.

(٥) أوبار : في ابن سعد أنه (أثار) وفي مغازي الواقدي (أوثار).

(٦) في ع : بالخيل ، تصحيف ، والتصحيح من ابن الملّا ، والسيرة والطبري.

(٧) ذو قرد : ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر.

(٨) سقطت من ع وأثبتناها من ابن الملّا.

٣٣٥

القوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما بلغني : إنّهم الآن ليغبقون (١) في غطفان. فقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ، في كلّ مائة رجل ، جزورا. وأقاموا عليها ثم رجعوا إلى المدينة (٢).

قال : وانفلتت امرأة الغفاريّ على ناقة من إبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قدمت عليه ، وقالت : إنّي نذرت لله أن أنحرها إن نجّاني الله عليها. قال : فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجّاك بها ثم تنحرينها ، إنّه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم إنّما هي ناقة من إبلي ، ارجعي على بركة الله (٣).

قلت : هذه الغزوة تسمّى غزوة الغابة ، وتسمّى غزوة ذي قرد.

وذكر ابن إسحاق وغيره : إنّها كانت في سنة ستّ. وأخرج مسلم (٤) أنها زمن الحديبيّة.

قال أبو النّضر هاشم بن القاسم : أنا عكرمة بن عمّار حدّثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : قدمنا المدينة زمن الحديبيّة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجت أنا ورباح ـ غلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله كنت أريد أن أندّيه (٥) مع الإبل. فلما كان بغلس ، أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتل راعيها وخرج يطّردها وأناس معه في خيل. فقلت : يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر. فقمت على تلّ فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرّات : يا صباحاه. ثم اتّبعت القوم مع سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقر بهم وذلك حين يكثر الشجر ، فإذا رجع إليّ فارس جلست له

__________________

(١) يغبقون : يشربون اللبن بالعشيّ.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٠٣ ، ٦٠٤ ، عيون الأثر ٢ / ٨٦ ، ٨٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ٤.

(٤) صحيح مسلم ١٨٠٧ كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة ذي قرد وغيرها.

(٥) ندّى الإبل يندّيها تندية : أي يوردها فتشرب قليلا ثم يرعاها قليلا ثم يردها إلى الماء.

٣٣٦

في أصل شجرة ثم رميت ، فلا يقبل عليّ فارس إلّا عقرت به. فجعلت أرميهم وأقول :

أنا ابن الأكوع

واليوم يوم الرّضّع

فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة رحله ، فيقع سهمي في الرّحل (١) حتى انتظمت كتفه ، فقلت : خذها وأنا ابن الأكوع.

وكنت إذا تضايقت الثنايا علوت على الجبل فردّأتهم بالحجارة (٢) ، فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم فأرتجز ، حتى ما خلق الله شيئا من سرح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا خلّفته ورائي واستنقذته من أيديهم. ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفّون (٣) منها ، ولا يلقون من ذلك شيئا إلّا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا مدّ الضّحاء (٤) أتاهم عيينة بن بدر الفزاريّ مددا لهم ، وهم في ثنيّة ضيّقة. ثم علوت الجبل ، فقال عيينة : ما هذا الّذي أرى؟ قالوا : لقينا من هذا البرح (٥) ، ما فارقنا سحرا حتى الآن وأخذ كلّ شيء كان في أيدينا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة : لو لا أنّ هذا يرى أنّ وراءه مددا لقد ترككم ، ليقم إليه نفر منكم. فقام إليّ أربعة فصعدوا في الجبل. فلما أسمعتهم الصوت قلت : أتعرفوني؟ قالوا : ومن أنت؟ قلت : أنا ابن الأكوع ، والّذي كرّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.

قال رجل منهم : إنّي أظنّ ، يعني كما قال. فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخلّلون الشجر ، وإذا أوّلهم الأخرم

__________________

(١) في ع : الرجل. والتصحيح من صحيح مسلم ٣ / ١٤٣٦ رقم ١٨٠٧.

(٢) ردأه وأردأه بالحجارة : رماه بها. وعبارة مسلم : أردّهم ٣ / ١٤٣٦.

(٣) أي يخفّفون من أثقالهم.

(٤) الضحاء : أكلة الضّحى ، ويتضحّى أي يأكل في هذا الوقت كما يقال يتغذّى ويتعشى.

(٥) البرح : الشدّة.

٣٣٧

الأسدي ، وعلى إثره أبو قتادة ، وعلى إثره المقداد. فولّى المشركون. فأنزل من الجبل فأعرض للأخرم فآخذ عنان فرسه فقلت : يا أخرم أنذر القوم يعني احذرهم فإنّي لا آمن أن يقطعوك (١) ، فاتّئد حتى يلحق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقال : إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة ، قال : فخلّيت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين ، فغفر الأخرم بعبد الرحمن ، فطعنه عبد الرحمن فقتله. وتحوّل عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة به ، فاختلفا طعنتين ، فعقر بأبي قتادة ، وقتله أبو قتادة ، وتحوّل على فرس الأخرم. ثم خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار أصحابي شيئا.

ويعرضون قبل المغيب إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ، فأرادوا أن يشربوا منه ، فأبصروني أعدو وراءهم ، فعطفوا عنه واشتدّوا في الثنيّة ، ثنيّة ذي دبر (٢) ، وغربت الشمس ، فألحق رجلا فأرميه فقلت : خذها وأنا ابن الأكوع. قال فقال : يا ثكل أمّي ، أكوعيّ بكرة (٣)؟ قلت : نعم يا عدوّ نفسه ، وكان الّذي رميته بكرة ، فاتبعته سهما آخر فعلق به سهمان. ويخلّفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على الماء الّذي حلّيتهم عنه (٤) ذو قرد ، فإذا نبيّ الله في خمسمائة ، وإذا بلال قد نحر جزورا ممّا خلّفت ، فهو يشوي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : يا رسول الله خلّني فأنتخب (٥)

__________________

(١) في صحيح مسلم ٣ / ١٤٣٧ «يقتطعوك».

(٢) في ع : في البنية بنية ذي تبر : تصحيف والتصحيح من طبقات ابن سعد : (٢ / ٨٣) وقال ياقوت : ذات الدبر ثنيّة ، ولم يزد (معجم البلدان ٢ / ٤٣٧).

(٣) أكوعي بكرة : وردت في حديث مسلم «أكوعه بكرة» بالإضافة إلى ضمير الغائب ، وفي رواية «أكوعنا بكرة» بالإضافة إلى ضمير المتكلّمين ، ومعناها أأنت الأكوع الّذي كنت تتبعنا بكرة اليوم؟.

(٤) في ع جلبتهم عنه (بالمعجمة والتصحيح من صحيح مسلم ٣ / ١٤٣٨ وأصل حلّيتهم حلاتهم ، بالهمزة يقال حلّأت الرجل عن الماء إذا منعته منه).

(٥) في ع : فانتجز. والتصحيح من صحيح مسلم ٣ / ١٤٣٩.

٣٣٨

من أصحابك مائة واحدة فآخذ على الكفّار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر قال : أكنت فاعلا يا سلمة؟ قلت : نعم ، والّذي أكرمك. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار. ثم قال : إنّهم يقرون الآن (١) بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان قال : مرّوا على فلان الغطفانيّ فنحر لهم جزورا ، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة (٢) فتركوها وخرجوا هرابا.

فلما أصبحنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجّالتنا سلمة. وأعطاني سهم الراجل والفارس جميعا. ثم أردفني وراءه على العضباء (٣) راجعين إلى المدينة.

فلما كان بيننا وبينها قريبا من صحوة ، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق ، فجعل ينادي : هل من مسابق؟ وكرّر ذلك. فقلت له : أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ قال : لا ، إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : يا رسول الله بأبي وأمي خلّني فلأسابقه. قال : إنّ شئت. قلت : اذهب إليك. فطفر (٤) عن راحلته ، وثنيت رجليّ فطفرت عن النّاقة. ثم إنّي ربطت عليه شرفا (٥) أو شرفين ، يعني استبقيت نفسي ، ثمّ إنّي غدوت حتى ألحقه فأصكّ بين كتفيه بيدي. قلت : سبقتك والله. فضحك وقال : أنا أظنّ. فسبقته حتى قدمنا المدينة.

أخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة (٦) ، عن هاشم (٧).

* * *

__________________

(١) في ع : يقرون الأرض بأرض غطفان. والتصحيح من صحيح مسلم ٣ / ١٤٣٩ ويقرون :

يضافون.

(٢) في ع : غيرة. وعبارة مسلم ٣ / ١٤٣٩ «رأوا غبارا» ، والغبرة الغبار.

(٣) لقب ناقة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد مرّ ذكرها قبل الآن.

(٤) طفر : وثب وقفز.

(٥) ربطت عليه شرفا : أي حبست نفسي عن الجري الشديد : والشرف : ما ارتفع من الأرض.

(٦) في ع : عن شيخ. والتصحيح من صحيح مسلم.

(٧) صحيح مسلم (١٨٠٧) كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة ذي قرد وغيرها (٣ / ١٤٣٣ ـ ١٤٤١)

٣٣٩

قرأت على أبي الحسن عليّ بن عبد الغني الحرّاني بمصر ، وعلى أبي حسن علي بن أحمد الهاشمي بالإسكندرية ، وعلى أبي سعيد سنقر بن عبد الله بحلب ، وعلى أحمد بن سليمان المقدسيّ بقاسيون ، وأخبرنا محمد بن عبد السّلام الفقيه ، وأبو الغنائم بن محاسن ، وعمر بن إبراهيم الأديب ، قالوا : أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أبي بكر بن روزبه.

ح وقرأت على أبي الحسين اليونيني (١) ، ومحمد بن هاشم العبّاسي ، وإسماعيل بن عثمان الفقيه ، ومحمد بن حازم ، وعليّ بن بقاء ، وأحمد بن عبد الله بن عزيز ، وخلق سواهم ، أخبرهم أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر ابن الزّبيدي ، قالوا : أنبأنا أبو الوقت السّجزيّ ، أنا أبو الحسن الدّراوردي ، أنا أبو محمد بن حمويه ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، ثنا مكّي بن إبراهيم ، ثنا يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة أنّه أخبره قال :

خرجت من المدينة ذاهبا نحو الغابة ، حتى إذا كنت بثنيّة الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف قلت : ويحك ما بك؟ قال : أخذت لقاح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : من أخذها؟ قال : غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها : يا صباحا ، يا صباحاه. ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها ، فجعلت أرميهم وأقول :

أنا ابن الأكوع

واليوم يوم الرّضّع

فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا. فأقبلت بها أسوقها ، فلقيني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله إنّ القوم عطاش ، وإنّي أعجلتهم أن يشربوا

__________________

= وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٨٠ ـ ٨٤.

(١) اليونيني : نسبة إلى بلدة يونين القريبة من مدينة بعلبكّ.

٣٤٠