تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

عبّاس : أنّ رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب ، فبعث المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا ، فقال : لا خير في جسده ولا في ثمنه.

وقال الأصمعيّ : ثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال : ضرب الزّبير بن العوّام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة بالسيف على مغفره فقدّه إلى القربوس (١) ، فقالوا : ما أجود سيفك ، فغضب ، يريد إنّ العمل ليده لا لسيفه.

قال شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزّار ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوم الأحزاب قاعدا على فرضة من فرض الخندق فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غربت الشمس ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا ، أو بطونهم. أخرجه مسلم (٢).

وقال يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، أنّ عمر [جاء] (٣) يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسبّ كفّار قريش وقال : يا رسول الله ما كدت أن أصلّي حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا والله ما صلّيتها بعد. فنزلت مع رسول الله أحسبه قال إلى بطحان (٤) ، فتوضّأ للصّلاة وتوضّأنا ، فصلّى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلّى المغرب. متّفق عليه (٥).

__________________

(١) القربوس : (بفتح أوله وثانيه وضمّ الأول وتسكين الثاني لغة مشهورة) حنو السّرج ، وهما قربوسان ، وهما مقدّم السّرج ومؤخّره.

(٢) صحيح مسلم (٦٢٨) : كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. ومثله في صحيح البخاري ٥ / ٤٨ كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق.

(٣) إضافة من صحيح البخاري.

(٤) بطحان : واد بالمدينة ، وهو أحد أوديتها الثلاثة : العقيق وبطحان وقناة. (معجم البلدان ١ / ٤٤٦).

(٥) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٨ ، ٤٩. وصحيح مسلم (٦٢٩)

٣٠١

وقال جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التّيمي ، عن أبيه قال : كنّا عند حذيفة بن اليمان ، فقال رجل : لو أدركت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاتلت معه وأبليت. فقال : أنت كنت تفعل ذاك ، لقد رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟ فلم يجبه منّا [٥٣ أ] أحد ، ثم الثانية ، ثم الثالثة مثله. ثم قال : يا حذيفة قم فائتنا بخبر القوم. فلم أجد بدّا إذ دعاني باسمي أن أقوم. فقال ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم (١) عليّ. قال : فمضيت كأنّما أمشي في حمّام (٢) حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنّار. فوضعت سهمي في كبد قوسي وأردت أن أرميه ، ثم ذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تذعرهم عليّ ، ولو رميته لأصبته. قال : فرجعت كأنّما أمشي في حمّام ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت ، وأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلّي فيها ، فلم أزل نائما حتى الصّبح ، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم يا نومان». أخرجه مسلم (٣).

وقال أبو نعيم : ثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة ، عن موسى بن أبي المختار ، عن بلال العبسيّ ، عن حذيفة : أنّ النّاس تفرّقوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الأحزاب ، فلم يبق معه إلّا اثنا عشر رجلا فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا جاث من البرد فقال : انطلق إلى عسكر الأحزاب. فقلت : والّذي بعثك بالحقّ ما قمت إليك من البرد إلّا حياء منكم. قال : فانطلق يا ابن اليمان فلا بأس عليك من حرّ ولا برد حتى ترجع إليّ. فانطلقت إلى عسكرهم ،

__________________

= كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.

(١) في طبعة شعيرة ٢٦٤ «تدعوهم» وهو تصحيف.

(٢) يعني أنه يجد البرد الّذي يجده الناس.

(٣) صحيح مسلم (١٧٨٨) كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة الأحزاب.

٣٠٢

فوجدت أبا سفيان يوقد النّار في عصبة حوله ، قد تفرّق الأحزاب عنه ، حتى إذا جلست فيهم ، حسّ أبو سفيان أنّه دخل فيهم من غيرهم ، فقال : يأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه ، قال : فضربت بيدي على الّذي عن يميني فأخذت بيده ، ثم ضربت بيدي إلى الّذي عن يساري فأخذت بيده. فكنت فيهم هنية. ثم قمت فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم يصلّي ، فأومأ إليّ بيده أن : ادن ، فدنوت. ثم أومأ إليّ فدنوت. حتى أسبل عليّ من الثّوب الّذي عليه وهو يصلّي. فلما فرغ قال : ما الخبر؟ قلت : تفرّق النّاس عن أبي سفيان ، فلم يبق إلّا في عصبة يوقد النّار ، قد صبّ الله عليه من البرد مثل الّذي صبّ علينا ، ولكنّا نرجو من الله ما لا يرجو.

وقال عكرمة بن عمّار ، عن محمد بن عبيد الحنفي ، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال : ذكر حذيفة مشاهدهم ، فقال جلساؤه : أما والله لو كنّا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا. فقال حذيفة : لا تمنّوا ذلك ، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب. وساق الحديث مطوّلا.

وقال إسماعيل بن أبي خالد : ثنا ابن أبي أوفى قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب فقال : اللهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهمّ اهزمهم وزلزلهم. متّفق عليه (١).

وقال اللّيث : حدّثني المقبريّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : لا إله إلّا الله وحده ، أعزّ جُنْدَه (٢) ، ونصر

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٩ وصحيح مسلم (١٧٤٢) كتاب الجهاد والسير ، باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدوّ.

(٢) من أول قوله : «ونصر عبده» سقط في نسخة الأصل مقداره نحو سبع عشرة ورقة من نسخة ع وقد نقلناه عنها. وينتهي هذا السقط عند أوائل الكلام عن مقتل ابن أبي الحقيق. وسنشير إلى مكانه.

٣٠٣

عبده ، وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده. متّفق عليه (١).

وقال إسرائيل وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أجلى عنه الأحزاب : الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نسير إليهم. أخرجه البخاري (٢).

وقال خارجة بن مصعب ، عن الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (٣)) ، قال : تزوّج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أمّ المؤمنين ، وصار معاوية خال المؤمنين. كذا روى الكلبيّ (٤) وهو متروك. ومذهب العلماء في أمّهات المؤمنين أنّ هذا حكم مختصّ بهنّ ولا يتعدّى التحريم إلى بناتهنّ ولا إخوانهنّ ولا أخواتهنّ (٥).

واستشهد يوم الأحزاب :

عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي ، تفرّد ابن هشام (٦) بأنّه شهد بدرا.

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٩. وصحيح مسلم (٢٧٢٤) كتاب الذكر والدعاء ، باب التعوّذ من شرّ ما عمل ومن شرّ ما لم يعمل.

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق (٥ / ٤٨).

(٣) سورة الممتحنة : من الآية ٧.

(٤) هو محمد بن السائب الكلبي. انظر عنه : التاريخ الصغير للبخاريّ ١٥٨ ، والضعفاء الصغير له ٢٧٥ ، والضعفاء والمتروكين للنسائي ٣٠٣ رقم ٥١٤ ، أحوال الرجال ٥٤ رقم ٣٧ ، والضعفاء والمتروكين للدار للدّارقطنيّ ١٥١ رقم ٤٦٨ ، الضعفاء الكبير للعقيليّ ٤ / ٧٦ رقم ١٦٣٢ ، الكامل في الضعفاء لابن عديّ ٦ / ٢١٢٧ ، المغني في الضعفاء ٢ / ٥٨٤ رقم ٥٥٤٢ ، ميزان الاعتدال ٣ / ٥٥٦ رقم ٧٥٧٤.

(٥) وردت هذه العبارة في ع محرفة هكذا «وذهب العلماء في أمّهات المؤمنين هذا حكم مختص بهنّ ولا يتعدّى التحريم إلى بناتهنّ ولا إلى إخواتهنّ ولا أخواتهنّ» والتصحيح من ابن الملّا.

(٦) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٥.

٣٠٤

وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي ، والطّفيل بن النّعمان بن خنساء ، وثعلبة بن غنمة (١) ، كلاهما من بني جشم بن الخزرج.

وكعب بن زيد أحد بني النّجّار ، أصابه سهم غرب ، وقد شهد هؤلاء الثلاثة بدرا.

ذكر ابن إسحاق (٢) أنّ هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب.

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال : قتل من المشركين يوم الخندق : نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، أقبل على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله ، وكبر على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا نعطيكم الدّية على أن تدفعوه إلينا فندفنه. فردّه إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّه خبيث الدّية لعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه ، ولا أرب لنا في ديته.

* * *

__________________

(١) في ع : عتمة : والتصحيح من ابن هشام وأنساب الأشراف (١ / ٢٤٨).

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٥.

٣٠٥
٣٠٦

غزوة بني قريظة (١)

وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيهم نزلت (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) (٢) الآيتين.

قال هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق ووضع السّلاح واغتسل أتاه جبريل وقال : وضعت السّلاح؟ والله ما وضعناه ، اخرج إليهم. قال : فأين (٣)؟ قال : هاهنا. وأشار إلى بني قريظة. فخرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. متّفق عليه (٤).

وقال حميد بن هلال ، عن أنس : كأنّي انظر إلى الغبار ساطعا من سكّة بني غنم ، موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة. (٥).

__________________

(١) بنو قريظة : فخذ من جذام إخوة النضير ، ويقال أنّ تهوّدهم كان في أيام عاديا أي السموأل ، ثم نزلوا بجبل يقال له قريظة فنسبوا إليه. (تاريخ اليعقوبي ٢ / ٥٢).

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٢٦.

(٣) عند البخاري «فإلى أين».

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب مرجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب. إلخ. ٥ / ٤٩ ، ٥٠.

وصحيح مسلم (١٧٦٩) كتاب الجهاد والسير ، باب جواز قتال من نقض العهد إلخ.

(٥) صحيح البخاري ٥ / ٥٠.

٣٠٧

وقال جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نادى فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم انصرف من الأحزاب أن لا يصلّين أحد العصر إلّا في بني قريظة. فتخوّف ناس فوت الوقت فصلّوا دون قريظة. وقال آخرون : لا نصلّي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن فاتنا الوقت. فما عنّف واحدا من الفريقين. متّفق عليه (١).

وعند مسلم في بعض طرقه : الظّهر بدل العصر. وكأنّه وهم.

وقال بشر بن شعيب ، عن أبيه ، حدّثنا الزّهري ، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أنّ عمّه عبيد الله بن كعب (٢) أخبره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة (٣) واغتسل واستجمر ، فتبدّى له جبريل عليه‌السلام فقال : عذيرك من محارب ، ألا أراك (٤) قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد. فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزعا فعزم على النّاس أن لا يصلّوا العصر حتى يأتوا بني قريظة. فلبسوا السلاح ، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس : فاختصم النّاس عند غروبها ، فقال بعضهم : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزم علينا أن لا نصلّي حتى نأتي بني قريظة ، فإنّما نحن في عزيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس علينا إثم. وصلّى طائفة من النّاس احتسابا. وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلّوا حين جاءوا بني قريظة. فلم يعنّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا من الفريقين (٥).

وقال نحوه عبد الله بن عمر ، عن أخيه عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، وفيه أنّ رجلا سلّم علينا ونحن في البيت ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب مرجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب. (٥ / ٥٠).

(٢) في طبعة القدسي ٢٨٠ «عبيد الله بن بني كعب» وهو خطأ. انظر : تهذيب التهذيب ٧ / ٤٤.

(٣) في ع : السلامة ، تصحيف.

(٤) في ع : الأراك. والتصحيح من مغازي الواقدي (٢ / ٤٩٧).

(٥) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٧ ، والبداية والنهاية ٤ / ١١٧.

٣٠٨

فزعا ، فقمت في إثره ، فإذا بدحية الكلبيّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة ، وقال : وضعتم السلاح ، لكنّا لم نضع السلاح ، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد. وفيه : فمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجالس بينه وبين بني قريظة ، فقال : هل مرّ بكم من أحد؟ قالوا (١) : مرّ علينا دحية الكلبيّ على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج. قال : ليس ذاك بدحية الكلبي ولكنّه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرّعب. فحاصرهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر أصحابه أن يستره بالجحف حتى يسمعهم كلامه. فناداهم : يا إخوة القردة والخنازير. فقالوا : يا أبا القاسم لم تك فحّاشا. فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وكانوا حلفاءه ، (٢) فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم (٣).

وقال محمد بن عمرو ، عن أبيه ، عن جدّه علقمة ، عن عائشة قالت : [فجاءه] (٤) جبريل وعلى ثناياه النّقع فقال : أوضعت السّلاح؟ والله ما وضعت الملائكة ، أخرج إلى بني قريظة ، فلبس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته ، وأذّن بالرحيل ، ثم مرّ على بني غنم (٥) فقال : من مرّ بكم؟ قالوا : دحية. وكان دحية تشبه لحيته ووجهه جبريل. فأتاهم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد ، وذكر الحديث بطوله في مسند أحمد (٦).

__________________

(١) في ع : قال. وفي البداية والنهاية ٤ / ١١٨ «فقالوا».

(٢) في طبعة القدسي ٢٨١ «حلفاء» والتصحيح عن البداية والنهاية.

(٣) قال ابن كثير : ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. البداية والنهاية ٤ / ١١٨.

(٤) سقطت من ع وزدناها من مسند أحمد.

(٥) في ع : بني عمرو. والتصحيح من مسند أحمد ٦ / ١٤٢ وفيه أنّ بني غنم هم جيران المسجد حوله.

(٦) مسند أحمد : مسند أحاديث عائشة (٦ / ١٤١ ـ ١٤٢) ط الميمنية ١٣١٣ ه‍ ـ. وانظر سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٧.

٣٠٩

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا معه رايته (١) وابتدر النّاس.

وقال موسى بن عقبة (٢). وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثر جبريل ، فمرّ على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألهم : مرّ عليكم فارس آنفا؟ فقالوا : مرّ علينا دحية على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة من ديباج عليه اللأمة. قال : ذاك جبريل. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشبّه دحية بجبريل (٣). قال : ولما رأى عليّ بن أبي طالب [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٤) مقبلا تلقّاه. وقال : ارجع يا رسول الله ، فإنّ الله كافيك اليهود. وكان عليّ سمع منهم قولا سبيبيّ (٥) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه. فكره عليّ أن يسمع ذلك ، فقال : لم تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سمع منهم. فقال : أظنّك سمعت لي (٦) منهم أذى؟ فامض فإنّ أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئا ممّا سمعت.

فلما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحصنهم ، وكانوا في أعلاه ، نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافها حتى أسمعهم فقال : أجيبونا يا معشر يهود يا إخوة القردة ، لقد نزل بكم خزي الله. فحاصرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة ، وردّ الله حييّ بن أخطب حتى دخل حصنهم ، وقذف الله في قلوبهم الرّعب ، واشتدّ عليهم الحصار ، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار. فقال : لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال :

__________________

(١) العبارة عند ابن كثير «وقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب ومعه رايته وابتدارها الناس».

(٢) المغازي لعروة ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) البداية والنهاية ٤ / ١١٩.

(٤) إضافة من المغازي لعروة ١٨٦ والبداية والنهاية.

(٥) سبيبي : (وزن خليفي) السبّ أو أكثر منه. وفي البداية والنهاية «سيئا» وكذلك في المغازي لعروة.

(٦) في البداية والنهاية «فيّ».

٣١٠

قد أذنت لك. فأتاهم ، فبكوا وقالوا : يا أبا لبابة ، ما ذا ترى ، فأشار بيده إلى حلقه ، يريهم إنّما يراد بكم القتل. فلما انصرف سقط في يده (١) ورأى أنّه قد أصابته فتنة عظيمة فقال : والله لا انظر في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد. فزعموا أنّه ارتبط قريبا من عشرين ليلة (٢).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ذكر ، حين راث عليه (٣) أبو لبابة : أما فرغ أبو لبابة من حلفائه قالوا : يا رسول الله ، قد والله انصرف من عند الحصن ، وما ندري أين سلك. فقال : قد حدث له أمر. فأقبل رجل فقال : يا رسول الله ، رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد أصابته بعدي فتنة ، ولو جاءني لاستغفرت له. فإذا فعل هذا فلن أحرّكه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء (٤).

قال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، فذكر نحو ما قصّ موسى ابن عقبة. وعنده : فلبس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته وأذّن بالخروج ، وأمرهم أن يأخذوا السّلاح. ففرغ النّاس للحرب. وبعث عليّا على المقدّمة ودفع إليه اللواء. ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على آثارهم. ولم يقل بضع عشرة ليلة.

وقال يونس بن بكير ، والبكائي ـ واللّفظ له ـ عن ابن إسحاق (٥) قال : حاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرّعب. وكان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان

__________________

(١) سقط في يده ، وأسقط في يده (مضمومتين) زلّ وأخطأ وندم.

(٢) جاء في جوامع السيرة لابن حزم ١٩٣ أنه أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلّا للصلاة.

(٣) راث عليه : أبطأ ، وفي المغازي لعروة ٧١٧ «حين غاب عليه»

(٤) البداية والنهاية ٤ / ١١٩ وسيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٨ والمغازي لعروة ١٨٧.

(٥) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٨.

٣١١

عاهده عليه ، فلما أيقنوا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجيزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيّها شئتم. قالوا : وما هي؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه ، فو الله لقد تعيّن لكم أنّه لنبيّ مرسل ، وأنّه للّذي تجدونه في كتابكم. فتأمنون على دمائكم وأموالكم. قالوا : لا نفارق حكم التّوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال : فإذا أبيتم على هذه. فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السّيوف لم نترك وراءنا ثقلا ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتّخذنّ النّساء والأبناء. قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم هذه فإنّ الليلة ليلة السبت وإنّه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلّنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة. قالوا : نفسد سبتنا وتحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا ، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدّهر حازما.

رواه يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق. لكنّه قال عن أبيه ، عن معبد ابن كعب بن مالك ، فذكره وزاد فيه : ثم بعثوا يطلبون أبا لبابة ، وذكر ربطه نفسه.

وقال سعيد بن المسيّب : إنّ ارتباطه بسارية التّوبة كان بعد تخلّفه عن غزوة تبوك حين أعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليم ، بما فعل يوم قريظة ، ثم تخلّف عن غزوة تبوك فيمن تخلّف. والله أعلم.

[وذكر] (١) عليّ بن أبي طلحة ، وعطيّة العوفيّ ، عن ابن عبّاس في ارتباطه حين تخلّف عن تبوك ما يؤكّد قول ابن المسيّب ، قال : نزلت هذه

__________________

(١) كتبت في أصل المخطوطة بالحمرة ولم تظهر في التصوير ، ولعلها ما أثبتناه أو ما في معناه.

٣١٢

الآية في أبي لبابة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) (١).

وقال البكّائيّ ، عن ابن إسحاق : حدّثني يزيد بن عبد الله بن قسيط ، أنّ توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت أمّ سلمة [فقالت أم سلمة] (٢) ، فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السّحر وهو يضحك ، [قالت] (٣) فقلت : ممّ (٤) تضحك؟ قال : تيب على أبي لبابة. [قالت] (٥) قلت : أفلا أبشّره؟ قال : إن شئت. قال : فقامت على باب حجرتها ، وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب ، فقالت : يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت : فثار إليه النّاس ليطلقوه. قال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الّذي يطلقني بيده. فلما مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصّبح أطلقه.

قال عبد الملك بن هشام (٦) : أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ستّ ليال : تأتيه امرأته في وقت كلّ صلاة تحلّه للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، وفيما حدّثني بعض أهل العلم. والآية التي نزلت في توبته : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٧) الآية.

قال ابن إسحاق : ثم إنّ ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد (٨) ابن عبيد ، وهم نفر من [بني] (٩) هدل ، أسلموا تلك الليلة التي نزل فيها بنو

__________________

(١) سورة الأنفال : من الآية ٢٧. وانظر سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٨ برواية سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن أبي قتادة.

(٢) إضافة من سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٨.

(٣) إضافة من السيرة.

(٤) في ع : بم يضحك. والتصحيح من سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٨.

(٥) عن السيرة.

(٦) السيرة ٣ / ٢٦٨.

(٧) سورة التوبة : من الآية ١٠٢.

(٨) في ع : أسيد. والتصحيح من ترجمته في أسد الغابة (١ / ٨٥) والإصابة (١ / ٣٣).

(٩) إضافة من السيرة ٣ / ٢٦٩.

٣١٣

قريظة على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال شعبة : أخبرني سعد بن إبراهيم ، سمعت أبا أمامة بن سهل يحدّث عن أبي سعد قال : نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتاه على حمار. فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموا إلى سيّدكم ، أو إلى خيركم فقال (١) : إنّ هؤلاء قد نزلوا على حكمك ، فقال : نقتل مقاتلتهم ونسبي ذراريهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد حكم عليهم بحكم الله. وربّما قال : بحكم الملك. متّفق عليه (٢).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٣) قال : فأومئوا إليه فقالوا : يا أبا عمرو ، قد ولّاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مواليكم لتحكم فيهم. فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا : نعم. قال : وعلى من هاهنا من النّاحية التي فيها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، وهو معرض عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجلالا له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم. فقال سعد : أحكم بأن تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبي الذّراريّ (٤).

وقال شعبة وغيره ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عطيّة القرظيّ قال : كنت في سبي قريظة ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن أنبت (٥) أن يقتل ، فكنت فيمن لم ينبت (٦).

__________________

(١) في طبعة القدسي ٢٨٦ «فقالت» والتصويب عن البخاري ومسلم.

(٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب مرجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب (٥ / ٥٠) وصحيح مسلم (١٧٦٨) كتاب الجهاد والسير ، باب جواز قتال من نقض العهد ، وجواز إنزال أهل الحصن عن حكم حاكم عدل أهل للحكم.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٩.

(٤) في السيرة أيضا «والنساء».

(٥) أنبت : بلغ الحلم.

(٦) انظر البداية والنهاية ٤ / ١٢٥ وقد قال ابن كثير : رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك ابن عمير بن عطية القرظي.

٣١٤

قال موسى بن عقبة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا : اختاروا من شئتم من أصحابي؟ فاختاروا سعد بن معاذ ، فرضي بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلوا على حكمه. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسلاحهم فجعل في قبّته ، وأمر بهم فكتّفوا (١) وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سعد ، فأقبل على حمار أعرابيّ يزعمون أنّ وطاء برذعته من ليف ، واتّبعه رجل من بني عبد الأشهل ، فجعل يمشي معه ويعظّم حقّ بني قريظة ويذكر حلفهم (٢) والّذي أبلوه يوم بعاث ، ويقول : اختاروك على من سواك رجاء رحمتك وتحنّنك عليهم ، فاستبقهم فإنّهم لك جمال وعدد. فأكثر ذلك الرجل ، وسعد لا يرجع إليه شيئا ، حتى دنوا ، فقال الرجل : ألا ترجع إليّ فيما أكلّمك فيه؟ فقال سعد : قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم. ففارقه الرجل ، فأتاني قومه فقالوا : ما وراءك؟ فأخبرهم أنّه غير مستقيم ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل مقاتلتهم ، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل قتلوا عند دار أبي جهم بالبلاط ، فزعموا أنّ دماءهم بلغت أحجار الزّيت التي كانت بالسّوق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقسّم أموالهم بين من حضر من المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستّا وثلاثين فرسا. وأخرج حييّ بن أخطب فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أخزاك الله؟ قال له : ظهرت عليّ وما ألوم إلّا نفسي في جهادك والشّدّة عليك. فأمر به فضربت عنقه. كلّ ذلك بعين سعد (٣).

وكان عمرو بن سعد اليهوديّ في الأسرى ، فلما قدّموه ليقتلوه ففقدوه فقيل : أين عمرو؟ قالوا : والله ما نراه ، وإنّ هذه لرمّته (٤) التي كان فيها ،

__________________

(١) في ع : فتكفوا.

(٢) في المغازي لعروة ١٨٨ «خلقهم».

(٣) المغازي لعروة ١٨٨ ومجمع الزوائد للهيثمي ٦ / ١٣٨ ، ١٣٩ نقلا عن المعجم الكبير للطبراني.

(٤) الرمّة : قطعة من حبل.

٣١٥

فما ندري كيف انفلت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلت بما علم الله في نفسه. وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هب لي الزّبير ، يعني ابن باطا وامرأته. فوهبهما له ، فرجع ثابت إلى الزّبير. فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ـ وكان الزبير يومئذ كبيرا أعمى ـ قال : هل ينكر الرجل أخاه؟ قال ثابت : أردت أن أجزيك اليوم بيدك. قال : أفعل ، فإنّ الكريم يجزي الكريم ، فأطلقه. فقال : ليس لي قائد ، وقد أخذتم امرأتي وبنيّ. فرجع ثابت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله ذرّية الزّبير وامرأته ، فوهبهم له ، فرجع إليه فقال : قد ردّ إليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأتك وبينك. قال الزّبير : فحائط لي فيه أعذق ليس لي ولأهلي عيش إلّا به. فوهب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له ثابت : أسلم قال : ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم. فقالت ثابت : قد قتلوا وفرغ منهم ، ولعلّ الله أن يهديك. فقال الزّبير : أسألك بالله وبيدي عندك إلّا ما ألحقتني بهم ، فما في العيش خير بعدهم. فذكر ذلك ثابت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر بالزّبير فقتل.

قال الله تعالى في بني قريظة في سياق أمر الأحزاب : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) يعني الذين ظاهروا قريشا : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (١).

وقال عروة في قوله : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) (٢). هي خيبر.

وقال البكّائي ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقّاص اللّيثي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٢٦.

(٢) سورة الأحزاب : من الآية ٢٧.

(٣) الأرقعة : جمع رقيع وهي السماء. والخبر في السيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٩.

٣١٦

وقال البكّائي ، عن ابن إسحاق (١) : فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار بنت الحارث النّجّارية ، وخرج إلى سوق المدينة ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق. وفيهم حييّ بن أخطب ، وكعب بن أسد رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسالا (٢) : يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال : أفي كلّ وطن لا تعقلون. أما ترون الدّاعي لا ينزع ، وأنّه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. وأتى حييّ بن أخطب وعليه حلّة فقاحية (٣) قد شقّها من كل ناحية قدر أنملة لئلّا يسلبها ، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أما والله ما لمست نفسي في عداوتك ، ولكنّه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على النّاس فقال : أيّها النّاس إنّه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.

وقال ابن إسحاق (٤) ، عن محمد بن جعفر بن الزّبير ، عن عمّه عروة ، عن عائشة قالت : لم يقتل من نسائهم إلّا امرأة واحدة ، قالت : إنّها والله لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتل رجالهم بالسّيوف ، إذ هتف هاتف : يا بنت فلانة. قالت : أنا والله. قلت : ويلك ، مالك؟ قالت : أقتل. قلت : ولم؟ قالت : حدث أحدثته. فانطلق بها فضربت عنقها.

وقال عكرمة وغيره : صياصيهم : حصونهم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٠.

(٢) أرسالا : طائفة بعد أخرى.

(٣) حلة فقاحية : أي على لون الورد حين همّ أن يتفتح. قال ابن هشام : ضرب من الوشي ..

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٠.

٣١٧

وقال يونس ، عن ابن إسحاق (١) : ثم بعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن زيد ، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قريظة إلى نجد. فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، وكانت عنده حتى توفّي وهي في ملكه ، وعرض عليها أن يتزوّجها ، ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني في مالك فهو أخفّ عليك وعليّ فتركها. وقد كانت أوّلا توقّفت عن الإسلام ثم أسلمت ، فسرّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك.

* * *

وفي ذي الحجة من هذه السنة :

وفاة سعد بن معاذ

قال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أصيب سعد يوم الخندق ، رماه رجل من قريش يقال له حبّان بن العرقة ، رماه في الأكحل (٢). فضرب (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب (٤). فلما رجع من الخندق ، وذكر الحديث ، وفيه قالت عائشة : ثم إنّ كلمة تحجّر للبرء (٥) فقال : اللهمّ إنّك تعلم أنّه ليس أحد أحبّ إليّ أن أجاهد فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه ، اللهمّ فإنّي أظنّ أنّك وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فإن كان بقي من حرب قريش [شيء] (٦) فأبقني لهم حتّى أجاهدهم فيك. وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧١ ، ٢٧٢.

(٢) الأكحل : هو عرق في وسط الذراع ، فقال النووي : وهو عرق الحياة في كل عضو منه شعبة لها اسم.

(٣) في ع : فضرب على رسول الله. وأثبتنا نص البخاري ٥ / ٥٠.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ / ٤٢٥.

(٥) في ع : لكبر. والتصحيح من صحيح مسلم ٣ / ١٣٩٠ رقم ٦٧.

(٦) سقطت من ع ، وزدناها من صحيحي البخاري ومسلم.

٣١٨

موتي فيها. قال فانفجرت لبّته (١) ، فلم يرعهم ـ ومعهم أهل خيمة من بني غفار ـ إلّا والدّم يسيل إليهم ، فقالوا : يا أهل الخيمة ، ما هذا الّذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذّ دما (٢) فمات منها. متّفق عليه (٣).

وقال اللّيث : حدّثني أبو الزّبير ، عن جابر قال : رمي سعد يوم الأحزاب فقطعوا أكحله ، فحسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّار ، فانتفخت يده ، فتركه ، فنزفه الدّم فحسمه أخرى. فانتفخت يده ، فلما رأى ذلك قال : اللهمّ لا تخرج نفسي حتى تقرّ عيني من بني قريظة. فاستمسك عرقه فما قطرت منه قطرة. حتى نزلوا على حكم سعد ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم أن يقتل رجالهم ويستبى نساؤهم وذراريهم. قال : وكانوا أربعمائة. فلما فرغ من قتلهم ، انفتق عرقه فمات (٤). حديث صحيح.

وقال ابن راهويه : ثنا عمرو بن محمد القرشي ، ثنا عبد الله بن إدريس ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ هذا الّذي تحرّك له العرش ـ يعني سعد بن معاذ ـ وشيّع جنازته سبعون ألف ملك ، لقد ضمّ ضمّة ثم فرّج عنه (٥).

وقال سليمان التّيمي ، عن الحسن : اهتزّ عرش الرحمن فرحا بروحه (٦).

__________________

(١) لبّته : نحره.

(٢) في ع : يغدوا. والتصحيح من صحيح مسلم ، وعبارة البخاري : فإذا سعد يغذو جرحه دما.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب مرجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ٥ / ٥٠ ، ٥١. وصحيح مسلم (١٧٦٩) : كتاب الجهاد والسير ، باب جواز قتال من نقض العهد. إلخ.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ / ٤٢٤.

(٥) انظر الطبقات لابن سعد ٣ / ٣٢٩.

(٦) الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ / ٤٣٤.

٣١٩

وقال يزيد بن عبد الله بن النّجّار ، عن معاذ ، عن جابر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من هذا العبد الصالح الّذي مات ، فتحت له أبواب السماء وتحرّك العرش؟ قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا سعد بن معاذ ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قبره وهو يدفن ، فبينما هو جالس قال : سبحان الله ـ مرّتين ـ فسبّح القوم. ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، فكبّر القوم. فقال : عجبت لهذا العبد الصالح شدّد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرّج له (١).

[ذكر] (٢) بعضه محمد بن إسحاق ، عن معاذ بن رفاعة ، أخبرني محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح ، عن جابر (٣).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني معاذ بن رفاعة الزّرقيّ قال : أخبرني من شئت (٤) من رجال قومي أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جوف اللّيل معتجرا بعمامة من استبرق ، فقال : يا محمد من هذا الميت الّذي فتحت له أبواب السماء واهتزّ له العرش؟ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجرّ ثوبه مبادرا إلى سعد ابن معاذ فوجده قد قبض.

وقال البكّائي ، عن ابن إسحاق : حدّثني من لا أتّهم ، عن الحسن البصري قال : كان سعد رجلا بادنا ، فلما حمله النّاس وجدوا له خفّة. فقال رجال من المنافقين : والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخفّ منه. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ له حملة غيركم ، والّذي نفسي بيده لقد استبشرت

__________________

(١) انظر مثله في طبقات ابن سعد ٣ / ٤٣٢ وقد أخرجه أحمد في مسندة ٣ / ٣٢٧ و ٣٦٠ و ٣٧٧.

(٢) كتبت في الأصل بالحمرة ولم تظهر في التصوير ، وأثبتناها ترجيحا.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٧٥.

(٤) أثبتها القدسي في طبعته ٢٩٢ «نسيت» معتمدا على الطبعة الأولى من سير أعلام النبلاء ١ / ٢١٣ ، (انظر الطبعة الجديدة منه ١ / ٢٩٤ «شئت»).

٣٢٠