تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال حسّان لعائشة رضي‌الله‌عنها (١) :

رأيتك وليغفر لك الله ، حرّة

من المحصنات غير ذات غوائل

 حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

 وإنّ الّذي قد قيل ليس بلائق (٢)

بك الدّهر بل قيل امرئ متماحل

 فإن كنت أهجوكم كما بلّغوكم (٣)

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

 فكيف وودّي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

 وإنّ لهم عزّا يرى النّاس دونه

قصارا ، وطال العزّ كلّ التّطاول (٤)

[و] منها :

مهذّبة قد طيّب الله خيمها

وطهّرها من كلّ سوء وباطل

 عقيلة حيّ من لؤيّ بن غالب

كرام المساعي مجدهم غير زائل (٥)

* * *

استشهد صفوان في وقعة أرمينية سنة تسع عشرة. قاله ابن إسحاق (٦).

وعن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : لقد سئل عن ابن المعطّل فوجدوه حصورا ما يأتي النّساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا (٧).

__________________

(١) ديوانه : ص ٣٢٤ ، ٣٢٥ باختلاف في اللفظ وترتيب الأبيات.

(٢) في البداية والنهاية ٣ / ١٦٤ «بلائط» وانظر البيت في سيرة ابن هشام ٤ / ١٤.

(٣) في سيرة ابن هشام ٤ / ١٤ والبداية ٣ / ١٦٤ «فإن كنت قد قلت الّذي قد زعمتم».

(٤) هذا البيت ليس في سيرة ابن هشام.

(٥) البيتان في السيرة بتقديم الثاني على الأول ٤ / ١٤.

(٦) الإصابة ٢ / ٢٩٠ ، ٢٩١ رقم ٤٠٨٩.

(٧) سيرة ابن هشام ٤ / ١٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦١٩.

٢٨١
٢٨٢

غزوة الخندق

قال الواقديّ (١) : وهي غزوة الأحزاب ، وكانت في ذي القعدة.

قالوا : لمّا أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النّضير ساروا إلى خيبر ، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألّبوا قريشا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاهدوهم على قتاله ، وواعدوهم لذلك وقتا. ثم أتوا غطفان وسليما فدعوهم إلى ذلك ، فوافقوهم.

وتجهّزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم ، فكانوا في أربعة آلاف ، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس سوى (٢) الإبل. وخرجوا وعليهم أبو سفيان ابن حرب ، فوافتهم بنو سليم بمرّ الظّهران ، وهم سبعمائة. وتلقّتهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد الأسدي. وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن. وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود (٣) بن رخيلة.

__________________

(١) المغازي ٢ / ٤٤٠.

(٢) في الأصل ، ع : من سوى الإبل. ولعلّ الوجه ما أثبتناه كما يؤخذ من عبارة الواقدي : «وقادوا معهم ثلاثمائة فارس وكان معهم من الظهر ألف بعير وخمسمائة بعير» (المغازي : ٢ / ٤٤٣).

(٣) في سيرة ابن هشام ٣ / ٢٥٩ مسعر بن رخيلة. وانظر الإصابة (٣ / ٤١٠) وأسد الغابة (٥ / ١٦١) وتاريخ الطبري ٢ / ٥٦٦ ففيها كما أثبتنا.

٢٨٣

وخرجت بنو مرّة وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف. وقيل إنّه رجع ببني مرّة ، والأوّل أثبت.

فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف ، وأمر الكلّ إلى أبي سفيان.

وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي (١).

وأمّا ابن إسحاق فقال : كانت غزوة الخندق في شوّال (٢).

قال : وكان من حديثها أنّ سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الرّبيع ، وهوذة ، في نفر من بني النّضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدموا مكة فدعوا قريشا إلى القتال ، وقالوا : إنّا نكون معكم حتى نستأصل محمدا. فقالت لهم قريش [٤٨ ب] : يا معشر يهود ، إنّكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحقّ وفيهم نزل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٣) الآيات.

فلما قالوا : ذلك لقريش سرّهم ونشطوا إلى الحرب واستعدّوا له. ثم خرج أولئك النّفر اليهود حتى جاءوا غطفان ، فدعوهم فوافقوهم (٤).

فخرجت قريش ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة ، والحارث بن عوف المرّي في قومه ، ومسعود بن رخيلة فيمن تابعة من قومه

__________________

(١) الواقدي : المغازي (٢ / ٤٤٠ ـ ٤٤٤).

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٥٨.

(٣) سورة النّساء ـ الآية ٥١.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٥٩ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٦٥.

٢٨٤

أشجع. فلما سمع بهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده ، وأبطأ عن المسلمين في عمله رجال منافقون ، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه (١).

وكان في حفره أحاديث بلغتني ، منها :

بلغني أنّ جابرا كان يحدّث أنّهم اشتدّت عليهم كدية (٢) فشكوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله ، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت كثيبا (٣)

وحدّثني سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله قال : عملنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخندق ، فكانت عندي شويهة ، فقلت : والله لو صنعناها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير ، فصنعت لنا منه خبزا ، وذبحت تلك الشاة فشويناها ، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الانصراف ، وكنّا نعمل في الخندق نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا ، فقلت : يا رسول الله إنّي قد صنعت كذا وكذا ، وأحبّ أن تنصرف معي ، وإنّما أريد أن ينصرف معي وحده. فلما قلت له ذلك ، قال : نعم. ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت جابر. فقلت : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فأقبل وأقبل النّاس معه ، فجلس وأخرجناها إليه ، فبرك وسمّى ، ثم أكل ، وتواردها النّاس ، كلّما فرغ قوم قاموا وجاء ناس ، حتى صدر أهل الخندق عنها (٤).

وحدّثني سعيد بن ميناء أنّه حدّث أنّ ابنة لبشير بن سعد قالت : دعتني

__________________

(١) السيرة ٣ / ٢٥٩ ، الطبري ٢ / ٥٦٦.

(٢) الكدية : صخرة غليظة صلبة فيها الفأس ، على ما في (النهاية لابن الأثير) وغيرها.

(٣) (سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٠.

(٤) السيرة ٣ / ٢٦٠.

٢٨٥

أمّي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ، ثم قالت : أي بنيّة اذهبي إلى أبيك وخالك ، عبد الله بغذائهما. فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي ، فقال : ما هذا معك؟ قلت : تمر بعثت به أمي إلى أبي وخالي ، قال : هاتيه. فصببته في كفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما ملأتهما (١) ثم أمر بثوب فبسط ، ثم دحا بالتمر عليه فتبدّد فوق الثوب ، ثم قال لإنسان عنده : اصرخ في أهل الخندق أن هلمّوا إلى الغداء. فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد ، حتى صدر أهل الخندق [٤٩ أ] عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب (٢).

وحدّثني من لا أتّهم ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أنّه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده : افتحوا ما بدا لكم ، والّذي نفس أبي هريرة بيده ، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمدا مفاتيحها قبل ذلك (٣).

قال : وحدّثت عن سلمان الفارسيّ قال : ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريب منّي ، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة ، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى ، ثم ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ما هذا؟ قال : أو قد رأيت؟ قلت : نعم. قال : أمّا الأولى ، فإنّ الله فتح عليّ بها اليمن ، وأمّا الثانية ، فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب ، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق (٤).

__________________

(١) في الأصل «فملأتها» وما أثبتناه عن سيرة ابن هشام.

(٢) السيرة ٣ / ٢٦٠.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦١.

(٤) السيرة ٣ / ٢٦١ ، المغازي لعروة ١٨٥.

٢٨٦

قال ابن إسحاق : ولما فرغ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السّيول من رومة بين الجرف وزغابة (١) في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان ، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمي (٢) إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع (٣) في ثلاثة آلاف ، فعسكروا هنالك ، والخندق بينه وبين القوم. فذهب حييّ بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عهد بني قريظة وعقدهم ، وقد كان وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه ، فلما سمع كعب بحييّ أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له ، فناداه : يا كعب افتح لي. قال : إنّك امرؤ مشئوم ، وإنّي قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا. قال : ويلك افتح لي أكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : والله إن أغلقت دوني إلّا عن (٤) جشيشتك (٥) أن آكل معك منها. فأحفظه ففتح له فقال : ويحك يا كعب ، جئتك بعزّ الدّهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى (٦) أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني على (٧) أن لا يبرحوا

__________________

(١) رومة أرض بالمدينة فيها بئر رومة التي اشتراها عثمان بن عفان ثم تصدّق بها. والجرف موضع على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام. وزغابة موضع قريب من المدينة وهي مجتمع السيول آخر العقيق غربيّ قبر حمزة وهي أعلى إضم (وفاء ألوفا). وانظر معجم البلدان ١ / ٢٩٩ و ٣ / ١٤١.

(٢) ذنب نقمي : موضع من أعراض المدينة قريب أحد ، كان لآل أبي طالب. ونقمى : بالتحريك. انظر معجم البلدان ٥ / ٣٠٠.

(٣) سلع : جبل بسوق المدينة ، وقيل موضع بقرب المدينة (معجم البلدان ٣ / ٢٣٦).

(٤) في سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦١ : «إلا تخوفت علي».

(٥) الجشيشة : طعام من حنطة تطبخ مع لحم أو تمر.

(٦) في الأصل : على ، تحريف.

(٧) في الأصل : حتى ، تحريف.

٢٨٧

حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال له كعب : جئتني والله بذلّ الدّهر وبجهام (١) قد هراق ماءه برعد وبرق ليس فيه شيء ، يا حييّ فدعني وما أنا عليه فإنّي لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهدا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.

فنقض كعب عهده وبريء ممّا كان بينه وبين النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

ولما انتهى الخبر إلى النّبيّ صلّى [٤٩ ب] الله عليه وسلّم بعث [سعد] (٣) بن معاذ ، وسعد بن عبادة سيّد الأنصار ، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوّات بن جبير رضي‌الله‌عنهم ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتّوا في أعضاد النّاس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للنّاس. فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان فيه حدّة ، فقال له ابن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم رجعوا إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّموا عليه وقالوا : عضل والقارة ، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرّجيع خبيب وأصحابه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين. فعظم عند ذلك الخوف (٤).

قال الله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) في هامش الأصل : هو السحاب الّذي لا ماء فيه.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦١.

(٣) ليست في الأصل ، وزدناها للتوضيح من سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦١.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦١ ، ٢٦٢.

٢٨٨

وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) (١) الآيات.

وتكلّم المنافقون حتى قال معتّب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف :كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرّمي بالنّبل والحصار (٢).

ثم إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما ، فجرى بينه وبينهما الصّلح (٣) ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصّلح ، إلّا المراوضة في ذلك.

فلما أن أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل ، بعث إلى السّعدين فاستشارهما فقالا : يا رسول الله أمرا تحبّه فنصنعه ، أم شيئا أمرك اللهمّ به لا بدّ لنا منه ، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلّا لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك ولا يطعمون أن يأكلوا منّا تمرة إلّا قرى (٤) أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلّا السّيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال : فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها ، ثم قال : ليجهدوا علينا (٥).

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآيتان ١٠ ، ١١.

(٢) السيرة ٣ / ٢٦٢.

(٣) في الأصل : صلح. وأثبتناه عبارة ع والسيرة ٣ / ٢٦٢.

(٤) قرى : إطعام الضيف.

(٥) السيرة ٣ / ٢٦٢.

٢٨٩

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأحزاب ، فلم يكن بينهم قتال إلّا فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، وضرار بن الخطّاب ، تلبّسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مرّوا بمنازل بني كنانة ، فقالوا : تهيّئوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من [٥٠ أ] الفرسان اليوم ، ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. فتيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا فضربوا خيلهم ، فاقتحمت منه [فجالت] (١) بهم في السّبخة بين الخندق وسلع.

وخرج عليّ رضي‌الله‌عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة ، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ودّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه ، فلما وقف وهو وخيله قال : من يبارزني؟ فبرز له عليّ رضي‌الله‌عنه ، فقال له عليّ : يا عمرو إنّك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلّا أخذتها (٢) منه. قال له : أجل. قال له : فإنّي أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام. قال : لا حاجة لي بذلك. قال : فإنّي أدعوك إلى النزّال. قال له : لم يا ابن أخي ، فو الله ما أحبّ أن أقتلك. قال عليّ رضي‌الله‌عنه : لكنّي والله أحبّ أن أقتلك. فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا ، فقتله عليّ. وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم. وقال عليّ رضي‌الله‌عنه في ذلك :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت دين (٣) محمّد بضراب

 __________________

(١) سقطت من الأصل ، والإضافة من السيرة ٣ / ٢٦٣.

(٢) في الأصل : أخذتهما ، وأثبتنا. عبارة ع والسيرة ٣ / ٢٦٣.

(٣) في السيرة «رب».

٢٩٠

نازلته فتركته متجدّلا (١)

كالجذع بين دكادك وروابي (٢)

لا تحسبنّ الله خاذل دينه

ونبيّه يا معشر الأحزاب (٣)

وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل ، أنّ عائشة رضي‌الله‌عنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق ، وكانت أمّ سعد بن معاذ معها في الحصن ، فمرّ سعد وعليه درع مقلّصة (٤) قد خرجت منها (٥) ذراعه كلّها ، وفي يده حربة يرفل (٦) بها ويقول :

لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل

لا بأس بالموت إذا حان الأجل (٧)

 فقالت له أمّه : الحق أي بنيّ فقد أخّرت. قالت عائشة : فقلت لها يا أمّ سعد لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ (٨) مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل (٩) رماه ابن العرقة ، (١٠) ، فلما أصابه قال : خذها منّي وأنا ابن العرقة. فقال له سعد : عرّق الله وجهك في النّار ، اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنّه لا قوم أحبّ إليّ (١١) أن أجاهدهم فيك من

__________________

(١) في السيرة «فصددت حين تركته متجدّلا».

(٢) الدكادك : جمع دكداك وهو من الرمل ما تكبّس واستوى.

(٣) في السيرة بيت رابع لم يرد هنا.

(٤) الدرع المقلّصة : المجتمعة المنضمّة. يقال قلّصت الدرع وتقلصت.

(٥) في الأصل : منه. وما أثبتناه عن السيرة ٣ / ٢٦٤ وتاريخ الطبري ٢ / ٥٧٥.

(٦) يرفل : يجرّ ذيله ويتبختر. وفي تاريخ الطبري ٢ / ٥٧٥ «ويرقد».

(٧) قال السهيليّ في الروض الأنف ٣ / ٢٨٠ «هو بيت تمثّل به ، يعني به حمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن كعب بن عليم بن جناب الكلبي».

(٨) أسبغ : أكمل.

(٩) الأكحل : عرق في اليد أو هو عرق الحياة.

(١٠) ابن العرقة : هو حبّان بن قيس بن العرقة ، والعرقة هي قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم تكني أم فاطمة ، سمّيت العرقة لطيب ريحها. (الروض الأنف ٣ / ٢٨٠).

(١١) في الأصل ، أحبّ إليّ من أن أجاهدهم. والمثبت عن السيرة ٣ / ٢٦٤ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٧٥.

٢٩١

قوم آذوا رسولك وكذّبوه وأخرجوه ، اللهمّ إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.

وكانت صفيّة بنت عبد المطّلب في فارغ (١) ـ حصن حسّان بن ثابت ـ وكان [٥٠ ب] معها فيه مع النّساء والولدان. قالت : فمرّ بنا يهودي فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في نحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقلت : يا حسّان إنّ هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن ، وإليّ والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل عنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فانزل إليه فأقتله. قال : يغفر (٢) لك الله يا ابنة عبد المطّلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا ، احتجزت (٣) ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسّان انزل إليه فاسلبه ، فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل. قال : ما لي بسلبه من حاجة (٤).

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.

وروى نحوه يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه.

__________________

(١) فارع : أطم من آطام المدينة ، وقيل حصن بالمدينة.

(٢) في الأصل ، ع : فغفر ، وأثبتنا نصّ ابن هشام ٣ / ٢٦٤.

(٣) احتجز : شدّ إزاره على وسطه.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٧٧ وقد نقد السهيليّ هذه الرواية ٣ / ٢٨١ فقال :

«ويحمل هذا الحديث عند الناس على أن حسّانا كان جبانا شديد الجبن ، وقد دفع هذا بعض العلماء ، وأنكره ، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد ، وقال : لو صحّ هذا لهجي به حسّان ، فإنه كان يهاجي الشعراء كضرار وابن الزبعري وغيرهما ، وكانوا يناقضونه ويردّون عليه ..».

٢٩٢

ثم إنّ نعيم بن مسعود الغطفانيّ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم. وقال : إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال إنّما أنت فينا رجل واحد فاخذل عنّا منا استطعت فإنّ الحرب خدعة.

فأتى قريظة ـ وكان نديما لهم في الجاهلية ـ فقال لهم : قد عرفتم ودّي إيّاكم. قالوا : صدقت. قال : إنّ قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحوّلوا منه إلى غيره ، وإنّ قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه ، فقالوا : لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمدا ، وإنّه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلّغكموه نصحا لكم فاكتموه عليّ. قالوا : نفعل. قال : تعلّموا (١) أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد : وأرسلوا إليه أنّا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ، قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم ، فنعطيكهم فنضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم. فأرسل إليهم : نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا منكم من [٥١ أ] رجالكم فلا تفعلوا.

ثم خرج فأتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي

__________________

(١) في معالم التنزيل للبغوي ٦ / ٥١٥ «تعلمون» والصحيح ما أثبتناه كما في السيرة لابن هشام ٣ / ٢٦٦.

٢٩٣

وأحبّ النّاس إليّ ، ولا أراكم تتّهموني. قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتّهم قال : فاكتموا عنّي. قالوا : نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذّرهم ما حذّرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوّال ، وكان من صنع الله لرسوله أنّه أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان ، إلى بني قريظة ، عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا : إنّا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخفّ والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا. فأرسلوا إليهم أنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا ، فإنّا نخشى إن ضرّستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ، ولا طاقة لنا بذلك.

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله لقد حدّثكم نعيم بن مسعود بحقّ. فأرسلوا إلى بني قريظة : إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرّسل بهذا : إنّ الّذي ذكر لكم نعيم لحقّ ، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها. وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم.

فلما أنهى ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٦٥ ، ٢٦٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٧٨ ، ٥٧٩.

٢٩٤

قال : فحدّثني يزيد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي : قال رجل من [أهل] (١) الكوفة لحذيفة : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبتموه؟ قال : نعم يا ابن أخي قال : فكيف كنتم تصنعون؟ قال : والله لقد كنّا نجهد ، فقال : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال : يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخندق ، وصلّى هويّا (٢) من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ـ يشرط له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرّجعة ـ أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنّة. فما قام أحد من شدّة الخوف وشدّة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بدّ حين دعاني ، فقال : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم ، فانظر ما ذا يفعلون ولا تحدّثني شيئا حتى تأتينا. فذهبت فدخلت في القوم ، والرّيح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا يقرّ لهم قدرا ولا نارا (٣) ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، [٥١ ب] إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الّذي نكره ، ولقينا من شدّة الريح ما ترون ، ما تطمئنّ لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنّي مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فو الله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. ولو لا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني ، ثم شئت لقتلته بسهم».

قال : فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم يصلّي في مرط (٤) لبعض

__________________

(١) زيادة من ع والسيرة ٣ / ٢٦٦ والطبري ٢ / ٥٨٠.

(٢) الهويّ من الليل : القطعة منه والهزيع.

(٣) في طبعة القدسي ٢٦٨ وفي طبعة شعيرة ٢٥٩ «لا يقر لهم قرار ولا نار» وما أثبتناه عن السيرة ٣ / ٢٦٦ والطبري ٢ / ٥٨٠.

(٤) المرط : كساء من صوف أو خز.

٢٩٥

نسائه مراجل (١) ـ وهو ضرب «من وشي اليمن» فسّره ابن هشام (٢) ـ فلما رآني أدخلني [إلى] (٣) رجليه وطرح عليّ طرف المرط ، ثم ركع وسجد وإنّي لفيه فلما سلّم أخبرته الخبر.

وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم (٤).

قال الله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٥).

وهذا كلّه من رواية البكّائيّ عن محمد بن إسحاق.

وقال يونس بن بكير ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أنّ رجلا قال لحذيفة : صحبتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدركتموه ، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب ، وفي آخره : فجعلت أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبي سفيان ، فجعل يضحك حتى جعلت انظر إلى أنيابه.

وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنتين. ثم قاتل يوم أحد في شوّال سنة ثلاث. ثم قاتل يوم الخندق ، وهو يوم الأحزاب وبني قريظة ، في شوّال سنة أربع ، وكذا قال عروة في حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. كذا قالا : سنة أربع ، وقالا في قصّة الخندق إنّها كانت بعد أحد بسنتين.

__________________

(١) مراجل : كذا في الأصل وابن هشام. وفي اللسان والتاج : المرجّل كمعظّم المعلّم من البرود والثياب ، وبرد مرجّل فيه صور كصور الرجال ، والمرحّل (بالحاء) ضرب من برود اليمن سمّي مرحّلا لأنّ عليه تصاوير رحل ، ومرط مرحل عليه تصاوير الرحال. وقد ورد كذلك في حديث عائشة. ويجمعان على مراجل ومراحل وراحولات.

(٢) السيرة ٣ / ٢٦٦.

(٣) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع والسيرة ، وفي تاريخ الطبري ٢ / ٥٨١ «بين».

(٤) راجع الخبر في السيرة ٣ / ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٧٨ ـ ٥٨١.

(٥) سورة الأحزاب : الآية ٢٥.

٢٩٦

وقال قتادة من رواية شيبان عنه : كان يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين ، فهذا هو المقطوع به. وقول موسى وعروة إنّها في سنة أربع وهم بين ، ويشبهه قول عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : «عرضني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني. فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني» فيحمل قوله على أنّه كان قد شرع في أربع عشرة ، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة ، وزاد عليها بعد تلك (١) الزيادة. والعرب تفعل هذا في مددها وتواريخها وأعمارها كثيرا ، فتارة يعتدّون بالكسر ويعدّونه سنة ، وتارة يسقطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضّدوه بقول موسى بن عقبة : «وغزوة الأحزاب في شوّال سنة أربع» وذلك مخالف لقول الجماعة ، ولما اعترف به موسى وعروة من أنّ بين أحد والخندق سنتين والله أعلم (٢).

[٥٢ أ] وقال أبو إسحاق الفزاريّ ، عن حميد ، عن أنس قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غداة باردة إلى الخندق ، والمهاجرون والأنصار يحفرون. الخندق بأيديهم ، ولم يكن لهم عبيد ، : فلما رأى ما بهم من الجوع والنّصب قال :

اللهم إنّ العيش عيش الآخرة ،

فاغفر للأنصار والمهاجرة

 __________________

(١) في الأصل : بعد ذلك الزيادة. وما أثبتناه من ع والخبر في صحيح البخاري ٥ / ٤٥.

(٢) قال ابن حجر في فتح الباري ٧ / ٣٩٣ «وقد بيّن البيهقي سبب هذا الاختلاف وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدّون التاريخ من المحرّم الّذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول. وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه ، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى ، وأن غزوة أحد كانت في الثانية ، وأن الخندق كانت في الرابعة. وهذا عمل صحيح على ذلك البناء ، لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة ، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية ، وأحد في الثالثة ، والخندق في الخامسة ، وهو المعتمد».

٢٩٧

فقالوا : مجيبين له :

نحن الّذين بايعوا محمّدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

 أخرجه البخاري (١). ولمسلم نحوه من حديث حمّاد بن سلمة ، عن ثابت (٢).

وقال عبد الوارث : ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس نحوه ، وزاد قال : ويؤتون بملء حفنتين شعيرا يصنع لهم بإهالة سنخة (٣) وهي بشعة في الحلق ، فتوضع بين يدي القوم. أخرجه البخاري (٤).

وقال شعبة وغيره : [أبو] إسحاق ، سمع البراء يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب ، وقد وارى التراب بياض بطنه (٥) وهو يقول (٦) :

اللهم لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

 فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

 إنّ الألى قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا (٧)

 __________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٥.

(٢) صحيح مسلم ١٧٨٨ : كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة الأحزاب.

(٣) الإهالة : الودك وما أذيب من الشحم وكلّ دهن اؤتدم به : والسّنخة : المتغيّر الريح. قال الفيروزآبادي في القاموس : السنخة والسناخة هي الريح المنتنة.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٥.

(٥) في الأصل «إبطه» والتصويب عن صحيح البخاري ٥ / ٤٧ ، والطبقات الكبرى ٢ / ٧١ ، والمغازي للواقدي ٢ / ٤٤٩.

(٦) الأبيات لعبد الله بن رواحة (ديوانه : ١٠٦) وتنسب كذلك لعامر بن الأكوع.

(٧) البيت في شرح المواهب للزرقاني ٢ / ١٠٧

إن الألى قد رغبوا علينا

وإذا أرادوا فتنة أبينا

٢٩٨

رفع بها صوته. أخرجه البخاري (١).

وعنده أيضا من وجه آخر : ويمدّ بها صوته (٢).

وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي ، عن أبيه ، سمع جابرا يقول : كنّا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية (٣) ـ وهي الجبل ـ فقلنا : يا رسول الله : إنّ كدية قد عرضت فقال : رشّوا عليها. ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل (٤) فقلت له : ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ، ففعل ، فقلت للمرأة : هل عندك من شيء؟ وذكر نحو ما سقناه من مغازي ابن إسحاق. أخرجه البخاري (٥).

وقال هوذة بن خليفة : ثنا عوف الأعرابيّ ، عن ميمون بن أستاذ الزّهراني (٦) ، حدّثني البراء بن عازب قال : لما كان حين أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفر الخندق ، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رآها أخذ المعول وقال : بسم الله ، وضرب ضربة فكسر ثلثها. فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشّام ، والله [إنّي] (٧) لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله. ثم ضرب الثانية وقطع ثلثا آخر فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس ، والله إنّي لأبصر قصر المدائن الأبيض. ثم ضرب الثالثة فقطع بقيّة الحجر فقال : الله أكبر أعطيت

__________________

(١) ، (٢) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٧ ، ٤٨.

(٣) في الأصل : كدانة. ولعلّها مصحفة عن كداية وهي الكدية. وأثبتنا نصّ البخاري ٥ / ٤٥.

(٤) عادت كثيبا أهيل : أي رملا سائلا ، وفي البخاري : أهيل أو أهيم (٥ / ٤٦).

(٥) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٥ ، ٤٦.

(٦) الزّهراني : بفتح الزاي وسكون الهاء. نسبة إلى زهران بن كعب بن الحارث. بطن من الأزد.

(اللباب لابن الأثير ٢ / ٨٢).

(٧) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع ومن السيرة الحلبية ١ / ١٠٠ طبعة الحلبي.

٢٩٩

مفاتيح اليمن ، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني السّاعة.

وقال الثّوري : ثنا ابن المنكدر ، سمعت جابرا يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب : من يأتينا بخبر القوم؟ فقال [٥٢ ب] الزّبير : أنا. فقال : من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزّبير : أنا. فقال : «إنّ لكلّ نبيّ حواريّا وحواريّ الزّبير». أخرجه البخاري (١).

وقال الحسين بن الحسن بن عطيّة العوفيّ : حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) (٢) قال : كان ذلك يوم أبي سفيان ، يوم الأحزاب.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) (٣) ، قال هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا مخليّة نخشى عليها السّرق.

قوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الآية (٤) ، قال : لأنّ الله قال لهم في سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (٥) ، فلمّا مسّهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق ، تأوّل المؤمنون ذلك ، ولم يزدهم إلّا إيمانا وتسليما.

وقال حمّاد بن سلمة : أنا حجّاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ٥ / ٤٩.

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٩.

(٣) سورة الأحزاب : الآية ١٣.

(٤) سورة الأحزاب : الآية ٢٢.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢١٤.

٣٠٠