تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

المصطلق فسبينا كرائم العرب ، وطالت علينا العزبة (١) ، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل ، فسألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا عليكم أن لا تفعلوا ، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلّا ستكون. متّفق عليه ، عن قتيبة عن إسماعيل (٢).

* * *

__________________

(١) في الأصل : «الغربة» والتصحيح من صحيح البخاري ٥ / ٥٤.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٥٤ كتاب المغازي ، باب غزوة بني المصطلق وكتاب النّكاح باب العزل ، وكتاب القدر ، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وصحيح مسلم : كتاب النّكاح ، باب حكم العزة.

٢٦١
٢٦٢

تزويج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجويريّة «رضي‌الله‌عنها»

وقال يونس ، عن ابن إسحاق (١) ، حدّثني محمد بن جعفر بن الزّبير ، عن عروة ، [٤٣ ب] عن عائشة قالت : لمّا قسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عمّ له فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة ملّاحة (٢) ، لا يراها أحد إلّا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعينه في كتابتها ، فو الله ما هو إلّا أن رأيتها فكرهتها ، وقلت : سيرى منها مثل ما رأيت. فلما دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : أنا جويرية بنت الحارث سيّد قومه ، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، وقد كاتبت فأعنّي. فقال : أو خير من ذلك ، أؤدّي عنك كتابتك وأتزوّجك. فقالت : نعم. ففعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ الناس أنّه قد تزوّجها فقالوا : أصهار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق بها أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٨ ، ٩.

(٢) الملّاحة : الشديدة الملاحة.

٢٦٣

[على قومها] (١) منها. وكان اسمها برّة فسمّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جويرية (٢).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق (٣) حدّثني محمد بن يحيى بن حبّان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، في قصّة بني المصطلق : فبينا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيم هناك ، إذ اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاريّ أجير عمر ، وسنان بن وبر (٤). قال : فحدّثني محمد بن يحيى أنّهما ازدحما على الماء فاقتتلا ، فقال سنان : يا معشر الأنصار. وقال جهجاه : يا معشر المهاجرين. وكان زيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبيّ ، يعني ابن سلول ، فلما سمعها قال : قد ثاورونا في بلادنا ، والله ما أعدّنا (٥) وجلاليب قريش هذه إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. ثم أقبل على من عنده من قومه فقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم (١). أما والله لو كففتم عنهم لتحوّلوا عنكم من بلادكم. فسمعها زيد ، فذهب بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غليم ، وعنده (٦) عمر فأخبره الخبر. فقال عمر : يا رسول الله مر عبّاد بن بشر فليضرب عنقه. فقال : فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل ، فلما بلغ ذلك ابن أبيّ أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذر ، وحلف له بالله ما قال ذلك ، وكان عند قومه بمكان.

__________________

(١) زيادة من ع والواقدي.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ / ١١٨.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ٦ ، ٧.

(٤) في الأصل : زيد. والتصحيح من ابن هشام ٤ / ٧ والواقدي والإصابة. ويقال سنان بن وبر أو وبرة ، وسنان بن تيم الجهنيّ.

(٥) في الأصل : عزنا. والتصحيح من ابن هشام ٤ / ٧. وجلابيب قريش لقب لمن كان أسلم من المهاجرين ، لقّبهم بذلك المشركون. وأصل الجلابيب الأزر الغلاظ واحدها جلباب ، وكانوا يلتحفون بها ، فلقّبوهم بذلك.

(٦) في الأصل : وله. والتصحيح من ع ، وابن هشام ٤ / ٧.

٢٦٤

فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم. وراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها. فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه بتحية النّبوة ثم قال : والله لقد رحت في ساعة منكرة. فقال : أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبيّ؟ فقال : يا رسول الله فأنت والله العزيز وهو الذّليل. ثم قال : يا رسول الله أرفق به ، فو الله لقد جاء الله بك وإنّا لننظم له الخرز لنتوجّه فإنّه [٤٤ أ] ليرى أن قد استبلته ملكا. فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّاس بقيّة يومه وليلته ، حتى أصبحوا وحتّى اشتدّ الضّحى. ثم نزل بالنّاس ليشغلهم عمّا كان من الحديث ، فلم يلبث (١) النّاس أن وجدوا مسّ الأرض فناموا. ونزلت سورة المنافقين (٢).

وقال ابن عيينة : ثنا عمرو بن دينار ، سمعت جابرا يقول : كنّا مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة ، فكسع (٣) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري : يا للأنصار. وقال المهاجريّ : يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنّها منتنة. فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول : أو قد فعلوها؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال : وكانت الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك. فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعه لا يتحدّث النّاس أنّ محمدا يقتل أصحابه. متّفق عليه (٤).

وقال عبيد الله بن موسى : أنا إسرائيل ، عن أبي سعيد الأزدي ، ثنا زيد بن أرقم ، قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان معنا ناس من

__________________

(١) في الأصل «يأمر» وفي طبعة القدسي ٢٣٩ «يأمن» وما أثبتناه عن سيرة ابن هشام ٤ / ٧.

(٢) هي السورة رقم ٦٣.

(٣) كسعه : ضربه بيده أو برجله على دبره.

(٤) صحيح البخاري كتاب التفسير ٦ / ٦٥ ، ٦٦ ، سورة (المنافقون). وصحيح مسلم (٢٥٨٤) كتاب البرّ والصلة ، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.

٢٦٥

الأعراب. فكنّا نبتدر الماء ، وكانت الأغراب يسبقوننا ، فيسبق الأعرابيّ أصحابه : فيلا الحوض ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النّطع حتى يجيء أصحابه فأتى الأنصاري فأرخى زمام ناقته لتشرب فمنعه ، فانتزع حجرا ففاض [الماء] (١) فرفع الأعرابيّ خشبة فضرب بها رأس الأنصاريّ فشجّه ، فأتى عبد الله بن أبيّ فأخبره فغضب وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينفضّوا من حوله ، يعني الأعراب. وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال زيد : فسمعته فأخبرت عمّي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحلف وجحد ، فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذّبني. فجاء إلى عمّي فقال : ما أردت أن مقتك رسول الله [أو] كذّبك المسلمون. فوقع عليّ من الغمّ ما لم يقع على أحد قطّ. فبينا أنا أسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد خفقت برأسي من الهمّ ، إذ أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرّني أنّ لي بها الخلد أو الدنيا. ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلت : ما قال لي شيئا. فقال أبشر. فلمّا أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين حتى بلغ منها : (الأذلّ).

وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : سمعت عبد الله بن أبيّ يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حوله. وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فذكرت ذلك لعمّي فذكره لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحلفوا ما قالوا ، فصدّقهم وكذّبني ، فأصابني همّ ، فأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) (٢) ، فأرسل إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [٤٤ ب] فقرأها عليّ ، وقال :

__________________

(١) سقطت من الأصل وأثبتناها من ع.

(٢) سورة المنافقون : من الآية ١.

٢٦٦

إنّ الله قد صدّقك يا زيد. أخرجه خ (١).

وقال أنس بن مالك : زيد بن أرقم هو الّذي يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا الّذي أوفى الله له بأذنه». أخرجه خ ، من حديث عبد الله بن الفضل ، عن أنس (٢).

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم من سفر ، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الرّاكب. فزعم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثت هذه الريح لموت منافق. قال : فقدم المدينة فإذا منافق عظيم مات. أخرجه مسلم (٣).

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة (٤) قال : فلما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق عمان سرحوا ظهورهم (٥) ، وأخذتهم ريح شديدة ، حتى أشفق النّاس منها ، وقيل : يا رسول الله ما شأن هذه الريح؟ فقال : مات اليوم منافق عظيم النّفاق ، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم منها بأس إن شاء الله ، وذلك في قصّة بني المصطلق.

وقال يونس ، عن ابن إسحاق (٦) ، عن شيوخه الذين روى عنهم قصّة بني المصطلق قالوا : فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كان ببقعاء (٧) من

__________________

(١) ، (٢) صحيح البخاري ٦ / ٦٥ كتاب التفسير ، سورة «المنافقون» وانظر تاريخ الطبري ٢ / ٦٠٨ ، وفي تفسير ابن كثير ٢٨ / ٧٠ ، ٧١.

(٣) صحيح مسلم (٢٧٨٢) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٤) المغازي لعروة ١٩٠.

(٥) في طبعة القدسي ٢٤١ ، وطبعة شعيرة ٢٣٦ «ظهرهم» والتصويب من المغازي.

(٦) سيرة ابن هشام ٤ / ٧.

(٧) بقعاء : موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة خرج إليه أبو بكر لتجهيز المسلمين لقتال أهل الرّدّة. وقال الواقدي : هو ذو القصّة. وهي الآن قرية من قرى جبل شمر المعروف قديما باسم جبلي طيِّئ وتقع شرقي حائل في شمال نجد. (من تعليقات الشيخ حمد الجاسر على المغانم المطابة ص ٦١) وانظر معجم البلدان ١ / ٤٧١.

٢٦٧

أرض الحجاز دون البقيع هبّت ريح شديدة فخافها النّاس. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تخافوا فإنّها هبّت لموت عظيم من عظماء الكفر. فوجدوا رفاعة بن زيد بن التّابوت قد مات يومئذ ، وكان من بني قينقاع ، وكان قد أظهر الإسلام وكان كهفا للمنافقين.

وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : لما قدم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني المصطلق ، أتاه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ فقال : يا رسول الله بلغني أنّك تريد قتل أبيّ ، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالده منّي ، ولكنّي أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حيّا حتى أقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النّار. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل تحسن صحبته وتترفّق به ما صحبنا (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ٨.

٢٦٨

الإفك

«وكان في هذه الغزوة»

قال سليمان : ثنا حمّاد بن زيد ، عن معمر ، والنّعمان بن راشد ، عن الزّهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه. قالت : فأقرع بيننا في غزاة المريسيع ، فخرج سهمي. فهلك فيّ من هلك.

وكذلك قال ابن إسحاق (١) ، والواقديّ وغيرهما إنّ حديث الإفك كان في غزوة المريسيع.

وروي عن عبّاد بن عبد الله قال : قلت يا أمّاه حدّثيني حديثك في غزوة المريسيع.

قرأت على أبي محمد عبد الخالق بن عبد السلام ، ببعلبكّ ، أنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، أنا أبو الحسين عبد الحقّ اليوسفي ، أنا أبو سعد ابن خشيش ، أنا أبو عليّ الحسن بن أحمد ، أنا ميمون [٤٥ أ] بن إسحاق ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٠.

٢٦٩

ثنا أحمد بن عبد الجبّار ، ثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت :

لقد تحدّث بأمري في الإفك واستفيض فيه وما أشعر. وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أناس من أصحابه ، فسألوا جارية لي سوداء كانت تخدمني فقالوا : أخبرينا ما علمك بعائشة؟ فقالت : والله ما أعلم منها شيئا أعيب من أنّها ترقد ضحى حتى إنّ الدّاجن (١) داجن أهل البيت تأكل خميرها. فأداروها وسألوها حتى فطنت ، فقالت : سبحان الله ، والّذي نفسي بيده ما أعلم على عائشة إلّا ما يعلم الصّائغ على تبر الذّهب الأحمر. قالت : فكان هذا وما شعرت.

ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أمّا بعد ، فأشيروا عليّ في أناس أبنا (٢) أهلي ، وايم الله إن علمت على أهلي من سوء قطّ ، وأبنوهم بمن ، والله إن علمت عليه سوءا قطّ ، ولا دخل على أهلي إلّا وأنا شاهد ، ولا غبت في سفر إلّا غاب معي. فقال سعد ابن معاذ رضي‌الله‌عنه : أرى يا رسول الله أن تضرب أعناقهم. فقال رجل من الخزرج ـ وكانت أمّ حسّان من رهطه ، وكان حسّان من رهطه ـ : والله ما صدقت ، ولو كان من الأوس ما أشرت بهذا. فكاد يكون بين الأوس والخزرج شرّ في المسجد ، ولا علمت بشيء منه ، ولا ذكره لي ذاكر. حتى أمسيت من ذلك اليوم فخرجت في نسوة لحاجتنا ، وخرجت معنا أمّ مسطح ـ بنت خالة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ـ فإنّا لنمشي ونحن عامدون لحاجتنا ، عثرت أمّ مسطح فقالت : تعس مسطح. فقلت : أي أم ، أتسبّين ابنك؟ فلم

__________________

(١) الداجن : الشاة التي تأليف البيوت ولا تخرج إلى المرعى.

(٢) أبنوا : مخفّفة ، أي اتّهموا ، ورواها الأصيلي بالتشديد. وفي رواية القسطلاني «أنبوا» بتقديم النّون.

٢٧٠

تراجعني. فعادت فعثرت فقالت (١) : تعس مسطح. فقلت : أي أمّ أتسبيّن ابنك صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فلم تراجعني. ثم عثرت الثالثة فقالت : تعس مسطح. فقلت : أي أم ، أتسبيّن ابنك صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت : والله ما أسبّه إلّا من أجلك وفيك. فقلت : وفي أيّ شأني؟ قالت : وما علمت بما كان؟ فقلت : لا ، وما الّذي كان؟ قالت : أشهد أنّك مبرّأة ممّا قيل فيك. ثم بقرت (٢) لي الحديث ، فأكرّ راجعة إلى البيت ما أجد ممّا خرجت له قليلا ولا كثيرا. وركبتني الحمّى فحممت. فدخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألني عن شأني ، فقلت : أجدني موعوكة ، ائذن لي أذهب إلى أبويّ. فأذن لي ، وأرسل معي الغلام ، فقال : امش معها. فجئت فوجدت أمّي في البيت الأسفل ، ووجدت أبي يصلّي في العلوّ فقلت لها : أي أمه ، ما الّذي سمعت؟ فإذا هي لم ينزل بها من حيث نزل منّي ، فقالت : أي بنيّة وما عليك ، فما من امرأة لها ضرائر تكون جميلة يحبّها زوجها إلّا وهي يقال لها بعض ذلك. فقلت : وقد سمعه أبي؟ فقالت : نعم ، فقلت : وسمعه رسول الله صلّى الله عليه [٤٥ ب] وسلم؟ فقالت : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فبكيت ، فسمع أبي البكاء ، فقال : ما شأنها؟ قالت : سمعت الّذي تحدّث به. ففاضت عيناه يبكي ، فقال : أي بنيّة ، ارجعي إلى بيتك ، فرجعت ، وأصبح أبواي عندي ، حتى إذا صلّيت العصر دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا بين أبويّ ، أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد يا عائشة إن كنت ظلمت أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري ، فوعظني ، وبالباب امرأة من الأنصار قد سلّمت ، فهي جالسة بباب البيت في الحجرة ، وأنا أقول : ألا تستحي أن تذكر هذا ، والمرأة تسمع ، حتى إذا قضى كلامه قلت لأبي وغمزته : ألا

__________________

(١) في الأصل : «فعادت ثم عثرت فعادت تعس مسطح» والتصحيح من صحيح البخاري.

(٢) أي فتحت وكشفت.

٢٧١

تكلّمه؟ فقال : وما أقول له؟ والتفتّ إلى أميّ فقلت : ألا تكلّمينه؟ فقالت : وما ذا أقول له؟ فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت : أما بعد فو الله لئن قلت لكم أن قد فعلت والله يشهد أنّي لبريئة ما فعلت لتقولنّ قد باءت به على نفسها واعترفت به ، ولئن قلت لم أفعل والله يعلم أنّي لصادقة ما أنتم بمصدّقيّ. لقد دخل هذا في أنفسكم واستفاض فيكم ، وما أجد لي ولكم مثلا إلّا قول أبي يوسف العبد الصالح ، وما أعرف يومئذ اسمه : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١).

ونزل الوحي ساعة قضيت كلامي ، فعرفت والله البشر في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يتكلّم. فمسح جبهته وجبينه ثم قال : أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله عذرك. وتلا القرآن. فكنت أشدّ ما كنت غضبا ، فقال لي أبواي : قومي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إيّاكما ولكنّي أحمد الله الّذي برّأني. لقد سمعتم فما أنكرتم ولا جادلتم ولا خاصمتم.

فقال الرجل الّذي قيل له ما قيل ، حين بلغه نزول العذر : سبحان الله ، فو الّذي نفسي بيده ما كشفت قطّ كنف أنثى. وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر ينفق عليه ، فحلف لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا. فأنزل الله (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إلى قوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (٢). فقال أبو بكر : بلى والله يا ربّ ، إنّي أحبّ أن تغفر [لي] (٣) وفاضت عيناه فبكى ، رضي‌الله‌عنه.

وهذا [حديث] عال حسن الإسناد ، أخرجه البخاري تعليقا ، فقال :

__________________

(١) سورة يوسف ـ الآية ١٨.

(٢) سورة النور : من الآية ٢٢.

(٣) ليست في الأصل ، وزدناها من ابن الملا.

٢٧٢

وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عروة. فذكره (١).

وقال اللّيث ـ واللّفظ له ـ وابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة ، وابن المسيّب ، وعلقمة بن وقّاص ، وعبيد الله ابن عبد الله ، عن حديث عائشة ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرّأها الله ، وكلّ حدّثني بطائفة من الحديث ، وبعض حديثهم يصدّق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض. قالت :

كان رسول الله [٤٦ أ] صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه ، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما نزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار (٢) قد انقطع ، فالتمسته ، وحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحلون (٣) لي واحتملوا هودجي ، فرحّلوه على بعيري الّذي كنت ركبت. وهم يحسبون أنّي فيه. وكان النّساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللّحم ، إنّما يأكلن العلقة (٤) من الطعام. فلم يستنكروا خفّة الهودج حين رفعوه. وكنت جارية حديثة السّنّ. فبعثوا الجمل وساروا. فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. فأممت منزلي الّذي كنت فيه ، وظننت أنّهم

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة النور حديث أبي أسامة عن هشام ـ باب : إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا .. ج ٦ / ١١ ـ ١٣.

(٢) جزع ظفار : الجزع خرز يماني. وظفار مبنيّة على الكسر ، مدينة باليمن قرب صنعاء ، وقيل هي صنعاء نفسها. قال ياقوت : ولعلّ هذا كان قديما ، فأما ظفار المشهورة اليوم فليست إلّا مدينة على ساحل بحر الهند (معجم البلدان ٤ / ٦٠).

(٣) هكذا في سيرة ابن هشام ٤ / ١٠ وفي تاريخ الطبري ٢ / ٦١٢ «يرجّلون».

(٤) العلقة : ما يتبلّغ به من الطعام.

٢٧٣

سيفقدونني فيرجعون إليّ ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان ابن المعطّل السّلميّ ثم الذّكواني من وراء الجيش. فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفت ، فخمّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. فأناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي [الراحلة] (١) حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظّهيرة. فهلك من هلك. وكان الّذي تولّى الإفك عبد الله بن أبيّ بن سلول. فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والنّاس يفيضون في (٢) قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك. وهو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللّطف الّذي كنت أرى منه حين أشتكى. إنّما يدخل عليّ فيسلّم ثم يقول : كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الّذي يريبني ولا أشعر بالشّرّ ، حتى خرجت يوما بعد ما نقهت. فخرجت مع أمّ مسطح قبل المناصع (٣) ، وهو متبرّزنا ، وكنّا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرّز قبل الغائط ، وكنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأمّ مسطح قبل بيتي ، قد فرغنا من شأننا ، فعثرت أمّ مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح. فقلت لها : بئس ما قلت : أتسبّين رجلا شهد بدرا؟ قالت : أي هنتاه (٤) ، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت :

وما ذا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فسلّم] (٥) ثم قال : [٤٦ ب]

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع والبخاري ٦ / ٦.

(٢) في الأصل : (من) والتصحيح من ع والبخاري ٦ / ٦.

(٣) المناصع : جمع منصع وهو الموضع الّذي يتخلّى فيه لقضاء الحاجة.

(٤) أي هنتاه : يقال يا هنتاه في النّداء للأنثى من غير تصريح بالاسم كيا هذه.

(٥) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع. وفي صحيح البخاري «تعني سلّم ثم قال» ٦ / ٧.

٢٧٤

كيف تيكم؟ فقلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي ، فجئت أبويّ فقلت لأمّي : يا أمتاه ما يتحدّث النّاس؟ قالت : يا بنيّة هوّني عليك ، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها لها ضرائر ، إلّا كثّرن عليها. فقلت : سبحان الله ، ولقد تحدّث النّاس بهذا؟ فبكيت الليلة حتى لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يستأمرهما في فراق أهله. فأمّا أسامة فأشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ ، فقال أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلّا خيرا. وأمّا عليّ فقال : يا رسول الله لم يضيّق الله عليك ، والنّساء سواها كثير ، واسأل الجارية (١) تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت : لا والّذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمرا أغمصه (٢) عليها أكثر من أنّها جارية حديثة السّنّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الدّاجن فتأكله. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول ، فقال وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني (٣) أذاه في أهل بيتي ، فو الله ما علمت في أهلي إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي. فقام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج ـ وكان قبل ذلك رجلا صالحا ـ ولكن احتملته الحميّة ، فقال :

__________________

(١) في صحيح البخاري ٦ / ٥ «وإن تسأل الجارية».

(٢) أغمصه : أعيبه.

(٣) في الأصل : بلغنا. وأثبتنا عبارة ع. وصحيح البخاري ٦ / ٧.

٢٧٥

كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد بن معاذ فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، فتثاور الحيّان : الأوس والخزرج ، حتى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا وسكت.

قالت : فبكيت (١) يومي ذلك وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع ، حتى ظننت (٢) أنّ البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فجلست تبكي معي. فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّم ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل [ما قيل قبلها (٣)] ولقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت : فتشهّد حين جلس ثم قال : أمّا بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله [٤٧ أ] وتوبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. قالت : فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة. فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال. قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمّي : أجيبي رسول الله. قالت : ما أدري ما أقول له. فقلت وأنا يومئذ حديثة السّنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن : إنّي والله لقد علمت لقد سمعتم (٤) هذا الحديث حتى (٥) استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به ، فلئن قلت لكم إنّي بريئة ، والله يعلم أنّي بريئة ، لا تصدّقوني بذلك ، ولئن اعترفت

__________________

(١) في صحيح البخاري ٦ / ٨ «فمكثت».

(٢) في هامش الأصل : يظنّان ، خ ، أي في نسخة ، ولعلّه يقصد البخاري ، وهي لفظه ٦ / ٨.

(٣) ليست عليه‌السلام ، وأثبتناها من ع والبخاري ٦ / ٨.

(٤) في الأصل : سمعت. والتصحيح من صحيح البخاري ٦ / ٨.

(٥) في طبعة القدسي ٢٥٠ «حق» والتصحيح من صحيح البخاري ٦ / ٨.

٢٧٦

لكم بأمر والله يعلم أنّي بريئة لتصدّقنّي ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا قول أبي يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١) ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي ، وأنا أعلم أنّي بريئة وأنّ [الله] (٢) يبرّئني ببراءتي. ولكن والله ما ظننت أنّ الله منزّل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني كان في نفسي (٣) أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النّوم رؤيا يبرّئني الله بها. قالت : فو الله ما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان (٤) من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل القول الّذي ينزل عليه. فلما سرّي عنه وهو يضحك كان أول كلمة تكلّم بها : يا عائشة أما والله لقد برّأك الله. فقالت أمّي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلّا الله. وأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العشر الآيات كلّها (٥).

فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره ـ : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الّذي قال لعائشة. فأنزلت (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ، فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (٦) قال أبو بكر : بلى والله إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النّفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. قالت :

__________________

(١) سورة يوسف ـ الآية ١٨.

(٢) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع والبخاري ٦ / ٨.

(٣) في صحيح البخاري «ولشأني في نفسي كان» ٦ / ٩.

(٤) الجمان : الفضّة.

(٥) سورة النور : الآيات ١١ ـ ٢١.

(٦) سورة النور : من الآية ٢٢.

٢٧٧

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقالت : أحمي سمعي وبصري ما علمت إلّا خيرا. وهي التي كانت تساميني (١) من أزواج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. متّفق عليه من حديث يونس الأيلي (٢).

وقال أبو معشر : حدّثني أفلح بن عبد الله بن المغيرة ، عن الزّهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك فذكر الحديث بطوله عن الأربعة عن عائشة ، فقال الوليد : وما ذاك؟ قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا غزوة بني المصطلق فساهم بين نسائه ، فخرج سهمي وسهم أمّ سلمة.

وقال عبد الرّزّاق : أنا معمر ، عن الزّهري قال : كنت عند الوليد بن [٤٧ ب] عبد الملك فقال : الّذي تولّى كبره منهم عليّ. فقلت : لا. حدّثني سعيد ، وعروة ، وعلقمة ، وعبيد الله كلّهم سمع عائشة تقول : الّذي تولّى كبره عبد الله بن أبيّ. قال فقال لي : فما كان جرمه؟ قلت : سبحان الله ، [أخبرني رجلان (٣)] من قومك : أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنّهما سمعا عائشة تقول : كان مسلّما (٤) في أمري. أخرجه البخاري (٥).

__________________

(١) تساميني : تفاخرني وتضاهيني.

(٢) صحيح البخاري : كتاب التفسير : سورة النور ، باب (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) إلخ ٦ / ٥ ـ ٩ وصحيح مسلم (٢٧٧٠) كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.

والأيلي : هو يونس بن يزيد الأموي ، مولاهم أبو يزيد الأيلي. (بفتح الهمزة وسكون التحتانية.) تهذيب التهذيب ١١ / ٤٥٠.

(٣) إضافة من صحيح البخاري ٥ / ٦٠ كتاب المغازي ـ باب حديث الإفك.

(٤) في الأصل ، ع : مسيئا ، وأثبتنا نصّ صحيح البخاري ٥ / ٦٠.

(٥) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب حديث الإفك (٥ / ٦٠).

٢٧٨

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القصّة التي نزل ، بها عذري على النّاس ، نزل فأمر برجلين وامرأة ممّن كان تكلّم بالفاحشة في عائشة فجلدوا الحدّ. قال : وكان رماها ابن أبيّ ، ومسطح ، وحسّان ، وحمنة بنت جحش (١).

وقال شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضّحى ، عن مسروق قال : دخل حسّان بن ثابت على عائشة رضي‌الله‌عنها فشبّب بأبيات له :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (٢)

قالت : لست كذلك.

قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) ، قالت : وأيّ عذاب أشدّ من العمى؟ وقالت : كان يردّ على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. متّفق عليه (٤).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، حدّثني محمد بن إبراهيم التّيمي قال : وكان صفوان بن المعطّل قد كثّر عليه حسّان في شأن عائشة ، وقال يعرّض به :

أمسى الجلابيب قد عزّوا (٥) وقد كثروا

وابن الفريعة أمسى بيضة البلد (٦)

 __________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٢.

(٢) ديوانه : ص ٣٢٤ ، وما تزنّ : أي ما تتّهم. وانظر : سيرة ابن هشام ٤ / ١٤ وصحيح البخاري ٥ / ٦١ والبداية والنهاية ٣ / ١٦٤.

(٣) سورة النور : من الآية ١١.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب حديث الإفك (٥ / ٦١).

(٥) في طبعة القدسي ٢٥٤ «غروا» والتصويب من سيرة ابن هشام ٤ / ١٣ وتاريخ الطبري ٢ / ٦١٨ ، وديوان حسان ١٠٤.

(٦) قال السهيليّ في الروض الأنف : «الجلابيب : الغرباء ، وبيضة البلد ، يعني منفردا ، وهو كلمة

٢٧٩

فاعترضه صفوان ليلة وهو آت من عند أخواله بني ساعدة ، فضربه بالسيف على رأسه ، فيغدو عليه ثابت بن قيس فجمع يديه إلى عنقه بحبل أسود وقاده إلى دار بني حارثة (١) ، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال : ما هذا :؟ فقال : ما أعجبك! عدا على حسّان بالسّيف ، فو الله ما أراه إلّا قد قتله. فقال : هل علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما صنعت به؟ فقال : لا. فقال : والله لقد اجترأت ، خلّ سبيله. فلمّا أصبحوا غدوا على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكروا له ذلك فقال : أين ابن المعطّل؟ فقام إليه ، فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، فقال : ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال : آذاني وكثّر عليّ ولم يرض حتى عرّض بي في الهجاء ، فاحتملني الغضب ، وها أنا ذا ، فما كان عليّ من حقّ فخذني به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادعوا لي حسّان ، فأتي به ، فقال : يا حسّان : أتشوّهت (٢) على قومي أن هداهم الله للإسلام ، يقول : تنفّست عليهم يا حسّان ، أحسن فيما أصابك. فقال : هي لك يا رسول الله. فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيرين القبطيّة. فولدت له عبد الرحمن ، وأعطاه أرضا كانت لأبي طلحة تصدّق بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وحدّثني يعقوب بن عتبة ، أنّ صفوان قال حين ضربه :

[٤٨ أ] تلقّ ذباب السّيف عنّي (٤) فإنّني

غلام إذا هوجيت لست بشاعر

 __________________

= يتكلم بها في المدح تارة وفي معنى القلّ أخرى ، يقال : فلان بيضة البلد أي أنه واحد في قومه ، عظيم فيهم ، وفلان بيضة البلد ، يريد : أنه ذليل ليس معه أحد» (٤ / ٢١).

(١) في الأصل : بني جارية ، والتصحيح من ع وهم بنو الحارث بن الخزرج. كما جاء في ابن هشام ٤ / ١٣.

(٢) أتشوّهت على قومي : أي أقبحت ذلك من فعلهم حين سمّيتهم الجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله ورسوله.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٣ ، ١٤ تاريخ الطبري ٢ / ٦١٨ ، ٦١٩.

(٤) في الأصل ، «عنك» والمثبت عن هامش الأصل ، وتاريخ الطبري ٢ / ٦١٨ وفي سيرة ابن هشام ٤ / ١٣ «تلقى» وفي طبعة شعيرة ٢٤٧ «لا تلقّ».

٢٨٠