تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

فرضة (١) الشّعب يقول : السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وكان يفعله أبو بكر ثم عمر بعده ثم عثمان.

وذكر نحو هذا الحديث الواقدي في مغازيه بلند سند (٢).

وقال أبو حسّان الزّيادي : ومات في شوّال يوم جمعة عمرو بن مالك الأنصاريّ أحد بني النّجّار ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد فصلّى عليه في موضع الجبّان (٣). وكان أوّل من فعل به ذلك.

__________________

(١) في ع : فرصة بالصاد. وفرضة الشعب مشرعته. أو الطريق الشارع إليه. وهي رواية ابن الملا. ورواية الواقدي «تفوه الشعب» بمعنى دخل في أوله.

(٢) الواقدي : المغازي (١ / ٣١٢).

(٣) الجبّان : المقبرة.

٢٢١
٢٢٢

غزوة حمراء الأسد (١)

قال ابن إسحاق (٢) : فلمّا كان الغد من يوم أحد ، يعني صبيحة وقعة أحد (٣) أذّن مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النّاس لطلب العدوّ (٤) ، وأذّن مؤذّنه : لا يخرج معنا أحد إلّا أحد حضر يومنا بالأمس. وإنّما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرهبا للعدوّ (٥) ليبلغهم أنّه قد خرج في أثرهم وليظنّوا به قوّة.

وقال ابن لهيعة : ثنا أبو الأسود ، عن عروة (٦) قال : قدم رجل فاستخبره النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبي سفيان. فقال : نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ، يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا ، أصبتم شوكة القوم وحدهم ، ثم تركتموهم ولم تبيدوهم ، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ـ وبهم أشدّ القرح ـ بطلب العدوّ ، وليسمعوا بذلك. قال : لا ينطلقنّ معي إلّا من شهد القتال. فقال عبد الله بن أبيّ : أركب معك؟

__________________

(١) هي من المدينة على ثمانية أميال. (طبقات ابن سعد ٢ / ٤٩).

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٣ ، ١٧٤.

(٣) وذلك يوم الأحد لست عشرة خلت من شوّال. (تاريخ خليفة ٧٣) وفي طبقات ابن سعد ٢ / ٤٨ : «يوم الأحد لثماني ليال خلون من شوّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره».

(٤) ، (٥) في ع : الغزو ـ للغزو ، والتصحيح من مختصر ابن الملّا ، وتاريخ الطبري ٢ / ٥٣٤.

(٦) المغازي لعروة ١٧٤.

٢٢٣

قال : لا. فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء. فانطلقوا ، فطلبهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ حمراء الأسد.

وقال ابن إسحاق (١) : حدّثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السّائب مولى عائشة بنت عثمان ، أنّ رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني عبد الأشهل قال : شهدت أحدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج في طلب العدوّ ، قلت لأخي وقال لي : تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وو الله ما لنا من دابّة نركبها وما منّا إلّا جريح ، فخرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنت أيسر جراحة منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة (٢) ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون (٣). فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها ثلاثا ثم رجع (٤).

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : يا ابن أختي كان أبوك (٥) تعني الزّبير ـ وأبا بكر ـ من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. قال : لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما أصابهم ، خاف أن يرجعوا فقال : من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أنّ بنا قوّة؟ قال : فانتدب أبو بكر والزّبير في سبعين خرجوا في آثار القوم ، فسمعوا بهم. وانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. قال : لم يلقوا عدوّا. أخرجاه (٦).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٤ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٣٤ ، ٥٣٥.

(٢) العقبة : النوبة.

(٣) نهاية الأرب للنويري ١٧ / ١٢٧.

(٤) أي : الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة. (السيرة والطبري).

(٥) رواية ابن الملّا : «كان أبوك» وهي هكذا في صحيح مسلم (٢٤١٨) وفي رواية للبخاريّ.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي : باب الذين استجابوا لله والرسول (٥ / ١٣٠) ، وصحيح

٢٢٤

وقال ابن إسحاق (١) حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنّ معبدا الخزاعيّ مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحمراء الأسد. وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح (٢) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، صغوهم (٣) معه لا يخفون عليه شيئا كان بها. ومعبد يومئذ مشرك. فقال : يا محمد ، والله لقد عزّ علينا ما أصابك ، في أصحابك ولوددنا أنّ الله عافاك فيهم. ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالرّوحاء ، وقد أجمعوا الرّجعة وقالوا : أصبنا حدّ أصحاب محمد وقادتهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكون على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك؟ قال : محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قطّ ، يتحرّقون عليكم تحرّقا ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قطّ. قال : ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال : فو الله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم. قال : فإنّي أنهاك (٤) عن ذلك ، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا. قال : وما قلت؟ قال :

كادت تهدّ (٥) من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (٦)

 __________________

= مسلم (٢٤١٨) كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل طلحة والزبير رضي‌الله‌عنهم.

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٤.

(٢) العيبة : ما يجعل فيه الثياب والمتاع. ومن المستعار : هو عيبة فلان إذا كان موضع سرّه.

(٣) الصّغو : الميل. ومنه أصغى إليه أي مال إليه بسمعه. وتروى في بعض المصادر : صفقتهم معه ، أي اتفاقهم. (انظر : سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٤ تاريخ الطبري ٢ / ٥٣٤).

(٤) في ع : فأنهى. وأثبتناه عبارة ابن الملا وهي مطابقة لما ورد في ابن هشام ٣ / ١٧٤ وتاريخ الطبري ٢ / ٥٣٥.

(٥) في ع : تهدي. والتصحيح من ابن الملا ، وهي رواية ابن هشام والطبري ، والأغاني.

(٦) الجرد : جمع أجرد ، وهو الفرس القصير الشّعر. والأبابيل : الفرق الكثيرة.

٢٢٥

تردي (١) بأسد كرام لا تنابلة (٢)

عند اللقاء ، ولا ميل (٣) معازيل (٤)

 فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة

لمّا سموا برئيس غير مخذول

فقلت : ويل ابن حرب من لقائكم

إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (٥)

 إنّي نذرت (٦) لأهل البسل ضاحية

لكلّ ذي إربة منهم ومعقول (٧)

 من جيش أحمد ، لاوخش (٨) تنابله (٩)

وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (١٠)

قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومرّ ركب من عبد القيس ، فقال أبو سفيان. أين تريدون؟ قالوا : المدينة ، لنمتار. فقال : أما أنتم مبلغون عنّي محمدا رسالة ، وأحمّلكم على إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتموه (١١)؟ قالوا : نعم. قال : إذا جئتم محمدا فأخبروه أنّا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم. فلما مرّ الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بحمراء الأسد أخبروه (١٢). فقال هو والمسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل. فأنزلت

__________________

(١) في ع : ترمي. والتصحيح من ابن هشام والطبري. وتردي : أي تسرع.

(٢) تنابلة : جمع تنبال وتنبالة ، وهو القصير.

(٣) عند الطبري ٢ / ٥٣٦ «خرق».

(٤) الميل : جمع أميل ، وهو الجبان أو الّذي لا سيف معه. والمعازيل : جمع معزال وهو من لا رمح معه.

(٥) تغطمطت : اضطربت البطحاء : السهل من الأرض. الجيل : الصّنف من النّاس أو الأمّة.

وفي سيرة ابن هشام (بالخيل).

(٦) كذا في الأصل ، وعند ابن هشام والطبري «نذير».

(٧) البسل : الحرام. ورواية الأغاني «السيل» وكلاهما يعني مكة. والإربة : العقل.

(٨) الوخش : رذالة الناس.

(٩) عند الطبري «قنابله».

(١٠) هذا البيت ليس عند ابن هشام.

(١١) في ع : (وافيتموهم) وأثبتنا عبارة ابن الملا ، وعند ابن هشام ٣ / ١٧٤ «وافيتموها» وكذا عند الطبري.

(١٢) في ع : وعند ابن هشام والطبري : فأخبروه. وأثبتنا عبارة ابن الملا.

٢٢٦

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (١) الآيات.

وقال البكّائي : قال ابن إسحاق (٢) : وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول ، كما حدّثني الزّهري ، له مقام يقومه كلّ جمعة لا يتركه شرفا له في نفسه وفي قومه. فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال : أيّها النّاس هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزّكم به. فعزّروه وانصروه واسمعوا له وأطيعوه. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع ، قام يفعل كفعله ، فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه ، وقالوا : اجلس أي عدوّ الله ، لست لذلك بأهل ، وقد صنعت ما صنعت ، فخرج يتخطّى رقاب النّاس ويقول : والله لكأنّي قلت بجرا (٣) أن قمت أشدّ أمره : فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال : مالك؟ ويلك! قال : قمت أشدّ أمره فوثب عليّ رجال من أصحابه يجبذونني (٤) ويعنّفونني ، لكأنّما قلت بجرا (٥). قال : ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : والله ما أبغي (٦) أن يستغفر لي.

وقال الواقدي : ثنا إبراهيم بن جعفر ، عن أبيه. وثنا سعيد بن محمد ابن أبي زيد ، ثنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد ، قالوا : كان سويد بن

__________________

(١) سورة آل عمران : من الآية ١٧٣.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٥.

(٣) في طبعة القدسي ٢٠٥ «هجرا» والتصحيح من سيرة ابن هشام ٣ / ١٧٥ قال السهيليّ في الروض الأنف ٣ / ١٨١ : البجر : الأمر العظيم ، والبجاري : الدواهي. انظر تاج العروس ١٠ / ١٠٦.

(٤) يجبذونني : يجذبونني.

(٥) انظر الحاشية الأسبق.

(٦) في السيرة «ابتغي».

٢٢٧

الصّامت قد قتل زيادا ، فقتله المجذّر بن زياد ، فهيّج بقتله وقعة بعاث (١). فلما قدم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أسلم المجذّر ، والحارث بن سويد بن الصّامت ، فشهدا بدرا. فجعل الحارث يطلب مجذّرا ليقتله بأبيه. فلما كان يوم أحد أتاه من خلفه فقتله.

فلما رجع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حمراء الأسد أتاه جبريل عليه‌السلام فأخبره بأنّه قتل مجذّرا. فركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قباء ، فأتاه الحارث بن سويد في ملحفة مورّسة. فلما رآه دعا عويم بن ساعدة (٢) وقال : اضرب عنق الحارث بمجذّر ابن ذياد. فقال : والله ما قتلته رجوعا عن الإسلام ولكن حميّة ، وإنّي أتوب إلى الله وأخرج ديته وأصوم وأعتق. وجعل يتمسّك بركاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن فرغ من كلامه. فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قدّمه يا عويم فاضرب عنقه. فضرب عنقه على باب المسجد.

__________________

(١) بعاث : موضع في نواحي المدينة كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية.

(٢) بدريّ كبير شهد العقبتين. توفي في خلافة عمر بن الخطاب وهو ابن ٦٥ سنة. انظر : مسند أحمد ٣ / ٤٢٢ ، الطبقات لابن سعد ٣ / ٢ / ٣٠ ، التاريخ الصغير ١ / ٤٤ و ٧٤ ، مشاهير علماء الأمصار ، رقم ١٠٧ ، حلية الأولياء ٢ / ١١ الاستيعاب ٩ / ٩٥ ، أسد الغابة ٤ / ٣١٥ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ / ٤١ ، تهذيب الكمال ٢ / ١٠٦٨ سير أعلام النبلاء ١ / ٥٠٣ الإصابة ٣ / ١٨١.

٢٢٨

السّنة الرابعة

«سريّة أبي سلمة إلى قطن في أوّلها»

قال الواقديّ (١) : حدّثنا عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعيّ ، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد ، وغيره قالوا : شهد أبو سلمة أحدا ، وكان نازلا في بني أميّة بن زيد بالعالية ، حتى تحوّل من قباء فجرح بأحد ، وأقام شهرا يداوي جرحه. فلما كان هلال المحرّم دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : اخرج في هذه السّريّة فقد استعملتك عليها : وعقد له لواء وقال : سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم. وكان معه خمسون ومائة ، فساروا حتى انتهوا إلى أدنى قطن ـ ماء من مياههم (٢) ، فيجدون سرحا لبني أسد ، فأغاروا عليه وأخذوا مماليك ثلاثة ، وأفلت سائرهم. ثم رجع إلى المدينة فغاب بضع عشرة ليلة (٣).

قال عمرو بن عثمان : فحدّثني عبد الملك بن عمير (٤) ، قال : لما

__________________

(١) المغازي ١ / ٣٤٠.

(٢) يعني من مياه بني أسد. وقطن : ماء ، ويقال جبل من أرض بني أسد بناحية فيد (ياقوت).

(٣) انظر الطبقات الكبرى ٢ / ٥٠ وعيون الأثر ٢ / ٣٨ ، ٣٩.

(٤) في ع : عبيد. والتصحيح من تهذيب التهذيب (٦ / ٤١١) ومغازي الواقدي (١ / ٣٤٣).

٢٢٩

دخل أبو سلمة المدينة انتقض جرحه ، فمات لثلاث بقين من جمادى الآخرة (١).

غزوة الرّجيع (٢)

وهي في صفر من السّنة الرابعة ، فيما ورّخه الواقدي (٣). وقال : هي على سبعة أميال من عسفان.

فحدّثني موسى بن يعقوب ، عن أبي الأسود قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب الرّجيع عيونا إلى مكة ليخبروه (٤).

قال إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، أخبرني ابن أسيد بن جارية الثّقفي ، أنّ أبا هريرة قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة رهط عينا ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّ ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة ، بين عسفان ومكة ذكروا لحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام. فاقتصّوا آثارهم ، حتى وجدوا مأكلهم التّمر ، فقالوا ، نوى يثرب ، فاتّبعوا آثارهم. فلما أحسّ بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد (٥) فأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : انزلوا ـ فأعطوا بأيديكم ، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا. قال عاصم : أما أنا فو الله لا أنزل في ذمّة مشرك ، اللهمّ أخبر عنّا نبيّك. فرموهم بالنّبل ، فقتلوا عاصما في سبعة

__________________

(١) المغازي للواقدي ١ / ٣٤٠.

(٢) الرجيع : ماء لهذيل قرب الهداة أو الهدة ، قيل بين عسفان ومكة ، وقيل بين مكة والطائف.

(٣) المغازي ٣٥٤.

(٤) المغازي لعروة ١٧٥.

(٥) في ع : قردد. تصحيف ، والتصحيح من صحيح البخاري. والفدفد : الأرض المرتفعة ذات الحصى.

٢٣٠

من أصحابه ، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق : خبيب ، وزيد بن الدّثنة (١) ، وآخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث : هذا أوّل الغدر ، والله لا أصحبكم إنّ لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى. فجرّوه وعالجوه ، فأبى أن يصحبهم ، فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب ، وزيد ، حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا. وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر. فلبث عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله ، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحدّ بها للقتل فأعارته. فدرج بنيّ لها وهي غافلة حتى أتاه ، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ، ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك ، فقالت : والله ما رأيت أسيرا قطّ خيرا من خبيب ، والله لقد وجدته يكل قطفا من عنب وإنّه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة ، وكانت تقول : إنّه لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلّ قال لهم : دعوني أركع ركعتين. فتركوه فركع ركعتين ، ثم قال : والله لو لا أن تحسبوا أنّ ما بي جزع من القتل لزدت ، اللهمّ أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا (٢) ، وقال :

فلست أبالي حين أقتل مسلما

على أيّ جنب كان في الله مصرعي

 وذلك في ذات الإله ، وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزّع (٣)

 ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.

__________________

(١) الدّثنة : ضبط في المواهب اللدنية : بفتح الدال وكسر الثاء مع فتح النون ، المشدّدة ، وزاد البرهان : وقد تسكّن الثاء ، وضبط صاحب القاموس بكسر الثاء مع فتح النون المخفّفة.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٦ ، المغازي لعروة ١٧٥ ـ ١٧٧ ، عيون الأثر ٢ / ٤٠ ، ٤١.

(٣) البيتان في عيون الأثر ٢ / ٤١ والبداية والنهاية ٤ / ٦٣ ، وانظر : سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٧ ، ونهاية الأرب للنويري ١٧ / ١٣٦ ، ١٣٧ والمغازي لعروة ١٧٧.

٢٣١

وكان خبيب هو سنّ لكلّ مسلم قتل صبرا ، الصّلاة.

واستجاب الله لعاصم يوم أصيب ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت ليأتوا منه بشيء يعرف ، وكان قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله على عاصم مثل الظّلّة من الدّبر (١) ، فحمته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا. أخرجه البخاري (٢).

وقال موسى بن عقبة ، وغير واحد : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاصم بن ثابت وأصحابه عينا له ، فسلكوا النّجديّة ، حتى إذا كانوا بالرّجيع ، فذكروا القصّة (٣).

قال موسى : ويقال : كان أصحاب الرّجيع ستّة منهم : عاصم ، وخبيب ، وزيد بن الدّثنة ، وعبد الله بن طارق ـ حليف لبني ظفر ـ وخالد بن البكير اللّيثي ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ، حليف حمزة. وساق حديثهم (٤).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة : أنّ نفرا من عضل والقارة (٥) قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة بعد أحد فقالوا : إنّ فينا إسلاما ، فابعث معنا نفرا من أصحابك ليفقّهونا في الدّين ويقرئونا القرآن ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم خبيب بن عديّ (٦).

__________________

(١) الدّبر : جماعة النّحل. ويقال : الزنابير ونحوهما مما سلاحها في أدبارها. (تاج العروس ١١ / ٢٥٣).

(٢) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الرّجيع إلخ. (٥ / ٤٠ ، ٤١).

(٣) المغازي لعروة ١٧٥ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٦ / ١٩٩ ، فتح الباري ٧ / ٣٨٤.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٤ ، المغازي للواقدي ١ / ٣٥٤ ، ٣٥٥.

(٥) عضل والقارة ، حيّان من الهون بن خزيمة بن مدركة.

(٦) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٤.

٢٣٢

قال ابن إسحاق : بعث معهم ستّة ، أمّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، (١) وسمّاهم كما قال موسى.

قال ابن إسحاق : فخرجوا مع القوم ، حتى إذا كانوا على الرّجيع ـ ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدأة (٢) ـ ، غدروا بهم. فاستصرخوا عليهم هذيلا ، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلّا الرجال بأيديهم السيوف ، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا لهم : ما نريد قتلكم ولكنّا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم علينا عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. فأمّا مرثد ، وعاصم ، وابن البكير فقالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد ، لئن قدرت على عاصم لتشربنّ في قحفه الخمر ، فمنعته الدّبر ، فانتظروا ذهابها عنه ، فأرسل الله الوادي فحمل عاصما فذهب به (٣).

وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسّه مشرك ولا يمسّ مشركا أبدا تنجّسا. وأسروا خبيبا ، وابن الدّثنة ، وعبد الله بن طارق ، ثم مضوا بهم إلى مكّة ليبيعوهم. حتى إذا كانوا بالظّهران انتزاع (٤) عبد الله يده من القران (٥) ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم ، فرموه (٦) بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره بالظّهران (٧).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٤.

(٢) في ع : الهدء ، وانظر ما تقدّم.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، الأغاني ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

(٤) في ع : أن تزع. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري (٢ / ٥٣٩) وابن الملّا.

(٥) في ع : القراب. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري. وعبارة ابن الملّا : الوثاق.

(٦) في ع : فرموا. والتصحيح من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.

(٧) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٣٩.

٢٣٣

وقال البكّائيّ ، عن ابن إسحاق (١) ، حدّثني يحيي ، عن أبيه عبّاد بن عبد الله بن الزّبير ، عن عقبة بن الحارث ، سمعته يقول : ما أنا والله قتلت خبيبا ، لأنا كنت أصغر من ذلك ، ولكنّ أبا ميسرة أخا بني عبد الدّار أخذ الحربة فجعلها في يدي ، ثم أخذ بيدي وبالحربة ، ثم طعنه بها حتى قتله.

ثم ذكر ابن إسحاق أنّ خبيبا قال :

لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا

قبائلهم واستجمعوا كلّ مجمّع

 فكلّهم (٢) مبدي العداوة جاهد (٣)

عليّ لأنّي في وثاق مضيع (٤)

 وقد جمعوا (٥) أبناءهم ونساءهم

وقرّبت من جذع طويل ممنّع

 إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي

وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

 إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي

فقد بضّعوا لحمي وقد ياس (٨)

 فذا العرش صبّرني (٦) على ما يرادني (٧)

فقد بضعوا لحمي وقد ياس (٨) مطمعي

 وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزّع

 وقد خيروني الكفر والموت دونه

وقد هملت عيناي من غير مجزع (٩)

 وما بي حذار الموت ، إنّي لميّت

ولكن حذاري جحم نار ببلقع (١٠)

 __________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٢٦ ، تاريخ خليفة ٧٥.

(٢) في سيرة ابن هشام ، ونهاية الأرب ١٧ / ١٣٦ «وكلّهم».

(٣) في نهاية الأرب «جاهدا».

(٤) في السيرة «بمصيع» وفي نهاية الأرب «بمضيع».

(٥) وفي نهاية الأرب «قرّبوا».

(٦) في ع : صبري. والتصحيح من ابن الملا وابن هشام والنويري.

(٧) في نهاية الأرب «على ما أصابني».

(٨) لغة في (يئس). وفي نهاية الأرب «ضلّ» وفي المغازي لعروة «بان».

(٩) البيت في نهاية الأرب :

وقد عرّضوا بالكفر والموت دونه

وقد ذرفت عيناي من غير مدمع

(١٠) في نهاية الأرب : ولكن حذاري حرّ نار تلفع.

٢٣٤

ووالله ما أرجو إذا متّ مسلما

على أيّ جنب كان في الله مصرعي (١)

 فلست بمبد للعدوّ تخشّعا

ولا جزعا إنّي إلى الله مرجعي

وقال يونس بن بكير ، وجعفر بن عون ، عن إبراهيم بن إسماعيل ، حدّثني جعفر بن عمرو بن أميّة أنّ أباه حدّثه عن جدّه ، وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه عينا ، قال : فجئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوّف العيون ، فأطلقته فوقع بالأرض ، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ، ثم التفتّ فلم أر خبيبا ، فكأنّما ابتلعته الأرض.

زاد جعفر بن عون : فلم يذكر لخبيب رضي‌الله‌عنه رمّة حتى السّاعة (٢).

غزوة بئر معونة (٣)

قال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب بئر معونة (٤) في صفر ، على رأس أربعة أشهر من أحد (٥).

__________________

(١) يرد هذا البيت بألفاظ مختلفة راجع : المغازي لعروة ١٧٧ ونهاية الأرب ١٧ / ١٧٧ والمواهب اللدنية.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ٥٤١ ، ٥٤٢ ، الأغاني ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٣) انظر عنها : المغازي لعروة ١٧٨ ـ ١٨١ ، سيرة ابن هشام ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣٢ ، المغازي للواقدي ١ / ٣٤٦ وما بعدها ، الطبقات الكبرى ٢ / ٥١ ـ ٥٤ ، تاريخ خليفة ٧٦ تاريخ الطبري ٢ / ٥٤٥ ـ ٥٥٠ ، الروض الأنف ٣ / ٢٣٨ ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، نهاية الأرب ١٧ / ١٣٠ ، عيون التواريخ ١ / ١٨٤ ، عيون الأثر ٢ / ٤٣ وما بعدها ، البداية والنهاية ٤ / ٧١ ـ ٧٤.

(٤) بئر معونة : قيل بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم ، وقيل بين جبال يقال لها أبلى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة ، وقيل ماء لبني عامر بن صعصعة ، وقيل في أرض بني سليم وأرض بني كلاب وعندها كانت قصة الرجيع. (معجم البلدان ١ / ٣٠٢).

(٥) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٣٠.

٢٣٥

وقال موسى بن عقبة : قال الزّهري : حدّثني عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب بن مالك ، ورجال من أهل العلم ، أنّ عامر بن مالك الّذي يدعى «ملاعب الأسنّة» قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مشرك ، فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام. فأبى أن يسلم ، وأهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديّة. فقال : إنّي لا أقبل هديّة مشرك. فقال : ابعث معي من شئت من رسلك ، فأنا لهم جار. فبعث رهطا ، فيهم المنذر بن عمرو السّاعدي ، وهو الّذي يقال له «أعنق ليموت» (١) ، بعثه عينا له في أهل نجد. فسمع بهم عامر بن الطّفيل ، فاستنفر بني عامر ، فأبوا أن يطيعوه. فاستنفر بني سليم فنفروا معه. فقتلوهم ببئر معونة ، غير عمرو بن أميّة الضّمري ، فإنّه أطلقه عامر بن الطّفيل. فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن إسحاق (٢) : حدّثني والدي ، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ، وغيرهما ، قالوا : قدم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر ، ملاعب الأسنّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام. وقال : يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. قال : أخشى عليهم أهل نجد. قال أبو البراء : أنار لهم جار. فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا ، فيهم الحارث بن الصّمّة ، وحرام بن ملحان ، أخو بني عديّ بن النّجّار ، وعروة بن أسماء بن الصّلت السّلمي ، ونافع (٣) بن ورقاء الخزاعي ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، في خيار المسلمين ، فساروا حتى بلغوا بئر معونة ، بين أرض بني عامر وحرّة بني

__________________

(١) أعنق ليموت ، أو المعنق ليموت : أي المسرع ، سمى بذلك لإسراعه إلى الشهادة.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٣٠ ، ٢٣١ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٤٦ ، ٥٤٧.

(٣) في طبعة القدسي ٢١٣ «رافع» والتصحيح من تاريخ الطبري ٢ / ٥٤٦ ، والإصابة ٣ / ٥٤٣ وهو «نافع بن بديل بن ورقاء».

٢٣٦

سليم. ثم بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عامر بن الطّفيل ، فلم ينظر في الكتاب حتى قتل الرجل. ثم استصرخ بني سليم فأجابوه وأحاطوا القوم ، فقاتلوهم حتى استشهدوا كلّهم إلّا كعب بن زيد ، من بني النّجّار ، تركوه وبه رمق فارتثّ (١) من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق.

وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة ورجل من الأنصار (٢) ، فلم يخبرهما بمصاب القوم إلّا الطّير تحوم على العسكر ، فقالا : والله إنّ لهذه الطير لشأنا ، [فأقبلا] (٣) لينظرا ، فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاريّ لعمرو : ما ذا ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاريّ : لكنّي لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لأخبر عنه الرجال. وقاتل حتى قتل ، وأسروا عمرا. فلما أخبرهم أنّه من مضر أطلقه عامر بن الطّفيل وجزّ ناصيته (٤) وأعتقه. فلما كان بالقرقرة (٥) أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظلّ هو فيه ، وكان معهما عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوار لم يعلم به عمرو. حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما. فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره [فقال] (٦) : قد قتلت قتيلين ، لأدينّهما. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوّفا. فبلغ ذلك أبا البراء فشقّ عليه إخفار عامر إيّاه (٧) ،

__________________

(١) ارتثّ : حمل من المعركة جريحا وبه رمق.

(٢) قال ابن هشام هو أحد بني عمرو بن عوف.

(٣) بياض في ع والتكملة من ابن هشام ٣ / ٢٣١.

(٤) المغازي لعروة ١٧٩ ، ١٨٠.

(٥) القرقرة : هي قرقرة الكدر ، أو قرارة الكدر ، وقد تقدّم التعريف بها.

(٦) إضافة على الأصل لضرورة السياق فالقول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انظر : السيرة ٣ / ٢٣١ ، وابن سعد ٢ / ٥٣.

(٧) عبارة فشقّ عليه إخفار عامر أبا براء. وقد أثبتنا عبارة ابن الملّا وهي مطابقة لنصّ ابن هشام ٣ / ٢٣١ ، ٢٣٢.

٢٣٧

فحمل ربيعة ولد أبي براء على عامر بن الطّفيل فطعنه في فخذه فأشواه فوقع من فرسه وقال : هذا عمل أبي براء ، إن متّ فدمي لعمّي فلا يتبعنّ به ، وإن أعش فسأرى رأيي (١).

وقال موسى بن عقبة : ارتثّ في القتلى كعب بن زيد ، فقتل يوم الخندق.

وقال حمّاد بن سلمة : أنا ثابت ، عن أنس أنّ ناسا جاءوا إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ابعث معنا رجالا يعلّموننا القرآن ، والسّنّة. فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القرّاء ، وفيهم خالي حرام بن ملحان ، يقرءون القرآن ويتدارسون باللّيل ويتعلّمون ، وكانوا بالنّهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ، ويتحطّبون فيبيعون ويشترون به الطّعام لأهل الصّفّة ، فبعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فتعرّضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان.

قالوا : اللهمّ بلّغ عنّا نبيّك أن قد لقيناك فرضيت عنّا ورضينا عنك.

قال : وأتى رجل خالي من خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه ، فقال حرام : فزت ورب الكعبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : إنّ إخوانكم قد قتلوا وقالوا : اللهمّ أبلغ عنّا نبيّك أن قد لقيناك فرضيناك عنك ورضيت عنّا.

رواه مسلم (٢).

وقال همّام وغيره ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : حدّثني أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خاله حراما في سبعين رجلا فقتلوا يوم بئر معونة. وكان رئيس المشركين عامر بن الطّفيل ، وكان أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٢٣٢ وانظر المغازي لعروة ١٨٠ ، ومجمع الزوائد للهيثمي ، وقال : رواه الطبراني ، ورجاله ثقات إلى ابن إسحاق.

(٢) صحيح مسلم (١٩٠٢) : كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنّة للشهيد.

٢٣٨

أخيّرك بين ثلاث خصال : أن يكون لك أهل السّهل ولي أهل المدر ، أو أكون خليفتك من بعدك ، أو أغزوك (١) بغطفان بألف أشقر وألف شقراء ، قال : فطعن (٢) في بيت امرأة من بني فلان ، فقال : غدّة كغدّة البكر (٣) في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي ، فركبه ، فمات على ظهر فرسه. وانطلق حرام ورجلان معه أحدهما أعرج فقال : كونا قريبا منّي حتى آتيهم فإن آمنوني كنت كفوا ، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام فقال : أتؤمّنوني أبلّغكم رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالوا : نعم. فجعل يحدّثهم ، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه. قال همّام ، وأحسبه قال : فزت وربّ الكعبة. قال : وقتل كلّهم إلّا الأعرج ، كان في رأس الجبل.

قال أنس : أنزل علينا ، ثم كان من المنسوخ ، «إنّا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضيناه». فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصيّة عصت الله ورسوله.

أخرجه البخاري ، وقال : ثلاثين صباحا ، وهو الصحيح (٤).

وروى نحوه قتادة ، وثابت ، وغيرهما ، عن أنس. وبعضهم يختصر الحديث.

قال سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال : كتب أنس في أهله كتابا فقال : اشهدوا معاشر القرّاء. فكأنّي كرهت ذلك ، فقلت : لو سمّيتهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فقال : وما بأس أن أقول لكم معاشر القرّاء ، أفلا أحدّثكم عن إخوانكم الذين كنّا ندعوهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرّاء؟

__________________

(١) في ع : عذول ، تصحيف تصحيحه من صحيح البخاري ٥ / ٤٢.

(٢) طعن : أصابه الطاعون.

(٣) البكر : الفتى من الإبل. وغدّة البكر أي الطّاعون الّذي يصيبه.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ٥ / ٤٢ ، ٤٣ وانظر المغازي لعروة ١٨١.

٢٣٩

قال : فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جهنّم اللّيل أووا إلى معلّم بالمدينة فيبيتون يدرسون ، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوّة أصاب من الحطب واستعذب من الماء ، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشّاة فأصلحوها. فكان معلّقا بحجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما أصيب خبيب ، بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان فيهم خالي حرام. فأتوا على حيّ من بني سليم ، فقال حرام لأميرهم : دعني ، فلا خير [في] هؤلاء. إنّا ليس إيّاهم نريد فيخلّون وجوهنا. فأتاهم فقال ذلك ، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به. قال : فلما وجد حرام مسّ الرمح قال : الله أكبر فزت وربّ الكعبة. قال : فانطووا عليهم فما بقي منهم مخبر. قال : فما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجد على شيء وجده عليهم. فقال أنس : لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّما صلّى الغداة رفع يديه يدعو عليهم : فلما كان بعد ذلك ، إذا أبو طلحة يقول : هل لك في قاتل حرام؟ قلت : ما له ، فعل الله به وفعل. فقال : لا تفعل ، فقد أسلم.

وقال أبو أسامة : ثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :

كان عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله بن الطّفيل بن سخبرة ، أخي (١) عائشة لأمّها ، وكانت لأبي بكر منحة (٢) ، فكان يغدو بها ويروح ، ويصبح فيدّلج إليهما ثم يسرح فلا يفطن به أحد من الرّعاء. ثم خرج معهما يعقبانه حتى قدم المدينة معهما. فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة ، وأسر عمرو بن أميّة. فقال له عامر بن الطّفيل : من هذا؟ وأشار إلى قتيل. قال : هذا عامر ابن فهيرة. فقال : لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إنّي لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. وذكر الحديث. أخرجه البخاري (٣).

__________________

(١) في صحيح البخاري ٥ / ٤٣ «أخو».

(٢) المنحة : النّاقة يدرّ منها اللبن.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع ٥ / ٤٣ ، ٤٤.

٢٤٠