تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

فواعده أن يأتيه ليلا ، فجاءه ليلا (١) ومعه أبو نائلة ، وهو أخو كعب من الرّضاعة ، فدعاه من الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة؟ قال : إنّما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة ، إنّ الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب ، قال محمد : إنّي إذا ما جاء فإنّي قائل بشعره (٢) فأشمّه ثم أشمّكم ، فإذا رأيتموني أثبت يدي فدونكم. فنزل إليهم متوشّحا ، وهو ينفح منه ريح الطّيب ، فقال محمد : ما رأيت كاليوم ريحا ، أي أطيب ، أتأذن لي أن أشمّ رأسك؟ قال : نعم. فشمّه ثم شمّ أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي؟ يعني ثانيا. قال : نعم. فلما استمكن منه قال : دونكم. فضربوه فقتلوه. وأتوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه. أخرجه البخاري (٣).

وقال شعيب بن أبي حمزة ، عن الزّهري [٣٠ أ] عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحرّض عليه كفّار قريش في شعره. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط ، منهم المسلمون ، ومنهم عبدة الأوثان ، ومنهم اليهود ، وهم أهل الحلقة والحصون ، وهم حلفاء الأوس والخزرج ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم ، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك وأخوه ، وكان المشركون واليهود حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة يؤذونه أشدّ الأذى ، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصّبر والعفو ، فقال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (٤) ، وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ

__________________

(١) هنا ينتهي الخبر عند عروة في المغازي ١٦٣.

(٢) قائل بشعره : آخذ به ، يقال : قال بيده أهوى بها وقال برأسه أشار ، كلّ ذلك على الاتساع والمجاز ، ويعبّر بها على التهيّؤ للأفعال والاستعداد لها.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب قتل كعب بن الأشرف (٥ / ١١٥).

(٤) سورة آل عمران : من الآية ١٨٦.

١٦١

مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (١) ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوا كعبا ، فبعث إليه سعد محمد بن مسلمة وأبا عبس (٢) ، والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشيّة ، وهو في مجلسهم بالعوالي. فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم ، فقال لهم : ما جاء بكم؟ قالوا : جاءت بنا إليك الحاجة. قال : فليدن إليّ بعضكم فليحدّثني بها. فدنا إليه بعضهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها.

فقال : والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم ، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدأ عنهم الناس. فجاءوا فناداه رجل منهم ، فقام ليخرج فقالت امرأته : ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحبّ. فقال : بل إنّهم قد حدّثوني حديثهم (٣). فاعتنقه أبو عبس ، وضربه محمد بن مسلمة بالسّيف ، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته. فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين. فغدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أصبحوا فقالوا : إنّه طرق صاحبنا الليلة وهو سيّد من سادتنا فقتل ، فذكر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الّذي كان يقول في أشعاره. ودعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكتب بينه وبينهم كتابا ، فكتب بينهم صحيفة. وكانت تلك الصحيفة بعده عند عليّ. أخرجه أبو داود (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : من الآية ١٠٩.

(٢) في الأصل : أبا عيسى ، تحريف. وهو أبو عبس بن جبر الحارثي. (تهذيب التهذيب ١٢ / ١٥٦ والاستيعاب ٤ / ١٢٢) ، وفي الإصابة أنه أبو عبيس بن جابر (٤ / ١٣٠).

(٣) الطبقات الكبرى ٢ / ٣٣.

(٤) سنن أبي داود : كتاب الخراج والإمارة والفيء ، باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة (٢ / ١٣٨) وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٣٤.

١٦٢

وذكر موسى بن عقبة وغيره أنّ عبّاد بن بشر كان معهم ، فأصيب في وجهه بالسيف أو رجله.

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : ومشى معهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [٣٠ رب] إلى بقيع الغرقد (١) ، ثم وجّههم وقال : انطلقوا على اسم الله ، اللهمّ أعنهم.

وذكر البكّائيّ ، عن ابن إسحاق هذه القصّة بأطول ممّا هنا وأحسن عبارة ، وفيه : فاجتمع في قتله محمد ، وسلكان بن سلامة بن وقش ، وهو أبو نائلة الأشهليّ ، وعبّاد بن بشر ، وأبو عبس بن جبر الحارثي. فقدّموا إلى ابن الأشرف سلكان ، فجاءه فتحدّث معه ساعة وتناشدا شعرا ، ثم قال : ويحك يا بن الأشرف ، إنّي قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عنّي. قال : أفعل. قال : قد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء ، عادتنا العرب ورمونا من قوس واحدة ، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا. فقال : أنا بن الأشرف! أما والله لقد أخبرتك يا بن سلامة أنّ الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال : إنّي أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثّق لك ، وتحسن في ذلك. فقال : أترهنوني أبناءكم؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا. إنّ معي أصحابا لي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم ، وتحسن في ذلك ، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. قال : فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، وأمرهم أن يأخذوا السّلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه. واجتمعوا ، وساق القصّة (٢).

__________________

(١) بقيع الغرقد : مقبرة أهل المدينة المعروفة بالبقيع. والغرقد كبار العوسج.

(٢) انظر : سيرة ابن هشام ٣ / ١٤٠ ، ١٤١ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٨٩ ، ٤٩٠ ، عيون الأثر ١ / ٢٩٩ ، ٣٠٠ ، المغازي للواقدي ١ / ١٨٤ وما بعدها ، فتح الباري ٧ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠.

١٦٣

قال ابن إسحاق : وأطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل اليهود ، وقال : من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه (١).

وحينئذ أسلم حويّصة بن مسعود. وكان قد أسلم قبله أخوه محيّصة. فقتل محيّصة بن سنينة اليهودي التّاجر ، فقام (٢) محيّصة قبل أن يسلم وجعل يضرب أخاه ويقول : أي عدوّ الله قتلته؟ أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله. فقال : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال : والله إنّ دينا بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويّصة (٣).

* * *

وفي رمضان : ولد السيد أبو محمد الحسن بن علي ، رضي‌الله‌عنهما (٤).

وتزوج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفصة بنت عمر (٥).

وفي هذه السنة : تزوّج أيضا بزينب بنت خزيمة ، من بني عامر بن صعصعة ، وهي أمّ المساكين ، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة (٦) ، وتوفّيت.

وقيل أقامت عنده ثمانية أشهر ، والله تعالى أعلم.

* * *

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٤٩١.

(٢) في الأصل : فقال. والتصحيح من السياق.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٤٩١.

(٤) تاريخ الخليفة ٦٦.

(٥) تاريخ خليفة ٦٦ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٩٩.

(٦) تاريخ خليفة ٦٦.

١٦٤

غزوة أحد

«وكانت في شوال»

قال شيبان ، عن قتادة : واقع نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد من العام المقبل بعد بدر في شوّال ، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوّال.

وكان أصحابه يومئذ سبعمائة ، والمشركون ألفين أو ما شاء الله من ذلك.

وقال ابن إسحاق : للنصف من شوّال (١)

وقال مالك : كان القتال يومئذ في أول النّهار.

وقال بريد بن عبد الله ، عن أبيّ بردة ، عن أبي موسى ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : رأيت أنّي قد هززت سيفا فانقطع صدره ، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان ، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع [٣١ أ] المؤمنين ، ورأيت في رؤياي بقرا ، والله خير ، فإذا هم النّفر من المؤمنين يوم أحد ، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير

__________________

(١) تاريخ خليفة ٦٧.

١٦٥

وثواب الصّدق الّذي آتانا يوم بدر. أخرجاه (١).

وقال وهب بن منبّه : أخبرني ابن أبي الزّنّاد ، عن أبيه ، عن عبيد الله ابن عبد الله ، عن ابن عبّاس قال : تنفّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر ، وهو الّذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد. وذلك أنّه لما جاءه المشركون كان رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها ، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا : يخرج بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم نقاتلهم بأحد ، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر. فما زالوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لبس أداته ، ثم ندموا وقالوا : يا رسول الله ، أقم فالرأي رأيك. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما ينبغي لنبيّ أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه. قالوا : وكان ما قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يلبس الأداة : إنّي رأيت أنّي في درع حصينة فأوّلتها المدينة ، وأنّي مردف كبشا فأوّلته كبش الكتيبة ، ورأيت أنّ سيفي ذا الفقار فلّ فأوّلته فلّا فيكم ، ورأيت بقرا تذبح ، فبقر والله خير ، فبقر والله خير.

وقال يونس ، عن الزّهريّ في خروج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد ، قال : حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد (٢) ، انخزل عبد الله بن أبيّ بن أبيّ بقريب من ثلث الجيش (٣). ومضى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وهم في سبعمائة. وتعبّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جنّبوها ، وجعلوا على ميمنة الخيل

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المناقب : باب علامات النّبوّة في الإسلام (٤ / ٢٤٧) ، وكتاب التعبير ، باب إذا رأى بقرا تنحر (٩ / ٥٢) وباب إذا هزّ سيفا في المنام (٩ / ٥٣).

وصحيح مسلم (٢٢٧٠) : كتاب الرؤيا ، باب رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) في الأصل : بالشوط بين الجنانة. وليس بشيء ، وأثبتنا رواية ابن هشام وابن كثير. وانظر معجم البلدان والمغانم المطابة في (شوط).

(٣) في المغازي لعروة ١٦٩ «ورجع عنه عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة» وكذلك في تاريخ الطبري ٢ / ٥٠٤.

١٦٦

خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، وعن عروة قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون وهم ألف ، والمشركون ثلاثة آلاف. فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا ، ورجع عنه عبد الله بن أبيّ في ثلاثمائة (١) ، فسقط في أيدي الطائفتين ، وهمّتا أن تفشلا ، والطائفتان : بنو سلمة وبنو حارثة.

وقال ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) (٢) ، بنو سلمة وبنو حارثة ، ما أحبّ أنّها لم تنزل لقوله (وَاللهُ وَلِيُّهُما) (٣). متّفق عليه (٤).

وقال شعبة ، عن عدي بن ثابت ، سمع عبد الله بن يزيد يحدّث ، عن زيد بن ثابت قال : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد ، رجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقتين ، فرقة تقول : نقاتلهم ، وفرقة تقول : لا نقاتلهم. فنزلت (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (٥) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّها طيّبة تنفي الخبيث كما تنفي النّار خبث الفضّة. متّفق عليه (٦).

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (٧) ، وقال ميّزهم يوم أحد.

__________________

(١) هذه الفقرة في المغازي لعروة ١٦٩.

(٢) ، (٣) سورة آل عمران : من الآية ١٢٢.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا إلخ (٥ / ١٢٣) ، وصحيح مسلم (٢٥٠٥) : كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل الأنصار.

(٥) سورة النساء : من الآية ٨٨.

(٦) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة أحد (٥ / ١٢٢) وكتاب التفسير ، سورة النساء ، باب فما لكم في المنافقين فئتين (٦ / ٥٩) ، وصحيح مسلم (١٣٨١) : كتاب الحجّ ، باب المدينة تنفي شرارها.

(٧) سورة آل عمران : من الآية ١٧٩.

١٦٧

[٣١ ب] وقال البكّائيّ ، عن ابن إسحاق قال : كان من حديث أحد ، كما حدّثني الزّهري ، ومحمد بن يحيى بن حبّان ، وعاصم بن عمر ، والحصين بن عبد الرحمن ، وغيرهم ، كلّ قد حدّث بعض الحديث ، وقد اجتمع حديثهم كلّه فيما سقت في هذا الحديث عن يوم أحد ، أنّ كفّار قريش لما أصيب منهم أصحاب القليب ، ورجع فلّهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان ابن حرب بالعير ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أميّة ، في رجال من قريش ممّن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم [ببدر] (١) ، فكلّموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنّ محمدا قد وتركم (٢) وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلّنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منّا. فاجتمعوا لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها (٣) ومن أطاعها (٤) من قبائل كنانة وأهل تهامة.

وكان أبو عزّة الجمحيّ (٥) قد منّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذا عيال وحاجة ، فقال : يا رسول الله ، إنّي فقير ذو عيال وحاجة ، فامنن عليّ. فقال له صفوان : يا أبا عزّة ، إنّك أمرؤ شاعر ، فأعنّا بلسانك فاخرج معنا ، فقال : إنّ محمدا قد منّ عليّ فلا أريد أن أظاهر عليه. قال (٦) بلى ، فأعنّا بنفسك ، فلك الله عليّ إن رجعت أن أعينك ، وإن أصبت أن

__________________

(١) إضافة عن السير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٢.

(٢) وتركم : أي أصابكم بالوتر وهو الذحل. ووترت الرجل أفزعته وأدركته بمكروه.

(٣) الأحابيش : الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.

(٤) في السير لابن إسحاق ٣٢٣ «أطاعهم».

(٥) هو عمرو بن عبد الله. (سيرة ابن هشام ٣ / ١٤٨ ، الطبقات لابن سعد ٢ / ٤٣ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٠٠ ، البداية والنهاية ٤ / ١٠ ، عيون الأثر ٢ / ٣ ، السيرة الحلبية ٢ / ٢٢٩ وفي السير والمغازي لابن إسحاق «أبو عزيز».

(٦) في الأصل «قالوا» والتصحيح من السياق.

١٦٨

أجعل بناتك مع بناتي يصيبهنّ ما أصابهنّ من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة يسير في تهامة ويدعو كنانة ، ويقول :

إيها بني عبد مناة الرّزام (١)

أنتم حماة وأبوكم حام

 لا يعدوني (٢) نصركم بعد العام

لا تسلموني لا يحلّ إسلام (٣)

 وخرج مسافع بن عبد مناف الجمحيّ إلى بني مالك بن كنانة يدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول شعرا. ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له وحشيّ ، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها ، فقال له : أخرج مع النّاس فإن أنت قتلت حمزة بعمّي طعيمة بن عديّ فأنت عتيق. فخرجت قريش بحدّها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها ، وخرجوا معهم بالظّعن (٤) التماس الحفيظة وأن لا يفرّوا. وخرج أبو سفيان ، وهو قائد النّاس ، بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بأمّ حكيم بنت الحارث بن هشام (٥) ، حتى نزلوا بعينين (٦) ، بجبل أحد ببطن السّبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث

__________________

(١) في الأصل : الدرام. وأثبتنا رواية ابن هشام وغيره. والرزام : جمع رازم وهو الّذي يثبت في مكانه لا يبرحه. يريد أنّهم يثبتون في الحرب ولا ينهزمون.

(٢) في سيرة ابن هشام ٣ / ١٤٨ «تعدوني».

(٣) وفي السير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٣ :

يا بني عبد مناة الرزام

أنتم بنو الحرب ضرّابو الهام

أنتم حماة وأبوكم حام

لا تعدوني نصركم بعد العام

لا تسلموني لا يحل إسلام

وانظر مغازي الواقدي ١ / ٢٠١ وطبقات الشعراء لابن سلام ٢١٣.

(٤) الظعن : جمع الظعينة ، وهو الهودج ، أو المرأة تكون فيه ، سمّيت به على حدّ تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه. وأكثر ما يقال الظعينة للمرأة الراكبة ثم قيل للهودج بلا امرأة وللمرأة بلا هودج.

(٥) في السير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٣ زيادة في الأسماء عما هنا. وكذلك في السيرة لابن هشام ٣ / ١٤٨.

(٦) عينين ، ويقال «عينان» وهو هضبة جبل أحد بالمدينة ، ويقال اسم لجبلين عند أحد. ويسمّى يوم أحد يوم عينين.

١٦٩

نزلوا ، فإن أقاموا بشرّ مقام ، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان يكره الخروج إليهم. فقال رجال ممّن فاته يوم بدر : يا رسول الله ، أخرج بنا إليهم لا يرون أنّا جبنّا عنهم. فلم يزالوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ النّاس من الصّلاة. فذكر خروجه وانخزال ابن أبيّ بثلث النّاس ، فاتّبعهم عبد الله [٣٢ أ] والد جابر ، يقول : أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيّكم. قالوا : لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال. وقالت الأنصار : يا رسول الله ، ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ قال : لا حاجة لنا فيهم (١). ومضى حتى نزل الشّعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : لا يقاتلنّ أحد حتى نأمره بالقتال (٢). وتعبّأ للقتال وهو في سبعمائة ، وأمّر على الرّماة عبد الله بن جبير وهم خمسون رجلا ، فقال : انضحوا عنّا الخيل بالنّبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فاثبت مكانك لا تؤتينّ من قبلك وظاهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين درعين ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، وتعبّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنّبوها فجعلوا على الميمنة خالدا ، وعلى الميسرة عكرمة (٣).

وقال سلّام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّب قال : كانت راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد مرطا (٤) أسود كان لعائشة ، وراية الأنصار يقال لها العقاب ، وعلى ميمنته عليّ ، وعلى ميسرته المنذر بن عمرو السّاعديّ ، والزّبير بن العوّام كان على الرجال ، ويقال المقداد بن الأسود ، وكان حمزة على القلب ، واللواء مع مصعب ، فقتل ، فأعطاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في الأصل : فيكم. ولعلّ الوجه ما أثبتناه كما ورد في أكثر من مصدر.

(٢) السير والمغازي ٣٢٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٠٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٠.

(٤) المرط : كساء من صوف أو خزّ أو كتّان يؤتزر به ، وقيل كل ثوب غير مخيط.

١٧٠

عليّا : قال : ويقال كانت ثلاثة ألوية ، لواء إلى مصعب بن عمير للمهاجرين ، ولواء إلى عليّ ، ولواء إلى المنذر.

وقال ثابت ، عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال : من يأخذ مني هذا السيف بحقّه؟ فبسطوا أيديهم كلّ إنسان منهم يقول : أنا ، أنا. فقال من يأخذه بحقّه؟ فأحجم القوم ، فقال له أبو دجانة سماك : أنا آخذه بحقّه. قال : فأخذه ففلق به هام المشركين. أخرجه مسلم (١).

وقال ابن إسحاق : حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة ، أخو بني ساعدة ، فقال : وما حقّه؟ قال : أن تضرب به في العدوّ حتى ينحني. قال : فأنا آخذه يا رسول الله. فأعطاه إيّاه ، وكان [أبو دجانة] (٢) رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، وكان إذا قاتل علّم بعصابة له حمراء فاعتصب بها على رأسه ، ثم جعل يتبختر بين الصّفّين. فبلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رآه يتبختر : إنّها لمشية يبغضها الله إلّا في مثل هذا الموطن (٣).

وقال عمرو بن عاصم الكلابيّ : حدّثني عبيد الله بن الوازع ، حدّثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزّبير بن العوّام قال : عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفا يوم أحد فقال : من يأخذه بحقّه؟ فقمت فقلت : أنا يا رسول الله. فأعرض عنّي ، ثم قال : من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام أبو دجانة سماك ابن خرشة فقال : أنا يا رسول الله ، فما حقّه؟ قال : أن لا تقتل به مسلما ولا تفرّ به عن كافر. قال : فدفعه إليه ، وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة ، فقلت : لأنظرنّ اليوم كيف يصنع. قال : فجعل لا يرتفع له شيء إلّا هتكه

__________________

(١) صحيح مسلم (٢٤٧٠) : كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة.

(٢) إضافة عن سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٠.

(٣) السيرة ٣ / ١٥٠.

١٧١

وأفراه ، حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهنّ دفوف لهنّ ، فيهنّ امرأة وهي تقول :

[٣٢ ب] نحن بنات طارق

نمشي على النّمارق

 إن تقبلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق (١)

قال : فأهوى بالسّيف إلى امرأة ليضربها ، ثم كفّ عنها. فلما انكشف القتال قلت له : كلّ عملك رأيت ما خلا رفعك السّيف على المرأة ثم لم تضربها. قال أكرمت سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقتل به امرأة (٢).

وروى جعفر بن عبد الله بن أسلم ، مولى عمر ، عن معاوية بن معبد ابن كعب بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر : إنّها لمشية يبغضها الله إلّا في مثل هذا الموطن (٣).

وقال ابن إسحاق ، عن الزّهري وغيره ، إنّ رجلا من المشركين خرج يوم أحد ، فدعا إلى البراز ، فأحجم النّاس عنه حتى دعا ثلاثا ، وهو على جمل له ، فقام إليه الزّبير فوثب حتى استوى معه على بعيره ، ثم عانقه فاقتتلا فوق البعير جميعا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الّذي يلي حضيض الأرض (٤) مقتول. فوقع المشرك ووقع عليه الزّبير فذبحه. ثم إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) النّمارق : جمع النمرقة وهي الطّنفسة أو الوسادة. والوامق : المحبّ. وراجع القول في : سيرة ابن هشام ٣ / ١٥١ والسير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥١٠ ، الطبقات الكبرى ٢ / ٤٠ ، الروض الأنف ٣ / ١٦١ ، نهاية الأرب للنويري ١٧ / ٩٠ ، عيون الأثر ٢ / ٢٥ وغيره ، ففيها اختلاف ونقص.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٢ الطبري ٢ / ٥١١.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٠ ، الطبري ٢ / ٥١١.

(٤) حضيض الأرض : قرارها وسافلها.

١٧٢

قرّب الزّبير فأجلسه على فخذه وقال : إنّ لكلّ نبيّ حواريّا (١) والزّبير حواريّ.

قال ابن إسحاق (٢) : واقتتل الناس حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في النّاس ، وحمزة بن عبد المطّلب ، وعليّ بن أبي طالب ، وآخرون.

وقال زهير بن معاوية : ثنا أبو إسحاق ، سمعت البراء يحدّث قال : جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرّماة يوم أحد ، وكانوا خمسين ، عبد الله بن جبير ، وقال : إذا رأيتمونا تخطّفنا الطّير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، قال : فهزمهم. فأنا والله رأيت النّساء يشتددن على الجبل قد بدت خلاخيلهنّ وسوقهنّ رافعات ثيابهنّ. فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة ، أي قوم ، الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله لهم : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالوا : لنأتينّ النّاس فلنصيبنّ من الغنيمة : فأتوهم فصرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. فذلك [الّذي] (٣) يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا اثنا عشر رجلا. فأصابوا منّا سبعين (٤).

فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ ثلاث مرّات. فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبوه. ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم قال : أفي القوم ابن الخطّاب؟ ثلاثا. ثم رجع إلى أصحابه فقال : أمّا هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت يا عدوّ الله ، إنّ الذين عددت لأحياء كلّهم ، وقد بقي لك ما يسوؤك. فقال :

__________________

(١) الحواري : الناصر المبالغ في النّصرة ، والوزير والخليل ، أو ناصر الأنبياء عليهم‌السلام خاصّة.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥١.

(٣) سقطت من الأصل ، واستدركناها من تاريخ ابن كثير (٤ / ٢٥) وعبارة البخاري ٥ / ١٢٠ :

فذاك إذ يدعوهم ..

(٤) تاريخ الطبري ٢ / ٥٠٨.

١٧٣

يوم بيوم بدر والحرب سجال (١) ، إنّكم ستجدون مثلة (٢) لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز : أعل هبل ، أعل هبل (٣).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تجيبوه؟ قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجلّ.

ثم قال : لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ألا تجيبوه؟ قالوا : [٣٣ أ] ما نقول؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم.

أخرجه البخاري (٤).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، فحدّثني الحصين بن عبد الرحمن ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السّكن ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم أحد حين غشيه القوم : من رجل يشري منّا نفسه؟ فقام زياد بن السّكن في خمسة من الأنصار ، وبعض النّاس يقول : هو عمارة بن زياد بن السّكن ، فقاتلوا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجل ثم رجل (٥) يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زيادا أو عمارة ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت من المسلمين فئة فأجهضوهم عنه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أدنوه منّي. فأدنوه منه ، فوسّده قدمه ، فمات وخدّه على قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦).

وترس دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو دجانة بنفسه ، يقع النّبل في ظهره ، وهو

__________________

(١) سجال : أي مساجلة يدال فيها على هؤلاء مرّة ، وعلى هؤلاء أخرى.

(٢) المثلة : التنكيل بالقتلى بقطع أطرافهم والتشويه بهم.

(٣) هبل من أصنام قريش التي كانت في جوف الكعبة وكان أعظمها عندهم. قال ابن الكلبي : كان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان (الأصنام : ٢٨).

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة أحد (٥ / ١٢٠) ، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم.

(٥) في سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٧ «رجلا ثم رجلا».

(٦) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٧.

١٧٤

منحن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كثرت فيه النّبل (١).

وقال حمّاد بن سلمة ، عن ثابت ، وغيره ، عن أنس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش ، فلما رهقوه قال :

من يردّهم عنّا وله الجنّة ، أو هو رفيقي في الجنّة؟ فتقدّم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، وتقدّم آخر حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السّبعة ، فقال لصاحبيه : ما أنصفنا أصحابنا.

رواه مسلم (٢).

وقال سليمان التّيمي ، عن أبي عثمان قال : لم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهنّ غير طلحة بن عبيد الله وسعد ، عن حديثهما. متّفق عليه (٣).

وقال قيس بن أبي حازم : رأيت يد طلحة شلّاء وقى بها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني يوم أحد.

أخرجه البخاري (٤).

وقال عبد الله بن صالح : حدّثني يحيى بن أيّوب ، عن عمارة بن غزيّة ، عن أبي الزّبير مولى حكيم بن حزام ، عن جابر قال : انهزم النّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فبقي معه أحد عشر رجلا ، وطلحة بن عبيد الله ، وهو يصّعد في الجبل ، فلحقهم المشركون. فقال ألا أحد لهؤلاء؟ فقال طلحة :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٧ ، السير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٨.

(٢) صحيح مسلم (١٧٨٩) : كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة أحد.

(٣) صحيح البخاري : كتاب فضائل أصحاب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ذكر طلحة بن عبيد الله (٥ / ٢٧) ، وكتاب المغازي ، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (٥ / ١٢٤) وصحيح مسلم (٢٤١٤) : كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما.

(٤) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (٥ / ١٢٥).

١٧٥

أنا يا رسول الله. قال : كما أنت يا طلحة. فقال رجل من الأنصار : فأنا يا رسول الله. فقاتل عنه ، وصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، ثم قتل الأنصاريّ فلحقوه فقال : ألا أحد لهؤلاء؟ فقال طلحة مثل قوله ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قوله ، فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فأذن له فقاتل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يصّعدون ، ثم قتل فلحقوه. فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول مثل قوله ويقول طلحة : أنا فيحبسه. ويستأذنه رجل من الأنصار فيأذن له ، حتى لم يبق معه إلّا طلحة ، فغشوهما ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لهؤلاء؟ فقال طلحة : أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله ، فقال : حسّ (١). [٣٣ ب] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والنّاس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء. ثم صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.

وقال عبد الوارث : ثنا عبد العزيز ، عن أنس قال : لما كان يوم أحد انهزم النّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو طلحة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجوب (٢) عنه بحجفة معه. وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النّزع ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة. وكان الرجل يمرّ بالجعبة فيها النّبل فينثرها لأبي طلحة. ويشرف نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة : يا نبيّ الله ، بأبي أنت وأمّي ، لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك.

ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر ، وأمّ سليم وإنّهما مشمّرتان أرى خدم سوقهما ، تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم.

ولقد وقع السيف من يدي طلحة من النّعاس إمّا مرّتين أو ثلاثا.

__________________

(١) حس : (بفتح الحاء وكسر السين وترك التنوين) كلمة تقال عند الألم.

(٢) يجوب عنه : يترس عليه. والجوبة الترس.

١٧٦

متّفق عليه (١).

وقال ابن إسحاق. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله حتى قتل قتله ابن قمّيئة (٢) اللّيثي ، وهو يظنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا (٣).

ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللواء عليّ بن أبي طالب ورجالا من المسلمين (٤).

وقال موسى بن عقبة : واستجلبت قريش من شاءوا من مشركي العرب ، وسار أبو سفيان في جمع قريش. ثم ذكر نحو ما تقدّم ، وفيه : فأصابوا وجهه ، يعني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصموا (٥) رباعيّته ، وخرقوا شفته. يزعمون أنّ الّذي رماه عتبة بن أبي وقّاص.

وعنده المنام ، وفيه : فأوّلت الدّرع الحصينة المدينة ، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام ، فإن دخلوا علينا في الأزقّة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت. وكانوا قد سكّوا أزقّة المدينة بالبنيان حتى كانت كالحصن. فأبى كثير من النّاس إلّا الخروج ، وعامّتهم لم يشهدوا بدرا. قال : وليس مع المسلمين فرس.

وكان حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان ، أخو شيبة العبدري ، وحامل لواء المسلمين رجل من المهاجرين ، فقال : أنا عاصم إن شاء الله لما معي ، فقال له طلحة بن عثمان : هل لك في المبارزة؟ قال : نعم فبدره

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب إذ همّت طائفتان منكم إلخ (٥ / ١٢٥).

(٢) في السيرة لابن هشام ٣ / ١٥٧ «قمئة».

(٣) السير والمغازي لابن إسحاق ٣٢٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٣.

(٥) فصمت السن : انشقت عرضا.

١٧٧

ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأسه حتى وقع السيف في لحيته.

فكان قتل صاحب المشركين تصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [في قوله] أرى (١) أنّي مردف كبشا.

فلما صرع انتشر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وصاروا كتائب متفرّقة ، فحاسوا (٢) العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرّات ، كلّ ذلك تنضح بالنّبل فترجع مفلولة. وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا ، فلما أبصر الرّماة الخمسون أنّ الله قد فتح ، قالوا : والله [ما] نجلس ها هنا لشيء. فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يتركوها ، [٣٤ أ] وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول ، فأوجفت الخيل فيهم قتلا ، وكان عامّتهم في العسكر. فلما أبصر ذلك المسلمون اجتمعوا ، وصرخ صارخ : أخراكم أخراكم ، قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسقط في أيديهم ، فقتل منهم من قتل ، وأكرمهم الله بالشهادة. وأصعد النّاس في الشّعب لا يلوون على أحد ، وثبّت الله نبيّه ، وأقبل يدعو أصحابه مصعّدا في الشّعب ، والمشركون على طريقه ، ومعه عصابة منهم طلحة بن عبيد الله والزّبير ، وجعلوا يسترونه [حتى] (٣) قتلوا إلّا ستة أو سبعة.

ويقال : كان كعب بن مالك أول من عرف عيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين فقد ، من وراء المغفر. فنادى بصورته الأعلى : الله أكبر ، هذا رسول الله ، فأشار إليه ـ زعموا ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن اسكت. وجرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجهه وكسرت رباعيّته (٤).

__________________

(١) في الأصل : رأى. وصحّحت العبارة بما يؤدّي المعنى.

(٢) حاسوهم ضربا : بالغوا في النكاية فيهم.

(٣) ليست في الأصل ، وزدناها للسياق.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ١٥٨.

١٧٨

وكان أبيّ بن خلف قال حين افتدي : والله إنّ عندي لفرسا أعلفها كلّ يوم فرق ذرة ، ولأقتلنّ عليها محمدا. فبلغ قوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله. فأقبل أبيّ مقنّعا في الحديد على فرسه تلك يقول : لا نجوت إن نجا محمد. فحمل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

قال موسى : قال سعيد بن المسيّب : فاعترض له رجال ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلّوا طريقه ، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتل مصعب. وأبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقوة أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدّرع ، فطعنه فيها بحربته ، فوقع أبيّ عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم (٢).

قال سعيد : فكسر ضلع من أضلاعه ، ففي ذلك نزلت (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣). فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثّور فقالوا : ما جزعك؟ إنّما هو خدش. فذكر لهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل أنا أقتل أبيّا. ثم قال : والّذي نفسي بيده ، لو كان هذا الّذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون. فمات قبل أن يقدم مكة (٤).

وقال ابن إسحاق : حدّثني حييّ بن عبّاد بن عبد الله بن الزّبير ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنّ الزّبير قال : والله لقد رأيتني انظر إلى خدم سوق هند وصواحباتها مشمّرات هوارب ، ما دون إحداهنّ قليل ولا كثير ، إذا مالت الرّماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النّهب ، وخلّوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ. ألا إنّ محمدا قد قتل ، فانكفأنا

__________________

(١) السير والمغازي لابن إسحاق ٣٣١.

(٢) سيرة ابن هشام ٣ / ١٦٦.

(٣) سورة الأنفال : من الآية ١٧.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ / ١٦٦.

١٧٩

وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.

قال ابن إسحاق : لم يزل لواؤهم صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثيّة ، فرفعته لقريش فلاذوا به.

وقال ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم ، (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) يعني إقبال من أقبل منهم على الغنيمة ، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ، (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) (١) يعني النصر. ثم أديل [٣٤ ب] للمشركين عليهم بمعصيتهم الرسول حتى حصبهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى السّدّيّ ، عن عبد خير ، عن عبد الله قال : ما كنت أرى أنّ أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٢).

وقال (٣) هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : هزم المشركون يوم أحد هزيمة بيّنة ، فصرخ إبليس : أي عباد الله أخراكم ، فرجعت أولاهم واجتلدوا هم وأخراهم. فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال : أبي ، أبي. فو الله ما انحجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة : غفر الله لكم. قال

__________________

(١) سورة آل عمران : من الآيتين ١٥٢ ، ١٥٣ بتقديم وتأخير في فقرها المستشهد بحسب المعنى. وتمام الآيتين الكريمتين : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.).

(٢) سورة آل عمران الآية ١٥٢.

(٣) آخر سقط ع.

١٨٠