تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال ابن شهاب : حدّثني أنس أنّ رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه. فقال : لا والله لا تذرون درهما. أخرجه البخاري(١).

وقال إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن [٢٢ ب] عبّاس قالوا : يا رسول الله ، بعد ما فرغ من بدر ، عليك بالعير ليس دونها شيء. فقال العبّاس وهو في وثاقه : لا يصلح. قال : ولم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك.

وقد ذكر إرسال زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها.

وقال سعيد بن أبي مريم : ثنا يحيى بن أيّوب ، ثنا ابن الهاد ، حدّثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزّبير ، عن عروة ، عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة ـ أو ابن كنانة ـ فخرجوا في أثرها. فأدركها هبار بن الأسود ، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها ، وألقت ما في بطنها وأهريقت دما. فتحمّلت. فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أميّة. فقالت بنو أميّة : نحن أحقّ بها. وكانت تحت أبي العاص ، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة ، وكانت تقول لها هند : هذا من سبب أبيك.

قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة : ألا تنطلق فتأتي بزينب! فقال : بلى يا رسول الله. قال : فخذ خاتمي فأعطها إياه. فانطلق زيد ، فلم يزل يتلطّف حتى لقي راعيا فقال له : لمن ترعى؟ قال : لأبي العاص. قال : فلمن هذه الغنم؟ قال : لزينب بنت محمد. فسار معه شيئا ثم قال

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب الجهاد والسير ، فداء المشركين (٤ / ٨٤).

١٢١

له : هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إيّاه ، ولا تذكره لأحد؟ قال : نعم. فأعطاه الخاتم. وانطلق الراعي حتى دخل فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته. فقالت : من أعطاك هذا؟ قال : رجل. قالت : فأين تركته؟ قال : بمكان كذا وكذا. فسكتت ، حتى إذا كان الليل خرجت إليه. فقال لها : اركبي بين يديّ. على بعيره. فقالت : لا ، ولكن اركب أنت بين يديّ. وركبت وراءه حتى أتت المدينة.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : هي أفضل بناتي ، أصيبت فيّ.

قال : فبلغ ذلك عليّ بن الحسين (١) ، فانطلق إلى عروة فقال : ما حديث بلغني عنك أنّك تحدّثه تتنقّص به فاطمة؟ فقال عروة : والله ما أحبّ أنّ لي ما بين المشرق والمغرب وأنّي أتنقص فاطمة حقّا هو لها ، وأمّا بعد فلك أن لا أحدّثه أبدا.

أسماء من شهد بدرا

جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد (٢) في جزء كبير. فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من البدريّين ، ورتّبهم على حروف المعجم. فبلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة وثلاثين رجلا.

وإنّما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف [في بعضهم (٣)].

__________________

(١) في الأصل : (الحسن). والتصحيح من ع ، ح. وانظر ترجمته في الطبقات الكبرى (٥ / ٢١١).

(٢) هو الإمام الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله بن محمد بن عبد الواحد المقدسي ثم الدمشقيّ (٥٦٩ ـ ٦٤٣ ه‍ ـ) ترجمته في تذكرة الحفاظ (٤ / ١٤٠٦) والعبر في خبر من غبر (٥ / ١٧٩) وفوات الوفيات (٢ / ٤٧١) وشذرات الذهب (٥ / ٢٢٤) والبداية والنهاية (١٣ / ١٦٩) والنجوم الزاهرة (٦ / ٣٥٤) والذيل على طبقات الحنابلة (٢ / ٢٣٦).

(٣) زيادة من ع ، ح.

١٢٢

وقد جاء في فضلهم حديث سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلمي ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه ، قال : بعثني [٢٣ أ] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا مرثد الغنوي ، والزّبير ، والمقداد ، وكلّنا فارس ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، وهو موضع بين مكة والمدينة. فذكر الحديث ، ومكاتبة حاطب ابن أبي بلتعة قريشا. فقال عمر : دعني أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله. قال : أليس هو من أهل بدر؟ وما يدريك لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنّة. أو قد غفرت لكم. فدمعت عينا عمرو قال : الله ورسوله أعلم. متّفق عليه (١).

وقال الليث ، عن أبي الزّبير ، عن جابر رضي‌الله‌عنه أنّ عبدا لحاطب ابن أبي بلتعة جاء يشكوه فقال : يا رسول الله ليدخلنّ حاطب النّار. فقال : كذبت لا يدخلها إنّه شهد بدرا والحديبيّة. أخرجه مسلم(٢).

وقال يحيى بن سعيد الأنصاريّ ، معاذ بن رفاعة بن رافع الزّرقيّ ـ وكان أبوه بدريّا ـ أنّه كان يقول لابنه : ما أحبّ أنّي شهدت بدرا ولم أشهد العقبة.

قال : سأل جبريل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف أهل بدر فيكم؟ قال : خيارنا.

قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة. أخرجه البخاري (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري : كتاب المغاري ، باب فضل من شهد بدرا (٥ / ٩٩) وصحيح مسلم :

الفضائل ، باب من فضائل أهل بدر رضي‌الله‌عنهم وقصّة حاطب بن أبي بلتعة (٢٤٩٤ و ٢٤٩٥).

(٢) صحيح مسلم : كتاب الفضائل : باب من فضائل أهل بدر رضي‌الله‌عنهم وقصّة حاطب بن أبي بلتعة (٢٤٩٤ و ٢٤٩٥).

(٣) صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدرا (٥ / ١٠٣).

١٢٣

ذكر طائفة من أعيان البدريّين

أبو بكر. وعمر. وعليّ. واحتبس عنهما عثمان بمرض زوجته رقيّة بنت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتوفّيت في العشر الأخير من رمضان يوم قدوم المسلمين المدينة من بدر. وضرب له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسهمه وأجره (١).

ومن البدريّين : سعد بن أبي وقّاص. وأمّا سعيد بن زيد ، وطلحة بن عبيد الله ، فكانا بالشام ، فقدما بعد بدر وأسهم لهما النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الزّبير بن العوّام ، أبو عبيدة بن الجرّاح ، عبد الرحمن بن عوف ، حمزة بن عبد المطّلب ، زيد بن حارثة ، عبيدة بن الحارث بن المطّلب ، وأخواه : الطّفيل ، والحصين ، وابن عمّه : مصطح (٢) بن أثاثة (٣) بن عبّاد بن المطّلب ، وأربعتهم لم يعقبوا ، مصعب بن عمير العبدري ، المقداد بن الأسود ، عبد الله بن مسعود ، صهيب بن سنان ، أبو سلمة بن عبد الأسد ، عمّار بن ياسر ، زيد بن الخطّاب أخو عمر. (٤).

ومن أعيان الأنصار ، من الأوس : سعد بن معاذ.

ومن بني عبد الأشهل : عبّاد بن بشر ، محمد بن مسلمة ، أبو الهيثم ابن التّيهان.

ومن بني ظفر : قتادة بن النّعمان.

ومن بني عمرو بن عوف : مبشّر بن عبد المنذر ، وأخوه : رفاعة. ولم

__________________

(١) المغازي لعروة ١٦٠.

(٢) كذا في الأصل : وهو : مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطّلب بن عبد مناف. ويقال مسطح لقب واسمه عوف بن أثاثة توفي سنة ٣٤ ه‍ ـ. (الاستيعاب ٣ / ٤٩٤ ، ٤٩٥ ، أسد الغابة ٤ / ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، الإصابة ٣ / ٤٠٨ ، وانظر سيرة ابن هشام ٣ / ٨٥).

(٣) أثاثة : بضم الهمزة وفتح المثلّثة ، يليها ألف مثلّثة مفتوحة ثم هاء. (المشتبه للذهبي ١ / ١٠).

(٤) راجع نسخة شعيرة ١٥٣ ففيها اختلاف في الأسماء ونقص.

١٢٤

يحضرها أخوهما أبو لبابة ، لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّه فاستعمله على المدينة ، وضرب له بسهمه وأجره.

ومن بني النّجّار :

أبو أيوب خالد بن زيد ، عوف ، ومعوّذ ومعاذ ، بنو الحارث بن رفاعة ابن سواد بن مالك بن غنم بن عوف ، وهم بنو عفراء ، أبيّ بن كعب ، أبو طلحة زيد بن سهل ، بلال مولى أبي بكر ، عبادة بن الصّامت ، معاذ بن جبل الخزرجي ، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، عتبان بن مالك الخزرجي ، عكّاشة بن محصن ، كعب بن عمرو أبو اليسر السّلمي ، معاذ بن عمرو الخزرجي ابن الجموح (١).

[٢٣ ب] حشرنا الله في زمرتهم.

قد ذكرنا من استشهد يومئذ.

* * *

وقتل من المشركين :

حنظلة بن أبي سفيان بن حرب ، وعبيد بن سعيد بن العاص ، وأخوه : العاص ، وعتبة ، وشيبة ، ابنا ربيعة ، وولد عتبة : الوليد ، وعقبة بن أبي معيط ، قتل صبرا ، والحارث بن عامر النّوفلي ، وابن عمّه طعيمة بن عديّ ، وزمعة بن الأسود ، وابنه : الحارث ، وأخوه : عقيل ، وأبو البختريّ ابن هشام بن الحارث بن أسد ـ واسمه العاص ـ ونوفل بن خويلد أخو خديجة ، والنّضر بن الحارث ، قتل صبرا بعد يومين ، وعمير بن عثمان التّيميّ عمّ طلحة بن عبيد الله ، وأبو جهل ، وأخوه : العاص بن هشام ،

__________________

(١) راجع سيرة ابن هشام ٣ / ٨٥ ـ ٩٩ ، المغازي لعروة ١٤٧ ـ ١٥٩ ، الروض الأنف ٣ / ٩٩ ـ ١٠١.

١٢٥

ومسعود بن أبي أميّة المخزوميّ أخو أمّ سلمة ، وأبو قيس أخو خالد بن الوليد ، والسّائب بن أبي السّائب المخزومي ، وقيل لم يقتل ، بل أسلم بعد ذلك ، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ، ومنبّه ونبيه : ابنا الحجّاج بن عامر السّهمي ، وولدا منبّه : الحارث ، والعاص. وأميّة بن خلف الجمحيّ ، وابنه : عليّ.

وذكر ابن إسحاق (١) وغيره سائر المقتولين ، وكذا سمّى الذين أسروا. تركتهم خوفا من التطويل.

* * *

وفي رمضان : فرض الله صوم رمضان ، ونسخ فريضة (٢) يوم عاشوراء (٣) وفي آخره : فرضت الفطرة (٤).

وفي شوّال : دخل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة (٥) ، وهي بنت تسع سنين.

وفي صفر : توفّي أبو جبير المطعم بن عديّ بن نوفل ـ ونوفل أخو هاشم بن عبد مناف بن قصيّ ـ توفّي مشركا عن سنّ عالية ، وكان من عقلاء قريش وأشرافهم (٦) ، وهو الّذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كان المطعم بن عديّ حيّا وكلّمني في هؤلاء النّتنى لأجبته. وكانت له عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد ، لأنّه قام في نقض الصحيفة.

* * *

وفيها : توفّي أبو السّائب عثمان بن مظعون (٧) بن حبيب بن وهب بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٠٢ ـ ١٠٨.

(٢) في ح (فرضية).

(٣) انظر الطبري ٢ / ٤١٧.

(٤) الفطرة : زكاة الفطر.

(٥) تاريخ خليفة ٦٥ ، الطبري ٢ / ٤١٨.

(٦) المحبّر ١٦٥.

(٧) تاريخ الطبري ٢ / ٤٨٥ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٣٩٣ ، تاريخ خليفة ٦٥.

١٢٦

حذافة بن جمح الجمحيّ ، بعد بدر بيسير. وقد شهدها هو وأخواه : قدامة ، وعبد الله.

فعثمان أحد السابقين ، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى ، ولما قدم أجاره الوليد بن المغيرة أياما ، ثم ردّ على الوليد جواره. وكان صوّاما قوّاما قانتا لله.

* * *

وفيها : توفّي أبو سلمة (ت ق) عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بدر.

وهو ابن عمّة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخوه من الرضاعة. وأمّه : برّة بنت عبد المطّلب.

من السابقين الأوّلين ، شهد بدرا ، وتزوّجت أمّ سلمة بعده بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروت عنه القول عند المصيبة.

وقيل توفّي سنة ثلاث بعد أحد أو قبلها (١).

وفيها : ولد عبد الله بن الزّبير (٢) ، بالمدينة. والمسور بن مخرمة. ومروان بن الحكم : بمكة.

* * *

[وفيها قتل ببدر من الكفّار :

أبو جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، والوليد ولد عتبة ، وعقبة بن أبي معيط قتل

__________________

(١) الإصابة ٢ / ٣٣٥ رقم ٤٧٨٣.

(٢) تاريخ خليفة ٦٥.

١٢٧

صبرا ، والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قتله عليّ ، وابن عمّه طعيمة ابن عديّ بن نوفل قتله حمزة على الصّحيح ، وزمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد ، وابنه الحارث ، وأخوه عقيل. وأبو البختري بن العاص بن هشام بن الحارث بن أسد ، ونوفل بن خويلد بن أسد قتله عليّ وقيل الزّبير ، والنّضر ابن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ العبدري ، قتله عليّ بأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدّة إيذائه الإسلام وأهله ، وعمير بن عثمان التّيمي عمّ طلحة بن عبيد الله ، والعاص أخو أبي جهل قتله عمر ، ومسعود بن أبي أميّة المخزومي أخو أمّ سلمة ، وأبو قيس أخو خالد بن الوليد ، وابن عمّه قيس بن الفاكه بن المغيرة ، ومنبّه ونبيه ابنا الحجّاج بن عامر السّهمي ، والعاص والحارث ابنا منبّه المذكور ، وأميّة بن خلف الجمحيّ ، وابنه عليّ.

ومات في الأسر :

مالك أخو طلحة بن عبيد الله.

وقتل : هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة ، وأسر أخوه حذيفة ثم قتل ، وأسر يومئذ العبّاس وابنا أخويه عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث.

وقد أفرد الحافظ ضياء الدين المقدسي أسماء من شهد بدرا من المسلمين بأنسابهم في جزء كبير ، وساق اختلاف النّاس في بعضهم] (١).

__________________

(١) ما بين الحاصرتين من أول قوله «وفيها قتل ببدر من الكفّار» إلى قوله : «وساق اختلاف الناس في بعضهم» ، انفردت به ح وأثبتناه عنها. ويلاحظ أنّ أسماء القتلى من الكفّار ببدر وردت من قبل ، عقب ذكر طائفة من أعيان البدرين. ولعلّ المصنّف أوردها هناك في سياق الحديث عن الغزوة باعتبار الحوادث ، ثم أعادها هنا باعتبار الوفيات على السنين.

١٢٨

قصّة النّجاشي

«من السّيرة»

ثم إنّ قريشا قالوا : إنّ ثأرنا بأرض الحبشة. فانتدب إليها عمرو بن العاص ، و [عبد الله] (١) بن أبي ربيعة.

[٢٤ أ] قال الزّهري : بلغني أنّ مخرجهما كان بعد وقعة بدر.

فلما بلغ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخرجهما ، بعث عمرو بن أميّة الضّمري بكتابه إلى النّجاشيّ.

وقال سعيد بن المسيّب وغيره : فبعث الكفّار مع عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة للنّجاشي ، ولعظماء الحبشة هدايا. فلما قدما على النّجاشيّ قبل الهدايا ، وأجلس عمرو بن العاص على سريره. فكلّم النّجاشيّ فقال : إنّ بأرضك رجالا منّا ليسوا على دينك ولا على ديننا ، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة : صدق ، فادفعهم إليه. فقال : حتى أكلّمهم.

فقال الزّهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أمّ سلمة ، رضي‌الله‌عنهما قالت :

__________________

(١) زيادة من ع ، ح ، ومن سيرة ابن هشام ٢ / ٨٦.

١٢٩

نزلنا الحبشة ، فجاورنا بها خير جار ، النّجاشيّ. أمنّا على ديننا وعبدنا الله تعالى ، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النّجاشيّ مع رجلين بما يستطرف من مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها : الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا. ولم يتركوا بطريقا (١) عنده إلّا أهدوا له. وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص وقالوا : ادفعا إلى كل بطريق هديّته قبل أن تكلّما النّجاشيّ. فقدما ، وقالا لكلّ بطريق : إنّه قد ضوى (٢) إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء ، خالفوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم. وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردّهم ، فإذا كلّمناه فأشيروا عليه أن يسلّمهم إلينا. فقالوا : نعم.

ثمّ قرّبا هداياهما إلى النّجاشيّ فقبلها ، فكلّماه. فقالت بطارقته : صدقا أيّها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم. فغضب النّجاشيّ ، ثم قال : لا ها الله أبدا ، لا أرسلهم إليهم. قوم جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على سواي. حتى أدعوهم فأسألهم عمّا تقولون.

ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما جاء رسوله اجتمعوا ، وقال بعضهم لبعض : ما تقولون [للرجل] (٣) إذا جئتموه؟ قالوا : نقول والله ما علّمنا الله ، وأمرنا به نبيّنا ، كائن في ذلك ما كان. فلما جاءوه وقد دعا النّجاشيّ أساقفته ، ونشروا مصاحفهم حوله ، سألهم : ما هذا الدّين الّذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل (٤).

قالت : فكلّمه جعفر بن أبي طالب ، فقال : أيّها الملك : كنّا قوما أهل

__________________

(١) البطريق : القائد من قواد الروم.

(٢) ضوى : لجأ وأوى.

(٣) إضافة عن سيرة ابن هشام ٢ / ٨٧.

(٤) في الأصل ، ح : (الملك) تصحيف ، تصويبه من ع.

١٣٠

جاهليّة نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القويّ منّا الضعيف. كنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعا إلى الله لنعبده ونوحّده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا ، من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزّور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. وعدّ أمور الإسلام. قال : فصدّقناه واتّبعناه. فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا ، [٢٤ ب] خرجنا إلى بلدك ، وآثرناك على من سواك فرغبنا في جوارك : ورجونا أن لا نظلم عندك.

قال : فهل معك شيء ممّا جاء به عن الله؟ قال جعفر : نعم. فقرأ :(كهيعص) (١) قالت : فبكى النّجاشيّ وأساقفته حتى اخضلّوا لحاهم ، حين سمعوا القرآن.

فقال النّجاشيّ (٢) : إنّ هذا والّذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا ، فو الله لا أسلّمهم إليكما أبدا.

قالت : فلما خرجنا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينّه غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال ابن أبي ربيعة ، وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإنّ لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا. قال : فو الله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى عبد.

__________________

(١) سورة مريم : الآية الأولى.

(٢) في طبعة القدسي ١١١ (للنجاشي) وهو خطأ.

١٣١

قالت : ثم غدا عليه ، فقال : أيّها الملك ، إنّهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إلينا ليسألنا. قالت : ولم ينزل [بنا] (١) مثلها.

فقال : ما تقولون في عيسى؟

فقال جعفر : نقول فيه الّذي جاء به نبيّنا : عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فضرب النّجاشيّ بيده إلى الأرض ، وأخذ منها عودا ، وقال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار.

قال : فتناخرت (٢) بطارقته حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم والله.

ثم قال لجعفر وأصحابه : اذهبوا آمنين. ما أحبّ أنّ لي دبر (٣) ذهب ، وأنّي اذيت واحدا منكم ـ والدبر بلسان الحبشة : الجبل ـ فردّوا عليهما هديتهما ، فلا حاجة لنا فيها. فو الله ما أخذ الله فيّ الرشوة فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع النّاس فيّ فأطيعهم فيه.

فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.

قالت : فو الله إنّا لعلى ذلك ، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في

__________________

(١) سقطت من الأصل ، وأثبتناها من ح ، ع.

(٢) النخر : مدّ الصوت والنفس في الخياشيم ، وقد يكون بمعنى الكلام ، قالا في اللسان والتاج :

جاء في حديث النّجاشيّ لما دخل عليه عمرو والوفد معه ، قال لهم : نخروا أي تكلّموا. قال ابن الأثير كذا فسّر في الحديث ، ولعلّه إن كان عربيا مأخوذ من النّخر أي الصوت. وزاد في اللسان : وفي الحديث أيضا تناخرت بطارقته أي تكلمت : وكأنه كلام مع غضب ونفور (انظر تاج العروس ١٤ / ١٩١).

(٣) في الأصل ، ع : (دير ـ الدير) بالياء في الموضعين والتصحيح من ح. ولم ترد الكلمة في «المعرب» للجواليقي و «شفاء الغليل» للخفاجي ، وأوردها الزبيدي في التاج (دبر). وفي سيرة ابن هشام ٢ / ٨٨ «دبرا من ذهب» ، وحديث النجاشي في تاج العروس ١١ / ٢٥٤ كما في السيرة.

١٣٢

ملكه ، فو الله ما علمنا حزنا قطّ ، أشدّ من حزن حزنّاه عند ذلك ، تخوّفا أن يظهر عليه من لا يعرف حقّنا.

فسار إليه النجاشي ، وبينهما عرض النيل.

فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا؟

فقال الزّبير بن العوّام : أنا أخرج. وكان من أحدث القوم سنّا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، وسبح عليها إلى النّاحية التي فيها الوقعة. ودعونا الله للنّجاشيّ. فو الله إنّا لعلى ذلك ، متوقّعون لما هو كائن ، إذ طلع علينا الزّبير يسعى ويلوح بثوبه. ألا أبشروا ، فقد ظهر النّجاشيّ ، وأهلك الله عدوّه. فو الله ما علمنا فرحة مثلها قطّ.

ورجع النّجاشيّ سالما ، وأهلك الله عدوّه. واستوثق له أمر الحبشة. فكنّا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة.

خرّجه د (١) من حديث ابن إسحاق عن الزّهري.

وهؤلاء قدموا مكة ، ثم هاجروا إلى المدينة. وبقي جعفر وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر.

وقد قيل إنّ إرسال قريش إلى النّجاشيّ كان مرّتين. وأنّ المرّة الثانية كان مع عمرو ، عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد.

ذكر ذلك ابن إسحاق أيضا. وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع عمارة ابن الوليد من رميه إيّاه [٢٥ أ] في البحر ، وسعى عمرو به إلى النّجاشيّ في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه. وأنّه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك

__________________

(١) كذا في النسخ الثلاث ، ولم نجده في سنن أبي داود ، وأخرجه أحمد في مسندة (٥ / ٢٩٠). والخبر بطوله في سيرة ابن هشام ٢ / ٨٦ ـ ٨٩.

١٣٣

عليه ، وأنّ الملك دعا سحرة فسحروه ونفخوا في إحليله. فتبرّر (١) ولزم البرّيّة ، وهام ، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه ، فلما قربوا منه فاضت (٢) نفسه ومات.

وقال ابن إسحاق (٣) ، قال الزّهري : حدّثت عروة بن الزّبير حديث أبي بكر عن أمّ سلمة ، فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ الله منّي الرّشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع النّاس فيّ فأطيعهم فيه؟ قلت : لا. قال : فإنّ عائشة حدّثتني أنّ أباه كان ملك قومه ، [و] لم يكن له ولد إلّا النّجاشيّ. وكان للنّجاشيّ عمّ ، له من صلبه اثنا عشر رجلا ، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة. فقالت [الحبشة (٤)] : لو أنّا قتلنا أبا النّجاشيّ وملّكنا أخاه لتوارث بنوه ملكه بعده ، ولبقيت الحبشة دهرا. قالت : فقتلوه وملكوا أخاه. فنشأ النّجاشيّ مع عمّه. وكان لبيبا حازما ، فغلب على أمر عمّه. فلما رأت الحبشة ذلك قالت : إنّا نتخوّف أن يملّكه بعده ، ولئن ملّك ليقتلنا بأبيه. فمشوا إلى عمّه فقالوا : إمّا أن تقتل هذا الفتى ، وإمّا أن تخرجه من بين أظهرنا. فقال : ويلكم! قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم؟ بل أخرجه. قال : فخرجوا به فباعوه من تاجر بستمائة (٥) درهم. فانطلق به في سفينة. فلما كان العشيّ ، هاجت سحابة من سحائب الخريف ، فخرج عمّه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو محمق (٦)

__________________

(١) التبرّر : الطاعة. يقال : فلان يبر خالقه ويتبرّره ، أي يطيعه ، وهو مجاز ، (تاج العروس ١٠ / ١٥٢).

(٢) وفي نسخة شعيرة «قاصب» من قصبه يقصبه بمعنى قطع (١٦٠).

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٩.

(٤) سقطت من الأصل ، وزدناها من ع ، ح. وفي السيرة (فقالت الحبشة بينهما).

(٥) في السيرة ٢ / ٨٩ «بمائة درهم».

(٦) المحمق : من الرجال ، كالمحمقة من النّساء ، من خرج نسله حمقى.

١٣٤

ليس في ولده خير. فمرج على الحبشة أمرهم (١) وضاق عليهم ما هم فيه. فقال بعضهم لبعض : تعلّموا ، والله ، إنّ ملككم الّذي لا يقيم أمركم غيره للّذي بعتم. قال : فخرجوا في طلبه وطلب الّذي باعوه منه ، حتى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاءوا به فعقدوا عليه التّاج وأجلسوه على سرير الملك. فجاء التاجر فقال : إمّا أن تعطوني مالي وإمّا أن أكلّمه في ذلك. فقالوا : لا نعطيك شيئا. قال : إذن والله أكلّمه. قالوا : فدونك. فجاءه فجلس بين يديه ، فقال : أيّها الملك ، ابتعت غلاما من قوم بالسّوق بستمائة درهم ، حتى إذا سرت به أدركوني ، فأخذوه ومنعوني دراهمي. فقال النّجاشيّ : لتعطنّه غلامه أو دراهمه. قالوا (٢) : بل نعطيه دراهمه.

قالت : فلذلك يقول : ما أخذ الله منّي رشوة حين ردّ عليّ ملكي ، فاخذ الرشوة فيه.

وكان ذلك أوّل ما خبر من صلابته في دينه وعدله (٣).

قال ابن إسحاق : وحدّثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لما مات النّجاشيّ كان يتحدّث أنّه لا يزال على قبره نور.

قال : وحدّثني جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : اجتمعت الحبشة فقالوا للنّجاشيّ : إنّك فارقت ديننا. وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه. فهيّأ لهم سفنا ، وقال اركبوا فيها ، وكونوا كما أنتم ، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فأثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب : هو يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله [٢٥ ب] ، وأنّ (٤) عيسى

__________________

(١) مرج عليهم الأمر : اضطرب واختلط.

(٢) في الأصل : (قال) وصحّحناها من ع ، ح. ومن السيرة لابن هشام.

(٣) السيرة ٢ / ٩٠.

(٤) في ع ، ح وفي السيرة : ويشهد أنّ.

١٣٥

عبده ورسوله وروحه وكلمته (١).

ثم جعله في قبائه (٢) وخرج إلى الحبشة. وصفّوا له ، فقال : يا معشر الحبشة ، ألست أحقّ النّاس بكم؟ قالوا : بلى. قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا : خير سيرة. قال : فما بالكم؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أنّ عيسى عبد. قال : فما تقولون أنتم؟ قالوا : هو ابن الله. فوضع يده على صدره ، على قبائه ، وقال : هو يشهد أنّ عيسى بن مريم. لم يزد على هذا شيئا ، وإنّما يعني على ما كتب. فرضوا وانصرفوا.

فبلغ ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما مات صلّى عليه واستغفر له ، رضي‌الله‌عنه (٣) وإنّما ذكرنا هذا (٤) استطرادا.

* * *

سريّة عمير بن عديّ الخطميّ (٥)

ذكر الواقدي (٦) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه لخمس بقين من رمضان ، إلى عصماء بنت مروان ، من بني أميّة بن زيد ، كانت تعيب الإسلام ، وتحرّض على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول الشعر. فجاءها عمير بالليل فقتلها عيلة (٧).

__________________

(١) في ع (وكلمته ألقاها) وفي السيرة : (و (كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ)).

(٢) القباء : نوع من الثياب تجتمع أطرافه ، وهو من ملابس الأعاجم في الأغلب.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٩ ، ٩٠.

(٤) في ح : وإنّما ذكرنا هذا بعد بدر استطرادا.

(٥) هو عمير بن عديّ بن خرشة بن أميّة بن عامر بن خطمة ، كان أبوه شاعرا ، وهو أول من أسلم من بني خطمة. ولم يشهد بدرا لضرارته. (الإصابة ٣ / ٣٣ ، ٣٤).

(٦) الواقدي : كتاب المغازي (١ / ١٧٢ ـ ١٧٤) وانظر : الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٢٧ ، ٢٨ وعيون الأثر ١ / ٢٩٣.

(٧) ويذكر الواقدي أنّ عميرا حين بلغه قولها وتحريضها قال : اللهمّ إنّ لك عليّ نذرا لئن رددت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة لأقتلنّها ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ببدر ـ فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بدر

١٣٦

غزوة بني سليم (١)

قال ابن إسحاق : (٢)

لم يقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منصرفة (٣) عن بدر بالمدينة ، إلّا سبعة أيام.

ثم خرج بنفسه يريد بني سليم ، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ (٤) ، وقيل ابن أمّ مكتوم.

فبلغ ماء يقال له : الكدر (٥). فأقام عليه ثلاثا ، ثم انصرف. ولم يلق أحدا (٦).

* * *

__________________

= جاءها عمير في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها ، وحولها نفر من ولدها نيام ، منهم من ترضعه في صدرها ، فجسّها بيده فوجد الصّبيّ ترضعه فنحّاه عنها ، ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ثم خرج حتى صلّى الصبح مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما انصرف النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى عمير فقال : أقتلت بنت مروان؟ قال : نعم ، بأبي أنت يا رسول الله. وخشي عمير أن يكون افتات على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلها ، فقال : هل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال : لا ينتطح فيها عنزان ، فإنّ أول ما سمعت هذه الكلمة من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال عمير : فالتفت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من حوله فقال : إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب ، فانظروا إلى عمير بن عديّ. فقال عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه : انظروا إلى هذا الأعمى الّذي تشدّد في طاعة الله. فقال : لا تقل الأعمى ، ولكنّه البصير.

فلمّا رجع عمير من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجد بينها في جماعة يدفنونها ، فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلا من المدينة ، فقالوا : يا عمير ، أنت قتلتها؟ فقال : نعم؟ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ، فو الّذي نفسه بيده ، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة ، وكان منهم رجال يستخفّون بالإسلام خوفا من قومهم.

(انظر : كتاب المغازي ١ / ١٧٢ ـ ١٧٤).

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٣٥ ، ١٣٦ ، وانظر تاريخ الطبري ٢ / ٤٨٢ ، ٤٨٣.

(٢) يسمّيها خليفة «غزوة الكدر» (تاريخ خليفة ٥٨).

(٣) في ح : (بعد منصرفه).

(٤) ويقال له الكناني. حدّث عنه أبو هريرة. (الإصابة ٢ / ١٣).

(٥) الكدر : قال الواقدي : بناحية المعدن قريبة من الأرحضيّة بينها وبين المدينة ثمانية برد. وقال غيره : ماء لبني سليم. (معجم البلدان ٤ / ٤٤١).

(٦) في ح : (ولم يلق كيدا ولا أحدا).

١٣٧

سريّة سالم بن عمير (١) لقتل أبي عفك

وذكر الواقدي (٢) أنّ أبا عفك اليهوديّ ، كان قد بلغ مائة وعشرين سنة ، وهو من بني عمرو بن عوف ، كان يؤذي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول الشّعر ، ويحرّض عليه. فانتدب له سالم بن عمير ، فقتله غيلة ، في شوّال منها.

* * *

غزوة السّويق

في ذي الحجّة

قال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب :

كان أبو سفيان بن حرب ، حين بلغه وقعة بدر ، نذر أن لا يمسّ رأسه دهن ولا غسل ، ولا يقرب أهله ، حتى يغزو محمدا ويحرق في طوائف

__________________

(١) ويقال : سالم بن عمرو ، ويقال ابن عبد الله بن ثابت بن النعمان بن أميّة بن امرئ القيس.

الأنصاري الأوسي. وهو أحد البكّاءين. شهد العقبة وبدرا ومات في خلافة معاوية. (الإصابة ٢ / ٥ رقم ٣٠٤٦)

(٢) الواقدي ، كتاب المغازي (١ / ١٧٤ ـ ١٧٥). وفي سريّة قتل أبي عفك يروي الواقدي عن رجاله ، أنّه لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر ، رجع وقد ظفّره الله بما ظفّره ، فحسده أبو عفك وبغى ، وذكر شعره في ذلك. فقال سالم بن عمير ، وهو أحد البكّاءين من بني النّجار : عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه. فأمهل ، فطلب له غرّة. حتى كانت ليلة صائفة ، فنام أبو عفك بالفناء ، في الصيف ، في بني عمرو بن عوف. فأقبل سالم فوضع السيف على كبده حتى خشّ في الفراش ، وصاح عدوّ الله ، فثاب إليه أناس ممن هم على قوله ، فأدخلوه منزله وقبروه ، وقالوا : من قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه به. فقالت شاعرة مسلمة تدعى النهدية أبياتا في ذلك ، منها قولها :

حباك حنيف آخر الليل طعنة

أبا عفك ، خذها على كبر السنّ

ثم قال : قتل أبو عفك في شوّال على رأس عشرين شهرا. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٢٨ وعيون الأثير ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٣.

١٣٨

المدينة. فخرج من مكة سرّا خائفا ، في ثلاثين فارسا (١) ، ليحلّ يمينه. فنزل بجبل من جبال المدينة يقال له : ثيب (٢). فبعت رجلا أو رجلين من أصحابه ، وأمرهما أن يحرّقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة. فوجدا (٣) صورا من صيران (٤) نخل العريض (٥). فأحرقا فيها وانطلقا. وانطلق أبو سفيان مسرعا.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسلمين ، حتى بلغ قرقرة الكدر (٦) ففاته أبو سفيان ، فرجع (٧).

وذكر مثل هذا ابن لهيعة عن أبي الأسود ، عن عروة (٨).

وقال : وركب المسلمون في آثارهم ، فأعجزوهم وتركوا أزوادهم.

__________________

(١) في السيرة ابن هشام ٣ / ١٣٦ «فخرج في مائتي راكب من قريش».

(٢) في الأصل وسائر النّسخ والمغازي لعروة ١٦١ : (نبت) وهو تصحيف تصحيحه من سيرة ابن هشام ٣ / ١٣٦ والمغانم المطابة للفيروزآبادي (٨٥ و ٤٣٧). وأثبته محقّق الطبري ٢ / ٤٨٤ «تيت»! وانظر عيون الأثر ١ / ٢٩٦.

(٣) في الأصل : (فوجدوا). والتصحيح من ع ، ح.

(٤) الصّور : جماعة النّخل الصغار. لا واحد له من لفظة ويجمع على صيران. ويقال لغير النخل من الشجر صور وصيران. (تاج العروس ١٢ / ٣٦٢).

(٥) العريض : واد بالمدينة ، كأنه على صيغة التصغير من عرض أو عرض ، والعرض كل واد فيه شجر ، وقيل كلّ واد فيه قرى ومياه. وأعراض المدينة بطون سوادها أو قراها التي في أوديتها ، ويقال للرساتيق بأرض الحجاز الأعراض. (معجم البلدان ٤ / ١١٤ والمغانم المطابة ٢٥٨ ـ ٢٥٩).

(٦) قرقرة الكدر : بناحية المعدن بينها وبين المدينة ثمانية برد ، وقيل ماء لبني سليم ، وقيل غير ذلك. انظر ياقوت (٤ / ٤٤١). وقال السهيليّ ٣ / ١٤٢ : القرقرة : أرض ملساء ، والكدر :

«طير في ألوانها كدر ، عرف بها ذلك الموضع».

(٧) انظر سيرة ابن هشام ٣ / ١٣٦ وتاريخ خليفة ٥٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ٣٠ وتاريخ الطبري ٢ / ٤٨٣ ـ ٤٨٥ وعيون الأثر لابن سيّد الناس ١ / ٢٩٦ والمغازي للواقدي ١ / ١٨١ ، ١٨٢ ودلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٤٣٣.

(٨) المغازي لعروة ١٦١.

١٣٩

فسمّيت غزوة أبي سفيان : غزوة السّويق.

وقال محمد بن إسحاق (١) : حدثني محمد بن جعفر بن الزّبير ، ويزيد ابن رومان ، وحدّثني من لا أتّهم ، عن عبيد الله بن كعب بن مالك ، قالوا :

لما رجع أبو سفيان إلى مكة ، ورجع فلّ قريش من يوم بدر ، نذر أن لا يمسّ رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا. فخرج في مائتي (٢) راكب ، إلى أن نزل بجبل يقال له : ثيب (٣) ، على نحو بريد من المدينة. ثم خرج من اللّيل حتى أتى (٤) حييّ بن أخطب ، فضرب عليه [٢٦ أ] بابه ، فلم يفتح له وخافه. فانصرف إلى سلّام بن مشكم ، وكان سيّد بني النّضير ، فأذن له وقراه ، وابطن له من خبر النّاس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه ، فبعث رجالا ، فأتوا ناحية العريض ، فوجدوا رجلين من المسلمين ، فقتلوهما وردّوا ونذر بهم النّاس.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم ، حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم انصرف [راجعا] (٥) وقد فاته أبو سفيان وأصحابه ، قد رموا زادا لهم (٦) في الحرث (٧) ، وسويقا كثيرا ، يتخفّفون منها للنّجاء.

فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أنطمع أن يكون لنا غزوة؟ فقال : نعم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ١٣٦.

(٢) في الأصل : (مائة). والتصحيح من ع ، ح وكتب المغازي.

(٣) في الأصل وسائر النسخ : (نبت) وانظر ما تقدم.

(٤) في ح : (أتي دار حيّ).

(٥) إضافة عن السيرة ٣ / ١٣٦.

(٦) في ع : زادهم).

(٧) في طبقة القدسي ١٢١ «جرب» وفي الطبقات الكبرى ٢ / ٣٠ «وجرب السويق» وما أثبتناه عن : السيرة لابن هشام ٣ / ١٣٦ وتاريخ الطبري ٢ / ٤٨٤.

١٤٠