إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

فعل. قال أبو جعفر : إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومن أسكن الهاء قال : الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه ، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥)

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يفعلوا ذلك (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل : فكيف جاز هذا ولا يقال : جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة ، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار ، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا : المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي هذا المثل ثم حذف هذا ، لأنه قد تقدم ذكره. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦)

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) يقال : هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي سواكم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة.

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧)

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي من الآثام. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

٢٨١

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) أي تأبون أن تتمنوه. (الَّذِي) في موضع نصب نعت للموت. (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز : إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء ، وأجاز الكوفيون (١) : إنّ ضاربك فظالم ؛ لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم ، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) عطف جملة على جملة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عطف على تردون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩)

وقرأ الأعمش (الْجُمُعَةِ) (٢) بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ (الْجُمُعَةِ) (٣) قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها ، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك ، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال : رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال : (الْجُمُعَةِ) نسب الفعل إليها أي يجمع للناس ، كما يقال : رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال قتادة : أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ولا يقال في الماضي : وذر. قال سيبويه (٤) : استغنوا عنه بترك ، وقال غيره : لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك ؛ لأن معناه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب : وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء. قال الضحّاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، وقال غيره : ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما فيه منفعتكم ومضرتكم.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠)

أي صلاة الجمعة. (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله ، وإن أهل التفسير قالوا : هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قال أبو جعفر : لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٥٦.

(٢) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا ، وهي لغة تميم ، انظر البحر المحيط ٨ / ٢٦٤.

(٣) هذه قراءة الجمهور بضم الميم ، انظر البحر المحيط ٨ / ٢٦٤.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ٢٢٦.

٢٨٢

وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي لما عليكم ووفّقكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها ، والفلاح البقاء.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) اختلف العلماء في اللهو هاهنا ، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد : اللهو الطبل. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى بالصواب ؛ لأن جابرا مشاهد للتنزيل ، ومال الفرّاء (١) إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل ، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ (انْفَضُّوا إِلَيْها) ولم يقل : إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء (٢) أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني ، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه ، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] فعاد الضمير على الثاني ، وقال جلّ وعزّ (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] فعاد عليهما جميعا (وَتَرَكُوكَ قائِماً) نصب على الحال أي قائما تخطب. (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي ما عنده من الثواب. (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.

__________________

(١) و (٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٥٧.

٢٨٣

(٦٣)

شرح إعراب سورة المنافقين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١)

(إِذا) في موضع نصب بجاءك إلا أنها غير معربة لتنقّلها وفي اخرها ألف ، والألف لا تحرّك ، وجواب إذا (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كسرت «إن» لدخول اللام وانقطع الكلام فصارت إنّ مبتدأة فكسرت (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) وأعيد اسم الله تعالى ظاهرا ؛ لأن ذلك أفخم قيل : أكذبهم الله جلّ وعزّ في ضميرهم. ومن أصحّ ما قيل في ذلك أنّهم أخبروا أنّ أنفسهم تعتقد الإيمان وهم كاذبون فأكذبهم الله.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢)

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) قال الضّحاك : هو حلفهم بالله أنّهم لمنكم ، وقال قتادة : جنّة إنّهم يعصمون به دماءهم وأموالهم ، وقرأ الحسن (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) (١) أي تصديقهم سترة يستترون به كما يستتر بالجنّة في الحرب فامتنع من قتلهم وسبي ذراريهم لأنهم أظهروا الإيمان (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يجوز أن يكون المفعول محذوفا أي صدّوا الناس ، ويجوز أن يكون الفعل لازما أي أعرضوا عن سبيل الله أي دينه الذي ارتضاه وشريعته التي بعث بها نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من حلفهم على الكذب ونفاقهم ، و «ما» في موضع رفع على قول سيبويه أي ساء الشيء وفي موضع نصب على قول الأخفش أي ساء شيئا يعملون.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٦٧ (قرأ الجمهور «أيمانهم» بفتح الهمزة ، والحسن بكسرها مصدر أمن).

٢٨٤

(ذلِكَ) في موضع رفع أي ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم. (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) فطبع على قلوبهم ، ويجوز إدغام العين في العين ، وترك الأدغام أجود لبعد مخرج العين (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حقّا من باطل ولا صوابا من خطأ لغلبة الهوى عليهم.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) وأجاز النحويون جميعا الجزم بإذا وان تجعل بمنزلة حروف المجازاة لأنها لا تقع إلّا على فعل وهي تحتاج إلى جواب وهكذا حروف المجازاة ، وأنشد الفرّاء : [الكامل]

٤٨٤ ـ واستغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتجمّل(١)

وأنشد الآخر : [البسيط]

٤٨٥ ـ نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد(٢)

والاختيار عند الخليل وسيبويه والفرّاء (٣) أن لا يجزم بإذا لأن ما بعدها موقت فخالفت حروف المجازاة في هذا ، كما قال : [الكامل]

٤٨٦ ـ وإذا تكون شديدة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب(٤)

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لأن منطقهم كمنطق أهل الإيمان (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي لا يفهمون ولا عندهم فقه ولا علم ، فهم كالخشب ، وهذه قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم وحمزة ، وقرأ أبو عمرو والأعمش والكسائي خشب (٥) بإسكان الشين وإليه يميل أبو عبيد ، وزعم أنه لا يعرف فعلة تجمع على فعل بضم الفاء والعين. قال أبو جعفر : وهذا غلط وطعن على ما روته الجماعة وليس يخلو ذلك من إحدى جهتين إمّا أن يكون خشب جمع خشبة كقولهم : ثمرة وثمر فيكون غير ما قال من جمع فعلة على فعل ، أو يكون كما قال حذّاق النحويين خشبة وخشاب مثل جفنة وجفان وخشاب

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٠٣).

(٢) الشاهد لعبد قيس بن خفاف الدرر ٣ / ١٠٢ ، وشرح اختيارات المفضّل ص ١٥٥٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٧١ ، ولسان العرب (كرب) والمقاصد النحوية ٢ / ٢٠٣ ، ولحارثة بن بدر الغداني في أمالي المرتضى ١ / ٣٨٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٨٣ ، وشرح عمدة الحافظ ٣٧٤ ، ومغني ١ / ٩٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٦.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ١٥٨.

(٤) الشاهد لابن أحمر الكناني في الأزهية ص ١٨٥ ، ولسان العرب (حيس) ، وتاج العروس (حيس) ، وبلا نسبة في شرح المفضل ٢ / ١١٠ ، وكتاب اللامات ص ١٠٦ ، وتاج العروس (حيس).

(٥) انظر تيسير الداني ١٧١.

٢٨٥

وخشب مثل حمار وحمر أيضا فقد سمع أكمة وأكم وأكم وأجمة وأجم. فأما خشب فقد يجوز أن يكون الأصل فيه خشبا حذفت الضمة لثقلها ، ويجوز وهو أجود أن يكون مثل أسد وأسد في المذكر. قال سيبويه ومثل خشبة وخشب بدنة وبدن ومثل مذكّرة وثن ووثن قال : وهي قراءة ، وأحسب من تأول على سيبويه ، وهي قراءة يعني «كأنّهم خشب» لأن قوله : وهي قراءة تضعيف لها ولكنه يريد فيما يقال : «إن تدعون من دونه إلّا وثنا» فهذه قراءة شاذة تروى عن ابن عباس (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي لجبنهم وقلة يقينهم وإنهم يبطنون الكفر كلما نزل الوحي فزعوا أن يكونوا قد فضحوا. (هُمُ الْعَدُوُّ) لأن ألسنتهم معكم وقلوبهم مع الكفار فهم عين لهم وعدو بمعنى أعداء. (فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ) أي عاقبهم فأهلكهم فصاروا بمنزلة من قتل. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي من أين يصرفون عن الحق بعد ظهور البراهين.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) هذا على إعمال الفعل الثاني كما تقول : أقبل يكلمك زيد فإن أعملت الأول قلت أقبل يكلمك إلى زيد ، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) يكون للقليل ولوّوا على التكثير. (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) في موضع الحال. (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي معرضون عن المصير إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لهم.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٦)

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ) رفع بالابتداء : (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) في موضع الخبر ، والمعنى الاستغفار وتركه. (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأنهم كفار وإنّما استغفر لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ظاهرهم الإسلام فمعنى استغفاره لهم اللهم اغفر لهم إن كانوا مؤمنين (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) قيل : أي لا يوفّقهم ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب والجنّة.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٧)

(يَنْفَضُّوا) أي يتفرقوا. قال قتادة : الذي قال هذا عبد الله بن أبيّ ، قال : لو لا أنكم تنفقون عليهم لتركوه وخلّوا عنه. قال أبو الحسن علي بن سليمان : «هم» كناية عنهم وعن من قال بقوله. قال أبو جعفر : وهذا أحسن من قوله من قال «هم» كناية عن واحد. (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض فلا

٢٨٦

يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أن ذلك كذا ، فلهذا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضوا.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨)

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) وحكى الكسائي والفرّاء (١) أنه يقرأ لنخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ (٢) بالنون وأن ذلك بمعنى لنخرجنّ الأعز منها ذليلا ، وحكى الفرّاء : ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، بمعنى ذليلا أيضا وأكثر النحويين لا يجيز أن تكون الحال بالألف واللام غير أن يونس أجاز : مررت به المسكين ، وحكى سيبويه (٣) : دخلوا الأوّل فالأوّل ، وهي أشياء لا يجوز أن يحمل القرآن عليها إلّا أن علي بن سليمان قال : يجوز أن يكون ليخرجنّ» تعمل عمل لتكونن فيكون خبره معرفة ، والأعز والعزيز واحد أي القوي الأمين المنيع كما قال : [الطويل]

٤٨٧ ـ إذا ابتدر القوم السّلاح وجدتني

عزيزا إذا بلّت بقائمة يدي(٤)

ويروى «منيعا» والمعنى واحد. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي فكذلك قالوا هذا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٩)

أي لا توجب لكم اللهو كأنّه من ألهيته فلهي ، كما قال : [الطويل]

٤٨٨ ـ ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول(٥)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي المغبونون الرحمة والثواب.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠)

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) قيل : دلّ بهذا على أنه لا يقال رزقه الله جلّ وعزّ إلّا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٧٠.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٤٦٦.

(٤) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٣٨ ، وكتاب العين ٨ / ٣١٩ ، وتاج العروس (بلل) وأساس البلاغة (بلل).

(٥) مرّ الشاهد رقم (٣٨٥).

٢٨٧

الحلال (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) جواب (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على موضع الفاء لا على ما بعد الفاء ، وقرأ الحسن وابن محيصن وأبو عمرو وأكون (١) بالنصب عطفا على ما بعد الفاء وقد حكي أنّ ذلك في قراءة أبيّ وابن مسعود كذا وأكون إلّا أنه مخالف للسواد الذي قامت به الحجّة ، وقد احتج بعضهم فقال : الواو تحذف من مثل هذا كما يقال : «كلمن» فتكتب بغير واو. وحكي عن محمد بن يزيد معارضة هذا القول بأن الدليل على أنه ليس بصحيح أنّ كتب المصحف في نظيره على غير ذلك نحو يكون وتكون ونكون كلها بالواو في موضع الرفع والنصب ولا يجوز غير ذلك ، وقال غيره : حكم «كلمن» غير هذا لأنه إنما حذف منه الواو لأنهم إنما أرادوا أن يروا أن صورة الواو متصلة فلما تقدّمت في «هوّز» لم تحتج إلى إعادتها وكذلك لم يكتبوها في قولهم «أبجد» فأما في الكلام فلا يجوز من هذا شيء ، ولا يحتاج إليه لأن العطف على الموضع موجود في كلام العرب كثير. قال سيبويه : لو لم تكن الفاء لكان مجزوما يعني لأنه جواب الاستفهام الذي فيه معنى التمني ، كما قال أنشد غير سيبويه : [الوافر]

٤٨٩ ـ فأبلوني بليّتكم لعلّي

أصالحكم وأستدرج نويّا(٢)

وأنشد سيبويه في العطف على الموضع : [الطويل]

٤٩٠ ـ فإن لم تجد من دون عدنان والدا

ودون معدّ فلتزعك العواذل(٣)

لأن معنى من دون عدنان دون عدنان ، وأنشد : [الوافر]

٤٩١ ـ معاوي إنّنا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا(٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٠.

(٢) الشاهد لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ٣٥٠ ، والخصائص ١ / ١٧٦ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٠١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، وللهذليّ في مغني اللبيب ٢ / ٤٧٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٣.

(٣) الشاهد للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٥ ، والكتاب ١ / ١١٤ ، وأمالي المرتضى ١ / ١٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٥٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١٣١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٥١ ، والمعاني الكبير (١٢١١) ، والمقاصد النحوية ١ / ٨ ، والمقتضب ٤ / ١٥٢ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٨٢ ، وشرح التصريح ١ / ٢٨٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٦ ، والمحتسب ٢ / ٤٣ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٧٢.

(٤) الشاهد لعقبة أو لعقيبة الأسدي في الكتاب ١ / ١١٣ ، والإنصاف ١ / ٣٣٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٦٠ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١٣١ ، وسمط اللآلي ص ١٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٣٠٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٠ ، ولسان العرب (غمز) ، ولعمر بن أبي ربيعة في الأزمنة والأمكنة ٢ / ٣١٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٣١٣ ، وأمالي ابن الحاجب ص ١٦٠ ، ورصف المباني ١٢٢.

٢٨٨

وكذا قوله : [الكامل]

٤٩٢ ـ لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (١)

وكذا قوله : [السريع]

٤٩٣ ـ لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الخرق على الرّاقع(٢)

على الموضع وإن جئت به على اللفظ قلت ولا خلّة ومثله من القرآن (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] على موضع الفاء وبالرفع على ما بعد الفاء ، وأصل فأصّدّق فأتصدق أدغمت التاء في الصاد ، وحسن ذلك ؛ لأنهما في كلمة واحدة ولتقاربهما ، وروى الضحّاك عن ابن عباس «فأصّدّق» وأزكّي (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أحجّ ، وقال غيره : أكن من الصالحين أؤدي الفرائض وأجتنب المحارم ، والتقدير : وأكن صالحا من الصالحين.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) نصب بلن عند سيبويه وعند الخليل الأصل «لا أن» وحكي عنه لا ينتصب فعل إلّا بأن مضمرة أو مظهرة ، وردّ سيبويه ذلك بأنه يجوز : زيدا لن أضرب ، ولا يجوز : زيدا يعجبني أن تضرب ، لأنه داخل في الصلة فلا يتقدّم. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : لا يجوز عندي : زيدا لن أضرب ؛ لأن «لن» لا يتصرّف فلا يتقدم عليها ما كان من سبب ما عملت فيه كما لا يجوز : زيدا إنّ عمرا يضرب ، وكذا «لم» عنده ، وحكيت هذا لأبي إسحاق فأنكره وقال : لم يقل هذا أحد ، وزعم أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بلن وهذا لا يعرف. (يُؤَخِّرَ) مهموز لأن أصله من أخّر وتكتب الهمزة واوا وإن كانت مفتوحة لعلتين إحداهما أن قبلها ضمة والضمة أغلب لقوتها ، والأخرى أنه لا يجوز أن تكتب ألفا لأن الألف لا ينون قبلها إلا مفتوحا ، ومن خفّف الهمزة قلبها واوا فقال : يؤخّر ، فإن قيل : لم لا تجعل بين بين؟ فالجواب أنها لو جعلت بين بين نحي بها نحو الألف فكان ذلك خطأ ؛ لأن الألف لا

__________________

(١) الشاهد لرجل من بني مذحج في الكتاب ٢ / ٣٠٢ ، ولضمرة بن جابر في خزانة الأدب ٢ / ٣٨ ، وهو لرجل من مذحج أو لضمرة بن ضمرة أو لهمام أخي جساس ابني مرّة في تخليص الشواهد ٤٠٥ ، وهو لهنيّ بن أحمر أو لزرافة الباهلي في لسان العرب (حيس) ، ولابن أحمر في المؤتلف والمختلف ص ٣٨ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٣٩ ، ولهمام بن مرّة في الحماسة الشجرية ١ / ٢٥٦ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ٢٤١ ، والأشباه والنظائر ٤ / ١٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب ٥٩٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٦ ، وصدره :

«هذا لعمركم الصّغار بعينه»

(٢) مرّ الشاهد رقم (٤٠).

٢٨٩

يكون ما قبلها إلا مفتوحا (إِذا جاءَ أَجَلُها) على تحقيق الهمزتين ، فإن شئت خفّفت ، وأبو عمرو يحذف للدلالة لما كانت حركتهما واحدة وكانت الهمزة مستقلة. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي ذو خبرة بعملكم ، فهو يحصيه عليكم وليجازيكم عليه. وهذا ترتيب الكلام أن يكون الخافض والمخفوض طرفا لأنهما تبيين فإن تقدم من ذلك شيء فهو ينوى به التأخير ولهذا أجمع النحويون أنه لا يجوز : لبست ألينها من الثياب ؛ لأن الخافض والمخفوض متأخران في موضعهما فلا يجوز أن ينوى بهما التقديم ، وتصحيح المسألة لبس من الثياب ألينها ، فإن قدرت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة أي خبير بما تعملونه. حذفت لطول الاسم ، وإن قدّرت «ما» بمعنى المصدر لم تحتج إلى حذف أي والله ذو خبرة بعملكم.

٢٩٠

(٦٤)

شرح إعراب سورة التغابن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يكون هذا تمام الكلام ، وقد يكون متصلا ويكون له ما في السموات ، ويكون (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) في موضع الحال أي سلطانه وأمره وقضاؤه نافذ فيهما. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ذو قدرة على ما يشاء يخلق ما يشاء ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ لا يعجزه شيء لأنه ذو القدرة التامة.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) إن شئت أدغمت القاف في الكاف (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي مصدّق يوقن أنه خالقه وإلهه لا إله له غيره (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عالم بأعمالكم فلا تخالفوا أمره ونهيه فيسطو بكم.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي بالعدل والإنصاف. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) وعن أبي رزين (صَوَّرَكُمْ) شبّه فعلة بفعلة كما أنّ فعلة تشبه بفعلة قالوا : كسوة وكسى ورشوة ورشى ولحية ولحى أكثر ، وقالوا : قوّة وقوى. قال أبو جعفر وهذا لمجانسة الضمة الكسرة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي مصير جميعكم فيجازيكم على أفعالكم.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤)

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويجوز إدغام الميم في الميم ، وكذا (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) والمعنى : ويعلم ما تسرّونه وما تعلنونه بينكم من قول وفعل (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عالم بضمائر صدوركم وما تنطوي عليه نفوسكم الذي هو أخفى من السرّ.

٢٩١

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥)

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الأصل يأتيكم حذفت الياء للجزم ، ومن قال : ألم يأتيك الأصل عنده يأتيك فحذفت الضمة للجزم إلّا أن اللغة الفصيحة الأولى. قال سيبويه : واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : قرأنا على محمد بن يزيد واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع والجر حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع والجر (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مستهم العقوبة بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦)

(ذلِكَ بِأَنَّهُ) الهاء كناية عن الحديث وما بعده مفسّر له خبر عن أنّ (كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) فقال : يهدوننا ، ولفظ بشر واحد. تكلّم النحويون في نظير هذا فقال بعضهم : يهدوننا على المعنى ويهدينا على اللفظ ، وقال المازني : وذكر عللا في مسائل في النحو منها أن النحويين أجازوا أن يقال : جاءني ثلاثة نفر ، وثلاثة رهط ، وهما اسمان للجميع ولم يجيزوا جاءني ثلاثة قوم ولا ثلاثة بشر ، وهما عند بعض النحويين اسمان للجميع فقال المازني : إنما جاز جاءني ثلاثة نفر وثلاثة رهط لأن نفرا ورهطا لأقل العدد فوقع في موقعه. وبشر للعدد الكثير وقوم للقليل والكثير ، فلذلك لم يجز فيهما هذا وخالفه محمد بن يزيد في اعتلاله في بشر ووافقه في غير فقال : بشر يكون للواحد والجميع. قال الله جلّ وعزّ : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] قال : فلذلك لم يجز جاءني ثلاثة بشر (فَكَفَرُوا) أي جحدوا أنبياء الله جلّ وعزّ وآياته (وَتَوَلَّوْا) أي أدبروا عن الإيمان (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عن جميع خلقه (حَمِيدٌ) أي محمود عندهم بما يعرفونه من نعمه وتفضّله.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧)

(أَنْ) وما بعدها تقوم مقام مفعولين (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) من قبوركم (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي تخبرون به وتحاسبون عليه (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل ؛ لأنه لا يعجزه شيء.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٨)

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي القرآن. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مبتدأ وخبره.

٢٩٢

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) العامل في يوم لتنبّؤنّ والضمير الذي في يجمعكم يعود على اسم الله ، ولا يجوز أن يعود على اليوم لو قلت : جئت يوم يوافقك ، لم يجز ، لا يضاف اليوم إلى فعل يعود عليه منه ضمير لعلّة ليس هذا موضع ذكرها (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) مبتدأ وخبره ، ويجوز في غير القرآن نصب يوم على الظرف (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) معطوف ، ويجوز رفع ويعمل على أنه في موضع الحال (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي نمحو عنه سيّئاته (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) نصب على الحال (أَبَداً) على الظرف (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) مبتدأ وخبره والفوز النجاء.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا وحججنا وأي كتابنا (وَالَّذِينَ) رفع بالابتداء (أُولئِكَ) مبتدأ ثان (أَصْحابُ النَّارِ) خبر الثاني والجملة خبر الذين (خالِدِينَ فِيها) على الحال (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) رفع ببئس المصير مصيرهم إلى النار.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ما هاهنا نفي لا موضع له من الإعراب (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) وقراءة عكرمة (يَهْدِ قَلْبَهُ) (١) بفتح الدال ورفع قلبه على أن الأصل فيه يهدى قلبه أي يسكّن فأبدل من الهمزة ألفا ثمّ حذفها للجزم ، كما قال : [الطويل]

٤٩٤ ـ سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي بما كان وبما هو كائن. (٢)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٢)

(وَأَطِيعُوا اللهَ) أي فيما أمركم به ونهاكم عنه (الرَّسُولَ) عطف (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أدبرتم واستكبرتم عن طاعته وعصيتموه (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أن يبلّغ والمحاسبة والعقوبة إلى الله جلّ وعزّ.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٧٥.

(٢) مرّ الشاهد رقم (١٦).

٢٩٣

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تصلح الألوهية إلّا له (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمر ، والأصل كسر اللام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤)

(عَدُوًّا) اسم «إنّ» وعدوّ يكون بمعنى أعداء. قيل : أي يأمرونكم بالمعاصي وينهونكم عن الطاعة ، وهذا أشد العداوة. (فَاحْذَرُوهُمْ) أي أن تقبلوا منهم (وَإِنْ تَعْفُوا) حذفت النون للجزم (وَتَصْفَحُوا) عطف عليه ، وكذا (وَتَغْفِرُوا) أي إن تعفوا عما سلف منهم ، وتصفحوا عن عقوبتهم وتغفروا ذنوبهم من غير ذلك. (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب رحيم أي يعذبه بعد التوبة.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥)

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) قال قتادة : أي بلاء ، روى ابن زيد عن أبيه قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فرأى الحسن والحسين يعبران فنزل من على المنبر وضمّهما إليه وتلا (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) قال قتادة : (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي الجنة.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) «ما» في موضع نصب أي فاتقوا الله قدر ما استطعتم أي قدر استطاعتكم مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقول قتادة إنّ هذه الآية ناسخة لقوله جلّ وعزّ : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [ال عمران : ١٠٢] قول لا يصحّ ، ولا يقع الناسخ والمنسوخ إلا بالتوقيف أو إقامة الحجة القاطعة ، والآيتان متفقتان لأن الله جلّ وعزّ لا يكلف ما لا يستطاع. فمعنى اتقوا الله حقّ تقاته هو فيما استطعتم. (وَاسْمَعُوا) أي ما تؤمرون به (وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) في نصب «خيرا» أربعة أقوال : مذهب سيبويه أن المعنى وأتوا خيرا لأنفسكم ، وقيل : المعنى يكن خيرا لأنفسكم والقول الثالث إنفاقا خيرا لأنفسكم ، والقول الرابع أن تنصب خيرا بأنفقوا ويكون الخير المال (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وحكى الفراء أنه قرئ ومن يوق شح نفسه (١) بكسر الشين ، وهي شاذة. (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين ظفروا بما طلبوا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٦.

٢٩٤

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (١٧)

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي بإنفاقكم في سبيله (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) مجازاة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) عطف ، ويجوز رفعه بقطعه من الأول ونصبه على الصرف (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) أي يشكر من أنفق في سبيله ، ومعنى شكره إياه إثابته له وقبوله عمله (حَلِيمٌ) في ترك العقوبة في الدنيا.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

يجوز أن يكون (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو نعت اسم الله جلّ وعزّ ، ويكون عالم الغيب خبرا ثانيا أو نعتا إن كان بمعنى المضيّ ؛ لأنه يكون معرفة ، ويجوز أن يكون كلّه بدلا لأن المعرفة تبدل من النكرة.

٢٩٥

(٦٥)

شرح إعراب سورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) نعت لأيّ فإن همزته فهو مشتقّ من أنبأ أي أخبر ، وإن لم تهمز جاز أن يكون من أنبأ وخفّفت الهمزة وفيه شيء لطيف من العربية وذلك أن سبيل الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن أن تلقى حركتها على ما قبلها ، ولا يجوز ذلك هاهنا. والعلّة فيه أن هذه الياء لا تتحرك بحال فلما لم يجز تحريكها قيل : نبيّ وخطيّة ولو كان على القياس لقيل خطيّة وإن جعلته من نبا ينبو لم يهمز وكانت الياء الأخيرة منقلبة من واو. (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي إذا أردتم ذلك وهو مجاز. فأما القول في (إِذا طَلَّقْتُمُ) وقبله (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) فقد ذكرنا فيه أقوالا ، وقد قيل : هو مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخاطبة الجميع على الإجلال له كما يقال للرجل الجليل : أنتم فعلتم ، والمعنى : إذا طلقتم النساء اللاتي دخلتم بهن. (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فبين الله جلّ وعزّ هذا على لسان نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال السدي : أي احفظوها. (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) أي لا تتجاوزوا ما أمركم به (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) ثم استثنى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) «أن» في موضع نصب واختلف العلماء في هذه الفاحشة ما هي؟ فمن أجمع ما قيل في ذلك أنها معصية الله جلّ وعزّ ، فهذا يدخل فيه كل قول ؛ لأنها إن زنت أو سرقت فأخرجت لإقامة الحدّ فهو داخل في هذا ، وكذلك إن بذؤت أو نشزت. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأشياء التي حدّها من الطّلاق والعدّة وألّا تخرج الزوجة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) حذفت الألف للجزم (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) قيل : أي منعها مما كان أبيح له. لأنه إذا طلّقها ثلاثا على أي حال كان لم يحلّ له أن يرتجعها حتّى تنكح زوجا غيره فقد ظلم نفسه بهذا الفعل (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أكثر أهل التفسير على أن المعنى إنه إذا طلّقها واحدة كان أصلح له (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) من محبّته لها.

٢٩٦

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢)

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي قاربن ذلك (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي بما يجب لهن عليكم من النفقة وترك البذاء وغير ذلك (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بدفع صداقهنّ إليهن وما يجب لهن (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أكثر أهل التفسير على أن هذا في الرجعة ، وعن ابن عباس يشهد على الطلاق والرجعة إلّا أنه إن لم يشهد لم يكن عليه شيء (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي اشهدوا بالحقّ إذا شهدتم وإذا أديتم الشهادة كما قال السدّي ذلك في الحق. (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) «ذلكم» مخاطبة لجميع وإخبار عن واحد ؛ لأن أخر الكلام لمن تخاطبه وأوله لمن تخبر عنه أو تسأل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) أهل التفسير على أن المعنى أنه إن اتّقى الله جلّ وعزّ وطلّق واحدة فله مخرج إن أراد أن يتزوّج تزوّج وإن لم يتّق الله جلّ وعزّ وطلّق ثلاثا فلا مخرج له : وهذا قول صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس بالأسانيد التي لا تدفع. روى ابن عليّة عن أيّوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد ، قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : يا ابن عباس إني طلّقت امرأتي ثلاثا فأطرق ابن عباس مليّا ثمّ رفع رأسه إلى الرجل فقال : يأتي أحدكم الحموقة ثمّ يقول : يا ابن عباس طلّقت ثلاثا فحرمت عليك حتّى تنكح زوجا غيرك ، ولم يجعل الله لك مخرجا ولو اتقيته لجعل لكم مخرجا ثمّ تلا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لا تدفع صحته أنه قال رضي الله عنه في الحرام : إنه ثلاث لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال قتادة : من حيث يرجو ولا يأمل (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه. وأحسبني الشيء كفاني. وهذا تمام الكلام ثمّ قال : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قال مسروق : أي بالغ أمره توكّل عليه أم لم يتوكّل أي منفذ قضاؤه. قال هارون القارئ : في عصمة يقرأ (١) (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) وهذا على حذف التنوين تخفيفا ، وأجاز الفراء (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (٢) بالرفع بفعله بالغ ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره في موضع خبر «إنّ» (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي للطلاق والعدّة منتهى ينتهي إليه.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٢ (قرأ حفص «بالغ» بغير تنوين و «أمره» بالخفض والباقون بالتنوين ونصب «أمره»).

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦٣.

٢٩٧

وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤)

(اللَّائِي) في موضع رفع بالابتداء فمن جعل إن ارتبتم متعلقا بقوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) فخبر الابتداء عنده (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) ومن جعل التقدير على ما روي أن أبيّ بن كعب قال : يا رسول الله الصغار والكبار اللائي يئسن من المحيض (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) لم يذكر عدتهن في القرآن ، فأنزل الله جلّ وعزّ : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) الآية قال : خبر الابتداء «إن ارتبتم» وما بعده ، ويكون المعنى إن لم تعلموا وارتبتم في عدّتهن فحكمهن هذا. وأما قول عكرمة في معنى «إن ارتبتم» انه إن ارتبتم في الدم فلم تدروا أهو دم حيض أم استحاضة؟ (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) يقول : قد رد من غير جهة ، وذلك أنه لو كان الارتياب بالدم لقيل: إن ارتبتنّ ؛ لأن الارتياب بالدم للنساء ، وأيضا فإن اليأس في العربية انقطاع الرجاء ، والارتياب وجود الرجاء فمحال أن يجتمعا (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معطوف على الأول وتم الكلام ثمّ قال : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). قال أبو جعفر : في هذا قولان : أحدهما أنه لكل حامل مطلقة مدخول بها أو متوفى عنها زوجها إذا ولدت فقد حلّت وهذا قول أبيّ بن كعب بن مسعود ، والقول الثاني أنّ هذا للمطلقات فقط وأنّ المتوفى عنها زوجها إذا ولدت قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشر لم تحلل حتّى تنقضي أربعة أشهر وعشر ، وكذا إن انقضت أربعة أشهر ولم تلد لم تحلل حتّى تلد. وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ، والقول الأول أولى بظاهر الكلام : لأنه قال جلّ وعزّ : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) على العموم فلا يقع خصوص إلّا بتوقيف من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولاتُ الْأَحْمالِ) رفع بالابتداء (أَجَلُهُنَ) مبتدأ ثان (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) خبر الثاني والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون أجلهن بدلا من أولات والخبر «أن يضعن حملهنّ» (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أهل التفسير على أن المعنى من يتّق الله إذا أراد الطلاق فيطلق واحدة كما حدّ له (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) بأن يحلّ له التزوج لا كمن طلق ثلاثا.

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (٥)

(ذلِكَ) أي ذلك المذكور من أمر الطلاق والحيض والعدد (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) لتأتمروا به (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي يخفه بأداء فرائضه واجتناب محارمه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يمح عن ذنوبه (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يجزل له الثواب. قال أبو جعفر ولا نعلم أحدا قرأ إلا هكذا على خلاف قول : عظّم الله أجرك.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦)

٢٩٨

(أَسْكِنُوهُنَ) قيل : هذا الضمير يعود على النساء جمع المدخول بهنّ وقيل على المطلقات أقل من ثلاث وإن المطلقات ثلاثا لا سكن لهن ولا نفقة. وبذلك صحّ الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستدل على ذلك أيضا بقوله (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فخص الحوامل وحدهن ، وأيضا فإنهن إذا طلّقن ثلاثا فهن أجنبيّات (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) شرط ومجازاة. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) قال سفيان : أي ليحثّ بعضكم بعضا (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) قال السّدي : أي إن قالت المطلقة لا أرضعه لم تكره قال تعالى : (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧)

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) جاءت لام الأمر مكسورة على بابها وسكنت في (فَلْيُنْفِقْ) لاتصالها بالفاء ؛ ويجوز كسرها أيضا فأجاز الفراء (١) ومن قدر (٢) عليه رزقه فلينفق ممّا آتيه الله أي على قدر ما رزقه الله من التضييق وقد روي عن ابن عباس (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه وأنفقه. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) قال السدي : لا يكلّف الله الفقير نفقة الغني ، وقال ابن زيد : لا يكلّف الفقير أن يزكّي ويصدّق (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي إمّا في الدنيا وإما في الآخرة ليرغب المؤمنون في فعل الخير.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٨)

أي مخفوض بالكاف ، وصارت كأيّ بمعنى كم للتكثير ، والمعنى : وكم من أهل قرية عتوا عن أمر ربهم ثمّ أقيم المضاف إليه مقام المضاف. وقال ابن زيد : عتوا هاهنا عصوا كفروا. والعتو في اللغة التجاوز في المخالفة والعصيان. وقد روى عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان في قوله جلّ وعزّ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) الآية قال : هؤلاء قوم عذّبوا في الطلاق (فَحاسَبْناها) أي بالنعم والشكر. (حِساباً) مصدر. (شَدِيداً) من نعته. قال ابن زيد : الحساب الشديد : الذي ليس فيه من العفو شيء (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي ليس بمعتاد. قال الفراء (٣) : فيه للتقديم والتأخير أي عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦٤.

(٢) انظر البحر المحيط ٢ / ٢٨٢ (قرأ الجمهور «قدر» مخفّفا وابن أبي عبلة مشدّد الدال).

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ١٦٤.

٢٩٩

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) (٩)

(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) قال السدّي : أي عقوبة أمرها. وأمرها الكفر والعصيان (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي غبنا ؛ لأنهم باعوا نعيم الآخرة بحظّ خسيس من الدنيا باتباع أهوائهم.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (١٠)

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) وهو عذاب النار. (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) نداء مضاف و (الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب على النعت لأولي الألباب. (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) قال السدي : الذكر القرآن والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتقدير في العربية على هذا ذكرا ذا رسول ثمّ حذف مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، ويجوز أن يكون رسول بمعنى رسالة مثل (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [مريم : ١٩] فيكون رسولا بدلا من ذكر ، ويجوز أن يكون التقدير أرسلنا رسولا فدلّ على الضمر ما تقدّم من الكلام ، ويجوز في غير القرآن رفع رسول ؛ لأن قوله «ذكرا» رأس آية ، والاستئناف بعد مثل هذا أحسن ، كما قال جلّ وعزّ : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٧ ، ١٨] وكذا. (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ١١] فلمّا كملت الآية قال جلّ وعزّ : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) [التوبة : ١١١ ، ١١٢] ، وكذا (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦].

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١)

(يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) نعت لرسول. (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) جزم بالشرط (وَيَعْمَلْ) عطف عليه ، ويجوز رفعه على أن يكون في موضع الحال. (صالِحاً) أي بطاعة الله جلّ وعزّ : (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مجازاة. (خالِدِينَ فِيها) على الحال (أَبَداً) ظرف زمان (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي وسع عليه في المطعم والمشرب.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) يكون اسم الله تعالى بدلا أو على إضمار مبتدأ والذي نعت ، ويجوز أن يكون «الله خلق سبع سموات» مبتدأ وخبره (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) عطف ، وحكى أبو حاتم أن عاصما قرأ (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١) قطعه من الأول ورفع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٨٣ ، ومختصر ابن خالويه ١٥٨.

٣٠٠