إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ويدلّك على هذا حديث عمر مع صحّة إسناده واستقامة طريقته قرئ على أحمد بن شعيب عن عبيد الله بن سعيد ويحيى بن موسى وهارون بن عبد الله قالوا : حدّثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أويس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ، وما بقي جعله في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله. فقد دلّ هذا على أن الآية الثانية حكمها خلاف حكم الأولى ؛ لأن الأولى تدلّ على هذا إن ذلك شيء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية الثانية ، على خلاف ذلك قال الله جلّ وعزّ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ) قيل : هذا افتتاح كلام ، وكلّ شيء لله : والتقدير فلسبل الله (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهم بنو هاشم وبنو المطّلب (وَالْيَتامى) وهم الّذين لم يبلغوا الحلم وقد مات آباؤهم ، (وَالْمَساكِينِ) وهم الذين قد لحقهم ذلّ المسكنة مع الفاقة ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهم المسافرون في غير معصية المحتاجون (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) الضمير الّذي في يكون يعود على ما أي لا يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة يتداوله الأغنياء فيعملون فيه ما يحبون ، فقسمه الله جلّ وعزّ هذا القسم. وقرأ يزيد بن القعقاع كي لا تكون دولة (١) بالرفع وتأنيث «تكون» دولة اسم «تكون» «بين الأغنياء» الخبر ، ويجوز أن يكون بمعنى يقع فلا يحتاج إلى خبر مثل (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) [البقرة : ٢٨٢ ، والنساء : ٢٩] «وأغنياء» جمع غنيّ ، وهكذا جمع المعتل وإن كان سالما جمع على فعلاء وفعال نحو كريم وكرماء وكرام ، وقد قالت العرب في السالم : نصيب وأنصباء شبه بالمعتل وشبهوا بعض المعتل أيضا بالسالم. حكى الفرّاء (٢) : نفي ونفواء بالفاء شبّه بالسالم وقلبت ياؤه واوا. (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) حكى بعض أهل التفسير أنّ هذا في الغنائم واحتجّ بأن الحسن قال : وما أتاكم الرسول من الغنائم فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول قال أبو جعفر : فهذا ليس يدلّ على أن الآية فيه خاصة بل الآية عامة. وعلى هذا تأولها أصحاب رسول الله فقال عبد الله بن مسعود : إن الله لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمّصة ، فقيل له : قد قرأنا القرآن فما رأينا فيه هذا فقال : قد لعنهنّ رسول الله وقال الله (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وعن ابن عباس نحو من هذا في النهي عن الانتباذ في النّقير والمزفّت. (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروا عقابه في عصيانكم رسوله. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي شديد عقابه لمن خالف رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٤٤ ، وتيسير الداني ١٧٠.

(٢) انظر المنقوص والممدود ١٤.

٢٦١

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨)

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) قيل : هو بدل ممن قد تقدّم ذكره بإعادة الحرف مثل (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) [سبأ : ٣٢] لمن آمن منهم ، وقيل : التقدير كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم لكي يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أي أخرجهم المشركون. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) في موضع نصب على الحال ، وكذا (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) مبتدأ وخبره ..

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)

(الَّذِينَ) في موضع خفض أي للذين ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) أي انتقل إليهم وإذا كان الذين في موضع خفض كان يحبّون في موضع نصب على الحال أو مقطوعا مما قبله (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) معطوف عليه ، وكذا (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي فاقة إلى ما اثروا به. وكلّ كوّة أو خلل في حائط فهو خصاصة. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) (١) جزم بالشرط فلذلك حذفت الألف منه ، ولا يجوز إثباتها إذا كان شرطا عند البصريين ، ويجوز عند الكوفيين وشبّهوه بقول الشاعر :

٤٧٤ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي (٢)

والفرق بين ذا والأول أن الألف لا تتحرك في حال والياء والواو قد يتحرّكان وهذا فرق بيّن ولكن الكوفيين خلطوا حروف المدّ واللين فجعلوا حكمها حكما واحدا ، وتجاوزوا ذلك من ضرورة الشعر إلى أن أجازوه في كتاب الله جلّ وعزّ ، وحملوا قراءة حمزة لا تخف دركا ولا تخشى [طه : ٧٧] عليه في أحد أقوالهم. وأهل التفسير على أنّ الشحّ أخذ المال بغير الحقّ ، وقد ذكرنا أقوالهم. والمعروف في كلام العرب أن الشّحّ أزيد من البخل ، وأنه يقال : شحّ فلان يشحّ إذا اشتدّ بخله ومنع فضل المال ، كما قال : [الوافر]

٤٧٥ ـ ترى اللّحز الشّحيح إذا أمرّت

عليه لماله فيها مهينا (٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٤٦ (قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين ، والجمهور بإسكان الواو وتخفيف القاف ، وضمّ الشين).

(٢) مرّ الشاهد رقم (٢٩٩).

(٣) الشاهد لعمرو بن كلثوم في ديوانه ٦٥ ، ولسان العرب (سخن) وخزانة الأدب ٣ / ١٧٨ ، وشرح ديوان ـ

٢٦٢

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠)

يكون (الَّذِينَ) في موضع خفض معطوفا على ما قبله أي والذين ، وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء ، كما قال مالك ليس لمن شتم أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفيء نصيب لأن الله تعالى قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) الآية ، وقال قتادة : لم تؤمروا بسب أصحاب النبيّ وإنما أمرتم بالاستغفار لهم ، وقال ابن زيد في معنى قوله (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) لا تورّث قلوبنا غلا لمن كان على دينك. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي بخلقك. (رَحِيمٌ) لمن تاب منهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١١)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) حذفت الألف للجزم ، والأصل فيه الهمز لأنه من رأى والأصل يرأى (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) «يقولون» في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس (الَّذِينَ نافَقُوا) عبد الله بن أبيّ وأصحابه وإخوانهم من أهل الكتاب بنو النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي من دياركم ومنازلكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) من ديارنا. (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع من سألنا خذلانكم. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كسرت إن لمجيء اللام ، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه أجاز فتحها في خبرها اللام ؛ لأن اللام للتوكيد فلا تغيّر هاهنا شيئا.

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١٢)

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) أي لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب ، وكان الأمر على ذلك. (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) فخبّر جلّ وعزّ بما يعلمه فإن قيل : فما وجه رفع (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول : إن أخرجوا لا يخرجوا معهم ، ولا يجوز غير ذلك ، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟ فالجواب عن هذا ، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما‌الله على معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا ، كما تقول : والله لا

__________________

ـ امرئ القيس ٣٢٠ ، وشرح القصائد السبع ٣٧٣ ، وشرح القصائد العشر ٣٢٢ ، وشرح المعلقات السبع ١٦٦ ، وتاج العروس (سخن) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لحز) ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٣٧.

٢٦٣

يقومون ، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط للثاني ، وكذا ما بعده ، وكذا (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) معطوف عليه ، ويجوز أن يكون مقطوعا منه.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣)

أي في صدور بني النضير من اليهود ، ونصبت رهبة على التمييز. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي من أجل أنّهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله جلّ وعزّ فهم يجترءون على معاصيه ولا يتخوّفون عقابه.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (١٤)

نصبت (جَمِيعاً) على الحال ، وقرية وقرى عند الفرّاء شاذّ كان يجب أن يكون جمعه قراء مثل غلوة وغلاء. قال أبو جعفر : وأنكر أبو إسحاق هذا وأن يقال شاذّ لما نطق به القرآن ، ولكنه مثل ضيعة وضيع جاء بحذف الألف.

وقيل : هو اسم للجميع. (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) وقرأ أبو عمر وابن كثير أو من وراء جدار (١) وحكي عن المكيين (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) بفتح الجيم وإسكان الدال ، ويجوز جدر على أن الأصل جدر فحذفت الضّمة لثقلها. وجدر لغة بمعنى جدار ، وجدار واحد يؤدّي عن جمع إلا أن الجمع أشبه بنسق الآية لأن قبله (إِلَّا فِي قُرىً) ولم يقل : إلّا في قرية (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) مفعول ثان لتحسب ، وليس على الحال. (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) قال قتادة : أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم ، وهم مجتمعون على معاداة أهل الحقّ. قال مجاهد : (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) لأن بني النضير يهود والمنافقين ليسوا بيهود. وفي حرف (٢) ابن مسعود وقلوبهم أشتّ يكون أفعل بمعنى فاعل أو يحذف منه «من» (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعقلون ما لهم فيه الحظّ مما عليهم فيه النّقص.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٥)

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) المعنى مثلهم كمثل الذين من قبلهم حين تمادوا على العصيان فأهلكوا. واختلف أهل التأويل في (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هاهنا فقال ابن عباس : هم بنو قينقاع ، وقال مجاهد ؛ هم أهل بدر. والصواب أن يقال في هذا : إنّ الآية عامة

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٤٧. انظر تيسير الداني ١٧٠ (قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وألف بعد الدال ، وأمال أبو عمرو فتحة الدال والباقون «جدر» بضم الجيم والدال).

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٤٨.

٢٦٤

وهؤلاء جميعا ممن كان قبلهم. (قَرِيباً) نعت لظرف (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا عذاب الله على كفرهم وعصيانهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١٦)

الكاف في موضع رفع أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ومثل بني النضير في قلوبهم منهم كمثل الشيطان. وفي معناه قولان : أحدهما أنه شيطان بعينه غرّ راهبا. وفي هذا حديث مسند قد ذكرناه ، وهكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والقول الآخر أن يكون الشيطان هاهنا اسما للجنس ، وكذا الإنسان ، كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هي عامّة.

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧)

(عاقِبَتَهُما) خبر كان وأن وصلتها اسمها. وقرأ الحسن (فَكانَ عاقِبَتَهُما) بالرفع ، جعلها اسم كان ، وذكّرها ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي (خالِدَيْنِ فِيها) على الحال. وقد اختلف النحويون في الظرف إذا كرّر فقال سيبويه (١) : هذا باب ما يثنّى فيه المستقرّ توكيدا فعلى قوله نقول : إن زيدا في الدار جالسا فيها وجالس لا يختار أحدهما على صاحبه ، وقال غيره : الاختيار النصب لئلا يلغى الظرف مرتين ، وقال الفرّاء : (٢) إنّ النصب هاهنا هو كلام العرب قال : تقول : هذا أخوك في يده درهم قابضا عليه ، والعلّة عنده في وجوب النصب أنه لا يجوز أن يقدّم من أجل الضمير فإن قلت : هذا أخوك في يده درهم قابض على دينار ، جاز الرفع والنصب ، وأنشد في ما يكون منصوبا : [الكامل]

٤٧٦ ـ والزّعفران على ترائبها

شرقا به اللّبّات والنّحر(٣)

قال أبو جعفر : وهذا التفريق عند سيبويه لا يلزم منه شيء ، وقد قال سيبويه : لو كانت التثنية تنصب لنصبت. في قولك : عليك زيد حريص عليك. وهذا من أحسن ما قيل في هذا وأبينه لأنه بيّن أن التكرير لا يعمل شيئا. (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) قيل : يعني به بني النضير ؛ لأن نسق الآية فيهم ، وكلّ كافر ظالم.

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٢٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٧.

(٣) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ٢٩٣ ، ولسان العرب (شرق) ، وتاج العروس (شرق) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ترب) ، ولسان العرب (ترب) ، والمخصص ٢ / ٢٠.

٢٦٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) والأصل ولتنظر حذفت الكسرة لثقلها واتصالها بالواو أي لتنظر نفس ما قدّمت ليوم القيامة من حسن ينجيها أو قبيح يوبقها. والأصل في غد غدو وربما جاء على أصله ثم كرّر توكيدا فقال جلّ وعزّ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩)

يكون نسي بمعنى ترك أي تركوا طاعة الله جلّ وعزّ (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) قال سفيان : أي فأنساهم حظّ أنفسهم. ومن حسن ما قيل فيه أنّ المعنى أنّ الله لما عذّبهم شغلهم عن الفكرة في أهل دينهم أو في خواصهم ، كما قال (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤]. (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله جلّ وعزّ.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)

(لا يَسْتَوِي) أي لا يعتدل. (أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) وفي حرف ابن مسعود ولا أصحاب الجنّة تكون «لا» زائدة للتوكيد. (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي الذين ظفروا بما طلبوا.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

(مُتَصَدِّعاً) نصب على الحال أي فزعا لتعظيمه القرآن. (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ودلّ بهذا على أنه يجب أن يكون من معه القرآن خائفا حذرا معظّما له منزها عمن يخالفه. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي يعرفهم بهذا. (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فينقادون إلى الحق.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٢٢)

(هُوَ) مبتدأ ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا لالتقاء الساكنين ، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء ، (الَّذِي) من نعته. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) نعت ، ولو كان بالألف واللام في الأول لكان الثاني منصوبا ، وجاز الخفض (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.

٢٦٦

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢٣)

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ومن نصب قال : إلّا إياه وأجاز الكوفيون إلّاه على أن الهاء في موضع نصب ، وأنشدوا : [البسيط]

٤٧٧ ـ فما نبالي إذا ما كنت جارتنا

ألّا يجاورنا إلّاك ديّار(١)

قال أبو جعفر : وهذا خطأ عند البصريين لا يقع بعد «إلّا» ضمير منفصل لاختلافه ، وأنشد محمد بن يزيد : «ألّا يجاورنا سواك ديّار» (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) نعت والملك مشتقّ من الملك والمالك مشتقّ من الملك ، و «القدّوس» مشتقّ من القدس وهو الطهارة كما قال حسان بن ثابت : [الوافر]

٤٧٨ ـ وجبريل أمين الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء(٢)

قال كعب : روح القدس جبرائيل عليه‌السلام. قال أبو زيد : القدس الله جلّ وعزّ وكذا القدوس وقال غيره : قيل لجبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روح الله لأنه خلقه من غير ذكر وأنثى ومن هذا قيل لعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم: روح الله جلّ وعزّ لأنه خلقه من غير ذكر ، والله القدوس أي مطهّر مما نسبه إليه المشركون. وقرأ أبو الدينار الأعرابي (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) بفتح القاف. قال أبو جعفر : ونظير هذا من كلام العرب جاء مفتوحا نحو سمّور وشبّوط ولم يجيء مضموما إلّا «السّبّوح» و «القدّوس» وقد فتحا (السَّلامُ) أي ذو السلامة من جميع الآفات. والسلام في كلام العرب يقع على خمسة أوجه : السلام التحيّة ، والسلام السّواد من القول قال الله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] ليس يراد به التحية ، والسلام جمع سلامة ، والسلام بمعنى السلامة كما تقول : اللّذاذ واللّذاذة ، «السلام» اسم الله من هذا أي صاحب السلامة والسلام شجر قوي واحدها سلامة. قال أبو إسحاق : سمّي بذلك لسلامته من الآفات. (الْمُؤْمِنُ) (٣) فيه ثلاثة أقوال : منها أن معناه الذي آمن عباده من جوره ، وقيل : المؤمن الذي آمن أولياءه من عذابه ، وقال أحمد بن يحيى ثعلب الله جلّ وعزّ : المؤمن لأنه يصدّق عباده

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٢٩ ، وأمالي ابن الحاجب ٣٨٥ ، وأوضح المسالك ١ / ٨٣ ، وتخليص الشواهد ١٠٠ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٧٨ ، والخصائص ١ / ٣٠٧ ، والدرر ١ / ١٧٦ ، وشرح الأشموني ١ / ٤٨ ، وشرح شواهد المغني ٨٤٤ ، وشرح ابن عقيل ٥٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٤١.

(٢) الشاهد لحسّان بن ثابت في ديوانه ص ٧٥ ، ولسان العرب (كفأ) و (جبر) ، وكتاب العين ٥ / ٤١٤ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٣٨٩ ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٩٦ ، وتاج العروس (كفأ) ، و (جبر) ، وأساس البلاغة (كفأ).

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٤٩.

٢٦٧

المؤمنين. قال أبو جعفر : ومعنى هذا أن المؤمنين يشهدون على الناس يوم القيامة فيصدّقهم الله جلّ وعزّ (الْمُهَيْمِنُ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المهيمن الأمين ، وبهذا الإسناد قال : الشهيد ، وقال أبو عبيدة : المهيمن الرقيب الحفيظ. قال أبو جعفر : وهذه كلها من صفات الله جلّ وعزّ فالله شاهد أعمال عباده حافظ لها أمين عليها لا يظلمهم ولا يلتهم من أعمالهم شيئا ، وحكى لنا علي بن سليمان عن أبي العباس قال : الأصل مؤيمن ، وليس في أسماء الله تعالى شيء مصغّر إنما هو مثل مسيطر أبدل من الهمزة هاء ، لأن الهاء أخفّ. (الْعَزِيزُ) أي العزيز في انتقامه المنيع فلا ينتصر منه من عاقبه (الْجَبَّارُ) فيه أربعة أقوال : قال قتادة : الجبّار الذي يجبر خلقه على ما يشاء ، قال أبو جعفر : وهذا خطأ عند أهل العربية ، لأنه إنما يجيء من هذا مجبر ولا يجيء فعّال من أفعل ، وقيل : «جبّار» من جبر الله خلقه أي نعتهم وكفاهم. وهذا قول حسن لا طعن فيه ، وقيل : جبار من جبرت العظم فجبر أي أقمته بعد ما انكسر فالله تعالى أقام القلوب لتفهّمها دلائله ، وقيل : هو من قولهم تجبّر النخل إذا علا وفات اليد كما قال : [الطويل]

٤٧٩ ـ أطافت به جيلان عند قطاعه

وردّت عليه الماء حتّى تجبّرا(١)

فقيل : جبار لأنه لا يدركه أحد (الْمُتَكَبِّرُ) أي العالي فوق خلقه (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نصبت سبحان على أنه مصدر مشتقّ من سبّحته أي نزّهته وبرّأته مما يقول المشركون ، وهو إذا أفردته يكون معرفة ونكرة فإن جعلته نكرة صرفته فقلت سبحانا وإن جعلته معرفة كما قال: [السريع]

٤٨٠ ـ أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر(٢)

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) معنى خلق الشيء قدره كما قال : [الكامل]

٤٨١ ـ ولأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يفري(٣)

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٥٨ ، وجمهرة اللغة ١٠٤٤ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٩٩ ، ومجمل اللغة ١ / ٤٥٧ ، وبلا نسبة في اللسان (جيل) وتهذيب اللغة ١١ / ١٩١ ، والمخصص ١٦ / ٣٠.

(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٩٣ ، والكتاب ١ / ٣٨٨ ، وأساس البلاغة (سبح) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٩ ، وجمهرة اللغة ٢٧٨ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، والخصائص ٢ / ٤٣٥ ، والدرر ٣ / ٧٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٥٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٥.

(٣) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٩٤ ، والكتاب ٤ / ٢٩٩ ، والدرر ٦ / ٢٩٧ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٧١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢٧٠ ، وشرح المفصّل ٩ ـ /

٢٦٨

إلّا أن محمد بن إبراهيم بن عرفة قال : معنى خلق الله الشيء قدّره مخترعا على غير أصل بلا زيادة ولا نقصان فلهذا ترك استعماله الناس هذا معنى قوله : (الْبارِئُ) قيل : معنى البارئ الخالق ، وهذا فيه تساهل لضعف من يقوله في العربية أو على أن يتساهل فيه لأنه قبله الخالق ، وحقيقة هذا أن معنى برأ الله الخلق سوّاهم وعدّلهم ألا ترى اتساق الكلام أن قبله خلق أي قدّر وبعده برى أي عدّل وسوّى وبعده (الْمُصَوِّرُ) فالصورة بعد هذين ، وقد قيل : إن المصور مشتق من صار يصير ، ولو كان كذا لكان بالياء ، ولكنه مشتق من الصورة وهي المثال. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). قال أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لله تسعة وتسعون اسما» (١) (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه دالّ على أن له محدثا ومدبّرا لا نظير له فقد صار بهيئته يسبّح لله أي منزّها له عن الأشياء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي في انتقامه ممن كفر به (الْحَكِيمُ) فيما خلقه ؛ لأن حكمته لا يرى فيها خلل ، وقيل : الحكيم بمعنى الحاكم.

__________________

ـ ٧٩ ، ولسان العرب (خلق) و (فرا) ، والمنصف ٢ / ٧٤ ، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٣٠٢.

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢ / ٣١٤ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢ / ٢١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ١٤٨ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ١٥.

٢٦٩

(٦٠)

شرح إعراب سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١)

أي نداء مفرد و (الَّذِينَ) من نعته في موضع رفع ، وبعض النحويين يجيز النصب على الموضع وقال بعضهم : «أيّ» اسم ناقص وما بعده صلة له ، وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه (١) ، والقول عندهما أنه اسم تام إلا أنه لا بدّ له من النعت مثل «من» و «ما» إذا كانتا نكرتين ، وأنشد سيبويه : [الكامل]

٤٨٢ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النّبيّ محمّد إيّانا(٢)

قوله غيرنا نعت لمن لا يفارقه. (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) بمعنى أعدائي فعدوّ يقع للجميع والواحد والمؤنث على لفظ واحد ، لأنه غير جار على الفعل ، وإن شئت جمعته وأنثته. (أَوْلِياءَ) مفعول ثان ولم يصرف أولياء لأن في اخره ألفا زائدة وكلّ ما كان في اخره ألف زائدة فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو عرفاء وشهداء وأصدقاء وأصفياء ومرضى ، وتعرف أن الألف زائدة أن نظر فعله فإن وجدت بعد اللام من فعله ألفا فهي زائدة. ألا ترى أن عرفاء فعلاء وأصفياء أفعلاء فبعد اللام ألف ، وكذلك مرضى فعلى وما كان من الجمع سوى هذا من الجمع فهو ينصرف نحو غلمان ورجال وأعدال وفلوس وشباب إلّا أن أشياء وحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لثقل التأنيث فاستثقلوا أن يزيدوا التنوين مع زيادة حرف التأنيث لأنها أريد بها أفعلاء نحو أصدقاء كأنهم أرادوا أشياء ، وهو الأصل فثقل لاجتماع الياء والهمزتين فحذفوا إحدى

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٩٠.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٠).

٢٧٠

الهمزتين ، وما أشبهها مصروف في المعرفة والنكرة نحو أسماء وأحياء وأفياء ينصرف لأنه أفعال فمن ذلك أعدال وأجمال ، وكذلك عدوّ وأعداء مصروف ، وكذلك قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) مصروف لأنه أفعال ليس فيه ألف زائدة : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) مذهب الفراء أن الباء زائدة وأن المعنى تلقون إليهم المودة. قال أبو جعفر : «تلقون» في موضع نصب على الحال ، ويكون في موضع نعت لأولياء. قال الفراء (١) : كما تقول : لا تتّخذ رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك. (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) عطف على الرسول أي ويخرجونكم (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) في موضع نصب أي لأن تؤمنوا وحقيقته كراهة أن تؤمنوا بالله ربّكم. (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي) نصبت جهادا لأنه مفعول من أجله أو على المصدر أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في طريقي الذي شرعته وديني الذي أمرت به و (ابْتِغاءَ مَرْضاتِي) عطف (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) مثل تلقون. (وَأَنَا أَعْلَمُ) قراءة أهل المدينة يثبتون الألف في الإدراج ، وقراءة غيرهم وأن أعلم بحذف الألف في الإدراج وهذا هو المعروف في كلام العرب ؛ لأن الألف لبيان الحركة فلا تثبت في الإدراج ، لأن الحركة قد ثبتت و (أَعْلَمُ) بمعنى عالم كما يقال : الله أكبر الله أكبر بمعنى كبير ، ويجوز أن يكون المعنى وأنا أعلم بكم بما أخفاه بعضكم من بعض وبما أعلنه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) ومن يلق إليهم بالمودة ويتخذهم أولياء (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي عن قصد طريق الجنة ومحجّتها.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢)

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) شرط ومجازاة فلذلك حذفت النون وكذا (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) تمّ الكلام.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣)

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) لأن أولادهم وأقرباءهم كانوا بمكة فلذلك تقرّب بعضهم إلى أهل مكّة وأعلمهم الله جلّ وعزّ أنّهم لن ينفعوهم يوم القيامة. يكون العامل في الظرف على هذا لن تنفعكم ويكون يفصل بينكم في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون العامل في الظرف (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (٢) وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة ، وقد عرف أن المعنى يفصل الله جلّ وعزّ بينكم ، وقرأ عبد الله بن عامر

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٩.

(٢) انظر تيسير الداني ١٧٠ (قرأ عامر «يفصل» بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخفّفة ، وابن عامر بضمّ الياء وفتح الفاء والصاد مشدّدة ، وحمزة والكسائي كذلك إلّا أنهما كسرا الصاد ، والباقون بضمّ الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخفّفة).

٢٧١

يفصّل على التكثير ، وقرأ عاصم يفصل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يفصّل بينكم على تكثير يفصل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مبتدأ وخبره.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٤)

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وحكى الفراء في جمعها أسى بضمّ في الجمع ، وإن كانت الواحدة مكسورة ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء ، وعند البصريين أنه يجوز الضم على تشبيه فعلة بفعلة ، ويجوز الكسر على الأصل (فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) قال عبد الرحمن بن زيد : (الَّذِينَ مَعَهُ) الأنبياء عليهم‌السلام (قالُوا لِقَوْمِهِمْ) أي حين قالوا لقومهم (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) هذه القراءة المعروفة التي قرأ بها الأئمة كما تقول : كريم وكرماء ، وأجاز أبو عمرو وعيسى إنا براء منكم (١) وهي لغة معروفة فصيحة كما تقول : كريم وكرام ، وأجاز الفراء إنا برآء منكم. قال أبو جعفر : وهذا صحيح في العربية يكون برآء في الواحد والجميع على لفظ واحد ، مثل إنني برآء منكم وحقيقته في الجمع أنا ذوو برآء. كما تقول : قوم رضى فهذه ثلاث لغات معروفة وحكى الكوفيون لغة رابعة. وحكي أن أبا جعفر قرأ بها وهو أنا برآء منكم على تقدير براع وهذه لا تجوز عند البصريين لأنه حذف شيء لغير علة. قال أبو جعفر : وما أحسب هذا عن أبي جعفر إلا غلطا لأنه يروى عن عيسى أنه قرأ بتخفيف الهمزة أنّا برأ وأحسب أن أبا جعفر قرأ كذا. (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) معطوف بإعادة حرف الخفض ، كما تقول : أخذته منك ومن زيد ، ولا يجوز أخذته منك وزيد. ألا ترى كيف السواد فيه ومما ، ولو كان على قراءة من قرأ والأرحام [النساء : ١] لكان : وما تعبدون من دون الله بغير من (كَفَرْنا بِكُمْ) أي أنكرنا كفركم. (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) لأنه تأنيث غير حقيقي أي لا نودكم. (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) استثناء ليس من الأول أي لا تستغفروا للمشركين وتقولوا يتأسّى بإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان إنما فعل ذلك عن موعدة وعدها إياه قيل : وعده أنه يظهر إسلامه ولم يستغفر له إلا بعد أن أسلم. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما أقدر أن أدفع عنك عذابه وعقابه. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) في معناه قولان : أحدهما أن هذا قول إبراهيم ومن معه من الأنبياء ، والآخر أن المعنى : قولوا ربنا عليك توكّلنا أي وكلنا أمورنا كلّها إليك ، وقيل : معنى التوكل على الله جلّ وعزّ أن يعبد وحده ولا يعبى ويوثق بوعده لمن أطاعه. (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا مما

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٢.

٢٧٢

تكره إلى ما تحبّ (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي مصيرنا ومصير الخلق يوم القيامة.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥)

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تقول : لا تسلّطهم علينا فيفتنونا (وَاغْفِرْ لَنا) ولا يجوز إدغام الراء في اللام لئلا يذهب تكرير الراء. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) في انتقامك ممن انتقمت منه (الْحَكِيمُ) في تدبير عبادك.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦)

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ولم يقل : كانت لأن التأنيث غير حقيقي معناه التأسي (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) أي ثوابه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي نجاته (وَمَنْ يَتَوَلَ) جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء ، والجواب (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧)

(أَنْ يَجْعَلَ) ومن العرب من يحذف «أن» بعد «عسى» قال ابن زيد : ففتحت مكة فكانت المودة بإسلامهم (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي على أن يجعل بينكم وبينهم مودة. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن اتخذهم أولياء وألقى إليهم بالمودة إذا تاب رحيم به لمن يعذبه بعد التوبة. والرحمة من الله جلّ وعزّ قبول العمل والإثابة عليه.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨)

قال أبو جعفر : قد ذكرناه. وليس لقول من قال : إنها منسوخة معنى : لأن البرّ في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة ، وليس هذا محظورا أن يفعله أحد بكافر. وكذا الإقساط إنما هو العدل والمكافأة بالحسن عن الحسن. ألا ترى أن بعده (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وأن في موضع خفض على البدل من (الَّذِينَ) ويجوز أن يكون في موضع نصب أي لا ينهاكم كراهة هذا.

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩)

(أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) والأصل تتولّوهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي ينصرهم ويودّهم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي الذين جعلوا المودة في غير موضعها. والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.

٢٧٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) على تذكير الجمع (مُهاجِراتٍ) نصب على الحال. (فَامْتَحِنُوهُنَ) ، أي اختبروهن هل خرجن لسبب غير الرغبة في الإسلام (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي منكم ثم حذف لعلم السامع (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) مفعول ثان. (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) وذلك لسبب هدنة كانت بينهم. (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) لأنه لا تحلّ مسلمة لكافر بحال. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي له أن ينكحها إذا أسلمت وزوجها كافر ، لأنه قد انقطعت العصمة بينهما وذلك بعد انقضاء العدة ، وكذا إذا ارتدّ وأتوهم ما أنفقوا ، وهو المهر (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وقرأ أبو عمرو ولا تمسكوا (١) يكون بمعناه أو على التكثير ، وعن الحسن ولا تمسّكوا (٢) والأصل تتمسّكوا حذفت التاء لاجتماع التاءين ، وعصم جمع عصمة يقال : أخذت بعصمتها أي بيدها ، وهو كناية عن الجماع ، و (الْكَوافِرِ) جمع كافرة مخصوص به المؤنث. (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) وذلك في المهر (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال الزهري : فقال المسلمون رضينا بحكم الله جلّ وعزّ وأبى الكفار أن يرضوا بحكم الله ويقرّوا أنه من عنده.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١١)

في معناه قولان ، قال الزهري : الكفار هاهنا هم الذين كانت بينهم وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذمة ، وقال مجاهد وقتادة : هم أهل الحرب ممن لا ذمّة له (فَعاقَبْتُمْ) وقرأ حميد الأعرج وعكرمة فعقّبتم (٣) هما عند الفراء بمعنى واحد ، مثل «ولا تصاعر» (وَلا تُصَعِّرْ) [لقمان : ١٨] وحكي أنّ في حرف عبد الله وإن فاتكم أحد من أزواجكم وإذا كان للناس صلح فيه أحد وشيء ، وإذا كان لغير الناس لم يصلح فيه أحد ، وعن مجاهد فأعقبتم (٤) وكله مأخوذ من العاقبة ، والعقبى وهو ما يلي الشيء. (فَآتُوا

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٠ (قرأ أبو عمرو مشدّدا ، والباقون مخفّفا).

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٥٤ ، والإتحاف ٢٥٦.

(٣) و (٤) نظر البحر المحيط ٨ / ٢٥٥.

٢٧٤

الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) اختلف العلماء في حكمها فقال الزهري أيعطي الذي ذهبت امرأته إلى الكفار الذين لهم ذمّة مثل صداقها ويؤخذ ممن تزوج امرأة ممن جاءت منهم فتعطاه ، وقال مسروق ومجاهد وقتادة : بل يعطى من الغنيمة. قال أبو جعفر : وهذا التأويل على أن تذهب امرأته إلى أهل الحرب ممن لا ذمّة له. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي اتّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) في موضع نصب على الحال. (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) أي على ألا يعبدن معه غيره ولا يتّخذن من دونه إلها و (يُشْرِكْنَ) في موضع نصب بأن ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى على أنهنّ ، وكذا (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وهذا الفعل كله مبني فلذلك كان رفعه ونصبه وجزمه كله واحدا ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) يقول : لا ينحن ، وقال ابن زيد : لا يعصينك في كل ما تأمرهنّ به من الخير (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولا يجوز إدغام الراء في اللام ويجوز الإخفاء ، وهو الصحيح عن أبي عمرو ، ويتوهّم من سمعه أنه إدغام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) قال ابن زيد : هم اليهود. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) (١) (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قد ذكرناه. فمن أحسن ما قيل فيه ، وهو معنى قول ابن زيد ، وقد يئسوا من ثوب الآخرة لأنهم كفروا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحدوا صفته ، وهي مكتوبة عندهم ، وقد وقفوا عليها ، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا من ثواب الآخرة أيضا ، لأنهم قد كفروا وجحدوا لكفر هؤلاء.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٥٦ (قرأ ابن أبي الزناد «الكافر» على الإفراد ، والجمهور على الجمع).

٢٧٥

(٦١)

شرح إعراب سورة الصف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

قال أبو جعفر : قوله (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي أذعن له وانقاد ما أراد جلّ وعزّ فهذا داخل فيه كل شيء ؛ لأن ما عامة في كلام العرب. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن عصاه. (الْحَكِيمُ) في تدبيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٢)

(لِمَ) الأصل لما حذف الألف لاتصال الكلمة بما قبلها وأنه استفهام.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣)

نصبت (مَقْتاً) على البيان والفاعل مضمر في كبر أي كبر ذلك القول (أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) «أن» في موضع رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ والذي يخرج من هذا ألّا يقول أحد شيئا إلا ما يعتقد أن يفعله ، ويقول : إن شاء الله لئلا يخترم دونه.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)

والمحبة منه جلّ وعزّ قبول العلم والإثابة عليه. (صَفًّا) في موضع الحال قيل : فدلّ بهذا على أن القتال في سبيل الله جلّ وعزّ والإنسان راجلا أفضل منه راكبا. (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي قد أحكم وأتقن فليس فيه شيء يزيد على شيء ، وقيل : مرصوص مبني بالرصاص.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكر. (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) نداء مضاف وحذفت

٢٧٦

الياء ، لأن النداء موضع حذف. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والأصل أنّني (فَلَمَّا زاغُوا) أي مالوا عن الحقّ. (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) مجازاة على فعلهم ، وقيل : أزاغ قلوبهم عن الثواب. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦)

أي واذكر هذا. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) منصوب على الحال ، وكذا (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وابن كثير ، وقراءة ابن محيصن وحمزة والكسائي من بعد اسمه أحمد حذف الياء في الوصل لسكونها وسكون السين بعدها ، وهو اختيار أبي عبيد ، واحتج في حذفها بأنك إذا ابتدأت قلت : اسمه فكسرت الهمزة. وهذا من الاحتجاج الذي لا يحصل منه معنى ، والقول في هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكّنها ، قد قرئ بهاتين القراءتين ، وليس منهما إلّا صواب غير أن الأكثر في ياء النفس إذا كان بعدها ساكن أن تحرّك لئلا تسقط وإذا كان بعدها متحرك أن تسكّن ، ويجوز في كلّ واحدة منهما ما جاز في الأخرى. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي فلما جاءهم أحمد بالبيّنات أي بالبراهين والآيات الباهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٧)

أي ومن أشدّ ظلما ممّن قال لمن جاءه بالبيّنات هو ساحر ، وهذا سحر مبين أي مبين لمن راه أنه سحر. (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) وهو إذا دعي إلى الإسلام قال : هذا سحر مبين ، وقراءة طلحة وهو يدّعي إلى الإسلام (٢) (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهم الذين يقولون في البيّنات هذا سحر مبين.

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٨)

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي بقولهم هذا. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أي مكمل الإسلام ومعليه. هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي متمّ نوره والأصل التنوين والحذف على التخفيف (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وحذف المفعول.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٨٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩.

(٢) انظر المحتسب ٢ / ٣٢١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٩.

٢٧٧

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩)

قول أبي هريرة في هذا : أنه يكون إذا نزل المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار الدّين كلّه دين الإسلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

قال قتادة : فلو لا أنه بيّن التجارة لطلبت قال : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وكان أبو الحسن علي بن سليمان يذهب إلى هذا ويقول «تؤمنون» على عطف البيان الذي يشبه البدل ، وحكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى «تؤمنون» آمنوا على جهة الإلزام. قال أبو العباس : والدليل على ذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ) جزم لأنه جواب الأمر وعطف عليه (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

فأما قول الأخفش سعيد : إنّ (وَأُخْرى) في موضع خفض على أنه معطوف على تجارة فهو يجوز ، وأصحّ منه قول الفراء : إنّ «أخرى» في موضع رفع بمعنى ولكم أخرى يدلّ على ذلك (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) بالرفع ولم يخفضا وعلى قول الأخفش الرفع بإضمار مبتدأ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بالنصر والفتح. والنصر في اللغة المعونة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ، وقرأ الكوفيون (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) بالإضافة وهو اختيار أبي عبيد وحجته في ذلك (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ولم يقولوا : أنصار الله. وهذه الحجة لا تلزم لأنها مختلفان لأن الأول كونوا ممن ينصرون الله فمعنى هذا النكرة فيجب أن يكون أنصارا لله وإن كانت الإضافة فيه تجوز أي كونوا الذين يقال لهم: هذا ، والثاني معناه المعرفة. ألا ترى أنك إذا قلت : فلان ناصر لله فمعناه ممن يفعل هذا ، وإذا عرفته فمعناه المعروف بهذا ، كما قال : [البسيط]

٤٨٣ ـ هو الجواد الذي يعطيك نائله

حينا ويظلم أحيانا فيظّلم(١)

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ١٥٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢١٩ ، والكتاب ٤ / ٦٠٠ ، وسمط اللئالي ص ٤٦٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٤٠٣ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩١ ، وشرح شواهد الشافية ٤٩٣ ، وشرح المفصّل ١٠ / ٤٧ ، ١٤٩ ، ولسان العرب (ظلم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨٢ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ١٤١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٧٣ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٩ ، ولسان العرب (ظنن).

٢٧٨

فأما قول القتبي معنى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي مع الله فلا يصحّ ولا يجوز : قمت إلى زيد مع زيد. قال أبو جعفر : وتقديره من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) قد بيّناه قال مجاهد : (فَأَيَّدْنَا) فقوّينا. قال إبراهيم النخعي في معنى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أيّدهم الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه إياهم أن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمة الله.

٢٧٩

(٦٢)

شرح إعراب سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢)

(يُسَبِّحُ) يكون للمستقبل والحال. (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) نعت. وفيه معنى المدح ، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني ، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر ، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون (الَّذِي) نعتا للملك فإذا خفضت كان (هُوَ) مرفوعا بالابتداء و (الَّذِي) خبره ، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) داخل في الصلة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزوجل فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ويجوز إدغام اللام في اللام.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣)

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) في موضع خفض ؛ لأنه عطف على الأميين ، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم ، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يعرّفهم بها (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ). قال ابن زيد : أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد : لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر : هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه (١) : «لمّا» جواب لمن قال : قد فعل ، و «لم» جواب لمن قال :

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ١٣٥.

٢٨٠