إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها ، (لَعِبٌ) خبر ، والمعنى : مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ). قال أبو إسحاق : الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال : ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال : ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم ، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال : و «يهيج» يبتدئ في الصفرة (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) قال : متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم» : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١).

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١)

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال أبو جعفر : قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال : العرض هاهنا السعة ومنهم من قال : هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان ، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ومنهم من قال : هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة ، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه‌الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر ، وأنشد : [الوافر]

٤٦٦ ـ فلو رفع السّماء إليه قوما

لحقنا بالسّماء مع السّحاب(٢)

وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا ، وهو أن يكون يحمل على تذكير

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ٤٣٣ ، والدارمي في سننه ٢ / ٣٣٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١٠٧ ، وابن كثير في تفسير ٢ / ٢٥٥.

(٢) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ٣٦٧ ، والمذكر والمؤنث للفراء ص ١٠٢ ، والمخصص ١٧ / ٢٢.

٢٤١

الجميع ذكر محمد بن يزيد : أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره : [الوافر]

٤٦٧ ـ سماوة الهلال حتّى احقوقفا(١)

ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ) [البقرة : ٢٩] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق ، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان ، وجمعان مكسّران لأقل العدد ، وجمعان مكسّران لأكثره ، وذلك قولك : سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال : [الطويل]

٤٦٨ ـ سماء الإله فوق سبع سمائيا(٢)

فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء ، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد ، فكان يجب على هذا أن يقول : سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل ؛ لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول : فوق سبع سماء ، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم ، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة ، وقد حكي فيها التذكير ، كما قال: [المتقارب]

٤٦٩ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل ابقالها(٣)

قال أبو جعفر : وقد ردّ قوم هذا ، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان : في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا : أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء ، قال : وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) مبتدأ وخبره.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٤٢٣).

(٢) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ٧٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠٤ ، ولسان العرب (سما) ، وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٤٩ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٣٧ ، والخصائص ١ / ٢١١ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ١١٥ ، والمقتضب ١ / ١٤٤ ، والممتع في التصريف ٢ / ٥١٣ ، والمنصف ٢ / ٦٦. وصدره :

«له ما رأت عين البصير وفوقه»

(٣) مرّ الشاهد رقم (١٥٢).

٢٤٢

قال قتادة : (فِي الْأَرْضِ) يعني السنين أي الحرب والقحط. (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد ، وقيل : الضمير للأرض ، وقيل : للمصائب والأول أولاها ؛ لأن الجلّة قالوا به ، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء : هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء : كن فيكون.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية ، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم (١) وهو اختيار أبي عبيد ، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر : وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر ؛ لأن كتاب الله عزوجل لا يحمل على المقاييس ، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا ، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم : ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو ، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزوجل فاته إياه أو أتاه إياه ، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) والله (لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه ، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب (الَّذِينَ) (٢) خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب. يكون (الَّذِينَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره ، والوجه الثالث أن يكون

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ).

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٤.

٢٤٣

مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه ، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١) جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ ، وما بعدها خبرا ، والجملة خبر «إن».

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل والحجج (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي بالأحكام والشرائع. (وَالْمِيزانَ) قال ابن زيد ، هو الميزان الذي يتعامل الناس به ، وقال قتادة : الميزان الحق (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) منصوب بلام كي ، وحقيقته أنها بدل من «أن». (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي للناس (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) قال ابن زيد : البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها ، قال : والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) معطوف على الهاء. (بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه ؛ لأنه لا يمنعه منه مانع.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) إلى قومهما. (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون إلى الكفر والمعاصي.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧)

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي أتبعنا ، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما‌السلام لأن الاثنين جمع (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي أتبعنا. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) يروى أنه نزل جملة. (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٤ ، وتيسير الداني ١٦٩ ، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو ، والباقون بزيادة هو).

٢٤٤

ويقال : رأفة وقد رؤف ورأف (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها ، وقيل : هو معطوف على الأول. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) قال ابن زيد : أي ما افترضناها. (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا ، ويدلّ على صحته (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) وفي الذين لم يرعوها قولان : مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا ، وهذا يروى عن أبي أمامة ، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا ، وقالوا : نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) قال : «من آمن بي». (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) قال : من جحدني.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قال الضحّاك : من أهل الكتاب. (اتَّقُوا اللهَ) أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يعني حظّين ، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن ، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها ، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) عن ابن عباس قال : القرآن واتباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال مجاهد : الهدى ، قال أبو إسحاق : ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب.

(لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب (١) وكذا عن سعيد بن جبير ، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده :

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٧ ، ومعاني الفراء ٣ / ١٣٧.

٢٤٥

(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس» ، والأول قول سيبويه ، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال : اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا (١) بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر : وهذا بعيد في العربية أن تقع (أَنَ) معملة بعد (يَعْلَمَ) وهو من الشواذ ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم ؛ لأنه كما روي قالوا : الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال : لمّا أنزل الله جلّ وعزّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي من خلقه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي على عباده.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٨.

٢٤٦

(٥٨)

شرح إعراب سورة المجادلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) قال أبو جعفر بن محمد : إن شئت أدغمت الدال في السين فقلت : قد سمع ، لأن مخرج الدال والسين جميعا من طرف اللسان ، وإن شئت بيّنت فقلت : قد سمع الله ؛ لأن الدال والسين وإن كانتا من طرف اللسان فليستا من موضع واحد ؛ لأن الدال والتاء والطاء من موضع واحد ، والسين والصاد والزاي من موضع واحد. يسمّين حروف الصفير ، وأيضا فإن السين منفصلة من الدال. (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أي تشتكي المجادلة إلى الله جلّ وعزّ ما بظهار زوجها وتسأله الفرج. (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي تحاور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجادلة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لما يقولانه وغيره. (بَصِيرٌ) بما يعملانه وغيره.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢)

(الَّذِينَ) رفع بالابتداء ، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع نصب ببصير يظّهارون (١) قراءة الحسن وأبي عمرو ونافع ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يظهرون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم (يَظْهَرُونَ) ؛ وحكى الكسائي أنّ في حرف أبيّ يتظاهرون حجة لمن قرأ يظهرون ؛ لأن التاء مدغمة في الظاء وأصحّ من هذا ما رواه نصر بن علي عن أبيه عن هارون قال : في حرف أبيّ يتظهّرون حجّة لمن قرأ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣١.

٢٤٧

(يَظْهَرُونَ) لأن التاء أدغمت في الظاء أيضا. مّا هنّ أمّهاتهم (١) خبر «ما» شبّهت بليس ، وقال الفرّاء : بأمهاتهم فلما حذفت الباء بقي لها أثر فنصب الاسم. (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) مبتدأ وخبر ، و «إن» بمعنى «ما» (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) أي ما لا يصحّ. (وَزُوراً) قال قتادة : أي كذبا ونصبت منكرا وزورا ويقولون لو رفعته لانقلب المعنى (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) أي ذو عفو وصفح عمن تاب. (غَفُورٌ) له لا يعذّبه بعد التوبة ، وقيل هذا لأنهم كانوا يطلّقون في الجاهلية بالظّهار. قال أبو قلابة : كان الرجل في الجاهلية إذا ظاهر من امرأته فهو طلاق بتات فلا يعود إليه أبدا ، فأنزل الله عزوجل هذا.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣)

قال أبو جعفر : اختلف العلماء في معنى العود فقال قوم ممن يقول بالظاهر : لا يجب عليه الكفّارة حتّى يظاهر مرة ثانية ، وحكوا ذلك عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ ، وقال قتادة : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) هو أن يعزم بعد الظّهار على وطئها وغشيانها ، وقال بعض الفقهاء : عوده أن يمسكها ولا يطلّقها بعد الظهار فتجب عليه الكفارة ، وقال القتبيّ : هو أن يعود لما كان يقال في الجاهلية وقال أبو العالية : (لِما قالُوا) أي فيما قالوا ، وقال الفرّاء (٢) : لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا واحد ، يريد يرجعون عن قولهم ، وقال الأخفش : فيه تقديم وتأخير أي فتحرير رقبة لما قالوا. ومن أبينها قول قتادة أي ثم يعودون إلى ما قالوا من التحريم فيحلّونه. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أو فعليهم تحرير رقبة ، ويجوز عند النحويين البصريين فتحرير رقبة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) من قبل أن يمسّ الرجل المرأة ، ومن قبل أن تمسّ المرأة الرجل ، وهذا عام غير أن سفيان كان يقول : له ما دون الجماع.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤)

(مِنْ) في موضع رفع بالابتداء أي فمن لم يجد الرقبة والمفعول يحذف إذا عرف المعنى فعليه صيام شهرين ، ويجوز صيام شهرين على أن شهرين ظرف ، وإن شئت كان

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣١ (قرأ الجمهور بالنصب على لغة الحجاز ، والمفضل عند عاصم بالرفع على لغة تميم ، وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء).

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣٩.

٢٤٨

مفعولا على السعة فإذا قلت : صيام شهرين لم يجز أن يكون ظرفا. وعلى هذا حكى سيبويه فيما يتعدّى إلى مفعولين : [الرجز]

٤٧٠ ـ يا سارق اللّيلة أهل الدار(١)

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع الصوم لهرم أو زمانة فعليه إطعام ستين مسكينا ، ويجوز تنوين إطعام ، وليس هاهنا من قبل أن يتماسّا ولكنه يؤخذ من جهة الإجماع ذلك ليؤمنوا بالله ورسوله. قال أبو إسحاق : أي ذلك التغليظ ، وقال غيره : فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي لتصدّقوا بما جاءكم فتؤمنوا. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي هذه فرائض الله جلّ وعزّ التي حدّها (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي لمن كفر بها.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يخالفون الله ورسوله ويصيرون في حدّ أعدائه. (كُبِتُوا) أي غيظوا ، وقال بعض أهل اللغة : أي هلكوا ، قال : والأصل كبدوا من قولهم : كبده إذا أصابه بوجع في كبده (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف في موضع نصب ؛ لأنّها نعت لمصدر ولهم عذاب مهين.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦)

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) العامل في يوم «عذاب» ، ولا يجوز عند البصريين أن يكون مبنيا إذا كان بعده فعل مستقبل وإنما يبنى إذا كان بعده ماض أو ما ليس بمعرب فإذا كان هكذا بني ، لأنه لما كان يحتاج إلى ما بعده ولا بد له منه أجري مجراه. فأما الكوفيون فيقولون : إنما بني لأنه بمعنى إذا فيبنى لبنائها. (جَمِيعاً) منصوب على الحال أي يوم يبعثهم الله من قبورهم إلى القيامة في حال اجتماعهم. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي فيخبرهم بما أسرّوه وأخفوه وغير ذينك من أعمالهم (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) أي عدّه وأثبته وحفظه ونسيه عاملوه. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي على كل شيء من أعمالهم شاهد عالم به.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في الكتاب ١ / ٢٣٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٠٨ و٤ / ٢٣٣ ، والدرر ٣ / ٩٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٦٥٥ ، وشرح المفصل ٢ / ٤٥ ، والمحتسب ٢ / ٢٩٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٣.

٢٤٩

وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

أي ألم تنظر بعين قلبك فتعلم أن الله جلّ وعزّ يعلم ما في السّموات وما في الأرض لا يخفى عليه شيء من صغيرة ولا كبيرة فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) قال مقاتل بن حيان عن الضحاك قال : هو تعالى فوق عرشه وعلمه معهم. وخفض ثلاثة على البدل من «نجوى» ويجوز أن يكون مخفوضا بإضافة نجوى إليه ، ويجوز رفعه على موضع نجوى ، ويجوز نصبه على الحال من المضمر الذي في نجوى (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) مبتدأ وخبره ، وحكى الفراء (١) أن في حرف عبد الله ولا أربعة إلّا هو خامسهم وحكى أبو حاتم أن في حرف عبد الله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ولا خمسة إلّا الله سادسهم ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا الله معهم إذا انتجوا. قال أبو جعفر : وهذه القراءة إن صحّت فإنما هي على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها إلا على ذلك وقرأ يزيد بن القعقاع ما تكون (٢) من نجوى ثلاثة وهذه القراءة وإن كانت مخالفة لحجة الجماعة فهي موافقة للسواد جائزة في العربية ؛ لأن نجوى مؤنثة باللفظ و «من» فيها زائدة ، كما تقول : ما جاءني من رجل ، وما جاءتني من امرأة ، والتقدير : ولا يكون من نجوى أربعة إلّا هو خامسهم ، وحكى هارون عن عمرو عن الحسن أنه قرأ (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) (٣) (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) عطفه على الموضع (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ثم ينبئهم بما تناجوا به (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من نجواهم وسرارهم وغير ذلك من أعمالهم وأعمال عباده.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨)

قال مجاهد : هم قوم من اليهود وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة (٤) ينتاجون بالإثم والعدوان ويتناجون أبين ؛ لأنهم قد أجمعوا على أن قرءوا (إذا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣٣.

(٣) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣٣ (قرأ الجمهور «ولا أكثر» عطفا على لفظ المخفوض ، والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حياة وسلام ويعقوب بالرفع عطفا على موضع نجوى).

(٤) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣٤ ، وتيسير الداني ١٦٩.

٢٥٠

تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا) إلّا شيئا روي عن ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ). قال أبو جعفر : قد ذكرنا معناه. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي هلّا يعاقبنا على ذلك في وقت قولنا (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مبتدأ وخبره ، وحكى النحويون أنه يقال : حسبك ولا يلفظ له بخبر ؛ لأنه قد عرف معناه ، وقيل : فيه معنى الأمر ؛ لأن معناه اكفف فلما كان الأمر لا يؤتى له بخبر حذف خبر ما هو بمعناه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) فيه ثلاثة أجوبة فلا تتناجوا بتاءين ، ولا تناجوا بتاء واحدة ولا تناجوا بإدغام التاء في التاء. فمن جاء به بتاءين ، قال : هي كلمة مبتدأ بها وهي منفصلة مما قبلها ، ومن جاء به بتاء واحدة حذف لاجتماع التاءين مثل تذكرون وتتذكّرون ، ومن أدغم قال : اجتمع حرفان مثلان وقبلهما ألف والحرف المدغم قد يأتي بعد الألف مثل دواب (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي بما يقربكم من الله جلّ وعزّ (وَالتَّقْوى) أي باتّقائه بأداء فرائضه واجتناب ما نهى عنه. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي الذي إليه مصيركم ومجمعكم فيجزيكم بأعمالكم.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٠)

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أصحّ ما قيل فيه قول قتادة قال : كان المنافقون يتناجون بحضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسوء ذلك المسلمين ويكبر عليهم فأنزل الله جلّ وعزّ : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ويدلّ على صحّة هذا القول ما قبله وما بعده من القرآن. وقال ابن زيد : كان الرجل يناجي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاجة ويفعل ذلك ليرى الناس أنه ناجى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيوسوس إبليس للمسلمين فيقول : إنما هذه المناجاة لجموع قد اجتمعت لكم وأمر قد حضرترادون به فيحزنون لذلك. وفي الآية قول ثالث ذكره محمد بن جرير ، قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا يحيى بن واضح قال : حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال : سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن الرؤيا فقال : الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان فذلك قول الله جلّ وعزّ : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ومنها ما يحدث الرجل به نفسه فيراه في منامه ومنها أخذ باليد ، ويقرأ (لِيَحْزُنَ) والأول أفصح. (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال محمد بن جرير : أي بقضاء الله وقدره ، وقيل : (بِإِذْنِ اللهِ) بما أذن الله جلّ وعزّ فيه ، وهو غمّهم

٢٥١

بالمؤمنين ؛ لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي ليكلوا أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١)

في المجلس (١) وروي عن الحسن وقتادة أنهما قرأ إذا قيل لكم تفاسحوا قال الفراء (٢) : مثل تعهدت ضيعتي وتعاهدت ، وقال أهل اللغة : تعهّدت أفصح ؛ لأنه فعل من واحد ، وقال الخليل: لا يقال إلّا تعهّدت ؛ لأنه فعل من واحد. وقرأ الحسن وعاصم (فِي الْمَجالِسِ) وقراءة العامة في المجلس وقال أبو جعفر : واختلف العلماء في معناه فصحّ عن مجاهد أنه قال : هو مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وصح عن قتادة أنه قال : كان الناس يتنافسون في مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكاد بعضهم يوسع لبعض فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا ، وروي عن قتادة أنه في مجلس الذكر ، وقال الحسن (٣) ويزيد بن أبي حبيب : هذا في القتال خاصة. قال أبو جعفر : وظاهر الآية للعموم ، فعليه يجب أن يحمل ويكون هذا لمجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة وللحرب ولمجالس الذكر ولا نعلم قولا رابعا والمعنى يؤدّي عن معنى مجالس ، وأيضا فإن الإنسان إذا خوطب أن يوسع مجلسه ومعه جماعة قد أمروا بما أمر به فقد صارت مجالس. (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) جواب الأمر ، وفيه معنى المجازاة ومكان فسيح أي واسع. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وأهل الكوفة (انْشُزُوا فَانْشُزُوا) (٤) وهما لغتان بمعنى واحد ، وأبو عبيد يختار الثانية. ولو جاز أن يقع في هذا اختيار لكان الضم أولى ؛ لأنه فعل لا يتعدى مثل قعد يقعد ؛ لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أي يأتي مضموما وفيما يتعدّى أن يأتي مكسورا مثل ضرب يضرب. وأما المعنى فأصح ما قيل فيه أنه النشوز إلى كل خير من أمر بمعروف ونهي عن منكر أو قتال عدو أو تفرّق عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يلحقه أذى. (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) قيل : أي يرفعهم في الثواب والكرامة ، وقيل : يرفعهم من الارتفاع أي يرفعهم على غيرهم ممن لا يعلم ليبيّن فضلهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي يخبره فيجازي عليه.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣٥ ، وتيسير الداني ١٦٩ (قرأ عاصم «في المجالس» بألف على الجمع والباقون بغير على ألف على التوحيد).

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤١.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٣٥.

(٤) انظر تيسير الداني ١٦٩.

٢٥٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كانوا قد آذوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة سرارهم فأراد الله جلّ وعزّ أن يخفّف عنه فأمرهم بهذا فتوقّفوا عن السّرار ثم وسّع عليهم ولم يضيّق. قال مجاهد : لم يعمل أحد بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدّق بدينار ثم سار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخت ، وقال رحمة الله عليه : بي خفّف عن هذه الأمة. قال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى أيتصدّق من سارّ بدينار قلت : لا ، قال : فبدرهم قلت : لا ، قال : بكم؟ قلت : بحبة من شعير ، فقال : إنك لزهيد» (١) ثم نزل التخفيف (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لا يكلّف من لا يجد.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٣)

أصل الإشفاق في اللغة الحذر والخوف ومن هذا لا يحلّ لأحد أن يصف الله جلّ وعزّ بالاشفاق ولا يقول : يا شفيق. قال مجاهد : أأشفقتم أي أشقّ عليكم (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) فإذا تاب عليكم لم يؤاخذهم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي فافعلوا ما لم يسقط عنكم فرضه (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فيما أمركم به (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي فيجازيكم عليه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ألم تنظر بعين قلبك فتراهم. (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) الضمير يعود على الذين وهم المنافقون ليسوا من المؤمنين أي من أهل دينهم وملّتهم ولا من الذين غضب الله عليهم وهم اليهود (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يحلفون أنّهم مؤمنون.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٥)

(ما) في موضع رفع أي ساء الشيء الذين يعملونه ، وهو غشّهم المؤمنين ، ونصحهم الكافرين.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٦)

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي اتخذوا حلفهم للمؤمنين أنّهم منهم حاجزا لدمائهم وأموالهم ، وهذا معنى (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن سبيل الله جلّ وعزّ في أهل الأوثان أن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير ١٢ / ١٨٦.

٢٥٣

يقتلوا ، وفي أهل الكتاب أن يقتلوا إلّا أن يؤدّوا الجزية فلما أظهر هؤلاء الإيمان وهم كفار صدّوا المؤمنين بما أظهروه عن قتلهم.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٧)

أي لن تنتفعوا بالأموال فتفتدوا بها ، ولن ينفعهم أولادهم فينصروهم ويستنقذوهم مما هم فيه من العذاب. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ويجوز النصب على الحال في غير القرآن.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٨)

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي فيحلفون له على الباطل ، وهذا دليل بيّن على بطلان قول من قال : إنّ أحدا لا يتكلّم يوم القيامة إلّا بالحق لما يعاين. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي على شيء ينفعهم. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) كسرت إنّ لأنها مبتدأة ، وسمعت علي بن سليمان يجيز فتحها ؛ لأن معنى ألا حقا.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩)

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) هذا مما جاء على أصله ولو جاء على الإعلال لكان استحاذ ، كما يقال : استصاب فلان رأي فلان ولا يقال : استصوب. قال أبو جعفر : إنما جاء على أصله مما يؤخذ سماعا من العرب لا مما يقاس عليه ، وقيل : يعلّ الرباعي اتباعا للثلاثي فلما كان يقال : استحوذ عليه إذا غلبه ولا يقال حاذ في هذا المعنى ، وإنما يقال : حاذ الإبل إذا جمعها فلمّا لم يكن له ثلاثيّ جاء على أصله. (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) حزبه أولياؤه وأتباعه وجموعه والخاسر الذي قد خسر في صفقته.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قال قتادة : يعادونه وقال مجاهد : يشاقون ، وقيل : معناه يخالفون حدود الله جلّ وعزّ فيما أمر به. وحقيقته في العربية يصيرون في حدّ غير حدّه الذي حدّه ، والأصل يحاددون فأدغمت الدال في الدال. (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي ممن يلحقه الذل ، وأولئك وما بعد خبر عن الذين.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢١)

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) قيل : أي كتب في اللوح المحفوظ ، وجعله

٢٥٤

الفراء (١) مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا ، «ورسلي» معطوف على المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر : وهذه اللغة الفصيحة ، وأجاز النحويون جميعا في الشعر : لأقومنّ وزيد ، وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد ؛ لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض (إِنَ) (٢) (اللهَ قَوِيٌ) أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن خالفه وخالف رسله (عَزِيزٌ) في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر منه.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

أصحّ ما روي في هذا أنه نزل في المنافقين الذين والوا اليهود لأنهم لا يقرّون بالله جلّ وعزّ على ما يجب الإقرار به ولا يؤمنون باليوم الآخر فيخافون العقوبة و (يُوادُّونَ) في موضع نصب لأنه خبر تجد أو نعت لقوم. (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي ولو كان الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم ، جمع أب على الأصل ، والأصل فيه أبو والتثنية أيضا على الأصل عند البصريين لا غير ، وحكى الكوفيون : جاءني أبان (أَوْ أَبْناءَهُمْ) جمع ابن على الأصل والأصل فيه : بني الساقط منه ياء ، والساقط من أب واو فأما أب فقد دل عليه التثنية وأما ابن فدلّ عليه الاشتقاق. قال أبو إسحاق : هو مشتقّ من بناه أبوه يبينه. قال أبو جعفر : وقد غلط بعض النحويين فقال : الساقط منه واو ؛ لأنه قد سمع البنوة. (أَوْ إِخْوانَهُمْ) جمع أخ على الأصل ، كما تقول : ورل وورلان (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) قيل : هو مجاز ، و «في» بمعنى اللام أي كتب لقلوبهم الإيمان ، وقد علم أن المعنى كتب لهم ، وقيل : هو حقيقة أي كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنّهم مؤمنون (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) قيل : بنور وهدى وقيل بجبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينصرهم ويؤيّدهم ويوفّقهم (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) على الحال. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي بطاعتهم في الدنيا. (وَرَضُوا عَنْهُ) بإدخالهم الجنة. (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنده وجماعته. وتحزّب القوم تجمّعوا (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قيل : أي الذين ظفروا بما أرادوا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٤٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٧٠ (فتحها نافع وابن عامر).

٢٥٥

(٥٩)

شرح إعراب سورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

أي في انتقامه ممن عصاه. (الْحَكِيمُ) في تدبيره ، و (هُوَ) مبتدأ و (الْعَزِيزُ) خبره و (الْحَكِيمُ) نعت للعزيز ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢)

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من اليهود وهم بنو النضير (مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) صرفت أولا لأنه مضاف ، ولو كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت ، ومن جعله غير نعت صرفه (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) «أن» في موضع نصب بظننتم ، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلّا محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني محذوف ، وكذا القول في (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي لم يظنّوا من قولهم : ما كان هذا في حسباني أي في ظني ، ولا يقال : في حسابي ؛ لأنه لا معنى له هاهنا ، ويجوز أن يكون معنى «لم يحتسبوا» لم يعلموا ، وكذا قيل في قول الناس : حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جلّ وعزّ ، وقيل معنى قولك : حسيبك الله كافيّ إياك الله. من قولهم : أحسبه الشيء ، إذا كفاه ، وقيل : حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب ، وقيل : حسيبك أي مقتدر عليك ، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ومن قال : في قلوبهم الرّعب جاء به على الأصل (١)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٧٠ (قرأ أبو عمرو مشدّدا والباقون مخفّفا).

٢٥٦

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ويخرّبون على التكثير ، وقد حكى سيبويه أنّ فعّل يكون بمعنى أفعل كما قال : [الطويل]

٤٧١ ـ ومن لا يكرم نفسه لا يكرم (١)

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا واستدلّوا على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله جلّ وعزّ ناصره لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به. واشتقاقه من عبر إلى كذا إذا جاز إليه ، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخدّ. قال الأصمعي : وقولهم : فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله العبرة وفي معنى (يا أُولِي الْأَبْصارِ) قولان : أحدهما أنه من بصر العين ، والآخر أنه من بصر القلب. قال أبو جعفر : وهذا أولى بالصواب ، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب ، وهو الاتّعاظ والاستدلال بما مرّ. فقد قيل : إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبّرهم بهذا أنه يكون فكان على ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره ، كما قال جلّ وعزّ : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] فكان كما قال ، وقال جلّ ذكره : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) [المسد : ٣] ذلك وقال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] فلم يتمنه أحد منهم ، وكذا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] فقالوا ذلك ، وكذا (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ٣] كذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية» (٢) وقوله عليه‌السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب : «من محمد رسول الله» فساموه محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّك ستسام مثلها» (٣) فكان ذلك على ما قال ، وكذلك قوله في ذي الثديّة «ومن ينجو من الخوارج» (٤) فكان الأمر كما قال ، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محدّدا ، وكذلك قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر ، وأوصى بأهلها خيرا فهذا كله مما يعتبر به وقال جلّ وعزّ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فعصمه حتّى مات على فراشه ، وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥] فاستخلف ممّن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم ، وكان هذا موافقا لقوله صلّى الله عليه «الخلافة بعدي ثلاثون» ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع ، منها حديث أبي رزين العقيلي أنه قال : يا رسول الله كيف يحيي

__________________

(١) انظر الفهارس العامة.

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه ـ الفتن ٧٠ ، وأحمد في مسنده ٢ / ١٦١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨ / ١٨٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ١ / ٣٠٠ ، والمتقي في كنز العمال (٢٣٧٣٦).

(٣) أخرجه الترمذي في سننه ـ المناقب ١٣ / ٢٠٩.

(٤) أخرجه ابن ماجة في سننه باب ١٢ الحديث (١٦٧) ، وأبو داود في سننه ، الحديث رقم (٤٧٦٣).

٢٥٧

الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : «يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتزّ خضرا فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه» فهذا التشبيه الباهر الذي لا يلحق ، ولذلك قوله في تمثيل الميّت بالنائم وبعثه باليقظة. وهذا أشكل شيء بشيء ، فبهذا يعتبر أولو الأبصار.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) (٣)

حكى أهل اللغة أنه يقال : جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا الفصيح ، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا ، وحكى غيره جلوا عن منازلهم يجلون ، واستعمل فلان على الجالية والجالّة ، وقرأ أكثر الناس ، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها الجماعة التي تجب بها الحجّة ، (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) بكسر الهاء وضم الميم ، فمن قرأ بها : أبو جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بن العلاء (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) بكسر الهاء والميم. قال أبو جعفر : والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء فاستثقلت ضمة بعد ياء ، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها ، وهذه القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن ، ولا يعرف عن أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة ، فقال : عليهم وإليهم ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة ، وأصلها الألف ، لأنك تقول : على القوم ، فلهذا أقرّوها على ضمتها ؛ لأن الياء أصلها الألف ، والياء في «في» ياء محضة. قال : وسألت أبا العباس لم قرأ الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال : (عليهم) ضمّها؟ فقال : إنما كسرها اتباعا للياء ؛ لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو جعفر : وهذا أحسن ما قيل في هذا ، فأما قراءة أبي عمرو (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها ؛ لأنه إنما يكسر لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز ، والحجة الأخرى صحيحة ، وهو إنما كسر الهاء اتباعا للياء ؛ لأنه استثقل ضمة بعد ياء ، وكذلك أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل بالهاء فقال (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) أي مع الخزي الذي لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة : الجلاء الخروج من بلد إلى بلد ،

٢٥٨

وقيل : معنى كتب حتم وهو مجاز ، وقيل : كتبه في اللوح المحفوظ.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤)

يكون (ذلِكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون في موضع نصب أي فعلنا بهم ذلك ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أيضا أي ذلك الخزي وعذاب النار لهم بأنهم خالفوا الله ورسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) في موضع جزم بالشرط ، وكسرت القاف لالتقاء الساكنين ، ويجوز فتحها لثقل التشديد والكسر إلّا أنّ الفتح إذا لم يلقها ساكن أجود مثل (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة : ٥٤] وإذا لقيها ساكن كان الكسر أجود ، كما قال : [الوافر]

٤٧٢ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا(١)

(فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) جواب الشرط أي شديد عقابه لمن حادّه وحادّ رسوله.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٥)

في معنى «اللّينة» ثلاثة أقوال عن أهل التأويل : روى سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة بن عباس قال : اللينة النخل سوى العجوة ، وهذا قول سعيد بن جبير وعكرمة والزهري ويزيد بن رومان ، وقول مجاهد وعمر بن ميمون : إنه لجميع النخل ، وكذا روى ابن وهب عن ابن زيد قال : اللّينة النخل كانت فيها عجوة أو لم تكن ، وقال سفيان : هي كرائم النخل. وهذه الأقوال صحيحة ؛ لأن الأصمعي حكى مثل القول الأول فيكون لجميع النخل ، ويكون ما قطعوا منها مخصوصا فتتفق الأقوال. ولينة مشتقّة عند جماعة من أهل العربية من اللون ، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وفي الجمع ليان كما قال : [المتقارب]

٤٧٣ ـ وسالفة كسحوق اللّبا

ن أضرم فيها الغويّ السّعر(٢)

وقال بعضهم : هي مشتقّة من لان يلين ، ولو كانت من اللون ، قيل في الجميع لو أن. (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي وليذلّ من خرج من طاعته جلّ وعزّ.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦)

هذا عند أهل التفسير في بني النضير ؛ لأنه لم يوجف عليهم بخيل ولا جمال ،

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٦٧).

(٢) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٦٥ ، ولسان العرب (لبن) ، وجمهرة اللغة ٦٧٤ ، وتاج العروس (لون) وبلا نسبة في لسان العرب (سحق) وتهذيب اللغة ٤ / ٢٥ ، والمخصّص ١١ / ١٣٢.

٢٥٩

وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى مالهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكم فيه بما أراد وكان فيه فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث فقال لها أبو بكر رضي الله عنه : أنت أعزّ الناس عليّ غير أني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» (١) ولكنّي أقرّه على ما كان يفعله فيه ، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا ، وعمل به الخلفاء الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم فيه العلماء فقال بعضهم : معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما يقول الرجل الجليل : فعلنا كذا ، وقيل : هو لجميع الأنبياء ؛ لأنه لم يورث أحد منهم شيئا من المال ، وقالوا : معنى (خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) [مريم : ٥] معناه خفت ألا يعملوا بطاعة الله جلّ وعزّ. ويدل على هذا (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم : ٦]. ومعنى (يَرِثُنِي) النبوة والشريعة وكذلك (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال : فمن أصحّها أنه بمنزلة الصدقة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يملك شيئا. وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن يعوله ، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول ، وقيل : بل قد كان تصدق بكل ما يملكه ، وقيل : «ما» بمعنى الذي أي لا نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال : «وجف» إذا أسرع ، وأوجفه غيره (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي كما سلّطه على بني النضير.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧)

في هذه الآية أربعة أقوال : منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه ، وقيل : بل هذا غير الأول ، وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول معمر ، وقيل : بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب ، وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة «الأنفال» (٢) والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول ؛ لأنه قد صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا الثاني على خلاف ذلك لأنه فيه (لِذِي الْقُرْبى

__________________

(١) انظر التمهيد لابن عبد البر ٨ / ١٧٥.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ١.

٢٦٠