إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

هذه قراءة أكثر القراء ، وقرأ الحسن وقتادة ويزيد بن القعقاع وعاصم الجحدري (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) (١) مشدّدا. التقدير في التخفيف ما كذب فؤاد محمد محمدا فيما راه وحذفت في كما حذفت «من» في قوله جلّ وعزّ من : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥]. لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف. قال أبو جعفر : وهذا شرح بيّن ولا نعلم أحدا من النحويين بيّنه ، ومن قرأ كذّب فزعم الفراء أنه يجوز أن يكون أراد صاحب الفؤاد. وأجاز أن يكون معنى «ما كذب» صدّق. والقراءة بالتخفيف أبين معنى ، وبالتشديد يبعد ؛ لأن معناها قبله وإذا قبله الفؤاد أي علمه فلا معنى للتكذيب. والقراءة بالتخفيف بيّنة أي صدقه. واختلف أهل التأويل في معنى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فقال ابن عباس وجماعة معه : رأى ربه جلّ وعزّ قال : وخصّ الله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخلّة وموسى بالتكليم ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤية كما جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربّي جلّ وعزّ فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى» (٢). والقول الأخر قول ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما أنه رأى جبرائيل على صورته وقد رفعه زرّ عن عبد الله أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت جبرائيل على صورته له ستمائة جناح عند سدرة المنتهى» (٣) ورفعته عائشة أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردّت على ابن عباس ما قاله.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى (٤) ما يَرى) (١٢)

صحيحه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن مسعود وابن عباس ومرويّه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهي قراءة مسروق وأبي العالية ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وبها قرأ النخعي غير أن أبا حاتم حكى أنه قال : لم يماروه وإنما جحدوه قال : وفي هذا طعن على جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة منهم الحسن وشريح وأبو جعفر والأعرج وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير والعاصمان. والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجامعة غير أن الأولى من ذكرناه من الصحابة. فأما أن يقال : لم يماروه فعظيم ؛ لأن الله جلّ وعزّ قد أخبر أنّهم قد جادلوا ، والجدال هو المراء ولا سيما في هذه القصة ، وقد ماروه فيها حتّى قالوا له : سرت في ليلة واحدة إلى بيت المقدس فصفه لنا ، وقالوا : لنا عير بالشام فأخبرنا خبرها ، قال محمد بن يزيد : يقال مراه بحقّه يمريه إذا دفعه به ومنعه منه ، قال و «على» بمعنى «عن». قال أبو

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ٩٦.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٧ / ١٥٥ ، وذكر في مناهل الصفا (٣٢) ، ومختصر العلو للعلي الغفار ـ تحقيق الألباني ١١٩.

(٣) أخرجه أحمد في مسنده ١ / ٤٠٧ ، وابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٤٤.

(٤) انظر تيسير الداني ١٦٦ ، والبحر المحيط ٨ / ١٥٦.

١٨١

جعفر : وذلك معروف في اللغة ، وقد ذكرنا أن لغة بني كعب بن ربيعة رضي الله عليك أي عنك.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤)

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) أحسن ما قيل فيه وأصحّه أن الضمير يعود على شديد القوى ، كما حدّثنا الحسن بن غليب قال : حدثنا محمد بن سوّار الكوفي قال : حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ثلاث من قال واحدة منهن فقد أعظم على الله جلّ وعزّ الفرية : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) [لقمان : ٣٤]. ومن زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من أمر الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله جلّ وعزّ يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، ومن زعم أنّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله جل وعز الفرية والله جلّ ثناؤه يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] والله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] قلت : يا أمّ المؤمنين ألم يقل : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣] قالت : أنا سألت عن ذلك نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «رأيت جبرائيل عليه‌السلام نزل سادّا الأفق على خلقه وهيبته أو خلقه وصورته» (١). وقال الفراء (٢) : «نزلة أخرى» مرّة أخرى. قال أبو جعفر : «نزلة» مصدر في موضع الحال ، كما تقول : جاء فلان مشيا أي ماشيا ، والتقدير ولقد راه نازلا نزلة أخرى أي في نزوله (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) متّصل براه. قال عكرمة عن ابن عباس : سألت كعبا عن سدرة المنتهى فقال : إليها ينتهي علم العلماء لا يعلم أحد ما وراءها إلّا الله جلّ وعزّ ، وقال الربيع بن أنس : سمّيت سدرة المنتهى لأنه تنتهي إليه أرواح المؤمنين ومذهب الضّحاك أنه ينتهي إليها ما كان من أمر الله من فوقها أو من تحتها. قال أبو جعفر : وليس قول من هذه إلّا وهو محتمل لذلك ، ولا خبر يقطع العذر في ذلك ، والله جلّ وعزّ أعلم.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥)

قال كعب : مأوى أرواح الشهداء ، وقال قتادة : مأوى أرواح المؤمنين. ويقال : إنها الجنة التي أوى إليها أدم عليه‌السلام ، وإنها في السماء السابعة. فأعلم الله جلّ وعزّ أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أسري به إلى السماء السابعة على هذا. فأما من قرأ (جَنَّةُ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه ـ التفسير ١١ / ١٨٨ ، وفي البحر المحيط ٨ / ١٥٧.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ٩٦.

١٨٢

الْمَأْوى) (١) فتقديره جنّة سواد الليل. وهي قراءة شاذة قد أنكرها الصحابة سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر. وقال ابن عباس : هي مثل (جَنَّاتُ الْمَأْوى) [السجدة : ١٩] حجّة بيّنة مع إجماع الجماعة الذين تقوم بهم الحجة ، وأيضا فإنه يقال : أجنّة الليل ، وجنّ عليه ، ولغة شاذة جنّة الليل.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧)

(إِذْ) متصلة براه. قال الربيع بن أنس : غشيها نور الرب والملائكة واقعة على الأشجار كالغربان ، وكذا قال أبو العالية ويقال : إنه عن أبي هريرة مثله وزاد فيه. فهنالك كلّمه ربه جلّ وعزّ قال له سل : (ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما حاد يمينا وشمالا متحيّرا. (وَما طَغى) أي وما تجاوز ذلك من غير أن يتبيّنه.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨)

قال ابن زيد : رأى جبرائيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورته في السماء.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠)

قال الكسائي : الوقوف عليه اللّاه ، وقال غيره : الوقوف عليه اللّات. اشتقّوه من اسم الله جلّ وعزّ. وهو مكتوب في الصحف بالتاء. واشتقّوا العزّى من العزيز (وَمَناةَ) (٢) من منى الله عزوجل عليه الشيء أي قدّره (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) نعت لمناة.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١)

يجوز أن يكون مقدّما ما ينوى به التأخير ، ويكون المعنى إن الّذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى. أي يقولون هم بنات الله عزوجل ألكم الذكر الذي ترضوانه وله الأنثى التي لا ترضونها.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢)

يقال : ضازه يضيزه ويضوزه إذا جار عليه.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ) (٢٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٥٧ (وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزرّ ومحمد بن كعب وقتادة (جنّه) بها الضمير ، وجنّ فعل ماض ، والهاء ضمير يعود إلى النبيّ ، أي : عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه).

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٦ (ابن كثير «ومناءة» بالمدج والهمز والباقون بغير مدّ ولا همز).

١٨٣

(إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (٢٣) قولهم الأوثان الهة والملائكة بنات الله. (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجّة ولا وحي ، وإنما هو شيء اخترفتموه. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ما يتّبعون في هذه التسمية إلّا الظنّ وهواهم. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي البيان بأن لا معبود سواه وأن عبادة هذه الأشياء شرك وكفر.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٢٤)

قيل : أي ليس له ذلك ، وقال ابن زيد : أي إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمنّى شيئا فهو له. وشرح هذا القول إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمنّى الرسالة فقد أعطاه الله جلّ وعزّ فلا تنكروه.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥)

يعطي من شاء ما يشاء.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦)

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) لو حذفت «من» لخفضت أيضا لأنه خبر و «كم» تخفض ما بعدها في الخبر مثل «ربّ» إلا أنّ «كم» للكثير وربّ للقليل. (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) في هذا تنبيه لهم وتوبيخ ؛ لأنهم قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فأخبر الله جلّ وعزّ أنّ الملائكة صلوات الله عليهم وسلّم الذين هم أفضل الخلق عند الله جلّ وعزّ وأكثرهم عملا بالطاعة لا تغني شفاعتهم شيئا إلّا من بعد إذن الله عزوجل ورضاه فكيف تشفع الأصنام لهم.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨)

هو قولهم هم بنات الله عزوجل. ما لهم بذلك من علم (مِنْ) زائدة للتوكيد والموضع موضع رفع (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا ينفع من الحقّ ولا يقوم مقامه.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩)

أي فدع من تولّى عن ذكرنا ولم يؤمن ولم يوحّد ولم يرد ثواب الآخرة ولم يرد إلا زينة الحياة الدنيا.

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠)

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) قال ابن زيد : ليس لهم علم إلّا الّذي هم فيه من الشرك

١٨٤

والكفر ومكابرتهم ما جاء من عند الله جلّ وعزّ ، وقال غيره : ذلك مبلغهم من العلم أنّهم اثروا ما يفنى من زينة الدنيا ورئاستها على ما يبقى من ثواب الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) يكون أعلم بمعنى عالم ويجوز أن يكون على بابه بالحذف وسبيل الإسلام. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي إلى طريق الحق وهو الإسلام وذلك في سابق علمه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣١)

تكون لام كي متعلقة بالمعنى أي ولله ما في السّموات وما في الأرض من شيء يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي كفروا وعصوا (بِما عَمِلُوا) ، ويجوز أن يكون اللام متعلّقة بقوله جلّ وعزّ : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً). (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسئوُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) عطف. قيل : الحسنى الجنة. وقال زيد بن أسلم. (الَّذِينَ أَساؤُا) الكفار و (الَّذِينَ أَحْسَنُوا) المؤمنون.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢)

(الَّذِينَ) بدل من الذين قبله (يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ) (١) (الْإِثْمِ) قال أبو جعفر : قد ذكرناه في سورة «حم عسق». (وَالْفَواحِشَ) عطف على الكبائر (إِلَّا اللَّمَمَ) قد ذكرنا ما فيه من قول أهل التفسير. وهو منصوب على أنه استثناء ليس من الأول. ومن أصحّ ما قيل فيه وأجمعه لأقوال العلماء أنّه الصغائر ويكون مأخوذا من لممت بالشيء إذا قلّلت نيله. (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي لأصحاب الصغائر ، ونظيره (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو أعلم بما تعملون وما أنتم صائرون إليه حين ابتدأ خلق أبيكم من تراب ، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم منكم لما أن كبرتم ، ويجوز أن يكون اعلم بمعنى عالم (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) قال زيد بن أسلم : أي لا تبرئوها من المعاصي. قال : وشرح هذا لا تقولوا إنّا أزكياء. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) المعاصي وخاف وأدى الفرائض.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) (٣٣)

أي عن الإيمان. قال ابن زيد : نزلت في رجل أسلم فلقيه صاحبه فغيره وقال له :

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٥٨ (حمزة والكسائي بكسر الباء من غير ألف ولا همزة ، والباقون بفتح الباء وبألف وهمزة بعدها).

١٨٥

أضللت أباك ونسبته إلى الكفر وأنت بتنصيرهم أولى فقال : خفت عذاب الله ، فقال : أعطني شيئا وأنا أتحمّل عنك العذاب فأعطاه شيئا قليلا فتعاسر وأكدى ، وكتب له كتابا وأشهد له على نفسه أنه يتحمّل عنه العذاب فنزلت (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى).

(وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) (٣٤)

أي عاسره ، وعن ابن عباس «أكدى» منع ، وقال مجاهد : قطع.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥)

أي أعلم أن هذا يتحمّل عنه العذاب ، كما قال ويرى بمعنى يعلم حكاه سيبويه.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧)

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) (٣٦) (وَإِبْراهِيمَ) أنه لا يعذّب أحد من أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (١) قال : كان قبل إبراهيم عليه‌السلام فيؤخذ موضع رفع أي ذلك (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، والتقدير عند مجاهد : وفّى بما افترض عليه. قال محمد بن كعب : وفّى بذبح ابنه. وأولى ما قيل في معنى الآية بالصواب ما دلّ عليه عمومها أي وفّى بكل ما افترض عليه بشرائع الإسلام ، ووفّى في العربية للتكثير.

(أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨)

«أن» في موضع نصب على البدل من «ما» ، ويجوز أن يكون في موضع رفع أي ذلك (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) والتقدير عند سيبويه أنه لا تزر وازرة. يقال : وزر يزر حمل الوزر.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى) (٣٩)

بمعنى وأنه أيضا أي يجازى إنسان إلا بما عمل.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠)

أن يظهر الناس يوم القيامة على ما عمله من خير أو شرّ لأنه يجازى عليه. قال أبو إسحاق: ويجوز (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠) قال : وهذا عند الكوفيين لا يجوز منعوا أنّ زيدا ضربت ، واعتلوا في ذلك بأنه خطأ ؛ لأنه لا يعمل في زيد عاملان وهما «أنّ»

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٦٤ (قرأ الجمهور وفّى بتشديد الفاء ، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي بتخفيفها).

١٨٦

و «ضربت» وأجاز ذلك الخليل وسيبويه وأصحابهما ومحمد بن يزيد. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سألت محمد بن يزيد فقلت له : أنت لا تجيز زيد ضربت وتخالف سيبويه فيه فكيف أجزت أنّ زيدا ضربت «وأنّ» تدخل على المبتدأ ، فقال : هذا مخالف لذاك لأن «إنّ» لمّا دخلت اضطررت إلى إضمار الهاء لأن في الكلام عاملين.

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١)

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ) مصدر ، والهاء كناية عن السعي الأوفى لأن الله عزوجل أوفى لهم بما وعد وأوعد.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢)

في موضع نصب اسم «أنّ» ألّا أنه مقصور لا يتبيّن فيه الإعراب ، والمعنى : وأنّ إلى ربّك انتهاء جميع خلقه ومصيرهم فيجازيهم بأعمالهم الحسنة والسيّئة.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤٣)

«هو» زائدة للتوكيد ، ويجوز أن تكون صفة للهاء. فأما معنى أضحك وأبكى فقيل فيه : أضحك أهل الجنة بدخولهم الجنّة وأبكى أهل النار بدخولهم النار ، وقيل : أضحك من شاء من الدنيا بأن سرّه وأبكى من شاء بأن غمّه والآية عامة.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (٤٤)

أي أمات من مات وأحيا من حيي بأن جعل فيه الروح بعد أن كان نطفة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥)

كلّ واحد منهما زوج لصاحبه ، والذكر والأنثى بدل من الزوجين.

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦)

أي إذا أمناها الرجل والمرأة. وقيل : هو من منى الله عليه الشيء إذا قدّره له. فالأول من «أمنى» ، وهذا من «منى» ويفعل في الثلاثي والرباعي واحد ، لأن الرباعي يحذف منه حرف فتقول هو يكرم والأصل يؤكرم فحذفت الهمزة اتباعا لقولك : أنا أكرم وحذفت من أكرم لأنه لا يجتمع همزتان.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧)

أي عليه أن ينشئ الزوجين بعد الموت.

١٨٧

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) (٤٨)

روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : أقنى أرضى ، وقال ابن زيد : أغنى بعض خلقه وأفقر بعضهم. قال أبو جعفر : يقال : أقنيت الشيء أي اتخذته عندي وجعلته مقيما فأقنى جعل له مالا مقيما.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩)

قال مجاهد : هي الشّعرى التي خلف الجوزاء ، وقال غيره : هما شعريان فالتي عبرت هي الشّعرى العبور الخارجة عن المجرة التي عبدها أبو كبشة في الجاهلية ، وقال : رأيتها قد عبرت عن المنازل.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠)

قراءة الكوفيين وبعض المكيين ، وهي القراءة البيّنة في العربية حرّك التنوين لالتقاء الساكنين. وقراءة أبي عمرو وأهل المدينة وأنه أهلك عدا الولي (١) بإدغام التنوين في اللام. وتكلّم النحويون في هذا فقال محمد بن يزيد : هو لحن وقال غيره : لا يخلو من إحدى جهتين أن يصرف عادا فيقول : عادا الأولى ، أو يمنعه الصرف يجعله اسما للقبيلة فيقول عاد الأولى. فأما عادا الأولى فمتوسط ، فأما الاحتجاج بقراءة أهل المدينة وأبي عمرو فنذكره عن أبي إسحاق ، قال : فيه ثلاثة لغات يقال : الأولى بتحقيق الهمزة ثم تخفّف الهمزة فتلقى حركتها على اللام فتقول : «الولي» ولا تحذف ألف الوصل لأنها تثبت مع ألف الاستفهام نحو (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس : ٥٩] فخالفت ألفات الوصل فلم تحذف أيضا هاهنا. واللغة الثالثة أن يقال : «لولى» فتحذف ألف الوصل لأنها إنما اجتلبت لسكون اللام فلما تحركت اللام حذفت فعلى هذا قراءته عادا الولي أدغم التنوين في اللام. قال : وسمعت محمد بن الوليد يقول : لا يجوز إدغام التنوين في هذه اللام لأن هذه اللام أصلها السكون والتنوين ساكن فكأنه جمع بين ساكنين قال : وسمعته يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : ما علمت أن أبا عمرو بن العلاء لحن في صميم العربية في شيء من القرآن إلّا في (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [ال عمران : ٧٥] وفي (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) قال : وأبى هذا أبو إسحاق واحتجّ بما قدّمنا. فأما الأولى فيقال : لا يكون أولى إلّا وثمّ أخرى فهل كان ثمّ عاد آخرة؟ فتكلّم في هذا جماعة من العلماء. فمن أحسن ما قيل فيه ما ذكره محمد بن إسحاق قال : عاد الأولى عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعاد الثانية بنو لقيم بن هزّال بن هزيل

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٦ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦١٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٦٦.

١٨٨

من ولد عاد الأكبر وكانوا بمكة في وقت أهلكت عاد الأولى مع بني عملاق. قال أبو إسحاق : فبقوا بعد عاد الأولى حتّى بغى بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا. قال : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد يقول : عاد الآخرة ثمود ، واستشهد على ذلك بقول زهير : [الطويل]

٤٤٠ ـ كأحمر عاد ثمّ ترضع فتفطم (١)

يريد عاقر الناقة ، وجواب ثالث أنه قد يكون شيء له أول ولا أخر له من ذلك نعيم أهل الجنة.

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى) (٥١)

قال بعض العلماء : أي فلم يبقهم على كفرهم وعصيانهم حتّى أفناهم وأهلكم وهذا القول خطأ ؛ لأن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تنصب ثمودا بأبقى ، وأيضا فإن بعد الفاء «ما» وأكثر النحويين لا يجيز أن يعمل ما بعد ما فيما قبلها ، والصواب أن ثمودا منصوب على العطف على عاد.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢)

(وَقَوْمَ نُوحٍ) عطف أيضا. (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي أظلم لأنفسهم من هؤلاء وأطغى وأشدّ تجاوزا للظلم وقد بين ذلك قتادة وقال : كان الرجل منهم يمشي بابنه إلى نوح عليه‌السلام فيقول : يا بنيّ لا تقبل من هذا ، فإنّ أبي مشى بي إليه وأوصاني بما أوصيتك به فوصفهم الله جلّ وعزّ بالظلم والطغيان.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) (٥٣)

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ) منصوبة بأهوى.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤)

الفائدة هي هذا معنى التعظيم أي ما غشّى مما قد ذكر لكم. قال قتادة : غشّاها الصخور أي بعد ما رفعها وقلبها.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥)

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٠ ، ولسان العرب (سكف) ، و (شأم) ، وجمهرة اللغة (١٣٢٨) ، وأساس البلاغة (شأم) ، وتاج العروس (كشف) ، و (شأم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١١ / ٤٣٦ ، وصدره :

«فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم»

١٨٩

أي قل يا محمد لمن يشك ويجادل بأيّ نعم ربّك تمتري أي تشكّ ، وواحد الالاء إلى ، ويقال : ألى وإلي وأليّ ، أربع لغات قال قتادة : أي فبأي نعم ربك تتمارى المعنى يا أيها الإنسان فبأيّ نعم ربّك تتشكّك ؛ لأن المريّة الشكّ.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦)

(هذا نَذِيرٌ) مبتدأ وخبره. ومذهب قتادة أن المعنى هذا محمد نذير ، وشرحه أنّ المعنى : هذا محمد من المنذرين أي منهم في الجنس والصدق والمشاكلة وإذا كان مثلهم فهو منهم. ومذهب أبي مالك أن المعنى : هذا الذي أنذرتكم به من هلاك الأمم نذير. (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) قال أبو جعفر : وهذا أولى بنسق الآية لأن قبله (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [الآية : ٣] فالتقدير هذا الذي أنذرتكم به من النذر المتقدّمة.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧)

روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : «الآزفة» من أسماء القيامة. قال : يقال أزف الشيء إذا قرب ، كما قال : [الكامل]

٤٤١ ـ أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا نزل برحالنا وكأن قد(١)

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) (٥٨)

قيل : معنى «كاشفة» المصدر أي كشفت مثل (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ٢] وقال أبو إسحاق : «كاشفة» من يتبيّن متى هي ، وقيل «كاشفة» من يكشف ما فيها من الجهد أي لوقعتها كاشف إلّا الله عزوجل ولا يكشفه إلّا عن المؤمنين ، وتكون الهاء للمبالغة.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩)

أي من أن أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبون.

(وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) (٦٠)

__________________

(١) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٨٩ ، والأزهيّة ٢١١ ، والأغاني ١١ / ٨ ، والجنى الداني ١٤٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٩٧ ، والدرر اللوامع ٢ / ٢٠٢ ، وشرح التصريح ١ / ٣٦ ، وشرح شواهد المغني ٤٩٠ ، وشرح المفصل ٨ / ١٤٨ ، ولسان العرب (قدد) ، ومغني اللبيب ١٧١ ، والمقاصد النحوية ١ / ٨٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٥٦ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٨ ، ورصف المباني ٧٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٣٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢ ، وشرح ابن عقيل ١٨ ، وشرح قطر الندى ١٦٠ ، وشرح المفصّل ١٠ / ١١٠ ، ومغني اللبيب ٣٤٢ ، والمقتضب ١ / ٤٢ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٣.

١٩٠

(وَتَضْحَكُونَ) استهزاء. (وَلا) لما فيه من الوعيد وذكر العقاب.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١)

أي لاهون معرضون عن آياته. (٦٢)

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)

قال أبو إسحاق : المعنى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) ولا تسجدوا للات والعزّى ومناة (وَاعْبُدُوا) أي واعبدوا الله جلّ وعزّ وحده.

١٩١

(٥٤)

شرح إعراب سورة القمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) كسرت التاء لالتقاء الساكنين ، ووجب أن تكون التاء ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى ، هذا قول البصريين. فأما قول الكوفيين فإنه لما كانت التاءات أربعا فضمّت تاء المخاطب وفتحت تاء المخاطب المذكّر وكسرت تاء المخاطبة المؤنثة فلم تبق حركة فسكّنت تاء المؤنثة الغائبة. والمعنى : اقتربت الساعة التي تقوم فيها القيامة فاحذروا منها لئلا تأتيكم فجأة وأنتم مقيمون على المعاصي (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) معطوف على اقتربت معناه المضيء.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢)

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) شرط وجوابه. والمعنى أنّهم سألوا آية فأروا القمر منشقّا فرأوا آية تدل على حقيقة أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ما جاء به صدق فأعرضوا عن التصديق (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) على إضمار مبتدأ أي هذا سحر مستمر.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣)

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي كذّبوا بحقيقة ما رأوه وتيقّنوه واثروا اتباع أهوائهم في عبادة الأوثان وترك ما أمرهم الله به (أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) مبتدأ وخبر. والمعنى : وكلّ أمر من خير أو شرّ مستقرّ قراره ومتناه منتهاه.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤)

أي ولقد جاء هؤلاء المشركين من أخبار الأمم الذين فعلوا كفعلهم فأهلكوا ما فيه منتهى عمّا هم عليه ، كما قال مجاهد : مزدجر منتهى. والأصل عند سيبويه (١) مزتجر

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٦٠٠.

١٩٢

بالتاء إلّا أن التاء مهموسة والزاي مجهورة فثقل الجمع بينهما فأبدل من التاء ما هو من مخرجها وهو الدال. قال أبو جعفر : وهذا من أوجز قوله ولطيفه.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُر) (٦)

(حِكْمَةٌ) بدل من «ما» والتقدير ولقد جاءهم حكمة (بالِغَةٌ) أي ليس فيها تقصير ، ويجوز أن تكون حكمة مرفوعة على إضمار مبتدأ (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) ويجوز أن تكون «ما» في موضع نصب بتغني. والتقدير : فأيّ شيء تغني النذر عمّن اتّبع هواه وخالف الحقّ ، ويجوز أن تكون ما نافية لا موضع لها. وزعم قوم أن الياء حذفت من تغن في السواد ؛ لأن «ما» جعلت بمنزلة «لم». قال أبو جعفر : هذا خطأ قبيح ؛ لأن «ما» ليست من حروف الجزم ، وهي تقع على الأسماء والأفعال فمحال أن تجزم ومعناهما أيضا مختلف : لأنّ «لم» تجعل المستقبل ماضيا و «ما» تنفي الحال. فأما حذف الياء من «تغن» في السواد فإنه على اللفظ في الإدراج ومثله يوم يدع الداعي إلى شيء نكر (١) تكتب بغير واو على اللفظ في الإدراج. فأما الداعي إذا حذفت منه الياء فالقول فيه أنه بني على نكرته. فأما البيّن فأن يكون هذا كله مكتوبا بغير حذف.

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

(خُشَّعاً) (٢) منصوب على الحال. (أَبْصارُهُمْ) مرفوع بفعله هذه قراءة أهل الحرمين ، وقرأ أهل الكوفة وأهل البصرة خاشعا أبصارهم وعن ابن مسعود خاشعة أبصارهم فمن قال خاشعا وحّد ، لأنه بمنزلة الفعل المتقدم ، ومن قال : خاشعة أنّث كتأنيث الجماعة ، ومن قال خشّعا جمع لأنه جمع مكسّر فقد خالف الفعل ، ولو كان في غير القرآن جاز الرفع على التقديم والتأخير. (يَخْرُجُونَ) في موضع نصب على الحال أيضا (مِنَ الْأَجْداثِ) واحدها جدث ، ويقال : جدف للقبر ، مثل فوم وثوم (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في موضع نصب على الحال وكذا قوله : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) مبتدأ وخبره.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) على تأنيث الجماعة. (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يعني نوحا. (وَقالُوا مَجْنُونٌ) على إضمار مبتدأ (وَازْدُجِرَ) أي زجر وتهدّد بقولهم : لئن لم تنته لنرجمنّك (٣).

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٦ (قرأ ابن كثير «نكر» بإسكان الكاف والباقون بضمّها) ...

(٢) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٨ / ١٧٣ ، وتيسير الداني ١٦٧ ، ومعاني الفراء ٣ / ١٠٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦١٨.

(٣) يشير إلى الآية ١١٦ ، من سورة الشعراء : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ).

١٩٣

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠)

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) أي بأني قد غلبت وقهرت ، وقرأ عيسى بن عمر (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) (١) بكسر الهمزة. قال سيبويه أي قال : إني مغلوب (فَانْتَصِرْ) أي لي بعقابك إياهم.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١)

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ) التقدير : فنصرناه ففتحنا أبواب السماء : لأن ما ظهر من الكلام يدلّ على ما حذف. (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي مندفق. قال سفيان منهمر ينصبّ انصبابا ، وقال الشاعر : [الرمل]

٤٤٢ ـ راح تمريه الصّبا ثم انتحى

فيه شؤبوب جنوب منهمر(٢)

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢)

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) جمع عين في العدد ، وقراءة الكوفيين (عُيُوناً) بكسر العين ، والأصل الضمّ فأبدل من الضمة كسرة استثقالا للجمع بين ضمة وياء (فَالْتَقَى الْماءُ) (٣) والتقى لا يكون إلّا الاثنين. المعنى : فالتقى ماء الأرض وماء السماء ، وهما جميعا يقال لهما ماء لأنّ ماء اسم للجنس. قال أبو الحسن بن كيسان : الأصل في ماء ماه فأبدلوا من الهاء همزة فإذا جمعوا ردّوه إلى أصله فقالوا : أمواه ومياه ، ومويه في التصغير (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (٤) قيل : أي قدّره الله جلّ وعزّ في اللوح المحفوظ ، وقيل : قدر ماء الأرض كماء السّماء.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣)

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) أي على سفينة ذات ألواح (وَدُسُرٍ) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : الدّسر المسامير ، وكذا قال محمد بن كعب وقتادة وابن زيد ، وقال الحسن : الدّسر صدر السفينة ، وقال الضحاك : الدّسر طرف السفينة. قال : وأصل هذا من دسره يدسره ويدسره دسرا إذا شدّه ودفعه.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤)

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منّا ومسمع ، وقيل بأمرنا. وأعين جمع في القليل ،

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ١٤٧ ، والبحر المحيط ٨ / ١٧٥.

(٢) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ١٤٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ١٧٥ (وقرأ علي والحسن ومحمد بن كعب والجحدري «الماءان» ، وقرأ الحسن «الماوان»).

(٤) انظر البحر المحيط ٨ / ١٧٦ (وقرأ أبو حيوة «قدّر» بشدّ الدال ، والمجهور بتخفيفها).

١٩٤

ويقال : أعيان ، مثل بيت وأبيات. (جَزاءً) مصدر. (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) في معناه أقوال. قال ابن زيد : «من» بمعنى «ما» ، وتقديره عنده للذي كفر من النعم وجحد. قال : وهذا يمنعه أهل العربية جميعا ، ومذهب مجاهد. أن المعنى جزاء لله. قال أبو جعفر : وهذا قول حسن أي عاقبناهم وعرفناهم جزاء لله جلّ وعزّ حين كفروا به وجحدوا وحدانيته فقالوا لا تذرنّ الهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا ، وقيل : جزاء لمن كان كفر على لفظ «من» ، ولو كان في غير القرآن لجاز على هذا القول كفروا على المعنى.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥)

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) قيل : المعنى : ولقد تركنا هذه العقوبة لمن كفر وجحد الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وسلم عظة وعبرة ، ومذهب قتادة ولقد تركنا السفينة آية. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هذه قراءة الجماعة وهي صحيحة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه شعبة وغيره عن ابن إسحاق عن الأسود عن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) بالدال غير معجمة ، وقال يعقوب القارئ : قرأ قتادة فهل من مذّكر (١) بالذال معجمة. قال أبو جعفر : مدّكر أولى لما ذكرنا من الاجتماع في العربية والأصل عند سيبويه (٢) مذتكر فاجتمعت الذال وهي مجهورة أصلية والتاء وهي مهموسة زائدة فأبدلوا من التاء حرفا مجهورا من مخرجها فصار مذدكر ، فأدغمت الذال في الدال فصار مدّكر ، ممن قال مذّكر أدغم الدال في الذال ، وليس على هذا كلام العرب إنما يدغمون الأول في الثاني.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٦)

أي فكيف كان عقابي لمن كفر بي وعصاني وبإنذاري وتحذيري من الوقوع في مثل ذلك.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧)

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) قال ابن زيد : أي بيّنا ، وقال مجاهد : هوّنّا ، وقيل : التقدير : ولقد سهّلنا القرآن بتبييننا إياه وتفصيلنا لمن أراد أن يتذكّره فيعتبر به. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يتذكّر ما فيه ، وقيل هل من طالب خيرا أو علما فيعان عليه ، فهذا قريب من الأول لأن الأول أبين على ظاهر الآية.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٨)

(كَذَّبَتْ عادٌ) قال أبو جعفر : في هذا حذف قد عرف معناه أي كذّبت عاد هودا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٧٦.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٦٠١.

١٩٥

كما كذّبت قريش محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليحذروا مثل ما نزل بهم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) «فكيف» في موضع نصب على خبر كان إلّا أنها مبنية لأن فيها معنى الاستفهام وفتحت لالتقاء الساكنين.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (١٩)

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أهل التفسير يقولون : الصّرصر الباردة ، وقال بعض أهل اللغة : إنما يقال لها صرصر إذا كان لها صوت شديد من قولهم صرّ الشيء إذا صوّت ، والأصل صرر فأبدل من إحدى الراءات صاد. (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) قال بعض أهل التفسير : النحس الشديد ، ولو كان كما قال لكان يوم منونا ولقيل : نحس ولم يضف.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠)

(تَنْزِعُ النَّاسَ) قيل : تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) النخل تذكّر وتؤنّث لغتان جاء بها القرآن وزعم محمد بن جرير (١) أنّ في الكلام حذفا ، وأن المعنى تنزع النّاس فتتركهم كأعجاز نخل. قال : فتكون الكاف على هذا في موضع نصب بالفعل المحذوف ، وهذا لا يحتاج إلى ما قاله من الحذف. والقول فيه ما قاله أبو إسحاق قال : هو في موضع نصب على الحال أي تنزع الناس أمثال نخل منقعر أي في هذه الحال. قال أبو جعفر : وهذا القول حقيقة الإعراب فإن كان على تساهل المعنى فالمعنى يؤول إلى ما قاله محمد بن جرير. وقد روى محمد بن إسحاق قال : لمّا هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد فاصطفوا على باب الشّعب فسدّوا الريح عمّن في الشّعب من العيال ، فأقبلت الريح تجيء من تحت واحد واحد ثم تقلعه فتقلبه على رأس فتدقّ عنقه حتّى أهلكت ستّة وبقي واحد يقال له : الخلجان فجاء إلى هود صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هؤلاء الذين أراهم كالبخاتي (٢) تحت السحاب قال : هؤلاء الملائكة عليهم‌السلام قال : إن أسلمت فما لي قال : تسلم قال : أيقيدني ربّك من هؤلاء الذين في السحاب؟ قال : ويلك هل رأيت ملكا يقيد من جنده؟ قال : لو فعل ما رضيت قال : فرجع إلى موضعه ، وأنشأ يقول : [الراجز]

٤٤٣ ـ لم يبق إلّا الخلجان نفسه

يا شرّ يوم قد دهاني أمسه(٣)

ثم لحقه ما لحق أصحابه فصاروا كما قال جلّ وعزّ : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ). وقال مجاهد في تشبيههم بأعجاز نخل منقعر : لأنه قد بانت أجسادهم من رؤوسهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٢٧ / ٩٩.

(٢) البخاتي : جمع البختيّة ، وهي جمال طوال الأعناق (تاج العروس «بخت»).

(٣) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري ٢٧ / ٩٩.

١٩٦

فصاروا أجساما بلا رؤوس ، وقال بعض أهل النظر : التشبيه للحفر التي كانوا فيها قياما صارت الحفر كأنها أعجاز نخل. قال أبو جعفر : وهذا القول قول خطأ ، ولو كان كما قال كان كأنّها أو كأنّهن ، وأيضا فإنّ الحفر لم يتقدّم لها ذكر فيكنى عنها. وأيضا فالتشبيه بالقوم أولى ولا سيما وهو قول من يحتجّ بقوله.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢)

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) أي فكيف كان عذابي إيّاهم على الكفر وإنذاري إيّاكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. قال أبو إسحاق : نذر جمع نذير.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) (٢٣)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) (٢٣) لم يصرف ثمود : لأنه اسم للقبيلة ويجوز صرفه على أنه اسم للحيّ.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢٤)

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) نصبت بشرا بإضمار فعل والمعنى : أنتّبع بشرا منّا واحدا ونحن جماعة؟ (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي في حيرة عن الطريق المستقيم وأخذ على العوج ، ولا تعمل إذن إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها. (وَسُعُرٍ) يكون جمع سعير ، ويكون مصدرا من قولهم سعر الرجل إذا طاش.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥)

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) استفهام فيه معنى التوقيف. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الكوفيون يقولون : «بل» لا تكون إلّا بعد نفي فيحملون مثل هذا على المعنى ؛ لأن معنى ألقي عليه الذكر لم يلق عليه.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (٢٧)

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) الأصل عند سيبويه غدو حذفت منه الواو. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) مبتدأ وخبره في موضع نصب بسيعلمون ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ستعلمون غدا (١) وأبو عبيد يميل إلى القراءة بالياء لأن بعده (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) ولم يقل : لكم. قال أبو جعفر : التقدير لمن قرأ بالياء قال الله جلّ وعزّ : (سَيَعْلَمُونَ غَداً) ، والقول يحذف كثيرا. والأصل إنّا مرسلون حذفت النون تخفيفا وأضيف فتنة

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٧ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦١٨ ، والبحر المحيط ٨ / ١٧٩.

١٩٧

لهم. قال أبو إسحاق : فتنة مفعول له ، وقال غيره : هو مصدر أي فتناهم بذلك وابتليناهم. وكان ابتلاؤهم في ذلك أنّ الناقة خرجت لهم من صخرة صماء ناقة عظيمة فآمن بعضهم وكانت لعظمها كثيرة الأكل فشكوا ذلك إلى صالح صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء ، فقال : ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء ، ترد الماء يوما ، وتردون يوما فكانت هذه الفتنة. (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي فاصبر على ارتقابك إيّاهم ، والأصل واصتبر أبدل من التاء طاء ؛ لأن الطاء أشبه بالصاد لأنهما مطبقتان. قال أبو إسحاق : ينطبق الحنك على اللسان بهما ، قال أيضا : وهما أيضا مطبقتان في الخطّ.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (٢٨)

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي ذو قسمة مثل قولك : رجل عدل. (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) مبتدأ وخبر. أي تحضر الناقة يوما وهم يوما ، وغلّب المذكّر على المؤنّث فقيل بينهم.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢٩)

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) وهم التسعة الذين انفردوا لعقر الناقة فنادى ثمانية منهم قدارا ، فقالوا : هذه الناقة قد أقبلت (فَتَعاطى فَعَقَرَ) قيل : أي فتعاطى قتلها وحقيقته في اللغة فتناول الناقة فقتلها ، من قولهم عطوت إذا تناولت ، كما قال : [الطويل]

٤٤٤ ـ وتعطو برخص غير شثن كأنّه

أساريع ظبي أو مساويك إسحل(١)

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٠)

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) أي عقابي إيّاهم على عصيانهم أي فاحذروا المعاصي. (وَنُذُرِ) أي إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١)

وهذا من التمثيل العجيب لأن الهشم ما يبس من الشجر وتهشّم فصار يحظر به بعد أن كان أخضر ناضرا أي صاروا بعد النعمة رفاتا ، وبعد البهجة حطاما كهيئة الشجر. وروي عن ابن عباس «كهشيم المحتظر» أي كالعظام المحترقة. قال أبو جعفر : وحقيقة هذا القول في اللغة كهشيم قد حظر به وأحرق : وقال ابن زيد : هو الشوك

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٧ ، وجمهرة اللغة ٣٦٣ ، وشرح المفصّل ٦ / ٩٢ ، و٧ / ١٤٤ ، ولسان العرب (سرع) و (سحل) و (ششن) ، و (ظبا) ، والمنصف ٣ / ٥٨ ، وتاج العروس (سحل) ، و (ششن) ، و (ظبا).

١٩٨

تجعله العرب حوالى الغنم مخافة السبع. والتقدير في العربية كهشيم الرجل المحتظر ، ومن قرأ (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (١) فتقديره كهشيم الشيء الذي قد احتظر.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (٣٣)

أي بالآيات التي أنذروا بها.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٣٤)

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي حجارة تحصبهم. (إِلَّا آلَ لُوطٍ) نصب على الاستثناء ، وال الرجل كلّ من كان على دينه ومذهبه كما قال جلّ وعزّ لنوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] وهو ابنه وال بمعنى واحد ، إلّا أن النحويين يقولون : الأصل في ال أهل ، والدليل على ذلك أنّ العرب إذا صغّرت الا قالت : أهيل. (نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) قال الفراء (٢) : سحر هاهنا يجري ؛ لأنه نكرة كقولك : نجّيناهم بليل. قال أبو جعفر : وهذا القول قول جميع النحويين لا نعلم فيه اختلافا إلّا أنه قال بعده شيئا يخالف فيه قال : فإذا ألقت العرب من سحر الباء لم يجروه فقالوا : فعلت هذا سمر يا هذا. قال أبو جعفر : وقول البصريين أنّ سحر إذا كان نكرة انصرف وإذا كان معرفة لم ينصرف ، ودخول الباء وخروجها واحد. والعلّة فيه عند سيبويه (٣) أنه معدول عن الألف واللام لأنه يقال : أتيتك أعلى السّحر فلما حذفت الألف واللام وفيه نيتهما اعتلّ فلم ينصرف تقول : سير بزيد سحر يا هذا ، غير مصروف. ولا يجوز رفعه لعلّة ليس هذا موضع ذكرها.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥)

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) قال أبو إسحاق : نصبت نعمة لأنها مفعول لها ، قال : ويجوز الرفع بمعنى تلك نعمة من عندنا. (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) الكاف في موضع نصب أي نجزي من شكر جزاء كذلك النجاء.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٣٦)

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي التي بطشنا بهم. (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي كذّبوا بها شكّا ، كما قال قتادة في (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي لم يصدّقوا بها.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٧)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ١٨٠ ، ومعاني الفراء ٣ / ١٠٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٠٩.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٣١٤.

١٩٩

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) «وضيف» بمعنى أضياف لأنه مصدر فلذلك لا تكاد العرب تثنيه ولا تجمعه ، وحقيقته في العربية عن ذوي ضيفه. (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) يقال : طمس عينه وعلى عينه إذا فعل بها فعلا يصير بها مثل وجهه لا شقّ فيها ويقال طمست الريح الأعلام إذا سفت عليها التراب فغطّتها به ، كما قال : [البسيط]

٤٤٥ ـ من كلّ نضّاخة الذّفرى إذا عرقت

عارضها طامس الأعلام مجهول(١)

(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقالت لهم الملائكة عليهما‌السلام : فذوقوا عذاب الله وعقابه ما أنذركم به.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٣٨)

قال سفيان : كان مع الفجر صرفت بكرة هاهنا ؛ لأنها نكرة ، وزعم الفراء (٢) أن غدوة وبكرة يجريان ولا يجريان ، وزعم أنّ الأكثر في غدوة ترك الصرف ، وفي بكرة الصرف. قال أبو جعفر : قول البصريين أنهما لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة فإن زعم زاعم أنّ الأولى ما قال الفراء لأن بكرة هاهنا مصروف قيل له : هذا لا يلزم ؛ لأن بكرة هاهنا نكرة وكذا سحر ، والدليل على ذلك أنه لم يقل : أهلكوا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا بكرة فتكون معرفة فلما وجب أن تكون نكرة لم يكن فيها ذكر حجّة ولا سيما وفيه الهاء قيل : (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي يستقرّ عليهم حتّى أهلكهم.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (٤١)

أي أهل دينه والقائلين بقوله كما مرّ. «قد» إذا وقعت مع الماضي دلّت على التوقّع وإذا كانت مع المستقبل دلّت على التقليل نقول : قد يكرمنا فلان أي ذلك يقلّ منه.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢)

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) في معناه قولان : أحدهما أن المعنى : كذّبوا بآياتنا التي أريناهم إيّاها كلّها والآخر أنه على التكثير ، كما حكى سيبويه ما بقي منهم مخبّر. (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) قال قتادة : عزيز في انتقامه ، وقال لي غيره : عزيز لا يغلب مقتدر على ما يشاء.

__________________

(١) الشاهد لكعب بن زهير في ديوانه ص ٩ ، ولسان العرب (نضخ) ، و (عرض) ، وتاج العروس (نضخ) و (عرض).

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٠٩.

٢٠٠