إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦)

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها. (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ابتداء وخبر وقيل : «مثل» هاهنا بمعنى صفة كما قال (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥] وقيل : هو على بابه. (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) شرط وجوابه وهو في موضع الحال أي فمثله كمثل الكلب لاهثا ، والمعنى أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية كمثل الكلب الذي هذه حاله ، وقيل : المعنى أنه لا يرعوي عن أذى الناس كمثل الكلب لاهثا ، ومعنى لاهث أنه يحرك لسانه وينبح. وفي هذه الآية أعظم الفائدة لمن تدبّرها وذلك أنّ فيها منعا منه التقليد لعالم إلا بحجة يبيّنها لأن الله جلّ وعزّ خبّر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وأن لا يقبل منه إلا بحجة.

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧)

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) قال الأخفش : فجعل مثل القوم مجازا. والتقدير : ساء مثلا مثل القوم و (الْقَوْمُ) مرفوعون بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. وقرأ عاصم الجحدري والأعمش (ساء مثل القوم)(١) رفع مثلا بساء.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨)

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) شرط وجوابه وكذا (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩)

أي هم بمنزلة من لا يفقه لأنهم لا ينتفعون بها. (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ليست. (بَلْ) هاهنا رجوعا عن الأول ولكنّ المعنى هم كالأنعام وهم أضل من الأنعام لأنهم لا يهتدون إلى ثواب.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٨٠)

هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم والكسائي ، وقرأ يحيى بن وثاب

__________________

(١) هذه قراءة الحسن وعيسى بن عمر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٢٤.

٨١

والأعمش وحمزة يلحدون (١) بفتح الياء والحاء ، واللغة الفصيحة ألحد في دينه ولحد القبر. وقد تدخل كلّ واحدة منهما على الأخرى لأن المعنى معنى الميل. ومعنى يلحدون في أسمائه على ضربين : أحدهما أن يسموا غيره إلها والآخر أن يسمّوه بغير أسمائه.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١)

فدلّ الله جلّ وعزّ بهذه الآية أنه لا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣)

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الكيد من الله جلّ وعزّ هو عذابه إذا أتاهم من حيث لا يشعرون وهذا معنى الكيد في اللغة.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١٨٥)

(وَأَنْ عَسى) في موضع خفض معطوف على ما قبله. (أن يكون) في موضع رفع.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٦)

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) شرط ومجازاة. (وَنَذَرُهُمْ) (٢) بالنون هذه قراءة أهل المدينة وفيها تقديران : أحدهما أن يكون معطوفا على ما يجب فيما بعد الفاء في المجازاة وكذا «ونذرهم» ، وقراءة الكوفيين (وَيَذَرُهُمْ) (٣) بالياء والجزم معطوف على موضع الفاء. والمعنى لا تميتهم إذا عصوا حتى يحضر أجلهم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي عن الساعة التي تقوم فيها القيامة. (أَيَّانَ مُرْساها) أي يقولون : متى وقوعها؟ و (مُرْساها) في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه وبإضمار فعل

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٤.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣١.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٣١.

٨٢

عند أبي العباس ومرساها من أرساها ، ومرساها من رست أي ثبتت ووقعت ، ومنه (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣]. قال قتادة : أي ثابتات. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ابتداء وخبر. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) مصدر في موضع الحال. (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قول أهل التفسير إن المعنى على التقديم والتأخير ، وقال محمد بن يزيد المعنى يسألونك كأنك حفيّ بالمسألة عنها أي ملحّ يذهب إلى أنه ليس فيه تقديم ولا تأخير يقال : أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محفي وحفيّ على التكثير مثل مخصب وخصيب. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ليس هذا تكريرا ولكن أحد العلمين لوقوعها ، والآخر لكنها.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨)

(ما شاءَ اللهُ) في موضع نصب بالاستثناء والمعنى إلّا ما شاء الله أن يملكني ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٦٤ ـ مهما شاء بالناس يفعل (١)

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) من أحسن ما قيل فيه أن المعنى لو كنت أعلم الغيب ما يريد الله جلّ وعزّ مني من قبل أن يعرّفنيه لفعلته وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ابتداء وخبر وقد ذكرناه (٢) وقد قيل : إن المعنى هو الذي خلقكم من آدم عليه‌السلام ثم جعل منه زوجه إخبار. (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) كل ما كان في الجوف فهو حمل بالفتح وإذا كان على الظهر فهو حمل ، وما كان في النخلة فهو حمل بالفتح. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. قال الأخفش : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل كما تقول : أثمر النخل. (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي سويا.

__________________

(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ٥٦ ، وسمط اللآلي ٩٣٥ ، والكتاب ٢ / ٢٥٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٦٤ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٠ ، ونوادر أبي زيد ١٥٩ ، وبلا نسبة في المقرب ١ / ١٨٨ ، وتمامه :

«ألا هل لهذا الدهر من متعلّل

عن الناس ، مهما شاء بالناس يفعل»

(٢) مرّ في إعراب الآية ١٧٢.

٨٣

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠)

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) قيل : التقدير إيتاء صالحا ، وهو ذكر وأنثى كما كانت حواء تلد. (جَعَلا لَهُ) قيل : يعني الذكر والأنثى الكافرين ويعني به الجنسين ودل على هذا (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ولم يقل : يشركان فهذا قول حسن ، وقيل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ومن هيئة واحدة وشكل واحد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي من جنسها فلمّا تغشّاها يعني الجنسين وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء في الآية ذكر. قرأ أهل المدينة وعاصم جعلا له شركا (١) وقرأ أبو عمرو وسائر أهل الكوفة (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) (٢) وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى ، وقال : كان يجب على هذه القراءة أن يكون جعلا لغيره شريكا لأنهما يقرّان أن الأصل لله جلّ وعزّ فإنما يجعلان لغيره الشرك. قال أبو جعفر : التأويل لمن قرأ القراءة الأولى جعلا له ذا شرك مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (١٩٣)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) قال الأخفش وإن تدعوا الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) قال أحمد بن يحيى : لأنه رأس آية يريد أنه قال «أم أنتم صامتون» ولم يقل أم صمتم. قال أبو جعفر : المعنى في «أم أنتم صامتون» وفي «أم صمتم» واحد. هذا قول سيبويه (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤)

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) اسم إنّ. (عِبادٌ) خبره. (أَمْثالُكُمْ) نعت ، وحكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني أن سعيد بن جبير قرأ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم(٤) بتخفيف «إن» وكسرها لالتقاء الساكنين ونصب «عبادا» بالتنوين ونصب «أمثالكم» قال : يريد ما الذين تدعون من دون الله بعباد أمثالكم أي هنّ حجارة وأصنام وخشب. قال أبو جعفر : وهذه القراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد ، والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر «إن» إذا كانت بمعنى «ما» فيقول : إن زيد منطلق لأن عمل «ما» ضعيف و «إن» بمعناها فهي أضعف

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٢٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٦.

(٢) انظر تيسير الداني ٩٤ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٢٩٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٦.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٧٣.

(٤) انظر المحتسب ١ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٠.

٨٤

منها ، والجهة الثالثة أن الكسائي زعم أنّ «إن» لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى «ما» إلّا أن يكون بعدها إيجاب كما قال جلّ وعزّ : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢٠](فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) الأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها وإن اللام قد اتصلت بما قبلها. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خبر كنتم وفي اللام حذف والمعنى فادعوهم إلى أن يتّبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنّهم آلهة.

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥)

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) أنتم أفضل منهم فكيف تجدونهم وقرأ أبو جعفر وشيبة (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ) (١) ، وهي لغة. واليد والرّجل والأذن مؤنّثات يصغّرن بالهاء ، وتزاد في اليد ياء في التصغير تردّ إلى أصلها. (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الذين شركتموهم فجعلتم لهم قسطا من أموالكم. (ثُمَّ كِيدُونِ) والأصل كيدوني بالياء حذفت الياء لأن الكسرة تدلّ عليها وكذا (فَلا تُنْظِرُونِ) أي فلا تؤخرون.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (١٩٦)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) اسم «إنّ» وخبرها ، وقرأ عاصم الجحدري إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب (٢) يعني جبرئيل عليه‌السلام. ومعنى وليّي الله حافظي وناصري الله ، ووليّ الشّيء الذي يحفظه ويمنع منه الضرر.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (١٩٧)

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) مبتدأ والخبر (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ).

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨)

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى) شرط فلذلك حذفت منه النون ، والجواب (لا يَسْمَعُوا). (وَتَراهُمْ) مستأنف. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في موضع الحال ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه وليس هو مثل الرؤية وخبّر عنهم بالواو لأن الخبر جرى على فعل من يعقل.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩)

(خُذِ الْعَفْوَ) وهو اليسير. قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد : العفو الزكاة لأنها يسير من كثير ، قال أبو جعفر : وهو من عفا إذا درس ، وقد يقال : خذ العفو منه أي لا

__________________

(١) وهي قراءة نافع أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٢ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.

٨٥

تنقص عليه وسامحه. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) وقرأ عيسى بن عمر (بِالْعُرْفِ) (١) أي المعروف ومعنى المعروف ما كان حسنا في العقل. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي إذا أقمت عليهم الحجّة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم صيانة له عنهم وترفعا لقدره عن مجاوبتهم.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ) نزغ أي إن وسوس إليك الشيطان عند الغضب بما لا يحلّ. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ) لقولك (عَلِيمٌ) بما يجب في ذلك و (يَنْزَغَنَّكَ) في موضع جزم بالشرط وكّد بالنون وحسن ذلك لمّا دخلت «ما» ، وحكى سيبويه : بألم ما تختننّه (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢٠١)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي اتّقوا المعاصي. (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة ، وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة طائفة وروي عن سعيد بن جبير طيّف (٣) بتشديد الياء. قال أبو جعفر : كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف ، وقال الكسائي : هو مخفّف من طيّف. قال أبو جعفر : ومعنى طيف في اللغة ما يتخيّل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف ، وقال أبو حاتم : سألت الأصمعيّ عن طيّف فقال : ليس في المصادر فيعل. قال أبو جعفر : ليس هذا بمصدر ولكن يكون بمعنى طائف ، والمعنى : إنّ الذين اتّقوا المعاصي إذا لحقهم شيء من الشيطان تفكّروا في قدرة الله جلّ وعزّ في إنعامه عليهم فتركوا المعصية فإذا هم مستبصرون ، وروي عن مجاهد (تَذَكَّرُوا) بتشديد الذال ولا وجه له في العربية.

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٢٠٢)

(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) قال أحمد بن جعفر : الضمير للمشركين. قال أبو حاتم : أي وإخوان المشركين وهم الشياطين. قال أبو إسحاق : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٤ ، قال : بضم الراء.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٥٨٠ ، وقد ورد المثل في خزانة الأدب ١ / ٤٠٣ ، ومجمع الأمثال ١ / ١٠٧ ، والمعنى : لا يكون الختان إلا بألم ، والمقصود أنه لا يدرك الخير إلا باحتمال المشقّة.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٥.

٨٦

الغي وأحسن ما قيل في هذا قول الضحاك (وَإِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين وهم الفجّار. (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) قال أي لا يتوبون ولا يرجعون ، وعلى هذا يكون الضمير متّصلا ، فهذا أولى في العربية. وقيل للفجار : إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقرأ أهل المدينة (يَمُدُّونَهُمْ) بضم الياء ، وجماعة من أهل اللغة ينكرون هذه القراءة منهم أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو حاتم : لا أعرف لها وجها إلّا أن يكون المعنى يزيدونهم من الغيّ ، وهذا غير ما يسبق إلى القلوب ، وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا أكثر شيء شيئا بنفسه : مدّه ، وإذا أكثره بغيره قيل : أمدّه نحو (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [آل عمران : ١٢٥] وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتجّ لقراءة أهل المدينة قال : يقال مددت له في كذا أي زيّنته له واستدعيته أن يفعله وأمددته في كذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. وقرأ عاصم الجحدريّ : وإخوانهم يمادّونهم (١) في الغيّ.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٠٣)

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا) بمعنى «هلّا» ولا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا. (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ابتداء وخبر أي هذا الذي دللتكم به أنّ الله جلّ وعزّ واحد. بصائر أي يستبصر به. (وَهُدىً) أي ودلالة. (وَرَحْمَةٌ) أي ونعمة.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤)

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) قال أبو جعفر : قد ذكرنا أنه يقال : إن هذا في الصلوات ، وقيل : إنه في الخطبة ، وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء إلّا أن يدلّ دليل على اختصاص شيء.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٢٠٥)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) مصدر وقد يكون في موضع الحال وجمع خيفة خوف لأنها بمعنى الخوف ، وحكى الفراء أنه يقال أيضا : خيّف. وقرأ أبو مجلز (٢) بالغدوّ والإيصال (٣) وهو مصدر أصلنا أي دخلنا في العشيّ (وَالْآصالِ)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٤٦ ، ومختصر ابن خالويه ٤٨.

(٢) أبو مجلز : لاحق بن حميد السدوسي البصري ، سمع الصحابة ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وردت عنه الرواية في حروف القرآن (ت ١٠٦ ه‍) ، ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٣٦٢.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٤٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٤٩.

٨٧

جمع أصل مثل طنب وأطناب ، قال الأخفش : الآصال جمع أصيل مثل يمين وأيمان ، وقال الفراء : أصل جمع أصيل وقد يكون أصل واحدا كما قال : [البسيط]

١٦٥ ـ ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل (١)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) اسم «إنّ» وهم الملائكة صلوات الله عليهم قال أبو إسحاق : قال : عند ربك والله جلّ وعزّ بكل مكان لأنهم قريبون من رحمة الله جلّ وعزّ وكلّ قريب من رحمة الله جلّ وعزّ فهو عنده ، وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلّا حكم الله جلّ وعزّ ، وقيل : لأنهم رسل الله كما يقال : عند الخليفة جيش كثير (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي يعظّمونه وينزّهونه عن كلّ سوء. (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يذلّون خلاف أهل المعاصي.

__________________

(١) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٠٧ ، وتاج العروس (أصل) ، وصدره :

«يوما بأطيب منها نشر رائحه»

٨٨

(٨)

شرح إعراب سورة الأنفال

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين وأسقطتها ، وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يسئلونك الأنفال (١) يكون على التفسير وتعدّت يسألونك إلى مفعولين. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ) ابتداء وخبر (وَالرَّسُولِ) عطف. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي كونوا مجتمعين على أمر الله جلّ وعزّ ، وفي الدعاء «اللهمّ أصلح ذات البين» أي الحال التي يقع بها الاجتماع. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وغيرها.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) ابتداء و «ما» كافة ويجوز في القياس النصب ومنعه سيبويه. (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) خبر الابتداء. وحكى سيبويه وجل يوجل وياجل وييجل وييجل. قال أبو زيد: سألت خليلا عن الذين قالوا : رأيت الزّيدان ، فقال : هذا على لغة من قال ياجل.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بدل من الذين الأول.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ابتداء وخبر. (حَقًّا) مصدر. (لَهُمْ دَرَجاتٌ) ابتداء أي منازل رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم. (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) عطف.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٨ ، والمحتسب ١ / ٢٧٢.

٨٩

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥)

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) من المشكل ولأهل اللغة فيها ستة أقوال : قال سعيد بن مسعدة أولئك المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال : وقال بعض العلماء كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وقال الكسائي أي مجادلتهم الآن له كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ. وقال أبو عبيدة (١) : هو قسم أي والذي أخرجك من بيتك. قال أبو إسحاق : الكاف في موضع نصب أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وهم كارهون كذلك ننفّل من رأيت. فهذه خمسة أقوال ، وقول أبي إسحاق هذا هو معنى قول الفراء لأن الفراء قال (٢) : امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، والقول السادس من أحسنها قال الله جلّ وعزّ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى (لَهُمْ) ... (مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فالمعنى هذا الوعد للمؤمنين حقّ كما أخرجك ربك من بيتك بالحقّ الواجب له فأنجز وعدك وأظفرك بعدوك فأوفى لك لأنه قال جلّ وعزّ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ) [الأنفال : ٧] فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ما وعدكم به في الآخرة.

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦)

ومعنى (يُجادِلُونَكَ) يجادلك بعضهم فعاد الضمير على البعض لأنهم قد ذكروا في الكلّ والمعنى بعد ما تبيّن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان كل ما يخبرهم به يكون وجب عليهم أن يقبلوا منه كل ما يقوله وكان قد تبين لهم الحق.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

(إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) مفعول ثان : (أَنَّها لَكُمْ) بدل (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) قال أبو عبيدة (٣) : أي غير ذات الحدّ. قال أبو إسحاق : أي تودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليست معها سلاح ولا فيها حرب يقال : فلان شاك في السلاح وشائك وشاك من الشّكّة كما قال: [المنسرح]

١٦٦ ـ إمّا تري شكّتي رميح أبي

سعد فقد أحمل السّلاح معا (٤)

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٤٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٥٧.

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٤١.

(٤) الشاهد لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص ٦٠ ، وشرح اختيارات المفضل ٧٢٨ ، والأغاني ٣ / ٩٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب (رمح) ، وجمهرة اللغة ٥٤٢ ، وتاج العروس (رمح).

٩٠

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

(لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي يحقّ وعده. (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي كيد الكافرين.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (٩)

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) لقلّتكم في العدد أي اذكر. (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي) في موضع نصب أي بأني ، وقرأ عيسى بن عمر (إنّي) (١) بمعنى : قال إني ، وروي عن عاصم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) كما تقول : فلس وأفلس. (مُرْدِفِينَ) (٢) قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش والكسائي وحمزة (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال. قال سيبويه (٣) : وقرأ بعضهم (مُرْدِفِينَ) (٤) بفتح الراء وتشديد الدال وبعضهم (مُرْدِفِينَ) (٥) بكسر الراء وبعضهم (مُرْدِفِينَ) (٦) بضم الراء والدال مكسورة في القراءات الثلاث. «مردفين» بفتح الدال فيها تقديران : يكون في موضع نصب على الحال من «كم» في ممدكم أي أردف بهم المؤمنين وهذا مذهب مجاهد. قال مجاهد : أي ممدّين. قال أبو جعفر : ويجوز أن يكون «مردفين» في موضع خفض نعتا للألف «ومردفين» بكسر الدال ، قال أبو عمرو : فيه أي أردف بعضهم بعضا ، ورد أبو عبيد على أبي عمرو هذا القول وأنكر كسر الدال واحتجّ أن معنى أردف فلان فلانا جعله خلفه. قال : ولا نعلم هذا في صفة الملائكة يوم بدر وأنكر أن يكون أردف بمعنى ردف ، قال لقول الله جلّ وعزّ (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات : ٧] ولم يقل المردفة. قال أبو جعفر : لا يلزم أبا عمرو هذا الرد ولا تتأوّل قوله على ما تأوّله أبو عبيد ولكن المعنى في مردفين قد تقدّم بعضهم بعضا. يقال : ردفته وأردفته بمعنى تبعته وأتبعته. ولو كان كما قال أبو عبيد لكان معنى مردفين بفتح الدال مردفين خلفكم وإنما معنى مردفين في آثاركم أي اتبع بعضهم بعضا وهذا أقوى من قول من قال : مردف بهم المسلمون لأنّ ظاهر القرآن على خلافه والقراءة بمردفين أولى لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسّرون أي أردف بعضهم بعضا ، وأما مردّفين فتقديره عند سيبويه : مرتدفين ثم أدغم التاء في الدال فألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان ومن قال : مردّفين كسر الراء (٧) لالتقاء الساكنين ومن قال مردّفين بضم الراء قبلها ضمة كما تقول : ردّ يا هذا.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٥٨٢.

(٤) و (٥) و (٦) وهذه قراءة الخليل بن أحمد وحكاه عن ابن عطية ، انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٠ ، ومختصر ابن خالويه ٤٩ ، والمحتسب ١ / ٢٧٣.

(٧) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٣.

٩١

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) مفعولان ، ولن تنصرف (بُشْرى) لأن فيها ألف التأنيث. (وَلِتَطْمَئِنَ) لام كي والفعل محذوف لما دلّ عليه. (وَمَا النَّصْرُ) ابتداء ، والخبر (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) اسم «إن» وخبرها.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١)

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) مفعولان وهي قراءة أهل الحرمين وهي حسنة لأن بعده (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ أَمَنَةً) مفعول من أجله ومصدر. يقال : أمنة وأمنا وأمانا. (لِيُطَهِّرَكُمْ) نصب بلام كي لأنها بدل من «أن» أو بإضمار «أن». (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) عطف. (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) عطف جملة على جملة أو مفرد وأعيدت اللام ، (وَيُثَبِّتَ بِهِ) بالماء الذي أنزله الله جلّ وعزّ على الرمل يوم بدر حتى تثبت أقدام المسلمين وقد يكون به للرباط.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (١٢)

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) أي يثبّت به ذلك الوقت وقد يكون اذكر (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي) في موضع نصب والمعنى بأني (مَعَكُمْ) ظرف ومن أسكن العين فهي عنده حرف. قال الأخفش: فاضربوا فوق الأعناق معناه فاضربوا الأعناق ، وهذا عند محمد بن يزيد خطأ لأن فوقا يفيد معنى فلا يجوز زيادتها ولكن المعنى أنهم أبيحوا ضرب الوجوه وما قرب منها. (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ). قال أبو إسحاق : واحد البنان بنانة وهي هاهنا الأصابع وغيرها من الأعضاء واشتقاق البنان من قولهم: أبن بالمكان إذا أقام به ، فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (ذلك) في موضع رفع بالابتداء أو خبر. والتقدير ذلك الأمر أو الأمر ذلك. (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ) جزم بالشرط ، ويجوز (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) (١) كما قال جرير : الوافر]

١٦٧ ـ فغضّ الطّرف إنّك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا (٢)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٦٦ ، وقال : «الإدغام لغة تميم».

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٨٢١ ، وجمهرة اللغة ١٠٩٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٧٢ ، والكتاب ٤ / ١٧ ، والدرر ـ

٩٢

ويجوز «ومن يشاقّ الله» ، والتقدير (شَدِيدُ الْعِقابِ) له ، وحذف له.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤)

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) كما تقدّم في الأول ، (وَأَنَ) في موضع رفع بعطفها على ذلكم. قال الفراء (١) : ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى «وبأنّ للكافرين» قال : ويجوز أن يضمر واعلموا أنّ ، قال أبو إسحاق : لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا ، بل كان يجوز في الابتداء : زيدا منطلقا لأن المخبر معلم وهذا لا يقوله أحد من النحويين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥)

(إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) مصدر في موضع الحال.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) شرط. (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) نصب على الحال. (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) مجازاة. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) ابتداء وخبر.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧)

وكذا (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) على قراءة (٢) من خفّف «لكن» ، ومعنى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) فلم تقتلوهم بتدبيركم ولكن الله قتلهم بالنصر ، ونظير هذا أنّ رجلين لو كانا يتقاتلان ومعهما سيفان فجاء رجل وأخذ سيف أحدهما فقتله الآخر لجاز أن يقال : ما قتل ذاك إلّا الذي أخذ سيفه. (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) مثله ويجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصى.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨)

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (٣) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو ،

__________________

ـ ٦ / ٣٢٢ ، وشرح المفصّل ٩ / ١٢٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٤١١ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥٣١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨٩٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢٤٤ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٥.

(٢) انظر الإتحاف ١٤٢.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٥.

٩٣

وقراءة أهل الكوفة (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١) وفي التشديد معنى المبالغة ، وروي عن الحسن (مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) بالإضافة والتخفيف. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ يلقي في قلوبهم الرّعب حتى يتشتّتوا أو يتفرق جمعهم.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) في معناه ثلاثة أقوال : يكون مخاطبة للكفار لأنهم قالوا : اللهمّ انصر أحبّ الفئتين إليك. (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي عن الكفر. (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى هذا القول. (نَعُدْ) إلى نصر المؤمنين. وقيل : إن تستفتحوا مخاطبة للمؤمنين أي تستنصروا فقد جاءكم النصر وكذا «وإن تنتهوا» أي وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن. (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال جلّ وعزّ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٦٨] ، والقول الثالث أن يكون أن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح للمؤمنين وما بعده للكفّار (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي مع المؤمنين المطيعين وفتح (أنّ) بمعنى ولأنّ الله ، والتقدير لكثرتها وأنّ الله ، و «أنّ» في موضع نصب على هذا وقيل : هي عطف على «وأن الله موهّن» والكسر على الاستئناف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (٢٠)

ابتداء وخبر في موضع الحال والمعنى وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٢١)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ) الكاف في موضع نصب على الظرف وخبر كان يكون (سَمِعْنا) بمعنى قبلنا كما يقال : سمع الله لمن حمده ، ويكون من سماع الأذن ، ويكون بمعنى وهم لا يشعرون وهم لا يتدبّرون ما سمعوا ولا يفكّرون فيه فهم بمنزلة من لم يسمع.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٢٢)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) والأصل أشرّ حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وكذا «خير» الأصل فيها أخير ، (الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) خبر «إنّ» ونعت.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٧٣ ، وتيسير الداني ٩٥.

٩٤

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأسمعهم جواب كلّ ما يسألون عنه ودلّ على هذا ولو أسمعهم (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فخبر بالغيب عنهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

(إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) حذفت الضمّة من الياء لثقلها ولا يجوز الإدغام. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (أنّ) في موضع نصب باعلموا ، (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عطف. قال الفراء (١) : ولو استؤنف فكسرت «وإنّه» لكان صوابا.

قال أبو جعفر : وقد ذكرنا (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٢).

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

(إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) ابتداء وخبر. (مُسْتَضْعَفُونَ) نعت وكذا (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) في موضع نصب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧)

(لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بغلول الغنائم ونسبها إلى الله جلّ وعزّ لأنه أمر بقسمها ، وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المؤدّي عن الله جلّ وعزّ والقيّم بها. (وَتَخُونُوا) في موضع جزم نسقا على الأول وقد يكون نصبا على الجواب كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللّبن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي يجعل بينكم وبين الكفار فرقانا بأن ينصركم ويعزّكم ويخذلهم ويذلّهم.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر هذا (لِيُثْبِتُوكَ) نصب بلام كي قيل معناه

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٠٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٧٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٧٨.

٩٥

يحبسونك. وحكى بعض أهل اللغة أثبته إذا جرحه فلم يقدر أن يبرح ، (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) عطف. (وَيَمْكُرُونَ) مستأنف. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ابتداء وخبر. والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ إنما مكره أن يأتيهم بالعذاب الذي يستحقّونه من حيث لا يشعرون فهو خير الماكرين.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) خبر كان. و (هُوَ) عند الخليل وسيبويه (١) فاصلة. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يفسّر معنى فاصلة قال : لأنه إنما جيء بها ليعلم أنّ الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة وأن (الْحَقَ) ليس بنعت وإنّ (كانَ) ليست بمعنى «وقع» ، وقال الأخفش : (هو) صلة زائدة كزيادة «ما» وقال الكوفيون (هو) عماد. قال الأخفش : وبنو تميم يرفعون فيقولون : إن كان هذا هو الحقّ من عندك. قال أبو جعفر : يكون (هو) ابتداء و «الحقّ» خبره والجملة خبر كان.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣)

وقد ذكرنا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) (٢) بنهاية الشرح.

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤)

قال الأخفش : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أن فيه زائدة.

قال أبو جعفر : ولو كان كما قال لرفع يعذبهم و (أن) في موضع نصب والمعنى وما يمنعهم من أن يعذّبوا فدخلت «أن» لهذا المعنى. (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ابتداء وخبر ، وكذا (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وعليهم أن يعلموا ، وقيل لا يعلمون أنهم يعذّبون في الآخرة. ويجوز أن يغفر لهم ، وقيل لا يعلمون أن المتّقين أولياؤه.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥)

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ) اسم كان : (إِلَّا مُكاءً) خبر. قال أبو حاتم : قال

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٤٠٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٤٨٣.

٩٦

هارون وبلغني أن الأعمش قرأ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) (١). قال أبو جعفر : قد أجاز سيبويه مثل هذا على أنه شاذّ بعيد لأنه جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٦٨ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما ببطن الشّام أم متساكر (٢)

وأنشد : [الوافر]

١٦٩ ـ فإنّك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمّك أم حمار (٣)

قال أبو أعفر : وأبين من هذا وإن كان قد وصل النكرة قوله : [الوافر]

١٧٠ ـ ولا يك موقف منك الوداعا (٤)

وكذا : [الوافر]

١٧١ ـ يكون مزاجها عسل وماء (٥)

وإن كان علي بن سليمان قد قال : التقدير مزاجا لها. وتصدية ، من صدّ يصدّ إذا ضجّ فأبدل من إحدى الدالين ياء.

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٨٦.

(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٤٨١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٨٨ ، والكتاب ١ / ٩٠ ، ولسان العرب (سكر) ، والمقتضب ٤ / ٩٣ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣٧٥ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٩٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٤.

(٣) الشاهد لخداش بن زهير في الكتاب ١ / ٨٨ ، وتخليص الشواهد ٢٧٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٨ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، ولثروان بن خزارة في حماسة البحتري ٢١٠ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٩٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٢٧ ، ولثروان أو لخداشي في خزانة الأدب ٩ / ٢٨٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٤٧٢ ، وشرح المفصل ٧ / ٩٤.

(٤) الشاهد للقطامي في ديوانه ٣١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٦٧ ، والكتاب ٢ / ٢٥٠ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٩ ، ولسان العرب (ضبع) و (ودع) واللمع ص ١٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٩٥ ، والمقتضب ٤ / ٩٤ ، وصدره :

«قفي قبل التفرّق يا ضباعا»

(٥) الشاهد لحسان بن ثابت في ديوانه ٧١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩٦ ، والكتاب ١ / ٨٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٢٤ ، والدرر ٢ / ٧٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٠ ، وشرح شواهد المغني ٨٤٩ ، وشرح المفصّل ٧ / ٩٣ ، ولسان العرب (سبأ) و (رأس) ، و (جني) ، والمحتسب ١ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٩٢ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٨٩. وصدره :

«كأنّ سبيئة من بيت رأس»

٩٧

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧)

(لِيَمِيزَ) نصب بلام كي و (لِيَمِيزَ) (١) على التكثير ، (وَيَجْعَلَ فَيَرْكُمَهُ) عطف.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨)

(إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) شرط ومجازاة ، وكذا (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت سنة الأوّلين في عذاب المصرّين على معاصي الله جل وعز.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣٩)

(حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) اسم تكون وهي بمعنى تقع وكذا (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

(نِعْمَ الْمَوْلى) رفع بنعم لأنها فعل. قال أبو عمر الجرمي والدليل على أنها فعل قول العرب : نعمت فأثبتوا التاء وكذا (وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) «ما» بمعنى الذي والهاء محذوفة ، ودخلت الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة وأنّ الثانية توكيد للأولى ويجوز كسرها. (خُمُسَهُ) اسم إنّ (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ظرفان ، وكذا (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) والجمع عدّى ومن قال : عدوة قال : عدّى مثل لحية ولحّى ، ويقال : «القصيا» والأصل الواو.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٦.

٩٨

(وَالرَّكْبُ) ابتداء قيل : يعني به الإبل التي كانت تحمل أمتعتهم وكانت في موضع يأمنون عليها توفيقا من الله جلّ وعزّ فذكرهم نعمه عليهم ، وقيل : يعني عير قريش. (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ظرف في موضع الخبر أي موضعا أسفل منكم ، وأجاز الأخفش والكسائي والفراء (١) والركب أسفل منكم. أي أشدّ تسفلا منكم. والركب جمع راكب ولا تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل ، وحكى ابن السكيت وأكثر أهل اللغة أنه لا يقال : راكب وركب إلّا للذين على الإبل خاصة ، ولا يقال : لمن كان على فرس أو غيرها راكب. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لم يكن يقع الاتفاق فوفق الله جلّ وعزّ لكم ، (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) من نصر المؤمنين و (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) لام كي والتقدير ولكن جمعكم هنا لك ليقضي أمرا ، ليهلك هذه اللام مكررة على اللام في ليقضي ، و (مَنْ) في موضع رفع. (وَيَحْيى) في موضع نصب (مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة وهي اختيار سيبويه (٢) وأبي عبيد ، فأما احتجاج أبي عبيد فإنه في السواد بياء واحدة ، قال أبو جعفر : هذا الاحتجاج لا يلزم لأن مثل هذا الحذف في السواد ، ولكن اجتماع النحويين الحذّاق في هذا أنه لمّا اجتمع حرفان على لفظ واحد كان الأولى الإدغام كما يقال : جفّ ، وقرأ نافع وعاصم من حيي عن بيّنة (٣) والحجّة لهما أنه لا يجوز الإدغام في المستقبل فأتبعوا المستقبل الماضي وقد أجاز الفراء (٤) الإدغام في المستقبل وأن يدغم يحيّى. وهذا عند جميع البصريين من الخطأ الكبير ومثله لا يجوز في شعر ولا كلام والعلّة في منعه إذا قلت : يحيى فالياء الثانية ساكنة فلم يجتمع حرفان متحركان فيدغم وقد كان الاختيار لم يجفف وإن كان يجوز لم يجفّ ولم يجفّ فيجوز الإدغام ، فأما في يحيى فلا يجوز وأيضا فإنّ الياء تحذف في الجزم فهذا مخالف ليجفّ ولا يجوز أيضا الإدغام في (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠] لأن الحركة عارضة.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) ظرف ، وكذا (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) وجاء متّصلا لأنك بدأت بالأقرب وأجاز يونس يريكمهم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤١١.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٥٣٨.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٥.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٢.

٩٩

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

(وَلا تَنازَعُوا) نهي. (فَتَفْشَلُوا) نصب لأنه جواب النهي ، ولا يجيز سيبويه حذف الفاء والجزم وأجازه الكسائي.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) مصدر في موضع الحال. ومعنى البطر في اللغة التقوية وبنعم الله جلّ وعزّ ما ألبسه الله جلّ وعزّ من العافية على المعاصي.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨)

(وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) يجمع جار أجوارا وجيرانا وفي القليل جيرة. (إِنِّي أَخافُ اللهَ) قيل : خاف أن ينزل به بلاء.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قيل : المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، والذين في قلوبهم مرض الشّاكّون وهم دون المنافقين ، وقيل : هما واحد وهذا أولى ألا ترى إلى قوله جلّ وعزّ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] ثم قال جلّ وعزّ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤] وهما لواحد ، وكذا (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥].

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠)

يكون هذا عند الموت وقد يكون بيوم القيامة حين يصيرون بهم إلى النار ، وجواب «لو» محذوف وتقديره لرأيت أمرا عظيما وأنشد سعيد الأخفش : [الخفيف]

١٧٢ ـ إن يكن طبّك الدّلال فلو في

سالف الدّهر والسّنين الخوالي (١)

__________________

(١) الشاهد لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ١١٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦١ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ٧٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٤٩.

١٠٠