إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

(أَوْ تَقُولُوا) عطف عليه. (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ) لأن البينة والبيان واحد.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ويجوز تأتي مثل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) [القصص : ٨] أو مثل تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠] وقرأ ابن سيرين لا تنفع نفسا إيمانها. قال أبو حاتم : هذا غلط من ابن سيرين. قال أبو جعفر : في هذا شيء دقيق من النحو ذكره سيبويه وذلك أنّ الإيمان والنفس كلّ واحد منهما مشتمل على الآخر فجاز التأنيث وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٤١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النواسم (١)

لأن المرّ والرياح كل واحد منهما مشتمل على الآخر ، وفيه قول آخر أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكّر المصدر المؤنث مثل (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] لأن موعظة بمعنى الوعظ وكما قال : [الطويل]

١٤٢ ـ فقد عذرتنا في صحابته العذر (٢)

ففي أحد الأقوال أنه أنّث العذر لأنه بمعنى المعذرة.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩)

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض وكذا من ابتدع فقد جاء بما لم يأمر الله جل وعز به فقد فرّق دينه وفارقوا دينهم يعني الإسلام وكلّ من فارقه فقد فارق

__________________

(١) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ص ٧٥٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٢٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٨ ، والكتاب ١ / ٩٤ ، والمحتسب ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٦٧ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٣٩ ، والخصائص ، ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٨٣٨ ، ولسان العرب (عرد) و (صدر) ، و (قبل) ، و (سفه) ، والمقتضب ٤ / ١٩٧.

(٢) الشاهد بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٥٨٣ ، وللأبيرد اليربوعي في الحماسة البصرية ١ / ٢٦٨ ، ونسب للأخطل في لسان العرب (عذر). وصدره :

«فإن تكن الأيام فرّقن بيننا»

٤١

دينه الذي يجب أن يتّبعه لست منهم في شيء فأوجب براءته منهم إنما أمرهم إلى الله تعزية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) ابتداء وهو شرط والجواب (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي فله عشر حسنات أمثالها وحكى سيبويه (١) : عندي عشرة نسّابات أي عندي عشرة رجال نسابات ، وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) وتقديرها : فله حسنات عشر أمثالها أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له ويجوز أن يكون له مثل ويضاعف المثل فيصير عشرة. (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) خبر ما لم يسمّ فاعله.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦١)

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً) قال الأخفش : هو نصب بهداني وقال غيره : هو نصب بمعنى عرّفني مثل : هو يدعه تركا. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون محمولا على المعنى لأن المعنى هداني صراطا مستقيما كما قال جلّ وعزّ (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢] : (قِيَماً) من نعمته وقيّما أعلّ على الإتباع. (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل. (حَنِيفاً) قال أبو إسحاق : هو حال من إبراهيم وقال علي بن سليمان : هو نصب بإضمار أعني.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢)

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي) اسم «إنّ». (وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي) عطف عليه وقرأ أهل المدينة (وَمَحْيايَ) (٣) بإسكان الياء في الإدراج وهذا لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس لأنه جمع بين ساكنين وإنما أجازه يونس لأن قبله ألفا والألف المدّ التي فيها تقوم مقام الحركة وأجاز يونس اضربان زيدا وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام ، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على «محياي» فيكون غير لاحن عند جميع النحويين ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) (٤) بالإدغام وهذا وجه جيد في العربية لمّا كانت الياء يغيّر

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٤٦.

(٢) انظر البحر المحيط : ٤ / ٢٦١ ، ومختصر ابن خالويه ٤١.

(٣) انظر تيسير الداني ٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٦٢.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٢.

٤٢

ما قبلها بالكسر ولم يجز في الألف كسر صيّر تغييرها قلبها إلى الياء كما أنشد أهل اللغة : [الكامل]

١٤٣ ـ سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم (١)

خبر. قال الأخفش : يقال : وزر يوزر ووزر يزر ووزر يوزر وزرا ويجوز إزرا كما يقال : إسادة.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) مفعولان. (لِيَبْلُوَكُمْ) نصب بلام كي وهو بدل من «أن». (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) اسم «إنّ» وخبرها وكذا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم ١٨ ، وعجزه :

«فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع»

٤٣

(٧)

شرح إعراب سورة الأعراف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربّ يسّر وأعن :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

(المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الكسائي : أي هذا كتاب أنزل إليك ، وقال الفراء (١) : المعنى الألف واللام والميم والصاد من حروف المقطّع كتاب أنزل إليك مجموعا. قال أبو إسحاق : هذا القول خطأ من ثلاث جهات : منها أنه لو كان كما قال لوجب أن يكون بعد هذه الحروف أبدا كتاب وقد قال الله جلّ وعزّ : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١ ، ٢] ومنها أنه لو كان كما قال ما لكانت «الم» في غير موضع كذا «حم» ، ومنها أنه أضمر شيئين لأنه يحتاج أن يقدّر «الم» بعض حروف كتاب أنزل إليك ولا يكون هذا كقولك : ا ب ت ث ثمانية وعشرون حرفا ، لأن هذا اسم للسورة كما تقول : الحمد سبع آيات والدليل على هذا أنه لا يجوز ط ظ ر ن ثمانية وعشرون حرفا. قال أبو جعفر : وقد أجاز الفراء هذا. (فَلا يَكُنْ) نهي وعلامة الجزم فيه حذف الضمة من النون وحذفت الواو لسكونها وسكون النون وكانت أولى بالحذف لأن قبلها ضمة تدلّ عليها. (حَرَجٌ) اسم يكن والنهي في اللفظ للحرج وفي المعنى المخاطب. (لِتُنْذِرَ بِهِ) نصب بلام كي. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) لم تنصرف لأن في آخرها ألف تأنيث وتكون في موضع رفع ونصب وخفض ، الرفع عند البصريين على إضمار مبتدأ ، وقال الكسائي : هي عطف على «كتاب» ، والنصب عند البصريين على المصدر ، وقال الكسائي : هي عطف على الهاء في «أنزلناه» ، والخفض بمعنى للإنذار وذكرى للمؤمنين خفض باللام.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

(اتَّبِعُوا) أمر وهو جزم عند الفراء وبناء عند سيبويه (وَلا تَتَّبِعُوا) جزم. (مِنْ دُونِهِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٦٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٨.

٤٤

أَوْلِياءَ) مفعول ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث أي لا تعبدوا معه غيره (قَلِيلاً) نعت لظرف أو لمصدر. (ما تَذَكَّرُونَ) (١) تكون «ما» زائدة وتكون مع الفعل مصدرا والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال لقربها منها وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي تذكرون فحذف التاء الثانية لاجتماع تاءين.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤)

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) في موضع رفع بالابتداء ويجوز النصب بإضمار فعل. (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) قال الفراء (٢) : خفّفت الواو والمعنى أو وهم قائلون. قال أبو إسحاق : هذا خطأ إذا عاد الذكر استغني عن الواو تقول : جاءني زيد راكبا أو هو ماش ولا يحتاج إلى الواو.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥)

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) خبر كان واسمها (إِلَّا أَنْ قالُوا).

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧)

فدلّ بهذا على أن الكفار يحاسبون وهذه لام القسم وحقيقتها أنها للتوكيد وكذا (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) خبر كان وبطل عمل ما.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

(وَالْوَزْنُ) رفع بالابتداء (الْحَقُ) خبره ، ويجوز أن يكون الحق نعتا له والخبر (يَوْمَئِذٍ) ويجوز نصب الحق على المصدر. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) شرط وجوابه ، وكذا (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) مصدر أي بظلمهم.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

وقرأ الأعرج معائش (٣) بالهمز وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٦٨.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٦٨.

(٣) وهي قراءة زيد بن علي والأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٧١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٢.

٤٥

أبو جعفر : والهمز لحن لا يجوز لأن الواحد معيشة فزدت ألف الجمع وهي ساكنة والياء ساكنة فلا بد من تحريك إذ لا سبيل إلى الحذف والألف لا تحرّك فحرّكت الياء بما كان يجب لها في الواحد ونظيره من الواو منارة ومناور ومقامة ومقاوم كما قال : [الطويل]

١٤٤ ـ وإنّي لقوّام مقاوم لم يكن

جرير ولا مولى جرير يقومها (١)

وكذا مصيبة ومصاوب هذا الجيد ولغة شاذّة مصايب. قال الأخفش : إنما جاز مصايب لأن الواحدة معتلّة. قال أبو إسحاق : هذا خطأ يلزمه أن يقول : مقايم ، ولكن القول عندي أنه مثل وسادة وإسادة.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

قال أبو جعفر : فقد ذكرنا معنى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء من موجب. (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) في موضع الخبر.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

(قالَ ما مَنَعَكَ ما) في موضع رفع بالابتداء ، وعند الكسائي بالعائد. والمعنى أيّ شيء منعك (أَلَّا تَسْجُدَ) في موضع نصب أي من أن تسجد. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ابتداء وخبر. في أنا ثلاث لغات أفصحها : أنا فعلت بحذف الألف في الإدراج لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. قال الفراء : وبعض بني قيس وربيعة يقولون : أنا فعلت بإثبات الألف في الإدراج. قال الكسائي : وبعض قضاعة يقولون : أان فعلت ، مثل عان. وفي الوقف ثلاث لغات : أفصحها : أنا. قال الكسائي : ومن العرب من يقول : «أنه» قال الأخفش : ومن العرب من يقول : «أن» في الوقف.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧)

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فيها ثلاثة أجوبة : يكون من الغيّ ويكون مثل أحمدت الرجل ، وقيل : أغواه أي خيّبه. (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي لأقعدن لهم في الغيّ على

__________________

(١) الشاهد للأخطل في ديوانه ص ٢٣٣ ، وحماسة البحتري ص ٢١٢ ، والخصائص ٣ / ١٤٥ ، وشرح المفصل ١٠ / ٩٠ ، وللفرزدق في المقتضب ١ / ١٢٢ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ١٠ / ٩٧ ، والمنصف ١ / ٣٠٦.

٤٦

صراطك حذفت «على» كما حكى سيبويه : ضرب الظّهر والبطن وأنشد : [الكامل]

١٤٥ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

والتقدير على صراطك وفي صراطك وسمّي الدين صراطا لأنه الطريق إلى النجاة.

وأحسن ما قيل في معنى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) في الضلالة.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٨)

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً) على الحال وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عيّاش (لَمَنْ تَبِعَكَ) (٢) بكسر اللام وأنكره بعض النحويين وتقديره ـ والله أعلم ـ من أجل من تبعك كما يقال : أكرمت فلانا لك وقد يكون المعنى : الدّحر لمن تبعك منهم. قال أبو إسحاق من قرأ «لمن تبعك» بفتح اللام فهي عنده لام قسم وهي توطئة لقوله (لَأَمْلَأَنَ) وقال غيره : لمن تبعك هي لام توكيد لأملأنّ لام قسم الدليل على هذا أنه يجوز في غير القرآن حذف اللام الأولى ولا يجوز حذف الثانية ، وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة أي من تبعك عذّبته ، ولو قلت : من تبعك أعذبه لم يجز إلّا أن تريد لأعذبنه.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠)

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) نهي. (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب ويكون عطفا.

قال الأخفش : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا) أي إليهما. (ما وُورِيَ) ويجوز في غير القرآن أوري مثل «أقّتت». (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) خبر تكونا و «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة والكوفيون يقولون : لئلّا وقرأ يحيى بن أبي كثير والضحّاك (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) بكسر اللام ويجوز على هذه القراءة إسكانها ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة ، وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه :

__________________

(١) الشاهد لساعدة بن جؤيّة الهذليّ في الكتاب ١ / ٦٩ ، وتخليص الشواهد ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ١١٢٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣١٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٨٥ ، ولسان العرب (وسط) و (عسل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٤٤ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٨٠ ، وجمهرة اللغة ٨٤٢ ، والخصائص ٣ / ٣١٩ ، وشرح الأشموني ١ / ١٩٧ ، ومغني اللبيب ص ١١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٠.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٢ ، وهي قراءة عاصم.

٤٧

١٢٠] حجّة بيّنة ولكنّ الناس على تركها فلهذا تركناها (١). قال أبو جعفر : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) قراءة شاذة وقد أنكر على أبي عبيد هذا الكلام وجعل من الخطأ الفاحش وهل يجوز أن يتوهّم آدمصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين وإنما معنى (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) المقام في ملك الجنّة والخلود فيه وقد بيّن الله جلّ وعز فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو إلّا أن يكونا ملكين ومنها (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام : ٥٠] ومنه (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] وقال الحسن : فضّل الله عزوجل الملائكة بالصور والأجنحة والكرامة ، وقال غيره : فضّلهم الله جلّ وعزّ بالطاعة وترك المعصية فبهذا يقع التفضيل في كلّ شيء.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١)

ليس «لكما» داخلا في الصلة وللنحويين فيه ثلاثة أقوال : قال هشام : التقدير إني ناصح لكما لمن الناصحين ، وقال محمد بن يزيد : يكون لكما تبيينا كما تقول : مرحبا بك وبك مرحبا. قال محمد بن يزيد وقال المازني : وهو اختياري الألف واللام بمنزلتها في الرجل وليست بمعنى الذي ألا ترى أنك تقول : نعم القائم. ولا يجوز : نعم الذي قام.

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢)

وقرأ الحسن فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما على واحدة والأجود الجمع ويجوز التثنية وقد ذكرناه في «سورة المائدة» (٢). (وَطَفِقا) (٣) ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب وقرأ الحسن (يَخْصِفانِ) (٤) بكسر الخاء والأصل يختصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين وقرأ ابن بريدة ويعقوب (يَخْصِفانِ) (٥) بفتح الخاء ألقى حركة التاء عليها ، ويجوز يخصّفان بضم الياء من خصف يخصف والمعنى أنهما أمرا بترك اللّباس فبدت سوآتهما.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣)

(قالا رَبَّنا) نداء مضاف والأصل يا ربنا وقيل في معنى «يا» معنى التعظيم. (وَإِنْ

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٤٢.

(٢) انظر المائدة : ٣١.

(٣) وقرأ أبو السّمال (وطفقا) بالفتح ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١.

(٤) وهي قراءة الأعرج ومجاهد وابن وثاب أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١.

(٥) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨١ ، ومختصر ابن خالويه ٤٢.

٤٨

لَمْ تَغْفِرْ لَنا) وقعت (إن) على (لم) لأن معناها مع ما بعدها الفعل الماضي.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦)

(يا بَنِي آدَمَ) نداء مضاف. (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) وهو القطن والكتّان لأنهما يكونان من الماء الذي يكون من السماء ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي وأبو عمرو ومن رواية الحسين بن عليّ الجعفيّ ورياشا (١) ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن ولم يفسّر معناه وهو جمع ريش وهو ما كان من المال واللباس قال الفراء (٢) : ريش ورياش كما تقول : لبس ولباس (وَلِباسُ التَّقْوى) (٣) هذه قراءة أهل المدينة والكسائي ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم والأعمش وحمزة (وَلِباسُ التَّقْوى) بالرفع ، والنصب على العطف وتم الكلام والرفع بالابتداء. و (ذلِكَ) من نعته وخبر الابتداء (خَيْرٌ) ويجوز أن يكون «لباس» مرفوعا على إضمار مبتدأ أي وستر العورة ذلك لباس المتّقين وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : الرفع والنصب حسنان إلّا أن النصب يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون ذلك إشارة إلى اللباس والآخر أن يكون إشارة إلى كل ما تقدّم فأما لباس التقوى ففيه قولان : أحدهما أن معنى أنزل لباس التقوى ما علّمه الله جلّ وعزّ وهدى به هذا في النصب ، وفي الرفع على التمثيل ، والقول الآخر أن معنى لباس التقوى لبس الصوف والخشن من الثياب مما يتواضع به لله جلّ وعزّ. وأولى ما قيل في النصب أنه معطوف و «ذلك» مبتدأ ، أي ذلك الذي أنزلناه من اللباس والريش لباس التقوى خير من التقوى والتجرّد في طوافكم فإن رفعت فقرأت (وَلِباسُ التَّقْوى) فأولى ما قيل فيه أن ترفعه بالابتداء. و (ذلِكَ) نعته أي ولباس التقوى ذلك الذي علمتموه خير لكم من لباس الثياب التي يواري سوآتكم ومن الرياش الذي أنزلناه إليكم فألبسوه (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي مما يدل على أنّ له خالقا. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ليكونوا على رجاء من التذكير.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧)

(يا بَنِي آدَمَ) نداء مضاف. (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) نهي وهو مجاز مثل (وَلا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٨٣ ، ومختصر ابن خالويه ٤٣.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٥.

(٣) انظر تيسير الداني ٩٠.

٤٩

تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] أي كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. (كَما) في موضع نصب نعت لمصدر. (أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) أب وأبة للمؤنث فعلى هذا قيل : أبوان ويقال في النداء : يا أبة للمذكر وبضم الهاء وبفتح. (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) في موضع نصب على الحال ويكون مستأنفا. (لِيُرِيَهُما) نصب بلام (إِنَّهُ يَراكُمْ) الأصل يرأاكم ثم خفّفت الهمزة. (هُوَ وَقَبِيلُهُ) عطف على المضمر وهو توكيد وهذا يدلّ على أنه يقبح رأيتك وعمر وأنه ليس المضمر كالمظهر ، وقيل : إن قوله (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يدلّ على أن الجنّ لا يرون إلا في وقت نبيّ ليكون ذلك دلالة على نبوّته لأن الله جلّ وعزّ خلقهم خلقا لا يرون فيه وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم وذلك من المعجزات التي لا تكون إلّا في وقت الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) وحكى سيبويه : حيث. قال أبو إسحاق هي مبنيّة لعلّتين : إحداهما أنها لا تدلّ على موضع بعينه ، والأخرى أنّ ما بعدها صلة لأنها لا تضاف ويقال : حوث وحوث وحكى الكوفيّون الكسر والإضافة. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي وصفناهم بهذا.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩)

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الكاف في موضع نصب. أي تعودون كما بدأكم أي كما خلقكم أول مرّة يعيدكم. قال أبو إسحاق : هو متعلّق بما قبله أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون.

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

(فَرِيقاً هَدى) نصب بهدى. (وَفَرِيقاً) نصب بإضمار فعل أي وأضلّ فريقا وأنشد سيبويه(١) : [المنسرح]

١٤٦ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نّفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

وقال الكسائي والفراء : التقدير يعودون فريقا هدى وفريقا أي يعودون فريقين. قال الكسائي : وفي قراءة أبيّ (تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١١٣).

٥٠

الضَّلَالَةُ) (١) قال الفراء : ولو كان مرفوعا لجاز وقرأ عيسى بن عمر أنّهم بفتح الهمزة بمعنى لأنهم.

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢)

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ابتداء وخبر أي هي خالصة يوم القيامة للذين آمنوا في الدنيا وهذه قراءة ابن عباس وبها قرأ نافع وسائر القراء يقرءون (خالِصَةً) على الحال أي يجب لهم في هذه الحال ، وخبر الابتداء (لِلَّذِينَ آمَنُوا) والاختيار عند سيبويه النصب لتقدم الظرف. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣)

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) نصب بوقوع الفعل عليها. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) بدل. (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) قال الفراء (٢) : الإثم ما دون الحدّ ، والبغي الاستطالة على الناس. قال أبو جعفر : فإمّا أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وتحريم الخمر موجود نصّا في كتاب الله جل وعز وهو قوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة: ٩٠] وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي كما قال : [الكامل]

١٤٧ ـ إنّي وجدت الأمر أرشده

تقوى الإله ، وشرّه الإثم (٣)

والبغي التجاوز في الظلم. (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) في موضع نصب عطف وكذا (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يبيّن أن كلّ مشرك يقول على الله ما لا يعلم.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤)

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي الوقت المعلوم عند الله. (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) ظرف زمان. (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فدلّ بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٠.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٧٨.

(٣) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ص ٣١٦ ، ولسان العرب (ألا) ، وديوان المفضليات ٢٢٤.

٥١

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٥)

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) شرط ودخلت النون توكيدا لدخول ما. (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) شرط وما بعده جوابه وهو وجوابه جواب الأول ، وأصلح منكم وقيل المعنى فمن اتقى وأصلح فليطعم وحذف هذا ودلّ قوله جلّ وعزّ (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون ولا يلحقهم رعب ولا فزع.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٦)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) ابتداء. (أُولئِكَ) ابتداء ثان. (أَصْحابُ النَّارِ) خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ابتداء وخبر وكذا (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) لأن التقدير نائل لهم. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ) قال الخليل وسيبويه (١) في «حتّى» و «أمّا» و «إلا» لا يملن لأنهم حروف ففرق بينهنّ وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال أبو إسحاق : تكتب «حتى» بالياء لأنها أشبهت سكرى ولو كتبت «إلا» بالياء لأشبهت «إلى» ولم تكتب «إما» بالياء لأنها «إن» ضمّت إليها «ما».

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٣٨)

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) ظرف. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي اجتمعوا وقرأ الأعمش تداركوا (٢) وهذا الأصل ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ مجاهد حتى إذا أدركوا (٣) أي أدرك بعضهم بعضا. (جَمِيعاً) على الحال. (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ما تجدون من العذاب.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢٤٨.

(٢) وهي قراءة ابن مسعود أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٢٩٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٢٩٨.

٥٢

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩)

أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا فليس تستحقون تخفيفا من العذاب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠)

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) اسم «إن» والخبر في (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) هذه قراءة نافع وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي لا يفتح (١) بالباء على تذكير الجميع والتأنيث على تأنيث الجماعة والتخفيف يكون للقليل والكثير والتثقيل للكثير لا غير والتثقيل هنا أولى لأنه على الكثير أدلّ.

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٤١)

(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) التنوين عند سيبويه (٢) عوض من الياء وعند أصحابه عوض من الحركة. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ابتداء والجملة الخبر ومعنى (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إلا ما تقدر عليه وتتسع له.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣)

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) إن احتجت إلى جمع غلّ قلت : غلال. (تَجْرِي) في موضع نصب على الحال وقد يكون مستأنفا (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) فيه قولان : أحدهما هدانا إلى ما أدّى إلى هذا ، والقول الآخر أن المعنى الذي هدانا إلى الجنة بالتمكين لنا والتعريف. (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لام نفي. (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) «أن» في موضع رفع. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) «أن» في موضع نصب مخفّفة من الثقيلة وقد يكون تفسيرا

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٠.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٣٤٢.

٥٣

لما نودوا به فلا يكون لها موضع (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) ابتداء وخبر.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٤٤)

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) تميل من أجل الراء لأنها مخفوضة وهي بمنزلة حرفين ويجوز التفخيم. (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) مثل «أن تلكم». (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) مفعولان. (قالُوا نَعَمْ) وقرأ الأعمش والكسائي (قالُوا نَعَمْ) (١) بكسر العين ويجوز على هذه اللغة إسكان العين. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) هذه قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) (أَنْ) في موضع نصب على القراءتين ويجوز في المخففة أن لا يكون لها موضع وتكون مفسرة وحكى أبو عبيد أن الأعمش قرأ (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) وحكى عصمة عن الأعمش أنه قرأ (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) (٣) بكسر الهمزة فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون فناداه الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب إنّ الله.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٤٥)

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) في موضع خفض نعت للظالمين ويجوز الرفع والنصب على إضمار.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) (٤٦)

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) وهو السّور الذي ذكره الله جلّ وعزّ. (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) أي وعلى أعراف السّور وهي شرفه ومنه عرف الفرس ، وقد تكلّم العلماء في أصحاب الأعراف فقال قوم : هم ملائكة ، وقيل : هم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، ومن أحسن ما قيل فيه أنّ أصحاب الأعراف عدول القيامة وهم الشهداء من كل أمة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم فهم على السّور بين الجنة والنار وقال جلّ وعزّ (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلمتم من العقوبة (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف أي لم يدخلوها بعد ، وهم يطمعون على هذا التأويل وهم يعلمون أنّهم يدخلونها ، وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩١.

(٢) انظر تيسير الداني ٩١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٣.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٣.

٥٤

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٧)

وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم فهذا سبيل التذلّل كما يقول أهل الجنة (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [التحريم : ٨] ويقولون : «الحمد لله» على سبيل الشكر لله جلّ وعزّ ولهم في ذلك لذّة.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨)

أي من أهل النار.

(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩)

(أَهؤُلاءِ) إشارة إلى قوم المؤمنين الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة أي أقسمتم في الدنيا لا ينالهم الله في الآخرة برحمة يوبّخونهم بذلك وزيدوا غمّا بأن قيل لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) وقرأ عكرمة دخلوا الجنة (١) بغير ألف والدال مفتوحة وقرأ طلحة بن مصرف أدخلوا الجنة (٢) بكسر الخاء على أنه فعل ماض.

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠)

(أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) مثل «أن تلكم الجنّة» وجمع (تِلْقاءَ) تلاقيّ.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (٥١)

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) في موضع خفض نعت للكافرين وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار (كَما نَسُوا) في موضع خفض بالكاف. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف عليه أي وكما كانوا بآياتنا يجحدون.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ) أي بيّناه حتى يعرفه من تدبّره وقيل : فصّلناه أنزلناه متفرّقا. (عَلى عِلْمٍ) منّا به. (هُدىً وَرَحْمَةً) قال الفراء (٣) هو نصب على القطع. قال أبو

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٦ ، والمحتسب ١ / ٢٤٩.

(٢) وهي قراءة ابن وثاب والنخعي أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٦.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٠.

٥٥

إسحاق : أي هاديا ذا رحمة فجعله حالا من الهاء التي في «فصّلناه». قال الكسائي والفراء : ويجوز (هُدىً وَرَحْمَةً) بالخفض (١). قال الفراء : مثل (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢]. قال أبو إسحاق : ويجوز «هدى ورحمة» بمعنى : هو هدى ورحمة.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣)

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) بالهمز لأنه من آل يؤول وأهل المدينة يخفّفون الهمزة ويجعلونها ألفا ، وفي معناه قولان : أحدهما هل ينظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب ، والقول الآخر هل ينظرون إلّا تأويله من النظر إلى يوم القيامة. (يَوْمَ يَأْتِي) نصب بيقول. (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) «من» زائدة للتوكيد. (فَيَشْفَعُوا لَنا) نصب لأنه جواب الاستفهام. (أَوْ نُرَدُّ) قال الفراء : المعنى أو هل نردّ وقال أبو إسحاق : هو عطف على المعنى أي هل يشفع لنا أحد أو نردّ وقرأ ابن أبي إسحاق (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٢) بنصبهما جميعا والمعنى إلّا أن نردّ كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٤٨ ـ فقلت له لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (٣)

وقرأ الحسن (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٤) برفعهما جميعا والقراءة المجمع عليها (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) (٥). (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي لم ينتفعوا بها وكلّ من لم ينتفع فقد خسرها. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ما كانوا يعبدونه من الأوثان.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤)

(إِنَّ رَبَّكُمُ) اسم «إنّ» (اللهُ) خبرها. (الَّذِي) نعت ويجوز في القرآن إن ربّكم الله

__________________

(١) في البحر المحيط ٤ / ٣٠٨ (بالخفض على البدل ، وهي قراءة زيد بن عليّ).

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٤٤.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٦٦ ، والأزهية ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٩ ، والكتاب ٣ / ٥١ ، وشرح المفصّل ٧ / ٢٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ١٢٨ ، واللامات ص ٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٢٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣١٣ ، والجنى الداني ص ٢٣١ ، والخصائص ١ / ٢٦٣ ، ورصف المباني ١٣٣ ، وشرح عمدة الحافظ ٦٤٤ ، واللمع ٢١١.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٤٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٠٨.

(٥) هذه قراءة الجمهور ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٠٨.

٥٦

الذي يكون «الذي» الخبر. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ولو أراد جلّ وعزّ خلقهما في أقلّ الأوقات لفعل ولكنّه علم أن ذلك أصلح ليظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يجعله له كالغشاء وهو في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون مستأنفا وكذا (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) نعت لمصدر محذوف. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قال الأخفش : هي معطوفة على السموات أي وخلق الشمس وروي عن عبد الله بن عامر (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) على الابتداء والخبر.

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

اسم «إنّ» وخبرها «فأما قريب» ولم يقل قريبا ففيه ستة أقوال : من أحسنها أنّ الرحمة والرحم واحد وهي بمعنى العفو والغفران كما قال زياد الأعجم : [الكامل]

١٤٩ ـ إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا

قبرا بمرو على الطّريق الواضح (١)

ومذهب الفراء (٢) أن قريبا إنما جاء بغير هاء ليفرق بين قريب من النسب وبينه ، وقال من احتجّ له : كذا كلام العرب كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٥٠ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا (٣)

قال أبو إسحاق : هذا خطأ لأن سبيل المذكر والمؤنّث أن يجريا على أفعالهما ومذهب أبي عبيدة (٤) أن تذكير قريب على تذكير المكان. قال علي بن سليمان : هذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا في القرآن كما تقول : إنّ زيدا قريبا منك. قال أبو جعفر : والذي قاله أبو عبيدة قد أجاز سيبويه مثله على بعد كما قال لبيد : [الكامل]

١٥١ ـ فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٥)

فهذه ثلاثة أقوال ، وقال الأخفش : يجوز أن يذكّر كما يذكّر بعض المؤنّث وأنشد : [المتقارب]

١٥٢ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٦)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٢٠).

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٠.

(٣) مرّ الشاهد رقم ٤٧.

(٤) انظر مجاز القرآن ١ / ٢١٦.

(٥) الشاهد للبيب بن ربيعة في ديوانه ص ٣١١ ، والكتاب ١ / ٤٧٥ ، وإصلاح المنطق ٧٧ ، والدرر ٣ / ١١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٧٠ ، وشرح المفصل ٢ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أمم) ، و (كلا) ، و (ولي) ، والمقتضب ٤ / ٣٤١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٦٣ ، ولسان العرب (فرج).

(٦) الشاهد لعامر بن جوين في تخليص الشواهد ٤٨٣ ، والكتاب ٢ / ٤٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥ ، والدرر ٦ / ٢٦٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ٣٣٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٣ ، ـ

٥٧

قال : ويجوز أن تكون الرحمة هاهنا للمطر ، والقول السادس أن يكون هذا على النسب كما يقال: امرأة طالق وحائض.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٥٧)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) ابتداء وخبر والرياح جمع ريح في أكثر العدد وفي أقلّه أرواح لأن الياء في ريح منقلبة من واو إذ كانت قبلها كسرة وهي ساكنة. (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) فيه ست قراءات (١) وسابعة تجوز : قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (نُشُراً) بضم النون والشين وقرأ الحسن وقتادة (نُشْراً) بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (نَشْراً) بفتح النون وإسكان الشين وقرأ عاصم (بُشْراً) بالباء وإسكان الشين والتنوين وروي عنه (بُشْراً) بفتح الباء فهذه خمس قراءات ، وقرأ محمد اليماني بشرى بين يدي رحمته في وزن حبلى ، والقراءة السابعة بشرا (٢) بضم الباء والشين. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا معانيها في كتابنا المعاني وهي في موضع نصب على الحال وما كان منها مصدرا فهو مثل قوله : «قتلته صبرا». (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) يذكّر ويؤنّث وكذا كلّ جمع بينه وبين واحدته هاء ويجوز نعته بواحد فتقول : سحاب ثقيل وثقيلة. (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) وإلى بلد بمعنى واحد. (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) رفع بالابتداء. (يَخْرُجُ نَباتُهُ) في موضع الخبر ، وقرأ (٣) عيسى بن عمر يخرج نباته بإذن ربه بضم الياء و (الْبَلَدُ الطَّيِّبُ) هو الطيّب تربته والذي خبث هو الذي في تربته حجارة وفي أرضه شوك شبّه سريع الفهم بالبلد الطيب. والبلد الذي خبث (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) نصب على الحال ، وقرأ طلحة (إِلَّا نَكِداً) (٤) حذف الكسرة

__________________

ـ ولسان العرب (أرض) و (بقل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٦٤ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٥٢ ، وجواهر الأدب ١١٣ ، والخصائص ٢ / ٤١١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٤ ، والردّ على النحاة ٩١ ، ورصف المباني ١٦٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٥٧ ، وشرح ابن عقيل ٢٤٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٩٤ ، ولسان العرب (خضب) والمحتسب ٢ / ١١٢ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٥٦.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٢٠ ، والمحتسب ١ / ٣٥٥ ، وتيسير الداني ٩١.

(٢) وهذه قراءة ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٠.

(٣) في البحر المحيط ٤ / ٣٢٢ قال : (وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر : (يَخْرُجُ نَباتُهُ) مبنيا للمفعول).

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٢.

٥٨

لثقلها ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى ذا نكد وقرأ أبو جعفر (إِلَّا نَكِداً) فهذا مصدر بمعنى ذا نكد كما قال الخنساء : [البسيط]

١٥٣ ـ فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩)

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ) الفاء تدلّ على أنّ الثاني بعد الأول (يا قَوْمِ) نداء مضاف ويجوز يا قومي على الأصل. (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) هذه قراءة أبي عمرو وشيبة ونافع وعاصم وحمزة ، وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي وأبو جعفر غيره (٢) بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. قال أبو عمرو : ولا أعرف الجر ولا النصب وقال عيسى بن عمر : النصب والجر جائزان. قال أبو جعفر : والرفع من جهتين : إحداهما أن يكون «غير» في موضع «إلّا» فتقول ما لكم إله إلّا الله وما لكم إله غير الله فعلى هذا الوجه لا يجوز الخفض لا يجوز : ما جاءني من أحد إلّا زيد لأن من لا يكون إلّا في الواجب. قال سيبويه : لأن «على» و «عن» لا يفعل بهما ذلك أي لا يزادان البتّة ثم قال : ولا «من» في الواجب ، والوجه الآخر في الرفع أن يكون نعتا على الموضع أي ما لكم إله غيره والخفض على اللفظ ، ويجوز النصب على الاستثناء وليس بكثير غير أنّ الكسائي والفراء أجازا نصب «غير» في كلّ موضع يحسن فيه «إلّا» في موضعها تمّ الكلام أو لم يتمّ ، وأجازا ما جاءني غيرك. قال الفراء : هي لغة بعض بني أسد وقضاعة وأنشد : [البسيط]

١٥٤ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن هتفت

حمامة في سحوق ذات أو قال (٣)

قال الكسائي : ولا يجوز جاءني غيرك لأنّ إلّا لا يقع هاهنا. قال أبو جعفر : لا يجوز عند البصريين نصب غير إذا لم يتمّ الكلام وذلك عندهم من أقبح اللحن. قال أبو إسحاق : وإنما استهواه ـ يعني الفراء ـ البيت الذي أنشده سيبويه منصوبا وإنما نصب غير في البيت لأنها مضافة إلى ما لا إعراب فيه فأما ما جاءني غيرك فلحن وخطأ.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٣٢).

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٤.

(٣) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٨٥ ، وجمهرة اللغة ١٣١٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٦ ، والدرر ٣ / ١٥٠ ، ولأبي قيس بن رفاعة في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٨٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٨٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٦٥ ، والإنصاف ١ / ٢٨٧ ، وخزانة الأدب ٦ / ٥٣٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٠٧ ، وشرح التصريح ١ / ١٥ ، وشرح المفصّل ٣ / ٨١ ، والكتاب ٢ / ٣٤٤ ، ولسان العرب (نطق) ، ومغني اللبيب ١ / ١٥٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٩.

٥٩

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢)

(أُبَلِّغُكُمْ) (١) وأبلّغكم واحد كما يقال : أكرمه وكرّمه ، وكما قال : [الطويل]

١٥٥ ـ ومن لا يكرم نفسه لا يكرم (٢)

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣)

(أَوَعَجِبْتُمْ) فتحت الواو لأنها واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير وإنما سبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلّا الألف لقوّتها.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥)

(وَإِلى عادٍ) وإن شئت لم تصرفه يكون اسما للقبيلة كما قال جلّ وعزّ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٣) [النجم : ٥٠] ومن صرف جعله اسما للحيّ. (أَخاهُمْ) عطف وهو عطف البيان والتقدير وأرسلنا إلى عاد أخاهم (هُوداً) بدل والصرف وهو أعجميّ لخفّته لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يكون عربيا مشتقا من هاد يهود.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٧)

(لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) ولو كان ليست جاز والتذكير لأنه مصدر وقد فرق بينه وبين الفعل.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦٩)

(خُلَفاءَ) جمع خليفة على التذكير والمعنى وخلائف على اللفظ. (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) قال الفراء (٤) : ويروى أنّ أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعا. ويجوز (بَصْطَةً) الصاد لأن بعدها طاء.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ

__________________

(١) قراءة أبي عمرو ، وباقي السبعة بالتشديد ، انظر البحر المحيط ٤ / ٣٢٥ ، وتيسير الداني ٩١.

(٢) الشاهد عجز بيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٢ ، واللمع ص ٢١٥ وصدره :

«ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه»

(٣) انظر تيسير الداني ١٦٦ ، وهذه قراءة نافع وأبي عمرو.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٣٨٤.

٦٠