إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

القبر أي جعلت فيه لحدا وألحدت الميّت ألزمته اللحد. (وَهذا لِسانٌ) قيل : يعني القرآن ، سمّاه لسانا اتّساعا ، كما يقال : فلان يتكلّم بلسان العرب أي بلغتها وكذا اللسان الذي يلحدون إليه أي كلامه وعلى هذا تسمّى الرسالة لسانا ، كما قال : [الوافر]

٢٦٥ ـ لسان السّوء تهديها إلينا (١)

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦)

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مَنْ) في موضع رفع على البدل من «الكاذبين». (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) في موضع نصب على الاستثناء. والمعنى ـ والله أعلم ـ إلّا من أكره. فله أن يقول ما ظاهره الكذب والكفر ولا يعتقده ، ولا يجوز له أن يكذب كذبا صراحا بوجه ، وإنما يقول : فلان كذّاب على قولهم أو يعني به غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن هو كاذب لأن الكذب قبيح فلا يجوز أن يأذن الله فيه بحال ، والدليل على قبحه أن قائله لا يوثق بخبره (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ابتداء وخبر ، وهو تبيين ما تقدّم. (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ) مبتدأ. (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) في موضع الخبر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧)

(اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) قال الخليل رحمه‌الله (لا جَرَمَ) لا تكون إلّا جوابا. قال أبو جعفر : وقد ذكرناه (٢).

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٠)

(مِنْ بَعْدِها) أي من بعد الفتنة.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

(يَوْمَ تَأْتِي) في موضع نصب أي غفور رحيم يوم تأتي كلّ نفس ، ويجوز أن يكون بمعنى : واذكر يوم تأتي كلّ نفس.

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في جواهر الأدب ١٢٥ ، والجنى الداني ٩٤ ، والدرر ١ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٠٦ ، ومغني اللبيب ١ / ١٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٧٧ ، وعجزه :

«وحنت وما حسبتك أن تحينا»

(٢) مرّ في إعراب الآية ٢٢ ـ هود.

٢٦١

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢)

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي مثل قرية. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع نعمة عند سيبويه ، وقال قطرب : جمع نعم مثل ودّ وأدود.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦)

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) نصب بمعنى لوصف ألسنتكم الكذب ، وقال : الكذب يلقي حركة الدال على الكاف ، وقرأ أهل الشام أو بعضهم (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) (١) على النعت للألسنة ، وقرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) (٢) بالخفض على النعت لما أو البدل.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧)

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) على إضمار مبتدأ أي تمتّعهم في الدنيا متاع قليل أي مدّة بقائهم ، ويجوز متاعا في غير القرآن على المصدر أي يمتعون متاعا.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠)

(كانَ أُمَّةً) خبر كان. (قانِتاً) نعت أو خبر ثان. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا (٣) (وَلَمْ يَكُ) في غير موضع.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤)

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال بعضهم : لا نريد الجمعة ، وقال بعضهم : لا نريد السبت ففرض عليهم الفراغ في يوم السبت.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧)

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل المعنى : لا تحزن على الكفار فإنّما عليك أن تدعوهم إلى الإيمان ، وقيل : المعنى ولا تحزن على الشهداء فإن الله جلّ وعزّ قد أثابهم وفيهم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وفيه نزلت (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ

__________________

(١) انظر المحتسب ٢ / ١١.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢٧.

(٣) مرّ في إعراب الآية ١٠٩ ـ هود.

٢٦٢

بِهِ) [النحل : ١٢٦](وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) للكفّار لم يقل غيره ، وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام أنّ نافعا قرأ (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) (١) بكسر الضاد قال أبو جعفر : وهذا لا يعرف عن نافع. وقال الكوفيون : الفراء (٢) وغيره : «الضيق» بفتح الضاد في القلب والصدر ، «والضيق» بكسر الضاد في الثوب والدار وما أشبهها مما يرى قال الفراء : فإذا رأيت الضيق بفتح الضاد قد وقع في موضع الضّيق فهو مخفّف من ضيّق أو جمع ضيقة ، ولا يعرف البصريون من هذا التفريق شيئا ، وقالوا إذا أردت المصدر قلت : الضيق ، كما تقول : البيع ، وإن أردت الاسم قلت : الضيق كما تقول : العلم ، وأجازوا في ضيّق التخفيف.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الَّذِينَ) خفض بإضافة مع إليه لأن مع عند الخليل اسم إذا فتحت العين وإن أسكنتها فهي حرف. (وَالَّذِينَ) عطف. (هُمْ مُحْسِنُونَ) مبتدأ وخبره في الصّلة.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٥.

٢٦٣

(١٧)

شرح إعراب سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

روي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى : (سُبْحانَ اللهِ) ، فقال : تنزيها لله من كل سوء. قال أبو جعفر : شرح هذا أنه بمعنى تبعيد الله جلّ وعز عن كلّ ما نسبه إليه المشركون من الأنداد والأضداد والشركاء والأولاد ونصبه عند الخليل وسيبويه (١) رحمهما‌الله على المصدر أي : سبّحت الله تسبيحا ، إلّا أنه إذا أفرد كان معرفة منصوبا بغير تنوين لأن في آخره زائدتين وهو معرفة ، وحكى سيبويه أنّ من العرب من ينكره فيصرفه ، وحكى أبو عبيد في نصبه وجهين سوى هذا ، إنه يكون نصبا على النداء أي يا سبحان الله ، والوجه الآخر : أن يكون غير موصوف. (الَّذِي) في موضع خفض بالإضافة. وقال : سرى وأسرى لغتان معروفتان. (بِعَبْدِهِ لَيْلاً) على الظرف (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نعت للمسجد. وأصل الحرام المنع فالمسجد الحرام ممنوع الصيد فيه. قال أبو إسحاق : ويقال للحرم كلّه : مسجد. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) نعت له ، وكذلك (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) قيل : معنى باركنا حوله أن الأنبياء عليهم‌السلام الذين كانوا بعد موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل كانوا ببيت المقدس وما حوله فبارك الله جلّ وعزّ في تلك المواضع بأن باعد الشرك منها ، ولهذا سمّي ببيت المقدس لأنه قدّس أي طهّر من الشرك. (لِنُرِيَهُ) نصب بلام كي وهي بدل من أن وأصلها لام الخفض.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣)

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) مفعولان ، وكذا (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ). (أَلَّا تَتَّخِذُوا)

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٣٨٦.

٢٦٤

بالياء قراءة أبي عمرو بن العلاء ، والتقدير لئلا يتخذوا ، وقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) وزعم أبو عبيد أنه على الحذف أي قلنا لهم لا تتّخذوا. قال أبو جعفر : هذا لا يحتاج إلى حذف وتكون «أنّ» بمعنى أي ، ويجوز أن تكون «أن» في موضع نصب ، ويكون المعنى بأن لا تتخذوا ، وجعل الكلام للمخاطبة لأن بعده (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) على المخاطبة ، ونصب ذرية من أربعة أوجه : تكون نداء مضافا ، وتكون بدلا من وكيل لأنه بمعنى جمع ، وتكون هي ووكيل مفعولين كما تقول: لا تتخذ زيدا صاحبا ، والوجه الرابع بمعنى أعني ، ويجوز الرفع على قراءة من قرأ بالياء على البدل من الواو ، ولا يجوز البدل من الواو على قراءة من قرأ بالتاء : ولا يقال : كلّمتك زيدا ، ولا كلمتني زيدا ، لأن المخاطب والمخاطب لا يحتاجان إلى تبيين.

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤)

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) قد ذكرنا قول ابن عباس رحمه‌الله أن معناه أعلمناهم. وأصل قضى في اللّغة عمل عملا محكما ، والقاضي هو المحكم الأمر النافذة ، والقضاء : الأمر النافذ المحكم الذي لا يدفع. وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد (١) ونصر بن عاصم أنهم قرءوا (لَتُفْسِدُنَ) (٢) على ما لم يسمّ فاعله. (وَلَتَعْلُنَ) أي ولتعظّمنّ ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين ولأن قبلها ما يدلّ عليها.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٥)

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قيل : أي خلّينا بينكم وبينهم ، وقرأ الحسن فجاسوا خلل الديار (٣). قال أبو إسحاق : أصل الجوس طلب الشيء باستقصاء أي طلبوا هل يجدون أحدا لم يقتلوه و (خِلالَ) ظرف أي في خلال الديار. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) خبر كان ، واسمها فيها مضمر.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٦)

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) أي نصرناكم عليهم حتّى كررتم. (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ) مفعولان. (نَفِيراً) على البيان.

__________________

(١) جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي البصري ، وردت له حروف في القرآن ، صاحب ابن عباس (ت ٩٣ ه‍) ترجمته في غاية النهاية ١ / ١٨٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٨ ، ومختصر ابن خالويه ٧٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٩ ، والإتحاف ١٧١.

٢٦٥

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧)

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي الثواب لكم ، وهو شرط وجوابه (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي يحصل العقاب لها ، ولها بمعنى عليها لا يقوله النحويون الحذّاق ، وهو قلب المعنى وليس احتجاجهم بالحديث «اشترطي الولاء لهم» (١) بشيء ، وقد اختلف في هذا الحديث فرواه جماعة على هذا اللفظ من حديث مالك بن أنس وهو رواية الشافعي عنه «واشترطي الولاء لهم» ، وهذا معنى صحيح بيّن. يقال : اشترط الشيء إذا بيّنه ، كما قال : [الطويل]

٢٦٦ ـ فأشرط فيها نفسه وهو معصم (٢)

وعلى الرواية الأخرى يكون المعنى «واشترطي الولاء لهم» أي من أجلهم ، كما تقول : أنا أكرم فلانا لك ، وفيه قول آخر يكون بمعنى النهي على التهديد والوعيد : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وعد المرة الآخرة ، وأقيمت الصفة مقام الموصوف ، قرأ أهل المدينة وأهل البصرة (لِيَسُوؤُا) (٣) على الجمع ، وقرأ أهل الكوفة ليسوء وجوهكم (٤) على التوحيد إلّا الكسائي فإنّه قرأ لنسوء وجوهكم (٥) ، وزعم أنها قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعن أبيّ بن كعب روايتان : إحداهما أنه قرأ (لنسوءن وجوهكم) (٦) اللام مفتوحة وهي لام قسم بالنون الخفيفة والوقف عليها بالألف فرقا بين الخفيفة والثقيلة ، وروي عنه (ليسيء وجوهكم) بياءين وهمزة. قال أبو جعفر : القراءة الأولى على الجمع يدلّ عليها (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) والقراءة الثانية فيها ثلاثة أقوال : يكون المعنى ليسوء الله جلّ وعزّ وقال الفراء (٧) : ليسوء العذاب. قال أبو إسحاق : ليسوء الوعد واللام فيهما لام كي ، وكذا القراءة الثالثة وفي الكلام حذف ، والمعنى : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم فهذا الفعل جواب (إذا) ، ولام كي متعلّقة به. وفي معنى بعثناهم قولان : أحدهما خلّينا بينكم

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطّأ ـ باب ١٠ حديث رقم (١٧).

(٢) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ٨٧ ، ولسان العرب (شرط) و (عصم) ، وجمهرة اللغة ٧٢٦ ، وأساس البلاغة (شرط) ، وكتاب العين ٦ / ٢٣٦ ، وتاج العروس (شرط) و (عصم) ، وسمط اللآلي ٤٩٢ ، والفاخر ١٢٣ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٢٦٠ ، وعجزه :

«وألقى بأسباب له وتوكّلا»

(٣) و (٤) و (٥) انظر تيسير الداني ١١٣.

(٦) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٧ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠.

(٧) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٧.

٢٦٦

وبينهم ولم نخوّفهم منكم فكان هذا مجازا جعل التخلية وترك التخويف بعثا ، ومثله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) [مريم : ٨٣] والقول الآخر : معنى بعثنا عليكم أمرناهم بغزوكم لما عصيتم وأفسدتم ، وهذا حقيقة لا مجاز. وزعم الفراء أن من قرأ ليسوآ وجوهكم فهو الجواب عنده بغير حذف ، ولكنه أضمر فعلا في «وليتبّروا» قال قتادة : المعنى وليتبّروا ما علوا عليه ، وقال غيره : وليتبّروا ما داموا عالين وحقيقته في العربية وليتبّروا وقت علوهم ، كما تقول : فلان يؤذيك ما ولي.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) قال الضحاك : الرحمة هاهنا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) قيل : إن عدتم للمعصية عدنا لترك النصر (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) مفعولان.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) نعت لهذا ، والخبر في (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ). (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) في موضع نصب أي بأنّ.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

(وَأَنَّ الَّذِينَ) معطوف عليه.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) حذفت الواو في الإدراج لالتقاء الساكنين ولا ينبغي أن يوقّف عليه لأنه في السواد بغير واو ، ولو وقف عليه واقف في غير القرآن لم يجز أن يقف إلّا بالواو لأنها لام الفعل لا تحذف إلّا في الجزم أو في الإدراج ولا ألف بعدها ، وكذا يدعو ويرجو وإنّما تكون الألف مع واو الجميع فرقا بينها وبين الواو التي تكون لام الفعل في الواحد ، وقال الأخفش : تكون في الجميع فرقا بينها وبين الواو العطف ، وقال أحمد بن يحيى : تكون فرقا بين المضمر المنصوب والمؤكّد. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) قال الأخفش : هذا كما تقول : انطلقت انطلاقا ، أي هو مصدر ، وقال الفراء (١) : المعنى كدعائه. قال أبو جعفر : وليس حذف الكاف مما يوجب نصبا ولا غيره ولا اختلاف بين النحويين أنه يقال : عمرو كالأسد فإن حذفت الكاف قلت : عمرو الأسد ، وحقيقة القول في الآية أن التقدير : يدعو الإنسان بالشرّ دعاء مثل دعائه بالخير ثم أقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف إليه مقام المضاف.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١١٨.

٢٦٧

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٣)

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) مفعولان وكلّ واحد منهما يأتي في إثر صاحبه وينصرف عند مجيئه فهما آيتان دالتان على مدبر لهما. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي لم نجعل لها ضياء ونورا كنور النهار ، والشيء الممحو هو الذي لا يتبيّن. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وهي الشّمس وضوؤها (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وفي الكلام حذف أي ولتسكنوا في الليل (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي جعلنا بين الآية والآية فصلا لتستدلّوا بدلائل الله جلّ وعزّ ونصب (كل شيء) بإضمار فعل ، وكذا (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) من نعت كتاب ، وإن شئت على الحال ، وقد ذكرنا الآية وما فيها من القراءات.

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤)

(اقْرَأْ كِتابَكَ) علامة الجزم والبناء حذف الضمّة من الهمزة ، وحكي عن العرب : أقر يا هذا ، على إبدال الهمزة ، ومنه وقول زهير : [الطويل]

٢٦٧ ـ وإلّا يبد بالظّلم يظلم (١)

(كَفى بِنَفْسِكَ) في موضع رفع والباء زائدة للتوكيد. (حَسِيباً) على البيان ، وإن شئت على الحال. قال أبو إسحاق : ويجوز في غير القرآن حسيبة.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

(مَنِ اهْتَدى) شرط ، والجواب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وكذا (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي عمله له ، ويدلّ على هذا (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وفي معناه قولان : أحدهما لا يؤخذ أحد بذنب أحد ، والآخر أنّ المعنى لا ينبغي لأحد أن يقتدي بأحد ويقلّده في الشر ، كما قال جلّ وعزّ (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] ويقال وزر يزر والأصل يوزر حذفت الواو عند البصريين لوقوعها بين ياء وكسرة ، والمصدر وزر ووزر ووزرة (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فيه قولان : أحدهما أن المعنى وما كنا معذّبين العذاب الذي يكون عقوبة على مخالفة الشيء الذي لا يعرف إلا بالإخبار حتى نبعث رسولا ، والآخر أنه عذاب الاستئصال.

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٦).

٢٦٨

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

وقد ذكرنا (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) (١) والقراءات التي فيه.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

(وَكَمْ) في موضع نصب بأهلكنا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي لا يريد ثوابا في الآخرة لم نمنعه ذلك (لِمَنْ نُرِيدُ).

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠)

(كُلًّا) نصب بنمدّ. (هؤُلاءِ) بدل من كلّ. (وَهَؤُلاءِ) عطف عليه أي نرزق المؤمن والكافر (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً). قال سعيد عن قتادة أي منقوصا.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)

(كَيْفَ) في موضع نصب بفضلنا إلا أنها مبنيّة غير معرّبة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ) ابتداء وخبر. (دَرَجاتٍ) في موضع نصب على البيان ، وكذا (تَفْضِيلاً) قال الضحاك : من كان من أهل الجنة عاليا رأى فضله على من هو أسفل منه ، ومن كان دونه لم ير أنّ أحدا فوقه أفضل منه.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

(فَتَقْعُدَ) منصوب على جواب النهي.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣)

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مصدر. (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) قراءة أهل المدينة وأهل البصرة وعاصم ، وقراءة أهل الكوفة إلّا عاصما (٢) (إمّا يبلغانّ عندك الكبر) والقراءة الأولى أبين في العربية لأن أحدهما واحد ، وتجوز الثانية كما تقول : جاءاني أحدهما أو كلاهما على البدل لأنك قد جئت بعد الفعل بثلاثة والوجه جاءني أحدهما أو كلاهما ، وإن شئت قلت : جاءاني كلاهما أو أحدهما على أن يكون كلاهما توكيدا وأحدهما

__________________

(١) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦ / ١٥.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٢٣.

٢٦٩

عطفا. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) فيه سبع لغات : قرأ الحسن وأهل المدينة (ولا تقل لهما أفّ) (١) بالكسر والتنوين ، وقال أبو عمرو وأهل الكوفة بالكسر بغير تنوين ، وقرأ أهل مكة وأهل الشام بالفتح بغير تنوين ، وحكى الكسائي والأخفش ثلاث لغات سوى هذه. حكيا النصب بالتنوين والضم بالتنوين والضم بغير تنوين ، وحكى الأخفش اللغة السابعة. قال : يقال : أفّي بإثبات الياء كأنه قال هذا القول لك. قال أبو جعفر : القراءة الأولى يكون الكسر فيها لالتقاء الساكنين والتنوين لأنه نكرة فرقا بينه وبين المعرفة ، وهي قراءة حسنة ، وأصل الساكنين إذا التقيا الكسر ، وزعم الأصمعي أنه لا يجوز إلّا التنوين في مثل هذه الأشياء وأن ذا الرمة لحن في قوله : [الطويل]

٢٦٨ ـ وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم

وما بال تكليم الدّيار البلاقع (٢)

وكان الأصمعي مولعا بردّ اللغات الشاذة التي لا تكثر في كلام الفصحاء. فأما النحويون الحذّاق فيقولون : حذف التنوين على أنه معرفة وعلى هذا القراءة الثانية والقراءة الثالثة لأن الفتح خفيف والتضعيف ثقيل والتنوين كما تقدّم والضمّ بغير تنوين على الاتباع ، كما يقال : ردّ ، والتنوين كما ذكرنا إلّا أنّ الأخفش قال : التنوين قبيح إذا رفعت لأنه ليس في الكلام معه لام كأنه يقدّر رفعه بالابتداء ، كما يقال : ويل له ، وزعم أنّ النصب بالتنوين كما يقال : تعسا له. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي قولا تكرمهما به وتعظّمهما به.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) (٢٨)

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي عن ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) مفعول من أجله أي طلب رزق تنتظره. (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) قيل : برفق ولين وعدة.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩)

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) اليد مؤنّثة والعنق يذكّر ويؤنّث ، والأكثر التذكير كما قال: [الرجز]

٢٦٩ ـ في سرطم هاد وعنق عرطل (٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٢٢ ، وتيسير الداني ١١٣.

(٢) الشاهد لذي الرمة في ديوانه ٧٧٨ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٠١ ، وإصلاح المنطق ص ٢٩١ ، وتذكرة النحاة ص ٦٥٨ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٠٨ ، ورصف المباني ص ٣٤٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٤ ، وشرح المفصّل ٤ / ٣١ ، ولسان العرب (أيه) ، وتاج العروس (أيه) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ١٠٩ ، ومجالس ثعلب ص ٢٧٥ ، وكتاب العين ٤ / ١٠٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٢٣٧ ، والمقتضب ٣ / ١٧٩ ، والمخصص ١٤ / ٨١.

(٣) الشاهد لأبي النجم في الخصائص ١ / ٢٧٠ ، واللسان (عراحل).

٢٧٠

حذف الضمة في عنق لثقلها.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيّق ويفعل من ذلك ما فيه الصلاح ودلّ على هذا (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً) أي يعلم ما يصلحهم. وفي معنى «فتقعد ملوما محسورا» قولان : أحدهما قول الفراء : (١) إنه بمنزلة المحسور أي الكالّ المتعب ، وحكى : حسرت الدّابة فهي محسورة وحسير إذا سيّرتها حتى تنقطع ، والقول الآخر «محسورا» بمعنى من قد لحقته الحسرة.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً) خبر كان واسمها فيها مضمر والجملة خبر إنّ. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ما فيه من القراءات (٢).

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ومن العرب من يمدّه يجعله مصدرا من زانى لأنه لا يكن إلّا من اثنين. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) على البيان أي طريقه سيّئ وفعله قبيح.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣)

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) قد ذكرناه (٣). (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ) على الحال (فَقَدْ جَعَلْنا) الإدغام حسن ، لأن الدال من طرف اللسان والجيم من وسطه فهما متقاربتان والإظهار جائز (لِوَلِيِّهِ) أي أقرب الناس إليه. (سُلْطاناً) قال سعيد بن جبير كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة. قال أبو إسحاق : من قرأ (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (٤) جعله خبرا أي فليس يسرف قاتل وليّه (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) في الضمير خمسة أقوال : يكون للوليّ ، وهذا أولاها عند أهل النظر لأنه أقرب إليه. قال ابن كثير عن مجاهد : إن المقتول كان منصورا ، وهذا قول حسن لأن المقتول قد نصر في الدنيا لمّا أمر بقتل قاتله وفي الآخرة بإجزال الثواب وتعذيب قاتله ، وقيل : إنّ القتل كان منصورا. قال

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٢.

(٢) القراءات المختلفة في البحر المحيط ٦ / ٢٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٠.

(٤) انظر المحتسب ٢ / ٢٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٣١.

٢٧١

الفراء (١) : يجوز أن يكون المعنى إنّ القتل لأنه فعل ، والقول الخامس قول أبي عبيد ، قال : يكون إنّ القاتل الأول كان منصورا إذا قتل. وهذا أبعدها وأشدّها تعسفا.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٣٤)

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) فدخل في هذا كلّ ما أمر الله به لأنه قد عهد إلينا فيه.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فدخل في هذا النهي عن قذف المحصنات وعن القول في الناس بما لا يعلم وعن الكلام في الفقه والدين بالظنّ وأن لا يقول أحد ما لا يحقّه. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فدخل في هذا النهي عن الاستماع إلى ما لا يحلّ استماعه وعن الهمّ والعزم بما لا يحلّ النظر إليه ، واعلم أن الإنسان مسؤول عن ذلك كلّه ، وقال : أولئك في غير الناس لأن كلّ ما يشار إليه وهو متراخ فلك أن تقول فيه : أولئك ، كما قال : [الكامل]

٢٧٠ ـ ذمّ المنازل غير منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٢)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ذا مرح ، وحكى يعقوب القارئ (مَرَحاً) (٣) بكسر الراء على الحال. قال الأخفش : وكسر الراء أجود لأنه اسم الفاعل. قال أبو إسحاق : فتح الراء أجود لأنه فيه معنى التوكيد ، كما يقال : جاء فلان ركضا ، وجعله مصدرا في موضع الحال. والمرح في اللغة الأشر والبطر ويكون منه التختر والتكبّر. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تبلغ قوتك هذا. (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) فلا ينبغي أن تتكبّر وتترفّع.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣٨)

فاحتجّوا بأشياء قد تقدّمت حسان منها (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ومنها (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ، واحتجّ أبو حاتم بقوله «مكروها» ولم يقل مكروهة. قال أبو جعفر : لا يلزم

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٣.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ٩٩٠ ، وتخليص الشواهد ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٣٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الشافية ١٦٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أولى) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٧٢ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ٣٤.

٢٧٢

من هذه الاحتجاجات شيء لأن الأشياء الحسان تقدّمت في باب الأمر ثم جاء النهي فجاء بعده (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) لما نهي عنه ، وقال مكروها ولم يقل : مكروهة لأنه عائد على لفظ كلّ وهو خبر ثان عن المضمر الذي في كان والمضمر مذكّر.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠)

(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً) مصدر فيه معنى التوكيد (عَظِيماً) من نعته.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (٤١)

قال أبو إسحاق : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي ولقد بيّنا. قال : والمعنى (وَما يَزِيدُهُمْ) أي التبيين (إِلَّا نُفُوراً).

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢)

(لَابْتَغَوْا) لطلبوا.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣)

أي تعاليا ، كما قال : [الوافر]

٢٧١ ـ وليس بأن تتبّعه اتّباعا (١)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) على تأنيث الجماعة ويسبح على تذكير الجميع. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قد تكلّم العلماء في معناه فقال بعضهم : هو التسبيح الذي يعرف ، وقال بعضهم : هو مخصوص ، وقال بعضهم : تسبيحه دلالته على تنزيه الله جلّ وعزّ وتأوّل (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) على أن مخاطبة للكفار الذين لا يستدلّون ، وقيل : ولكن لا تفقهون مخاطبة للناس وإذا كان فيهم من لا يفقه ذلك فلم يفقهوا. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) أي حليما عن هؤلاء الذين لا يستدلّون. (غَفُوراً) لمن تاب منهم.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥)

قيل : هؤلاء قوم كانوا إذا سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بمكة ليستدعي الناس سبّوه

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (٧٧).

٢٧٣

فأعلمه الله جلّ وعزّ أنه يحول بينهم وبينه حتى لا يفهموا قراءته. قال الأخفش : «مستورا» أي ساترا ومفعول يكون بمعنى فاعل كما يقال : مشؤوم وميمون أي شائم ويا من لأن الحجاب هو الذي يستر ، وقال غيره : الحجاب مستور على الحقيقة لأنه شيء مغطّى عنهم.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦)

(وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) نصب على الحال على أنه جمع نافر ، ويجوز أن يكون واحدا على أنه مصدر.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً) (٤٧)

(وَإِذْ هُمْ نَجْوى) مبتدأ وخبره والتقدير : ذو نجوى.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٤٨)

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا مرة هو مخدوع ومرة هو ساحر ليلحقوا بك الكذب ، (فَضَلُّوا) عن سبيل الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إليه.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٤٩)

(خَلْقاً) مصدر (جَدِيداً) من نعته. وجديد في المذكّر والمؤنّث بمعنى واحد ، وجديدة في المؤنث لغة رديئة عند سيبويه.

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١)

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي توهّموا ما شئتم فلا بدّ من أن تموتوا وتبعثوا. وكانت هذه الآيات من أعظم الدلائل على نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الله جلّ وعزّ : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) فأخبر جلّ وعزّ بأنّهم سيقولون هذا ، وأخبر أنهم يحرّكون رؤوسهم استبعادا لما قال لهم وأنهم يقولون مع تحريك رؤوسهم أو بعده. (مَتى هُوَ) وتلى عليهم فكان الأمر على ذلك.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) (٥٢)

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) قال سعيد بن جبير : يخرج الناس من قبورهم وهم

٢٧٤

يقولون : سبحانك وبحمدك. (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) قيل : إنّهم إنما ظنّوا هذا بعد الحقيقة التي لا بدّ للخلق منها.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (٥٣)

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي المقالة التي هي أحسن. قال المازني : المعنى : قل لعبادي قولوا يقولوا إنّ الشيطان ينزغ بينهم أي يحرّض الكافرين على المؤمنين.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦)

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) في الكلام حذف دلّ عليه ما بعده ، والتقدير : قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم من دون الله فليكشفوا عنكم الضّرّ وليحوّلوكم من الضيق والشدّة إلى السّعة ودلّ على هذا (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) أي لن يحوّلوكم من الضيق والشدة إلى السعة والخصب.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧)

(أُولئِكَ) مبتدأ. (الَّذِينَ يَدْعُونَ) من نعته ، والخبر (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) وفي قراءة ابن مسعود رحمه‌الله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) (١) لأن قبله قل ادعوا ، والتقدير : يبتغون الوسيلة إلى ربهم ينظرون. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) فيتوسّلون : والفرق بين هؤلاء وبين من توسّل بعبادة المسيح عليه‌السلام وغيره أن هؤلاء توسلوا وهم موحّدون وأولئك توسلوا بعبادة غير الله جلّ وعزّ فكفروا و (أَيُّهُمْ) رفع بالابتداء و (أَقْرَبُ) خبره ، ويجوز أن يكون «أيّهم» بدلا من الواو ويكون بمعنى الذي ، والتقدير يبتغي الذي هو أقرب الوسيلة وأضمرت «هو» وسيبويه (٢) يجعل أيّا على هذا التقدير مبنيّة. وهو قول مردود وسنذكر ما فيه إن شاء الله (٣). والذين يدعون من كان مطيعا لله جلّ وعزّ ، والتقدير : يدعونهم آلهة ، وفي الآية قول آخر يكون متصلا بقوله جلّ وعزّ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض أولئك الذين يدعون أي أولئك النبيون الذين يدعون الله جلّ وعزّ (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال عطاء : أي القربة. قال أبو إسحاق : الوسيلة والسؤال والطلبة واحد. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي الذين يعبدونهم المطيعون يرجون رحمته ويخافون عذابه على الجواب الأول.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٠.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ٤٢٠.

(٣) انظر إعراب الآية ٦٩ ـ سورة مريم.

٢٧٥

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٥٨)

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية. (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) بالموت (أَوْ مُعَذِّبُوها) بالاستئصال لعصيانهم (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي في الكتاب الذي كتبه الله جلّ وعزّ للملائكة عليهم‌السلام فيه أخبار العباد ليستدلّوا بذلك على قدرته.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (٥٩)

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أن الثانية في موضع رفع بالمنع والأولى في موضع نصب به. وهذه آية مشكلة. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال : حدّثنا علي بن عبد الله قال : حدّثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكّة أن يجعل لهم الصفا ذهبا أو ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم لعلنا أن نجتبي منهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت قبلهم الأمم. قال : لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً). قال أبو جعفر : التقدير في العربية : وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلّا أن كذّب بمثلها الأولون فأهلكوا واستؤصلوا فجعل الله جلّ وعزّ ما فيه من الصلاح لهم ، فإن قال قائل : فقد أعطي الأولون مثل هذا ولم يؤمنوا فما الفرق؟ فالجواب أنّ الفرق بينهم علم الله جلّ وعزّ بأنّ من هؤلاء من يؤمن ومن هؤلاء ومن أولادهم من يؤمن ، وأنّ أولئك لا يؤمنون ولا يولد لهم من يؤمن. (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) مفعولان ولم ينصرف ثمود لأنه جعله اسما للقبيلة ، ويجوز صرفه بجعله اسما للحيّ (مُبْصِرَةً) على الحال ، وهو عند أكثر النحويين البصريين على النسب ، وقال بعضهم : مبصرة: بمعنى مبصّرة أي مبيّنة مثل مكرم ومكرّم ، وقال الفراء (١) : مبصرة أي مضيئة مثل (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧ ، والنمل : ٨٦ ، وغافر : ٦١]. قال الفراء : ومن قال (مبصرة) (٢) أراد مثل قول عنترة : [الكامل]

٢٧٢ ـ والكفر مخبثة لنفس المنعم (٣)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٥١.

(٣) الشاهد لعنترة العبسي من معلّقته في ديوانه ٢٨ ، والتهذيب ١ / ٣١٦ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٢٦ ، والخزانة ١ / ٣٣٦ ، وشرح القصائد العشر للتبريزي ٣٦٨ ، وصدره :

«نبّئت عرا غير شاكي نعمتي»

٢٧٦

قال فإذا وضعت مفعلة مكان فاعل كفت من الجمع والتأنيث. قال أبو إسحاق : من قرأ مبصرة فالمعنى مبيّنة (فَظَلَمُوا بِها) التقدير فظلموا بعقرها وكفرهم بخالقها. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) قيل يعني به الآيات التي تتلى.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) قال أبو جعفر : قد ذكرناه وقد قيل : إنّ ربك أحاط بالناس علما ومعرفة وتدبيرا فلهذا لم يعطهم الآيات التي اقترحوها لعلمه جلّ وعزّ بهم. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) مفعولان أي محنة امتحنوا بها وتكليفا وقد تكلّم العلماء في هذه الرؤيا فمن أحسن ما قيل فيها وصحيحه أنها الرؤيا التي رآها محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، فلما ردّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبيّة عن البيت فافتتن جماعة من الناس حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تعدنا أنّا ندخل المسجد الحرام فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقلت لكم في هذا العام؟ قال : لا ، قال : فإنكم ستدخلونه ، فدخلوه في العام المقبل كما قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال : هي رؤيا عين رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به لا رؤيا نوم. قال (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) شجرة الزقوم. قال الفراء (١) : ويجوز (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) بالرفع يجعله نسقا على المضمر الذي في فتنة قال كما تقول : جعلتك عاملا وزيدا وزيد. (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) قال السّدّي : الطغيان المعصية ، وقال مجاهد : هذا في أبي جهل.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٦١)

(قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) التقدير لمن خلقته وحذفت الهاء لطول الاسم. قال أبو إسحاق: (طِيناً) منصوب على الحال ، والمعنى : أأسجد لمن أنشأته في حال كونه طينا.

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦٢)

(قالَ أَرَأَيْتَكَ) (٢) الكاف لا موضع لها من الإعراب وإنما هي لتوكيد المخاطبة ، وحكى سيبويه : أريتك زيدا أبو من هو ، وقد ذكرنا هذا باختلاف النحويين في سورة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ٥٤.

٢٧٧

الأنعام (١). (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) روى علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال «لأحتنكنّ» لأستولينّ ، وقال مجاهد : لأحتوينّ مثل زناق الناقة والدابة وهي حناكها ، وقال غيره : إنما قال إبليس هذا لمّا قال الله جلّ وعزّ (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠].

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣)

أي مكمّلا.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً) (٦٤)

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) هذا على جهة التهاون به وبمن اتّبعه والتهديد له لأنّ من عصى فإنّما عصيانه على نفسه وليس ذلك بضارّ غيره. والعرب تفعل هذا على جهة التهديد ومثله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ولا يقع هذا إلّا بعد النهي فالله جلّ وعزّ قد نهى عن المعاصي ، وكما تقول : يا غلام لا تكلّم فلانا ، ثم تهدّده وتحذّره فتقول : كلّمه إن كنت صادقا ، وكذا (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قيل : إنّ هذا على التمثيل ، وقيل : يجوز أن يكون له خيل ورجل ، وقيل : هذا الخيل والرّجل الذين يسعون في المعاصي ، وكذا (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) هو أن يزيّن لهم أن ينفقوا أموالهم ويستعملوا أولادهم في المعاصي.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قيل : معناه خلصائي ومن أحسن ما قيل فيه أنه لا سلطان له على أحد لأنّ العباد هاهنا جميع الخلق ، والسلطان : الحجّة. كذا قال سعيد بن جبير لا حجة له على أحد توجب أن يقبل منه ، وفيه قول ثالث يكون المعنى أنّ عبادي جميعا لا تسلّط لك عليهم إلّا الوسوسة ، وصاحب هذا القول يستدلّ به على أنه لا يصل أحد من الجنّ إلى صرع أحد من الأنس (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) على البيان.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (٦٧)

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) أي عصوف الرياح والخوف من الغرق (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) لأنكم تعلمون أنهم لا يغنون عنكم شيئا إلّا إيّاه فترجعون فتدعونه. وهذا من

__________________

(١) انظر إعراب الآية ٤٠ ـ سورة الأنعام.

٢٧٨

الدلائل على البارئ تبارك اسمه أنّه ليس أحد يقع في شدة من مؤمن أو مشرك أو ملحد إلا وهو يستغيث به.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) (٦٨)

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) على الظرف (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي رجما من فوقكم.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) تابعا يتبعنا في إنكار ذلك أو صرفه عنكم.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠)

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ولم يقل : على كلّ من خلقنا لأن الملائكة أفضل منهم لطاعتهم وأنّهم لا معصية لهم (تَفْضِيلاً) مصدر فيه معنى التوكيد.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١)

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) التقدير : أذكر يوم ندعوا ، ويجوز أن يكون التقدير : يعيدكم الذي فطركم (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال : بإمامهم بنبيّهم ، وروي عنه إمام هدى وإمام ضلالة ، وقال أبو صالح وأبو العالية بإمامهم بأعمالهم ، وقال مجاهد بكتابهم. قال أبو جعفر : وهذه الأقوال متفقة والناس يدعون بهذا كلّه فيدعون بنبيّهم فيقال أين أصحاب الورع؟ وكذا ضدّ هذا فيقال أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الزنا؟ فيكون في هذا توبيخ وهتكة على رؤوس الناس لمن ينادى به أو مدح وسرور لمن ينادى بضدّه. قال عكرمة عن ابن عباس : الفتيل ما في شقّ النواة ، وتقديره في العربية لا يظلمون مقدار فتيل.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢)

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الدنيا (أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) وتقديره أعمى منه في الدنيا. قال محمد بن يزيد : وإنما جاز هذا ، ولا يقال : فلان أعمى من فلان ؛ لأنه من عمى القلب ، ويقال في عمى القلب : فلان أعمى من فلان ، وفي عمى العين : فلان أبين عمىّ من فلان ، ولا يقال : أعمى منه. قال أبو جعفر : وإنما لم يقل : أعمى منه

٢٧٩

في عمى العين عند الخليل وسيبويه (١) : لأن عمى العين شيء ثابت مرئيّ ، كاليد والرجل ، فكما لا تقول : ما أيداه لا تقول : ما أعماه ، وفيه قولان آخران : قال الأخفش سعيد : إنّما لم يقل ما أعماه ؛ لأن الأصل في فعله اعميّ واعمايّ ، ولا يتعجّب مما جاوز الثلاثة إلّا بزيادة. والقول الثاني أنهم فعلوا هذا للفرق بين عمى القلب ، وكذا لم يقولوا في الألوان : ما أسوده ليفرقوا بينه وبين قولهم ما أسوده من السّؤدد وأتبعوا بعض الكلام بعضا. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول : إنما لم يقولوا : ما أقيله من القائلة ؛ لأنهم قد يقولون في البيع : قلته ففرّقوا بينهما. وحكى الفراء (٢) عن بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه وما أزرقه وما أعوره. قال : لأنهم يقولون : عمي وعشي وعور ، وأجاز الفراء : في الكلام والشعر ما أبيضه وسائر الألوان ، وكذا عنده. وقال محمد بن يزيد في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أن يكون من قولك : «فلان أعمى» لا يريد أشدّ عمى من غيره. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى ليكون المعنى عليه لأن بعده (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي منه في الدنيا ، ولهذا روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : تجوز الإمالة في قوله جلّ وعزّ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) ، ولا تجوز الإمالة في قوله (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى). يذهب إلى أن الألف في الثاني متوسطة لأن تقديره أعمى منه في الدنيا ولو لم يرد هذه لجازت الإمالة. قال أبو إسحاق : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى ؛ لأنه قد حصل على عمله لا سبيل له إلى التوبة.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) (٧٣)

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وزن كاد فعل على لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وبنو قيس يقولون : كدت ، فهي عندهم فعلت ، وقيل : إنهم فعلوا هذا ليفرقوا بينه وبين كدت من الكيد.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤)

قيل : ثبّته الله جلّ وعزّ بالعصمة ، وقيل : ثبّته بالوحي وإعلامه أنه لا ينبغي أن يركن إليهم فإنهم أعداء. ويقال : ركن يركن ، وركن يركن أفصح.

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥)

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) فكان في هذا أعظم العظة للناس إذ كان الله جلّ وعزّ أخبر بحكمه في الأنبياء المصطفين صلّى الله عليهم إذا عصوا.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢١٤.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٢٨.

٢٨٠