إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

العتاد ، وهو كل شيء جعلته عدّة لشيء. (مُتَّكَأً) أصحّ ما قيل فيه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : مجلسا ، وأما قول الجماعة من أهل التفسير إنه الطعام ، فيجوز على تقدير طعام متّكئا ، مثل «واسئل القرية» ، ودلّ على هذا الحذف ، (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لأن حضور النساء ومعهنّ السكاكين إنّما هو الطعام يقطع بالسكاكين. والأصل في متّكأ موتكأ ، ومثله متّزن ومتّعد من وزنت ووعدت ووكأت ، ويقال : تكئ يتكأ تكأة. (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) مفعولان وحكى الكسائي والفراء أن السكين يذكّر ويؤنّث ، وأنشد الفراء : [الوافر]

٢٣٣ ـ فعيّث في السّنام غداة قرّ

بسكّين موثّقة النّصاب (١)

والأصمعي لا يعرف في السكين إلّا التذكير. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) بضم التاء لالتقاء الساكنين لأن الكسرة تثقل إذا كانت بعدها ضمة وكسر التاء على الأصل (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي معاذ الله ، وروى الأصمعي عن نافع أنه قرأ كما قرأ أبو عمرو بن العلاء وقلن حاشا لله (٢) بإثبات الألف ، وهو الأصل ، ومن حذفها جعل اللام التي بعدها عوضا منها ، وفيها لغات أربع : «حاشاك» و «حاشا لك» و «حاش لك» و «حشا لك» ، ويقال : حشا زيد وحاشا زيدا. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمّد بن يزيد يقول : النصب أولى لأنه قد صحّ أنها فعل بقولهم: حاش لزيد والحرف لا يحذف منه ، وقد قال النابغة : [البسيط]

٢٣٤ ـ وما أحاشي من الأقوام من أحد (٣)

(ما هذا بَشَراً) شبّهت (ما) بليس عند الخليل وسيبويه إذا كان الكلام مرتّبا. قال سيبويه : وربّ حرف هكذا أي يشبّهه بغيره في بعض المواضع ، ثم ذكر سيبويه «تالله» و «لدن غدوة» ثم قال الكوفيون (٤) : لما حذفت الباء نصبت وشرح هذا على ما قاله أحمد بن يحيى أنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض. قال : فلما حذفت الباء نصبت لتدلّ على محلها. قال : وهذا قول الفراء (٥) وما تعمل «ما» شيئا ، فألزمهم البصريون أن يقولوا : زيد القمر ، لأن المعنى كالقمر ، فرد هذا أحمد بن يحيى بأن قال : الباء

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (عيث) و (سكن) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ٣١٤ ، والمذكر والمؤنث للفراء ص ٩٦ ، والمخصّص ١٧ / ١٦ ، وتاج العروس (عيث) و (سكن).

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣.

(٣) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٢٠ ، وأسرار العربية ٢٠٨ ، والإنصاف ١ / ٢٧٨ ، والجنى الداني ص ٥٩٩ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٣ ، والدرر ٣ / ١٨١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصّل ٢ / ٨٥ ، ولسان العرب (حشا) ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٤٢٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٤٠ ، وشرح المفصّل ٨ / ٤٩ ، ومغني اللبيب ١ / ١٢١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٣.

(٤) انظر الإنصاف مسألة (١٩).

(٥) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٢.

٢٠١

أدخل في حروف الخفض من الكاف لأن الكاف تكون اسما. قال أبو جعفر : لا يصح إلا قول البصريين. وهذا القول يتناقض لأن الفراء أجاز نصا ما بمنطلق زيد ، وأنشد : [الوافر]

٢٣٥ ـ أما والله أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق (١)

ومنع نصا النصب ، ولا نعلم بين النحويين اختلافا أنه جائز : ما فيك براغب زيد ، وما إليك بقاصد عمرو ثم يحذفون الباء ويرفعون ، وحكى البصريون والكوفيون : ما زيد منطلق بالرفع ، وحكى البصريون أنها لغة بني تميم وأنشدوا : [الوافر]

٢٣٦ ـ أتيما تجعلون إليّ ندّا

وما تيم لذي حسب نديد (٢)

وحكى الكسائي أنها لغة تهامة ونجد : وزعم الفراء أن الرفع أقوى الوجهين. قال أبو إسحاق : هذا غلط كتاب الله جلّ وعزّ ، ولغة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى وأولى. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) لفضل الملائكة على البشر.

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣)

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ابتداء وخبر ، والتقدير نزول السجن أحبّ إليّ أي أسهل عليّ ، وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ السجن (٣) بفتح السين ، وحكى أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب وهو مصدر سجنه سجنا (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) شرط ومجازاة أي إن لم تلطف لي في اجتناب المعصية وقعت فيها.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٤)

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي فلطف له في ذلك. (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) قيل : لأنهنّ جمع قد راودنه عن نفسه ، وقيل : يعني كيد النساء.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥)

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) فيه ثلاثة أقوال : فمذهب سيبويه (٤) أن

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٢١ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٤١ ، والجنى الداني ٢٢٢ ، وجواهر الأدب ١٩٧ ، والدرر ٤ / ٩٦ ، ورصف المباني ١١٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٣٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١١١ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠٩ ، والمقرب ١ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٨.

(٢) الشاهد لجرير في ديوانه ص ١٦٤ ، والخزانة ١ / ٤٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٠٦.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ١٢٥.

٢٠٢

«ليسجننّه» في موضع الفاعل أي ظهر لهم أن يسجنوه ، وقال محمد بن يزيد : هذا غلط لا يكون الفاعل جملة ولكن الفاعل ما دلّ عليه بدا أي بدا لهم بداء فحذف الفاعل لأن الفعل يدلّ عليه كما قال: [الوافر]

٢٣٧ ـ وحقّ لمن أبو موسى أبوه

يوفّقه الّذي نصب الجبالا (١)

والقول الثالث أن معنى «بدا له» في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلا وحذف أيضا القول أي قالوا ليسجننّه ، وهذه النون للتوكيد ، وكذا الخفيفة يوقف عليها بالألف نحو (وَلَيَكُوناً) [يوسف : ٣٢] ليفرق بينهما ، وقال أبو عبيد : يوقف عليها بالألف لأنها أشبهت التنوين في قولك : رأيت رجلا والتقدير فحسبوه.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦)

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) تثنية فتى وهو من ذوات الياء وقولهم الفتوّة شاذّ. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) والتقدير في النوم ثم حذف. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) من ذوات الهمز فلذلك ثبتت الياء فيه ومن خفف : نبيّنا ومن أبدل منها قال نبِّنا فحذف الياء.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠)

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) حذف المفعول الثاني للدلالة والمعنى سمّيتموها آلهة من عند أنفسكم. (ما أَنْزَلَ اللهُ) ذلك في كتاب. قال سعيد بن جبير (مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجّة.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١)

(أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) حكى بعض أهل اللغة أنّ سقاه وأسقاه لغتان بمعنى واحد كما قال : [الوافر]

٢٣٨ ـ سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (٢)

__________________

(١) الشاهد لذي الرّمّة في ديوانه ٤٤٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حقق).

(٢) الشاهد للبيد في ديوانه ٩٣ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٢٨ ، وتاج العروس (مجد) و (سقى) ، والمخصّص ١٤ / ١٦٩ ، ونوادر أبي زيد ٢١٣ ، وبلا نسبة في رصف المباني ٥٠ ، ولسان العرب (مجد).

٢٠٣

قال الأصمعي : أنا أتّهم هذا البيت من شعر لبيد وأتوهّم أنه مصنوع لأنّه جاء بلغتين في بيت. قال أبو جعفر : الذي عليه أكثر أهل اللغة أن معنى سقاه ناوله فشرب أو صبّ الماء في حلقه ، ومعنى أسقاه جعل له سقيا. قال جلّ وعزّ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧].

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢)

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) قال الكسائي : والمصدر نجوا ونجاء. (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي أذكر ما رأيته منّي وما أنا عليه من عبارة الرؤيا وغير ذلك.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣)

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) حذفت الهاء فرقا بين المذكّر والمؤنّث ، ويجوز في غير القرآن : سبع بقرات سمانا نعت لسبع ، وكذا خضرا. قال الفراء (١) : ومثله (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [نوح : ١٥].

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤)

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هي أضغاث. قال الفراء : ويجوز أضغاث أحلام ، أي رأيت أضغاث أحلام. قال أبو جعفر : النصب بعيد لأن المعنى : لم ترى شيئا له تأويل ، إنما هي أضغاث أحلام. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قال أبو إسحاق : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (٤٥)

قال أبو جعفر : الأصل في (وَادَّكَرَ) اذتكر ، والذال قريبة المخرج من التاء ، ولم يجز ادغامها فيها لأن الذال مجهورة والتاء مهموسة فلو أدغموا ذهب الجهر فأبدلوا من موضع التاء حرفا مجهورا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة فصار إذ دكّر فأدغموا الذال في الدال فصار ادّكر ، وحكى الخليل وسيبويه : إن من العرب من يقول اذّكر فيدغم الدال في الذال لرخاوة الذال ولينها ويقال : أمه يأمه إمها إذا نسي ، فعلى هذا وادّكر بعد أمه.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٤٧.

٢٠٤

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٦)

(يُوسُفُ) نداء مفرد وكذا (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) الكثير الصدق.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (٤٧)

(دَأَباً) مصدر لأن معنى تزرعون تدأبون ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب (دَأَباً) (١) بتحريك الهمزة ، وروى حفص عن عاصم وفيه قولان : قول أبي حاتم أنه من دئب. قال أبو جعفر : ولا يعرف أهل اللغة إلا دأب. والقول الآخر أنه حرّك لأن فيه حرفا من حروف الحلق.

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (٤٨)

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ) مجازا أي يأكل أهلهن. (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي ما ادخرتم من أجلهنّ. (إِلَّا قَلِيلاً) نصب على الاستثناء. (مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تحبسون لتزرعوه.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١)

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي فذهب الرسول فأخبره فقال : ائتوني به (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي فأمره بالخروج. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ليعلم حال النسوة (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي ليعلم أني حبست بلا جرم. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فدلّ بهذا على أنهن قد كدنه كما كادته امرأة العزيز. المعنى فذهب الرسول فأخبره فاحضرهنّ فقال : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) شدّدت النون لأنّها بمنزلة الميم والواو في المذكّرين.

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢)

(ذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر ذلك. (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي لم أذكره وهو غائب بسوء ، وكذا الخيانة وقد قيل : هذا من كلام يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر معاني الفرّاء ٢ / ٢٧ ، وتيسير الداني ١٠٥.

٢٠٥

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣)

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) على التكثير ، وكذا (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي مشتهية له. (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) في موضع نصب على الاستثناء.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) (٥٤)

(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) جزم لأنه جواب الأمر ، والمعنى فذهبوا فجاؤوا به ودلّ على هذا. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي متمكّن من نريد نافذ القول. (أَمِينٌ) لا تخاف عذرا.

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥)

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ) أي حفيظ لها (عَلِيمٌ) بما تستحق أن أجعلها فيه.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦)

(يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي ينزل. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي بإحساننا. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ثوابهم ، ودلّ بهذا على أنه ثواب له.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨)

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) أي فجاءت سنو القحط فجاء إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا ، وهذا من اختصار القرآن المعجز فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون لأنهم خلفوه صبيا ولم يتوهموا أنه بعد العبوديّة بلغ إلى تلك الحال.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٥٩)

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وهو ابن يامين وهو أخو يوسف لأبيه وأمه أي سألهم وذاكرهم حتى جرى ذكر أخيه وهذا من الاختصار أيضا.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) (٦٠)

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فلا أبغيكم شيئا. (وَلا تَقْرَبُونِ) في موضع جزم بالنهي فلذلك حذفت منه النون ، وحذفت الياء لأنه رأس آية ، ولو كان خبرا لكان ولا تقربون بفتح النون.

٢٠٦

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦٢)

وقال لفتيته هذه قراءة (١) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) وهو اختيار أبي عبيد ؛ لأنه روى عن هشام عن مغيرة قال : في مصحف عبد الله «وقال لفتيانه». قال أبو جعفر : وهذا مخالف للسواد الأعظم لأنه في السواد لا ألف فيه ولا نون فلا يترك السواد المجتمع عليه لهذا الإسناد المنقطع ، وأيضا فإنّ فتية هاهنا أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد والقليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه. والأصل في فتية أفعلة وإن كان قد صغّر على لفظه.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣)

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) لأنه قال لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي). (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) جواب ، والأصل نكتال فحذفت الضمة من اللام للجزم وحذفت الألف لالتقاء الساكنين وهذه قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ الكوفيون يكتل (٢) بالياء ، والأول اختيار أبي عبيد ليكونوا كلّهم داخلين فيمن يكتال ، وزعم أنه إذا قال : يكتل بالياء كان للأخ خاصة. قال أبو جعفر : وهذا لا يلزم لأنه لا يخلو الكلام من إحدى جهتين أن يكون المعنى فأرسل أخانا يكتل معنا فيكون للجميع ، أو يكون التقدير على غير التقديم والتأخير فيكون في الكلام دليل على الجمع بقوله (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي).

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

(فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) على البيان ، وهذه قراءة (٣) أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين حفظا والقراءة الأولى أبين كما يقال : هو خير منه حسبا و (حافِظاً) منصوب على الحال ، وقال أبو إسحاق : يجوز أن يكون منصوبا على البيان.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٠٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٠ ، وتيسير الداني ١٠٥.

(٣) انظر تيسير الداني ١٠٥.

٢٠٧

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥)

(ما نَبْغِي) «ما» في موضع نصب ، والمعنى ـ والله أعلم ـ أي شيء نبغي بتعريفنا إياك فإن الملك قد برنا و (هذِهِ بِضاعَتُنا) تدلّ على ذلك إذ (رُدَّتْ إِلَيْنا) ، وروي عن علقمة (رُدَّتْ إِلَيْنا) (١) بكسر الراء ؛ لأن الأصل فيه رددت فلما أدغم قلب حركة الدال على الراء كما يقال : «بيع» في المعتلّ ، وقد حكى قطرب في ضرب زيد «ضرب». (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي يخرج أخونا على بعير فيكال له عليه (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) في معناه قولان : أحدهما يسير على الملك أي سهل ، والآخر ذلك الذي جئنا به كيل يسير لا يكفينا فنحن نحتاج أن يخرج أخونا معنا حتى يزداد.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦)

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) في موضع نصب. قال أبو إسحاق : المعنى إلّا لإحاطة بكم قال : وهذا يحقّق الجزاء كقولك : ما جئتني إلا لأخذ الدراهم وإلّا أن تأخذ الدراهم. (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي حافظ للحلف.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧)

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) أصحّ ما قيل فيه أنه خاف أن يدخلوا جميعا فيبلغ الملك الأعظم أمرهم فيلحقهم منه مكروه أو يحسدهم من رآهم مجتمعين ، ولا معنى للعين هاهنا لأن بعده (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأنه إن صحّ ما يكون يعقب العين فهو من الله جلّ وعزّ.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨)

ويدلّك على هذا (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

(إِلَّا حاجَةً) استثناء ليس من الأول. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي بأمر دينه (وَلكِنَّ

__________________

(١) وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢١.

٢٠٨

أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما يعلم يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر دينه.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠)

قال الأخفش : جمع سقاية : سقايا. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي أصحاب العير يدلّ على ذلك. (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وكان النداء عن غير أمر يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كذب.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢)

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) وروي عن أبي هريرة قالوا نفقد صاع الملك (١) ، وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء قالوا نفقد صوع الملك (٢) بغير ألف وبغين معجمة ، وكذا روي عن يحيى بن يعمر. قال أبو جعفر : الألف في صواع زائدة وهو بمعنى صاع وصاع أكثر في كلام الناس كما قال :

٢٣٩ ـ لا نألم القتل ونجزي به

الأعداء كيل الصّاع بالصّاع (٣)

وجمع صواع صيعان ، وجمع صاع على التذكير أصواع وعلى التأنيث أصوع ، وجمع صوغ أصواغ كثوب أثواب. وصوغ مصدر بمعنى موغ كما تقول : درهم ضرب أي مضروب. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ابتداء وخبر ، وكذا (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) والزّعيم الكفيل وأصله من زعم ذاك أي قاله.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٧٣)

(قالُوا تَاللهِ) التاء بدل من الواو لأنها أقرب الزوائد إليها ، ولا يقاس على الإبدال فيقال : تالرحمن لأن العرب إذا أبدلت الشيء من الشيء فقد عرف ، وكذا المجاز لا يقال عليه.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) (٧٤)

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) ابتداء وخبر. (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي في قولكم وما كنا سارقين.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٧٥)

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) وهذا مشكل من النحو وفيه ثلاثة أقوال : منها

__________________

(١) و (٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٦ ، مختصر ابن خالويه ٦٤.

(٣) الشاهد لأبي قيس بن الأسلت في ديوان المفضليات ٥٦٩ ، والخزانة ٢ / ٤٨.

٢٠٩

أن يكون «جزاؤه» مبتدأ وخبره محذوفا ، والتقدير : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم أن يستعبد من يسرق ، ويقال : إن هذا الحكم كان في شريعة يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان هذا في أول الإسلام حتى نسخه الله جلّ وعزّ بالقطع ، والقول الثاني أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد» مبتدأ ثانيا «فهو جزاؤه» خبر الثاني والجملة خبر الأول و «من» شرط ، وإن شئت بمعنى الذي ، والذي يعود على المبتدأ الأول جزاؤه الثاني ، والتقدير (فهو) هو ثم أظهر الضمير ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٢٤٠ ـ لعمرك ما معن بتارك حقّه

ولا منسئ معن ولا متيسّر (١)

إلا أنه في الآية أحسن لأنه لو أضمر فيها لأشكل المعنى فكان الإظهار أحسن لهذا ، والقول الثالث أن يكون «جزاؤه» مبتدأ و «من وجد في رحله» كناية عن رحله وخبره ، والتقدير : جزاؤه استعباد من وجد في رحله فهو كناية عن الاستعباد ، وهي في الجملة معنى التوكيد ، كما تقول : جزاء من سرق القطع فهو جزاؤه وفهذا جزاؤه. (كَذلِكَ) الكاف في موضع نصب أي نجزي الظالمين جزاء كذلك.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

(ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) فأنّث ، ففيه ثلاثة أقوال : منها أن يكون الكناية للصواع على لغة من أنّث ، ومنها أن يكون للسقاية ، والجواب الثالث أن يكون للسرقة ، وقرأ الحسن (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) (٢) بضمّ الواو ، ويجوز في غير القرآن «إعاء» مثل «أقّت» و «وقتت» ، ويجوز «إعاء أخيه» ، وهي لغة هذيل ، ومثله «إكاف» و «وكاف» ، (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) الكاف في موضع نصب أي بأن فعل هذا حتى أخذ أخاه ولم يكن يتهيّأ له أخذه وحبسه مع الملك بغير حجّة قال جلّ وعزّ : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (أن) في موضع نصب ، والتقدير إلّا بأن يشاء الله أن يلطف له بمثل هذا الكيد. نرفع درجات من نشاء (٣) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة ، وقرأ أهل الكوفة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) بالتنوين ، وهو على قراءتهم مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف ، والتقدير : نرفع من نشاء إلى درجات ، إلّا أنّ أكثر كلام العرب على

__________________

(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ١ / ٣١٠ ، والكتاب ١ / ١٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٥ ، والدرر ٢ / ١٢٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٠ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ١٢٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢٨.

(٣) انظر تيسير الداني ١٠٥.

٢١٠

القراءة الأولى يقولون : اللهمّ ارفع درجته ولا يكادون يقولون : اللهمّ ارفعه درجة. قال مالك بن أنس سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله عزوجل (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ابتداء وفيه تقديران : أحدهما وفوق كلّ ذي علم من هو أعلم منه حتّى ينتهي ذلك إلى الله جلّ وعزّ ، والتقدير الآخر وفوق كل ذي علم عالم بكل شيء وهو الله جلّ وعزّ.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) جزم بإن ، والجواب (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) المعنى على حذف القول والتقدير : فقد قيل سرق أخ له. ومن أحسن ما قيل في معناه أنّ السّدّي قال : كانت عمة يوسفصلى‌الله‌عليه‌وسلم تميل إليه وهي ربّته فلمّا ترعرع أرادوا أن يأخذوه منها فاحتالت في منعهم فأخذت منطقة إسحاق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشدّتها في وسطه من تحت ثيابه وكان حكم السّارق إذا سرق أن يستخدم فاحتالت بهذا فأخذته عندها فلهذا قال إخوته : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) للعلماء في هذا أقوال : منها أنه أسرّ في نفسه قوله (شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ) وقيل : أسرّ في نفسه المجازاة لهم على ما قالوا فيه ، وقيل : أسرّ في نفسه الحجّة على ما قالوا ولم يرد أن يبيّن عذره في ذلك ، وقيل : أسرّ في نفسه قولهم «فقد سرق أخ له من قبل» ولم يرد أن يذيع هذا وينشره. (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ابتداء وخبر. (مَكاناً) منصوب على البيان أي فعلا.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧٨)

(إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) من نعته.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩)

(قالَ مَعاذَ اللهِ) مصدر. (أَنْ نَأْخُذَ) في موضع نصب أي من أن نأخذ. (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) في موضع نصب بنأخذ. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إن أخذنا غيره.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٨٠)

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا) أي انفردوا وليس هو معهم. (نَجِيًّا) نصب على الحال ، وهو واحد يؤدي عن جمع وجمعه أنجية. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) «ما» زائدة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع رفع على الابتداء وبمعنى وقع

٢١١

تفريطكم في يوسف عليه‌السلام ، وقيل موضعه نصب عطف على «أنّ» ، والمعنى : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله وتعلموا تفريطكم في يوسف عليه‌السلام. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي من الأرض. (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) نصب بحتى وهي بدل من «أن». (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) عطف على «يأذن» ، والمعنى ـ والله أعلم ـ أو يحكم الله لي بالممرّ مع أخي فأمضي معه إلى أبي. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ابتداء وخبر.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (٨١)

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا) له. (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما) قال أبو حاتم : ذكر قوم (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) (١) قالوا معناه رمي بالسّرق كما يقال ظلم فلان وخوّن قال : ولم أسمع له إسنادا. قال أبو جعفر : ليس نفيه السماع بحجّة على من سمع ، وقد روى هذا الحرف غير واحد منهم محمد بن سعدان النحوي في كتابه «كتاب القراءات» وهو ثقة مأمون وذكر أنها قراءة ابن عباس. قال أبو إسحاق: وقرئ (إنّ ابنك سرق) وهو يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السّرق ، والآخر اتّهم بالسرق. (شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢)

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي أهل القرية. قال سيبويه : ولا يجوز : كلّم هندا وأنت تريد غلام هند ؛ لأن هذا يشكل.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣)

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنته من غير أن تكون منه سرق. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أولى من الجزع. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) ؛ لأنه كان عنده أنّ يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت وإنما غاب عنه خبره لأن يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس ، ثم حبس فلما تمكّن احتال في أن يعلم أبوه خبره ولم يوجّه برسول ؛ لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إلى أبيه. وقال «بهم» لأنهم ثلاثة يوسف وأخوه والمتخلف مع أخيه.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤)

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ) قال أبو إسحاق : الأصل يا أسفي أبدل

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٢.

٢١٢

من الياء ألف لخفّة الألف والفتحة. (عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ) وقال : سأل قوم عن معنى شدّة حزن يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللعلماء في هذه ثلاثة أجوبة : منها أنّ يعقوب صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا علم أنّ يوسف عليه‌السلام حيّ فندم على ذلك ، والجواب الثالث أبينها وهو أنّ الحزن ليس محظورا وإنما المحظور الولولة وشقّ الثياب والكلام بما لا ينبغي. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب» (١) وقد بيّن الله جلّ وعزّ بقوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ).

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (٨٥)

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) قال الكسائي : يقال : فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت ، وزعم الفراء أنّ «لا» مضمرة وأنشد : [الطويل]

٢٤١ ـ فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (٢)

والذي قال حسن صحيح ، وزعم الخليل وسيبويه أنّ «لا» تضمر في القسم لأنه ليس فيه إشكال ، ولو كان موجبا لكان باللام والنون. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) يقال : حرض وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم ، ورجل حارض وحرض إلّا أن حرضا لا يثنّى ولا يجمع ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان ، وحكى أهل اللغة : أحرضه الهمّ إذا أسقمه ورجل حارض أي أحمق.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦)

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) حقيقة البثّ في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيّأ له أن يخفيها وهو من بثثته أي فرّقته فسمّيت المصيبة بثّا مجازا.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧)

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا) أي اذهبوا إلى هذا الذي طلب منكم أخاكم واحتال عليكم في أخذه فسلوه عنه وعن مذهبه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل ٦٢ ، والبخاري في صحيحه ٢ / ١٠٥ ، والبيهقي في سننه ٤ / ٦٩ ، والمتقي في كنز العمال ٤٠٤٧٩ ، والقرطبي في تفسيره ٩ / ٤٢٩ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٩٥.

(٢) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ٣٢ ، والكتاب ٣ / ٥٦٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٨ ، والخصائص ٢ / ٢٨٤ ، والدرر ٤ / ٢١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٨٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، وشرح المفصّل ٧ / ١١٠ ، ولسان العرب (يمين) ، واللمع ٢٥٩ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٩٣ ، وشرح الأشموني ١ / ١١٠ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٣٧ ، والمقتضب ٢ / ٣٦٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٨.

٢١٣

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩٠)

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي الممتنع. (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) فخضعوا له وتواضعوا فرقّ ف (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قيل : فدلّ بهذا أنهم كانوا صغارا في وقت أخذهم ليوسف عليه‌السلام حتى تركوا أخاه منفردا منه لا يقاومهم فتنبّهوا ف (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) على تخفيف الهمزة الثانية ، ويجوز تحقيقهما وأن يدخل بينهما ألفا ، ويجوز «إنك» على الخبر. (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) الهاء كناية عن الحديث والجملة الخبر ، وكذا الجملة الخبر في قوله جلّ وعزّ : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٩١)

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) الأصل همزتان خفّفت الثانية ولا يجوز تحقيقهما. واسم الفاعل مؤثر ، والمصدر إيثار. ويقال : أثرت التراب إثارة فأنا مثير وهو أيضا على أفعل ثم أعلّ ، والأصل أثير قلبت حركة الياء على الثاء فانقلبت الياء ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وأثرت الحديث على فعلت فأنا آثره. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) من خطىء يخطأ إذا أتى الخطيئة.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) تمّ الكلام ومعنى اليوم الوقت. (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فعل مستقبل فيه معنى الدعاء.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٣)

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) هذا نعت للقميص والقميص مذكّر. فأما قول الشاعر : [الكامل]

٢٤٢ ـ يدعو هوازن والقميص مفاضة

فوق النّطاق تشدّ بالأزرار (١)

فتقديره والقميص درع مفاضة ، (يَأْتِ بَصِيراً) جواب الأمر. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ

__________________

(١) الشاهد لجرير في ديوانه ٨٩٧ ، ولسان العرب (قمص) ، وتهذيب اللغة ٨ / ٣٨٧ ، وتاج العروس (قمص) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٥ / ٧٠.

٢١٤

أَجْمَعِينَ) توكيد في موضع خفض ، ولا يجوز أن يكون نصبا على الحال لأنه تابع لما قبله.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦)

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) «أن» زائدة للتوكيد. (فَارْتَدَّ بَصِيراً) نصب على الحال.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

(آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) نصب بالفعل ، وكذا (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ). (سُجَّداً) على الحال.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) في موضع نصب لأنه نداء مضاف ، والتقدير يا ربّ. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نصب على النعت : وإن شئت كان نداء ثانيا.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢)

(ذلِكَ) ابتداء. (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) خبره. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر ثان. قال أبو إسحاق : ويجوز أن يكون «ذلك» بمعنى الذي و (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبره أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) اسم «ما». (وَلَوْ حَرَصْتَ) أي على هدايتهم. (بِمُؤْمِنِينَ) خبر ما.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ) قال الخليل وسيبويه (١) هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه فصارت بمعنى «كم». قال أبو جعفر : ولا يجوز الوقف عليها إلّا وكأيّ كما

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٧٢.

٢١٥

تقول : أنت كزيد ، ولا يقول أحد من العرب : أنت كزيدن ، بنون ، وقد اعتلّ النحويون لهذا فقالوا : لا يوقف على التنوين لئلّا يشبه النون التي يقع عليها الإعراب إلّا أنه يجوز الرّوم والإشمام في المرفوع ، والرّوم في المخفوض ، والإسكان في المخفوض أجود ، وأكثر ما جاء في كلام العرب وأشعارها «كائن» من رجل قد رأيته على وزن كاع ، وقرأ بهذه اللغة جماعة من أئمة المسلمين منهم أبي بن كعب وعبد الله بن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو جعفر وشيبة والأعرج والأعمش ، وروي عن ابن محيصن وكئن على وزن كعن ، وفعل هذا بهذا الحرف لكثرته في كلامهم ، وقد روي عن الحسن وكاين بغير همز. (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ابتداء وخبر أي لا يتفكرون وبيّن أنّهم لا يتفكّرون بقوله جلّ وعزّ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) إذا قيل لهم : من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله جلّ وعزّ ثم يشركون معه غيره.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) نصب على الحال وأصله المصدر وقال محمد بن يزيد : جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم : وقع أمر بغتة وفجأة. قال أبو جعفر : ومعنى بغتة أصابه من حيث لم يتوقّع.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) ابتداء وخبر. (أَنَا) توكيد. (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف على المضمر. [سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩)

(وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ابتداء (خَيْرٌ) خبره وزعم الفراء (١) أن الدار هي الآخرة أي أضيف الشيء إلى نفسه ، واحتجّ الكسائي بقولهم : صلاة الأولى : واحتجّ الأخفش بقولهم : مسجد الجامع. قال أبو جعفر : إضافة الشيء إلى نفسه محال لأنه إنما يضاف الشيء إلى غيره ليعرف به ، والأجود الصلاة الأولى لأنها أول ما صلّي حين فرضت الصّلوات. وأول ما أظهر فلذلك قيل لها أيضا : ظهر والتقدير ولدار حال الآخرة خير.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠)

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) هذه القراءة البينة عطف على استيأس

__________________

(١) انظر معاني الفرّاء ٢ / ٥٥.

٢١٦

وقرأ بها من الصحابة عائشة رضي الله عنها ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رحمهما‌الله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (١) والتقدير وظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذّبوا ، وقرأ مجاهد (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) (٢) أي وظن قومهم أن الرسل قد كذّبوا لمّا رأوا من تفضّل الله جلّ وعزّ في تأخيره العذاب. وروي عن عاصم (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) بنون واحد و (من) في موضع رفع اسم ما لم يسمّ فاعله.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

(وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان ، ويجوز الرفع بمعنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٤٧ ، ومعاني الفراء ٢ / ٥٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٤٧ ، ومختصر ابن خالويه ٦٥.

٢١٧

(١٣)

شرح إعراب سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربّ يسّر :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ابتداء وخبر ، ويجوز أن يكون التقدير : هذا الذي أنزل إليك تلك آيات الكتاب التي وعدت بها. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ابتداء وخبر ، ويجوز أن يكون الذي عطفا على آيات في موضع رفع ويكون الحق مرفوعا نعتا للذي أو على إضمار مبتدأ. ويجوز أن يكون الذي في موضع خفض عطفا على الكتاب ويكون الحق رفعا على إضمار مبتدأ ، ويجوز خفضه يكون نعتا للذي. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي بعد وضوح الآيات.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) ابتداء وخبر أي ولا بدّ لها من رافع فهذا من الآيات (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يكون «ترونها» في موضع نصب على الحال أي رفع السماوات مرئيّة بغير عمد ، ويجوز أن يكون مستأنفا أي رفع السموات بغير عمد ثم قال أنتم ترونها ، ويجوز أن يكون (تَرَوْنَها) في موضع خفض أي بغير عمد مرئية أي لو كانت بعمد لرأيتموها لكثافة العمد.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣)

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ابتداء وخبر فدلّ على قدرته جلّ وعزّ في الأرض بعد أن دلّ عليها في السماء. (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) حرّكت الياء في موضع النصب لخفة الفتحة ولم تنصرف لأنها قد صارت بمنزلة السالم. (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [لقمان : ١٠] في موضع نصب أي كراهة أن تميد بكم.

٢١٨

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ابتداء وخبر ، ودلّ بهذا على قدرته جلّ وعزّ (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) عطف ، ويجوز و «جنات» على «وجعل فيها جنات» ، ويجوز أن يكون في موضع خفض عطفا على كلّ (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) بالخفض (١) قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (وزرع) بالرفع وما بعده مثله. قال الأصمعي : قلت لأبي عمرو بن العلاء كيف لا تقرأ «وزرع» بالجر؟ فقال : الجنات لا تكون من الزرع. قال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو عمرو رحمه‌الله لا يلزم من قرأ بالجر لأنّ بعده ذكر النخيل وإذا اجتمع مع النخيل الزرع قيل لهما : جنة ، وحكي عن محمد بن يزيد أنه قال «وزرع ونخيل» بالخفض أولى لأنه أقرب إليه واحتجّ بحكاية سيبويه (٢) : خشّنت بصدره وصدر زيد ، وأنّ الجرّ أولى من النصب لقربه منه كذا «وزرع» أولى لقربه من أعناب ، «صنوان» جمع صنو مثل نسوة ونسوان وقنو وقنوان ، وحكى سيبويه قنوان ، وقال الفراء : «صنوان» بالضمّ لغة تميم وقيس والكسر لغة أهل الحجاز ، فإن جمعت صنوا في أقلّ العدد قلت : أصناء والكثيرة صنيّ وصنيّ. وقرأ الحسن وعاصم وحميد وابن محيصن (يُسْقى) بالياء على تذكير النبت أو الجمع ، واحتجّ أبو عمرو للتأنيث بأن بعده (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها) ولم يقل بعضه قال أبو جعفر : وهذا احتجاج حسن ، وقرأ أهل الحرمين وأهل البصرة (وَنُفَضِّلُ) بالنون ، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ويفضّل بالياء قال أبو عبيد ونفضّل على الاستئناف ، ويفضّل على أول السورة. وهذا شيء قد تقدّم وانفصل بقوله عزوجل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد : ٤]. قال أبو جعفر : وهذا احتجاج حسن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في موضع خفض أي عقلاء.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥)

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فيجب أن يعجب من قولهم العقلاء لأنه جهل إذ كان الله جلّ وعزّ قد دلّهم على قدرته وأراهم من آياته ما هو أعظم من إحياء الموتى. و «عجب» مرفوع ينوى فيه التأخير على خبر المبتدأ. (أَإِذا كُنَّا تُراباً) العامل في «إذا» كنا لأنه لا يجوز أن يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها فإذا قرأ «أإنّا» فالعامل «إذا» فعل محذوف

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٥٦ ، وتيسير الداني ١٠٧.

(٢) انظر الكتاب ١ / ١٢٣.

٢١٩

والتقدير أنبعث إذا. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي من سأل عن البعث سؤال منكر له بعد البراهين فقد كفر ونظير هذا (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤] أي جدال منكر. (وَأُولئِكَ) مبتدأ. (والأغلال) مبتدأ ثان. (فِي أَعْناقِهِمْ) في موضع الخبر ، والجملة خبر الأول. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) مبتدأ وخبر.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦)

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قال قتادة : بالعقوبة قبل العافية قال أبو إسحاق : هو من قولهم : اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) قد ذكرنا ما فيه. قال الفراء (١) : بنو تميم يقولون : مثلات بسكون الثاء. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) روي عن ابن عباس أنه قال : ليس في القرآن أرجأ من هذه.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وإنما قالوا هذا بعد ظهور الآيات والبراهين على التعنّت والتّهزّء فقال الله جلّ وعزّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي تنذرهم العذاب لكفرهم بعد البراهين (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه ، وفيه تقديران في العربية : يكون هاد معطوفا على منذر ، وهذا من أحسن ما قيل فيه لأن المنذر هو الهادي إلى الله جلّ وعزّ ، والتقدير : إنما أنت منذر هاد ، والتقدير الآخر أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والتقدير : ولكل قوم نبيّ هاد.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨)

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ابتداء وخبر ، وكذا (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩)

(عالِمُ الْغَيْبِ) نعت ، وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وإن شئت بالابتداء وما بعده خبره ويجوز في الإعراب النصب على المدح والخفض على البدل و (الْكَبِيرُ) الملك المقتدر على كل شيء شيء و (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء ، وحذفت الياء لأنه رأس آية.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٥٩.

٢٢٠