إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩)

وقرأ يحيى بن وثاب لا يجرمنّكم بضم الياء (شِقاقِي) في موضع رفع (أَنْ يُصِيبَكُمْ) في موضع نصب. (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قال الكسائي أي دورهم في دوركم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢)

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) يقال فقه يفقه إذا فهم فقها وفقها ، وحكى الكسائي فقهانا وفقه فقها إذا صار فقيها. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) على الحال. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) رفع بالابتداء ، وكذا (أَرَهْطِي) والمعنى أرهطي في قلوبكم أعظم من الله عزوجل وهو يملككم. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) مفعولان.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣)

(مَنْ) في موضع نصب مثل (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠](وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف عليها ، وأجاز الفراء (١) أن يكون موضعهما رفعا بجعلهما استفهاما. ويدلّ على القول الأول أنّ من الثانية موصولة ومحال أن يوصل بالاستفهام ، وقد زعم الفراء أنهم إنما جاءوا بهو في (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) لأنهم لا يقولون : من قائم إنما يقولون : من قام ومن يقوم ومن القائم ، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل. قال أبو جعفر : ويدلّ على خلاف هذا قوله : [الخفيف]

٢٢٠ ـ من رسول إلى الثّريّا بأنّي

ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (٢)

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

وحكي أن أبا عبد الرحمن السلميّ قرأ (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٣) بضم العين. قال أبو جعفر : المعروف في اللغة أنه يقال : بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٦.

(٢) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة ص ٤٣٠.

(٣) وهي قراءة أبي حيوة أيضا ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٥٧ ، ومختصر ابن خالويه ٦١.

١٨١

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩)

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يقال : قدمهم يقدمهم قدما وقدوما إذا تقدّمهم (وَبِئْسَ الْوِرْدُ) رفع ببئس (الْمَوْرُودُ) رفع بالابتداء وإن شئت على إضمار مبتدأ ، وكذا بئس (الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) حكى الكسائي وأبو عبيدة (١) : رفدته أرفده رفدا أي أعنته وأعطيته ، واسم العطيّة الرفد.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠)

(ذلِكَ) رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك وإن شئت بالابتداء ، وكذا (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي منها موجود مبني ومنها مخسوف به وذاهب. قال الأخفش سعيد : حصيد أي محصود وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ، قال : ويجوز فيمن يعقل حصداء مثل قبيل وقبلاء.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١)

(وَما ظَلَمْناهُمْ) أصل الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه ، (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وحكى سيبويه أنه يقال : ظلم إياه. (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) مفعولان وهو مجاز لمّا كانت عبادتهم إياها قد خسرتهم ثواب الآخرة ، قيل : ما زادوهم غير تخسير.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) ابتداء وخبر ، وقرأ عاصم الجحدريّ وكذلك أخذ ربّك إذ أخذ القرى (٢) فإذ لما مضى أي حين أخذ القرى ، وإذا للمستقبل أي متى أخذ القرى (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣)

(ذلِكَ يَوْمٌ) ابتداء وخبر (مَجْمُوعٌ) من نعته الناس اسم ما لم يسمّ فاعله ولهذا لم يقل : مجموعون ، ويجوز أن يكون الناس رفعا بالابتداء ، ومجموع له خبره ولم يقل : مجموعون لأن «له» يقوم مقام الفاعل.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥)

يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه (٣) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والكسائي

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٩٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٠.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦١.

١٨٢

بإثبات الياء في الإدراج وحذفها في الوقف ، وحكي أن أبيّا وابن مسعود رضي الله عنهما قرأ يوم يأتي (١) بإثبات الياء في الوقف والوصل ، وقرأ الأعمش وحمزة (يَوْمَ يَأْتِ) (٢) بغير ياء في الوقف والوصل. قال أبو جعفر : الوجه في هذا أن لا يوقف عليه وأن يوصل بالياء لأن جماعة من النحويين قالوا لا وجه لحذف الياء ، ولا يجزم الشيء بغير جازم فأما الوقف بغير ياء ففيه قول الكسائي قال : لأن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذف الياء كما يحذف الضمة ، على أنّ أبا عبيد قد احتجّ بحذف الياء في الوقف والوصل بحجتين : إحداهما أنه زعم أنه رآه في الإمام الذي يقال له مصحف عثمان رضي الله عنه بغير ياء ، والحجة الأخرى أنه حكى أنها لغة هذيل يقولون : ما أدر. قال أبو جعفر : أما حجته بمصحف عثمان رضي الله عنه فشيء يرده عليه أكثر العلماء. قال مالك بن أنس رحمه‌الله : سألت عن مصحف عثمان رضي الله عنه ، فقيل لي قد ذهب وأما الحجة بقولهم : ما أدر فلا حجّة فيه لأن هذا الحرف قد حكاه النحويون القدماء وذكروا علته ، وأنه لا يقاس عليه والعلّة فيه عند سيبويه ، وإن كان سيبويه حكى : لا أدري ، كثرة الاستعمال ، ومعنى كثرة الاستعمال أنه نفي لكل ما جهل ، وأنشد الفراء في حذف الياء : [الرجز]

٢٢١ ـ كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما (٣)

(لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) والأصل تتكلّم حذفت إحدى التاءين تخفيفا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١٠٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) ابتداء (فَفِي النَّارِ) في موضع الخبر ، وكذا (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال أبو العالية : الزفير من الصدر والشهيق من الحلق. قال أبو إسحاق : الزفير من شديد الأنين وقبيحه ، والشهيق من الأنين المرتفع جدا. قال : وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار في النهيق.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

(خالِدِينَ فِيها) نصب على الحال (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) في موضع نصب أي دوام السموات والأرض والتقدير وقت ذلك ، (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في موضع نصب ، لأنه استثناء ليس من الأول وقد ذكرنا معناه.

__________________

(١) و (٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٢.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٧ ، والأضداد لابن الأنباري ٦٤.

١٨٣

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بضم السين ، وقال أبو عمرو : والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل : أشقوا قال أبو جعفر : رأيت علي بن سليمان يتعجّب من قراءة الكسائي (سُعِدُوا) مع علمه بالعربية إذ كان هذا لحنا لا يجوز لأنه إنما يقال : سعد فلان وأسعده الله جلّ وعزّ فأسعد مثل أمرض وإنما احتجّ الكسائي بقولهم : مسعود ولا حجّة له فيه لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم يحذف فيه ويسمّى به واحتجّ بقول العرب : فغرفاه وفغرفوه ، وكذا شحاه (١) وسار الدابة وسرته ونزحت البئر ونزحتها وجبر العظم وجبرته ، وذا لا يقاس عليه إنما ينطق منه بما نطقت به العرب. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : لو قال لنا قائل : كيف تنطقون بالمتعدّي من فغرفوه؟ ما قلنا إلّا أفغرت فاه ، وهذا الذي قال حسن ويكون فغرفاه ليس بمتعدّي ذلك ولكنها لغة على حدة. (عَطاءً) اسم للمصدر (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) من نعته يقال : جذّه وحذّه كما قال : [الطويل]

٢٢٢ ـ تجذّ السّلوقيّ المضاعف نسجه

ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب (٢)

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩)

(فَلا تَكُ) في موضع جزم بالنهي وحذف النون لكثرة الاستعمال. وأحسن ما قيل في معناه : قل لكل من شكّ (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) إنّ الله جلّ وعزّ ما أمرهم به وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠)

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والكلمة أنّ الله جلّ وعزّ حكم أن يؤخّرهم إلى يوم القيامة لما علم من الصلاح في ذلك. ولو لا ذلك لقضي بينهم

__________________

(١) شحا يشحو الرجل : فتح فاه.

(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٤٦ «تقدّ السلوقيّ .. وتوقد» ، ولسان العرب (حجب) و (صفح) و (سلق) ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢٨ ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٨ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٨ ، وكتاب العين ٥ / ٧٧ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٥٧ ، وجمهرة اللغة ١٧٤ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٣ / ١٢٢ ، وجمهرة اللغة ٨٥١ ، وتاج العروس (حبب) و (صفح) و (سلق).

١٨٤

بأن يثاب المؤمن ويعاقب الكافر. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) من نعت شكّ.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١)

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) فيها ثماني قراءات (١) خمس منها موافقة للسواد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بتشديد «إنّ» وتخفيف «لما» ، وقرأ نافع بتخفيفهما جميعا. وقرأ أبو جعفر وشيبة وحمزة وهو المعروف من قراءة الأعمش بتشديدهما جميعا وقرأ عاصم بتخفيف «إن» وتشديد «لمّا» ، وقرأ الزهري (٢) بتشديد «لمّا» والتنوين ، فهذه خمس قراءات ، وروي عن الأعمش (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا) بتخفيف «إن» ورفع «كلّ» وتشديد «لمّا». قال أبو حاتم : وفي حرف أبيّ وإن كلّ إلّا ليوفّينّ ربّك أعمالهم. وفي حرف ابن مسعود وإن كلّ إلّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم. قال أبو جعفر : القراءة الأولى أبينها ينصب «كلّا» بأنّ اللام للتوكيد وما صلة والخبر في ليوفّينّهم ، والتقدير وإنّ كلّا ليوفّينّهم ، وقراءة نافع على هذا التقدير إلّا أنه خفّف «إن» وأعملها عمل الثقيلة. وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه وهو عندهما كما يحذف من الفعل ويعمل كما قال : [الطويل]

٢٢٣ ـ كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم (٣)

وأنكر الكسائي أن تخفّف «إن» وتعمل وقال : ما أدري على أي شيء قرأ وإن كلّا ، وقال الفراء : نصب كلّا بقوله : لنوفّينّهم. وهذا من كثير الغلط ، لا يجوز عند أحد : زيدا لأضربنّه ، والقراءة الثالثة بتشديدهما جميعا عند أكثر النحويين لحن ، حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز ، ولا يقال : إن زيدا إلا لأضربنّه ، ولا لمّا لأضربنه ، وقال الكسائي : الله جلّ وعزّ أعلم بهذه القراءة ما أعرف لها وجها. قال أبو جعفر : وللنحويين بعد هذا أربعة أقوال : قال الفراء (٤) : الأصل وإنّ كلّا لممّا فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن قال أبو إسحاق هذا خطأ لأنه يحذف النون من «من»

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٢٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٦.

(٣) الشاهد لابن صريم اليشكري في الكتاب ٢ / ١٣٤ ، ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات ١٥٧ ، والدرر ٢ / ٢٠٠ ، وشرح التصريح ١ / ٢٣٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٨٤ ، ولزيد بن أرقم في الإنصاف ١ / ٢٠٢ ، ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد ٣٩٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٨٣ ، وله أو لعلباء بن أرقم في المقاصد النحوية ٢ / ٣٠١ ، ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني ١ / ١١١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٧٧ ، وجواهر الأدب ١٩٧ ، والجنى الداني ص ٢٢٢ ، ورصف المباني ١١٧ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٦٨٣ ، وسمط اللآلي ص ٧٢٩ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٤٧ ، وشرح عمدة الحافظ ٢٤١ ، وشرح قطر الندى ١٥٧ ، والمحتسب ١ / ٣٠٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٣.

(٤) انظر معاني الفراء ٢ / ٩.

١٨٥

فيبقى حرف واحد. وقال أبو عثمان المازني : الأصل وإنّ كلّا لما بتخفيف ما ثم ثقلت. قال أبو إسحاق: هذا خطأ إنما يخفّف المثقّل ولا يثقّل المخفّف ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام : الأصل (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) بالتنوين من لممته لمّا أي جمعته ثم بنى منه فعلى كما قريء (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤] بغير تنوين وتنوين. قال أبو إسحاق : القول الذي لا يجوز عندي غيره أن «إن» تكون مخففة من الثقيلة وتكون بمعنى «ما» مثل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] وكذا أيضا تشدّد على أصلها وتكون بمعنى «ما» ولمّا بمعنى «إلّا» حكى ذلك الخليل وسيبويه (١). قال أبو جعفر : والقراءات الثلاث المخالفات للسواد تكون فيها «إن» بمعنى «ما» لا غير وتكون على التفسير لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلّا على هذه الجهة.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣)

قال أبو عمرو بن العلاء (وَلا تَرْكَنُوا) لغة أهل الحجاز ، وقال الفراء : لغة تميم وقيس ركن يركن وروي عن قتادة أنه قرأ (وَلا تَرْكَنُوا) بضم الكاف. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (٢). وأنكر هذا أبو عبيد قال : لأنه ليس فيه حرف من حروف الحلق. قال أبو جعفر : لا معنى لقوله : ليس فيه حرف من حروف الحلق ؛ لأن حروف الحلق لا تجتلب الكسرة ، وهذه اللغة ذكرها الخليل وسيبويه (٣) عن غير أهل الحجاز إذا كان الفعل على فعل كسروا أول مستقبله ليدلّوا على الكسرة التي في ماضيه ، وكان يجب أن يكسر ثانيه ليتفق مع الماضي فلم يجز ذلك للزوم الثاني الإسكان فكسروا الأول ، فقالوا يحذر وهي مشهورة في بني فزارة وهذيل ، كما قال : [الكامل]

٢٢٤ ـ وإخال إنّي لاحق مستتبع (٤)

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ١٤٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٦٩ ، والمحتسب ١ / ٣٣٠.

(٣) انظر الكتاب ٤ / ٢٢٧.

(٤) الشاهد لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص ٤٤٨ ، والدرر ٢ / ٢٥٩ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٤ ، والمنصف ١ / ٣٢٢ ، ولسان العرب (نصب) وللهذلي في مغني اللبيب : ١ / ٢٣١ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٦٠٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٣ ، وصدره :

«فلبثت بعدهم بعيش ناصب».

١٨٦

وكذا إذا كان في ماضيه ألف وصل مكسورة كسروا أول المستقبل نحو نستعين قال سيبويه : وكذا ما كان يجب أن تكون فيه ألف وصل مثل تفعّل وتفاعل.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤)

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) نصب على الظرف ، وحذفت النون للإضافة ، وكسرت الياء لالتقاء الساكنين ، ولم يحذفها لأن ما قبلها مفتوح (وزلفا) عطف. وقرأ أبو جعفر (وَزُلَفاً) بضمّ الزاي واللام وهو جمع زليف لأنه قد نطق بزليف ويجوز أن يكون واحدا ، وقرأ ابن محيصن (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) بضم الزاي وإسكان اللام والتنوين وهو مسكن من زلف لأزلف الفتحة خفيفة. (إِنَّ الْحَسَناتِ) قد قيل : يعني به الصلوات ومما لا تنازع فيه أن التوبة تذهب السيئات. وإن اجتناب الكبائر يذهب السيئات الصغائر.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

(وَاصْبِرْ) أي على أذاهم.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦)

(فَلَوْ لا) بمعنى هلّا ، وهذا تستعمله العرب على التعجب من الشيء أي فهلّا كان من القرون من قبلكم قوم. (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) لما أعطاهم الله جلّ وعزّ من العقول وأراهم من الآيات. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء ليس من الأول. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي من الاشتغال بالمال واللذات.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨)

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) خبر يزال.

(إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) استثناء. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) معنى تمّت ثبتت ، ذلك كما أخبر به.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

(وَكُلًّا) نصب بنقص. (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي على الصبر على أداء الرسالة

١٨٧

و (ما) بدل من كل ، وقال الأخفش ، «وكلّا» نصب على الحال فقدّم الحال كما تقول : كلّا ضربت القوم. (وَمَوْعِظَةٌ) أي ما يتّعظ به من إهلاك الأمم. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يتذكرون ما ترك بمن هلك فيتوفّون.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

قال الأخفش : وما ربك بغافل عما يعملون إذا لم يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم قال : وقال بعضهم : (تَعْمَلُونَ) (١) لأنه خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم أو قال قل لهم : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

__________________

(١) وهي قراءة حفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبي جعفر والجحدري ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٧٥.

١٨٨

(١٢)

شرح إعراب سورة يوسف عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (١)

التقدير : هذا ، (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) على الابتداء والخبر.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب قرآن على الحال أي مجموعا ، ويجوز أن يكون توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا ، (عَرَبِيًّا) على الحال ومعنى أعرب بيّن ومنه «الثّيّب تعرب عن نفسها» (١). (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لتكونوا على رجاء من هذا ، وبعض العرب يأتي بأن مع لعل تشبيها بعسى واللام في لعلّ زائدة للتوكيد كما قال : [الرجز]

٢٢٥ ـ يا أبتا علّك أو عساكا (٢)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

(نَحْنُ) ابتداء. (نَقُصُّ عَلَيْكَ) في موضع الخبر. (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) بمعنى الصدر والتقدير قصصا أحسن القصص.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في سننه ـ النكاح ـ الحديث رقم ١٨٧٢.

(٢) الرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ١٨١ ، والكتاب ٢ / ٣٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٦٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٣٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٩٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٥٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٦ ، والجنى الداني ٤٤٦ ، والخصائص ٢ / ٩٦ ، والدرر ٢ / ١٥٩ ، ورصف المباني ٢٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٤٠٦ ، وشرح الأشموني ١ / ١٣٣ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٢ ، واللامات ص ١٣٥ ، ولسان العرب (روي) وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١٣٠ ، ومغني اللبيب ١ / ١٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٢.

١٨٩

(بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال الأخفش : أي بوحينا إليك ، (هذَا الْقُرْآنَ) نصب بأوحينا ، وأجاز الفراء (١) الخفض قال : على التكرير وهو عند البصريين على البدل من «ما» وأجاز أبو إسحاق الرفع على إضمار مبتدأ. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي من الغافلين مما عرّفناكه.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

(إِذْ) في موضع نصب على الظرف. (قالَ يُوسُفُ) لم ينصرف لأنه عجميّ ، وقرأ طلحة بن مصرّف إذ قال يؤسف بالهمز وكسر السين ، وحكى أبو زيد «يوسف» بالهمز وفتح السين. (لِأَبِيهِ) خفض باللام وعلامة خفضه الياء والمحذوف منه واو يدلّ على ذلك أبوان. (يا أَبَتِ) (٢) بكسر التاء قراءة عاصم ونافع وحمزة والكسائي والأعمش ، وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر (يا أَبَتِ) بفتح التاء ، وأجاز الفراء «يا أبت» بضم التاء. قال أبو جعفر : إذا قلت يا أبت بكسر التاء فالتاء عند سيبويه من ياء الإضافة ولا يجوز على قوله الوقف إلّا بالهاء ، وله على قوله دلائل ، منها أن قولك : «يا أبت» يؤدي عن معنى قولك : يا أبي ، وأنه لا يقال : يا ابة إلّا في المعرفة ، ولا يقال : جاءني أبة لا يستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ولا يقال : يا أبتي لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما ، وزعم الفراء أنه إذا قال : يا أبت فكسر وقف على التاء لا غير لأن الياء في النية ، وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ ، والحق ما قال ، كيف تكون في النية وليس يقال : يا أبتا فأما قولنا بكسر التاء ولم نقل بكسر الهاء فلأن الكسر إنما يقع في الإدراج ولو قلت : مررت بامرأة لقلت : علامة الخفض كسرة التاء ولا يقول كسرة الهاء إلا من لا يدري. ويا أبت بفتح التاء مشكل في النحو ، وفيه أقوال : فمذهب سيبويه (٣) أنهم شبهوا هذه الهاء التي هي بدل من الياء بالهاء التي هي علامة التأنيث فقالوا يا أبت كما قال : [الطويل]

٢٢٦ ـ كليني لهمّ يا أميمة ناصب (٤)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٣ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٢١٥.

(٤) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٤٠ ، والكتاب ٢ / ٢١١ ، والأزهيّة ٢٣٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢١ ، والدرر ٣ / ٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٥ ، وكتاب اللامات ١٠٢ ، ولسان العرب (كوكب) و (نصب) و (أسس) و (شبع) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٣ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ١٢١ ، وجمهرة اللغة ص ٣٥٠ ، ورصف المباني ١٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠٧ ، وعجزه :

«وليل أقاسيه بطيء الكواكب»

١٩٠

وهذا أحد قولي (١) الفراء ، وله قول آخر وهو قول قطرب وأبي عبيدة وأبي حاتم يكون الأصل يا أبتاه ثم حذف الألف ، ويكون الوقوف عند الفراء على قول بالتاء لا غير ، وعلى القول الذي وافق فيه سيبويه بالهاء عندهما جميعا لا غير وهذا القول خطأ لأن هذا ليس موضع ندبة والألف خفيفة لا تحذف ، وقال قطرب أيضا في يا أبت بالفتح يكون الأصل يا أبتا ثم حذف التنوين ، وقال أبو جعفر : وهذا الذي لا يجوز لأن التنوين لا يحذف لغير علة وأيضا فإنما يدخل التنوين في النكرة ، ولا يقال في النكرة يا أبة ، وفي الفتح قول رابع كأنه أحسنها : يكون الأصل الكسر ثم أبدل من الكسرة فتحة كما تبدل من الياء ألف فيقال في يا غلامي أقبل : يا غلاما أقبل ، وزعم أبو إسحاق أنه لا يجوز يا أبة بالضم. قال أبو جعفر : ذلك عندي لا يمتنع كما أجاز سيبويه الفتح تشبيها بهاء التأنيث كما يجوز الضمّ تشبيها بها أيضا. (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) ليس بين النحويين اختلاف لأنه يقال : جاءني أحد عشر ومررت بأحد عشر ، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما ، فذهب الفراء أنهم لما ضموا أحد الاسمين إلى الآخر كرهوا أن يعربوا الأول فيخرج عن باب العدد وكرهوا أن يعربوا الثاني فيشبه بعلبكّ فحركوهما حركة واحدة كما كانا قبل البناء ، وقال الكسائي : النصب مغيض النحو كلما صرف شيء عن جهته نصب وقال البصريون : النصب أخفّ الحركات فلمّا ضمّ أحد الاسمين إلى الآخر حرّكا بأخفّ الحركات ، وقال بعضهم : لمّا حذفت الواو وكانت مفتوحة حرّكوا الاسمين بحركتها ولا اختلاف بين البصريين أن تعريف هذا بإدخال الألف واللام في أوله فتقول : مضى الأحد عشر رجلا لا غير ، وأجاز الكسائي والفراء : مضى الأحد العشر. قال الفراء (٢) : لتوهمهم انفصال أحدهما من الآخر ، وأجاز إدخال الألف واللام في المميز. وذا محال عند البصريين ، لأن المميز واحد يدلّ على جمع فإذا كان معروفا لم يكن فيه هذا المعنى. قال الفراء : فإن أضفت إلى نفسك أعربت الأول فقلت : هذه خمسة عشري ، ومررت بخمسة عشري. قال لما لم يجز أن تضيفه إلى الأول لأن بينهما عشرا أعربت الأول ، ولا يجوز المميّز هاهنا لاختلاف إعرابيهما. قال أبو جعفر : هذا يبطل كلّ ما مرّ ، وسمعت محمد بن الوليد يقول : سمعت أبا العباس يقول : ربّما قرأ عليّ إسماعيل بن إسحاق الشّيء من كلام الفراء فاستحسنه فلا ينتهي إلى آخره حتّى يفسده. قال سيبويه (٣) : واعلم أن العرب تجعل خمسة عشر وما أشبهها في الألف واللام والإضافة على حال ، والعلّة عند أصحابه في هذا إن الجهة التي بنيت من أجلها موجودة مع الألف واللام والإضافة ، وقد حكى سيبويه : هذه خمسة عشرك برفع الثاني ، وزعم الفراء أنه يقال : ما رأيت خمسة عشر قطّ خيرا منها بخفض عشر وتنوينها. قال : ولا

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٣.

(٣) انظر الكتاب ٣ / ٣٣١.

١٩١

يدخل المميز هاهنا. وقال أبو جعفر : وذا لا يجوز عند البصريين أيضا ، وقرأ أبو جعفر والحسن (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ) (١) بإسكان العين ، فزعم الأخفش والفراء أنهم استثقلوا الحركات فحذفوا لما كثرت. قال أبو جعفر : لم يذكر هذا سيبويه بل يجب على نصّ كلامه أن لا يجوز لأنه قال (٢) : أحد عشر مثل أحد جمل ولا يجوز عنده حذف الفتحة لخفتها. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف عليه. (رَأَيْتُهُمْ) توكيد ، وقال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فجاء مذكّرا ، فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لمّا خبّر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل جعل فيهما يكون لما يعقل.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

(يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ) نهي وظهر التضعيف لأنه قد سكن الثاني ويجوز الإدغام في غير القرآن والفتح والكسر والضم. (رُؤْياكَ) بالهمز والجمع رؤي. قال أبو حاتم : قال يعقوب قال أبو عمرو بن العلاء رحمه‌الله أهل الحجاز لا يهمزون «رؤيا» وبكر وتميم تهمزها. قال أبو حاتم : ويقال (٣) : ريا بقلب الواو ياء والراء مضمومة ويقال : ريّا بكسر الراء. (فَيَكِيدُوا) جواب النبي بالفاء وقد ذكرناه. (كَيْداً) مصدر (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) اسم «إنّ» وخبرها وجمع عدوّ اعداء ، وكان سبيله أن يجمع على فعول فاستثقل ذلك فيه.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) الكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وكذلك الكاف في (كَما أَتَمَّها) ، و (ما) كافة.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٧)

قرأ أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الكوفة (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) وقرأ أهل مكة آية للسائلين (٤) على واحدة ، واختار أبي عبيد «آيات» قال : لأنها عبر كثيرة. قال أبو جعفر : «آية» هاهنا قراءة حسنة أي لقد كان في الذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبّروا به لأنهم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة فقالوا : خبّرنا

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٠ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٤ ، ومختصر ابن خالويه ٦٢.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٣٧.

(٣) انظر معاني الفراء ٢ / ٣٥.

(٤) انظر تيسير الداني ١٠٤.

١٩٢

عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتّى عمي ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ولا ممن يعرف خبر الأنبياء وإنما وجّه اليهود إليه من المدينة يسألونه عن هذا فأنزل الله عزوجل سورة يوسف جملة واحدة فيها كل ما في التوراة من خبره وزيادة فكان ذلك آية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة إحياء عيسىصلى‌الله‌عليه‌وسلم الميّت.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨)

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ) رفع بالابتداء وهذه لام التوكيد. (وَأَخُوهُ) عطف عليه. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا) خبره ، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) (٩)

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) نصب «أرضا» على حذف «في» لا على الظرف لأنها غير مبهمة ، وأنشد سيبويه فيما حذف منه في : [الكامل]

٢٢٧ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

إلّا أنه في الآية حسن كثير لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف فإذا حذفت الحرف تعدّى الفعل إلى الآخر. (يَخْلُ لَكُمْ) جزم لأنه جواب الأمر فلذلك حذفت منه الواو. (وَتَكُونُوا) عطف عليه.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة (فِي غَيابَتِ الْجُبِ) (٢) وقرأ أهل المدينة في غيابات الجبّ (٣) وأجاز أبو عبيد التوحيد لأنه على موضع واحد ألقوه فيه فأنكر الجمع لهذا. قال أبو جعفر : هذا تضييق في اللغة ، وغيابات على الجمع ، ويجوز من جهتين : حكى سيبويه : سير عليه عشيّانات وأصيلانات ، يريد عشيّة وأصيلا فجعل كل وقت منها عشيّة وأصيلا ، وكذا جعل كلّ موضع ما يغيب غيابة ثم جمع ، والوجه الآخر أن يكون في الجبّ غيابات جماعة. ويقال : غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا كما قال : [الطويل]

٢٢٨ ـ ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث

إلى ذا كما ما غيّبتني غيابيا (٤)

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٤٥).

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٤.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥.

(٤) الشاهد لابن أحمر في ديوانه ص ١٧١ ، والأزهيّة ١١٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٨٣ ، والخصائص ٢ / ٤٦٠ ، والمحتسب ٢ / ٢٢٧.

١٩٣

(يَلْتَقِطْهُ) جواب الأمر ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة تلتقطه (١) بعض السيارة ، وهذا محمول على المعنى لأن بعض السيارة سيارة وحكى سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد : [الطويل]

٢٢٩ ـ وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢)

(إِنْ كُنْتُمْ) في موضع جزم بالشرط. (فاعِلِينَ) خبر كنتم.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (١١)

قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) بالإدغام بغير إشمام ، وقرأ طلحة بن مصرف ما لك لا تأمننا (٣) بنونين ظاهرتين وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين ، ويروى عن الأعمش ما لك لا تيمنّا (٤) بكسر التاء ، وقرأ سائر الناس فيما علمت بالإدغام والإشمام. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالإدغام وترك الإشمام هي القياس ؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا ، وقال أبو عبيدة : لا بد من الإشمام. وهذا القول مردود عند النحويين : وقال أبو حاتم : لو كان إدغاما صحيحا ما أشمّ شيئا ، وهذا أيضا عند النحويين غلط لأن الإشمام إنما هو بعد الإدغام إنما يدلّ به على أن الفعل كان مرفوعا وتأمننّا على الأصل ، «وتيمنّا» لغة تميم. يقولون : أنت تضرب ، وقد ذكرناه (٥).

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) منصوب على الظرف والأصل عند سيبويه (٦) «غدو» وقد نطق به. قال النضر بن شميل : ما بين الفجر وصلاة الصبح يقال له غدوة ، وكذا بكرة نرتع ونلعب (٧) بالنون وإسكان العين قراءة أهل البصرة ، والمعروف من قراءة أهل مكة نرتع بالنون وكسر العين ، وقراءة أهل الكوفة (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء وإسكان العين ، وقراءة أهل المدينة يرتع ويلعب بالياء وكسر العين. قال أبو جعفر : القراءة الأولى من قول العرب : رتع الإنسان والبعير إذا أكلا كيف شاءا إلّا أن معمرا روى عن قتادة قال : يرتع يسعى. قال أبو جعفر : أخذه من قوله : «إنا ذهبنا نستبق» لأن المعنى نستبق في العدو إلى غاية بعينها ، وكذا «يرتع» بإسكان العين إلّا أنه ليوسف وحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونرتع بكسر العين من الرّعي وهو الكلأ ، والرعي المصدر ، وقال القتبيّ : نرتع

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥.

(٢) و (٣) و (٤) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٨.

(٥) مرّ في إعراب الآية ٥ ـ الفاتحة.

(٦) انظر الكتاب ١ / ٩٢.

(٧) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٨٦.

١٩٤

نتحارس ونتحافظ من قولهم : رعاك الله أي حفظك. قال أبو جعفر : وعلامة الجزم في نرتع ويرتع الضمّة ، وهو مجزوم لأنه جواب أرسله ، وعلامة الجزم في نرتع ويرتع حذف الياء (وَيَلْعَبْ) عطف عليه. (وَإِنَّا لَهُ) تبيين. (لَحافِظُونَ) خبر «إنّ».

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) (١٣)

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) اللغة الفصيحة ، حكى ذلك يعقوب وغيره (أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) في موضع رفع أي ذهابكم به (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) من تذاءبت الريح إذا جاءت من كلّ وجه كذا قال أحمد بن يحيى ، قال : و «الذئب» مهموز لأنه يجيء من كلّ وجه ، وروى ورش عن نافع «الذيب» (١) بغير همز لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧)

(عِشاءً) ظرف (يَبْكُونَ) في موضع الحال. قال محمد بن يزيد (وَلَوْ كُنَّا) أي وإن كنّا.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) مجاز أي ذي كذب مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال أبو إسحاق : أي فشأني أو الّذي أعتقده صبر جميل. قال قطرب : أي فصبري صبر جميل. قال أبو حاتم : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف فصبرا جميلا (٢) قال : وكذا الأشهب العقيلي ، قال : وكذا في مصحف أنس وأبي صالح (٣). قال محمد بن يزيد : «فصبر جميل» بالرفع أولى من النصب ؛ لأن المعنى : فالذي عندي صبر جميل ، قال : وإنما النصب الاختيار في الأمر كما قال جلّ وعزّ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج : ٥]. قال أبو جعفر : والنصب على المصدر (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) ابتداء وخبر. (عَلى ما تَصِفُونَ) مجاز والمعنى ـ والله أعلم ـ والله المستعان على احتمال ما تصفون.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٨٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٩٠ ، ومختصر ابن خالويه ٦٣.

(٣) أبو صالح ، محمد بن عمير بن الربيع الهمذاني الكوفي ، عارف بحروف حمزة ، انظر غاية النهاية ٢ / ٢٢٢.

١٩٥

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٩)

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) فأنّث على اللفظ (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) فذكّر على المعنى ولو كان فأرسلت واردها لكان على اللفظ. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) من ذوات الواو إلّا أنه رجع إلى الياء لما جاوز ثلاثة أحرف اتباعا للمستقبل هذا قول الخليل وسيبويه ، وقال الكوفيون لمّا ثقل ردّ إلى الياء لأنها أخفّ من الواو. وجمع دلو في أقلّ العدد أدل فإذا كثرت قلت : دليّ ودليّ ، فقلبت الواو ياء لأن الجمع بابه التغيير وليفرّق بين الواحد والجميع ، ودلاء قلبت الواو ألفا ثم أبدلت منها همزة لئلا يجتمع ساكنان. قال يا بشراي هذا غلام (١) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة إلا أن ابن أبي إسحاق قرأ يا بشريّ هذا غلام (٢) فقلبت الألف ياء لأن هذا الياء يكسر ما قبلها فلمّا لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضا ، وقرأ أهل الكوفة (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) في معناه قولان : أحدهما أنه اسم الغلام ، والآخر أن المعنى يا أيتها البشرى. قال قتادة : لمّا أدلي الدلو تشبّث به يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أخرجه بشّرهم فقال : يا بشرى هذا غلام. قال أبو جعفر وهذا القول أولى لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلّا يسيرا وإنما يأتي بالكناية كما قال جلّ وعزّ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) [الفرقان : ٢٧] وهو عقبة بن أبي معيط وبعده (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٧] وهو أميّة بن خلف فجاء على الكناية. (وَأَسَرُّوهُ) الهاء كناية عن يوسف ، فأما الواو فكناية عن أخوته ، وقيل عن التجار الذين اشتروه ، (بِضاعَةً) نصب على الحال قال أبو إسحاق : المعنى واشتروه جاعليه بضاعة ، وقال غيره : بضاعة بمعنى مبضوعا.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠)

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) من نعت ثمن أي ذي بخس أي قليل. (دَراهِمَ) على البدل ويقال : دراهيم على أنه جمع دراهم ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مدّ الكسرة فصارت ياء وليس هذا مثل مدّ المقصور لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره ، وأنشد النحويون : [البسيط]

٢٣٠ ـ تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (٣)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٩١ ، ومعاني الفراء ٢ / ٣٩.

(٢) وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري ، انظر البحر المحيط ٢٩١.

(٣) الشاهد للفرزدق في الكتاب ١ / ٥٧ ، والإنصاف ١ / ٢٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٢٤ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٧١ ، ولسان العرب (صرف) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٢١ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في أسرار العربية ٤٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧٦ ، ـ

١٩٦

(مَعْدُودَةٍ) نعت. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) قال أبو إسحاق : ليست «فيه» داخلة في الصلة ولكنها تبيين أي زهادتهم فيه ، وحكى سيبويه والكسائي زهدت فيه وزهدت بكسر الهاء وفتحها.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)

(وَكَذلِكَ) الكاف في موضع نصب. (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي بأن عطفنا قلب الملك الذي اشتراه عليه حتى تمكّن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) نصب بلام كي ، ولا بد من أن يتعلق بفعل فالتقدير : ولنعلمه من تأويل الأحاديث مكنّاه ، والمعنى : مكناه لنوحي إليه بكلامنا ونعلّمه تأويله وتفسيره وتأويل الرؤيا. وتم الكلام. ثم قال الله عزوجل : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي يفعل ما يشاء في خلقه لا يقدر أحد على منعه ولا غلبته ، وليس هذا للمخلوقين فهذا معنى غالب على أمره.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) هو جمع عند سيبويه (١) واحده شدّة ، وقال الكسائي : واحده شدّ كما قال : [الكامل]

٢٣٠ م ـ عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (٢)

وزعم أبو عبيدة (٣) أنه لا واحد له من لفظه عند العرب. ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد ، وقال مجاهد وقتادة الأشدّ ثلاث وثلاثون سنة ، وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس الأشدّ بلوغ الحلم. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) قيل : معناه جعلناه المستولي على الحكم فكان يحكم في سلطان الملك ، وآتيناه علما بالحكم.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) وهي امرأة الملك. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) غلّق

__________________

ـ وتخليص الشواهد ١٦٩ ، وجمهرة اللغة ٧٤١ ، ورصف المباني ١٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٧٦٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣٧ ، ولسان العرب (قطرب) و (سحج) و (نقد) و (صنع) ، والمقتضب ٢ / ٢٥٨ ، والممتع في التصريف ١ / ٢٠٥.

(١) انظر الكتاب ٤ / ٦٠.

(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ص ٢١٣ ، ولسان العرب (شدد) ، وتاج العروس (شدد).

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٣٠٥.

١٩٧

للتكثير ، ولا يقال : غلق الباب ، وأغلق يقع للكثير والقليل ، كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاءرحمه‌الله : [البسيط]

٢٣١ ـ ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها

حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار (١)

(وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فيها سبع قراءات (٢) : فمن أجلّ ما قيل فيها وأصحّه إسنادا ما رواه الأعمش بن أبي وائل قال : سمعت عبد الله بن مسعود رحمه‌الله يقرأ (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) قال فقلت : إن قوما يقرءونها (هَيْتَ لَكَ) قال : إنما أقرأ كما علّمت. قال أبو جعفر : وبعضهم يقول عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يبعد ذلك لأن قوله : إنما أقرأ كما علّمت يدلّ على أنه مرفوع ، وهذه القراءة بفتح الهاء والتاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة ، وبها قرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء وكسر التاء ، وقرأ أبو عبد الرحمن وابن كثير (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بفتح الهاء وضم التاء ، فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهنّ مفتوحة ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وفتح التاء ، وقرأ يحيى بن وثاب (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة ، وعن ابن عامر وأهل الشام (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء. قال أبو جعفر : «هيت لك» بفتح التاء لالتقاء الساكنين لأنه صوت يجب أن لا يعرب ، والفتح خفيف. فهذا كقولك : كيف وأين ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر ، ومن ضمّ فلالتقاء الساكنين أيضا وشبّهه بقولهم : «جوت» في زجر الجمل. يقال : بالضمّ والفتح والكسر «وجاه» بمعناه إلّا أنه لا يقال إلّا مكسورا ، وكذا «عاج» في زجر الأنثى ، وقراءة أهل المدينة فيها قولان : أحدهما أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مرّ ، والآخر أن يكون من هاء يهيء مثل جاء يجيء فيكون المعنى في «هيت» أي حسنت هيئتك وخفّف الهمزة ، ويكون «لك» من كلام آخر ، كما تقول : لك أعني وأما «لك» في «هيت لك» فهي تبين ، كما يقال «سقيا لك» ، وقال عكرمة : «هيت» أي هلمّ أي إلى ما دعوتك له ، و «هيت لك» بغير همز وبالهمز من هاء يهيئ. (قالَ مَعاذَ اللهِ) مصدر. يقال : عاذ معاذا ومعاذة وعياذا. (إِنَّهُ رَبِّي) في موضع نصب على

__________________

(١) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٣٨٢ ، والكتاب ٣ / ٥٦٣ «ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها» ، وأدب الكتاب ص ٤٦١ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٦ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٦١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٩٣ ، ولسان العرب (غلق) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١١٨ ، وشرح المفصّل ١ / ٢٧.

(٢) انظر تيسير الداني ١٠٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٩٤ ، ومعاني الفراء ٢ / ٤٠.

١٩٨

البدل من الهاء ، وقد يكون رفعا على الخبر. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الهاء كناية عن الحديث والجملة خبر.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) لام توكيد ، وزعم الخليل أنّ «قد» للتوقع. (وَهَمَّ بِها) قد ذكرنا معناه. وأن قوما قالوا : هو على التقديم والتأخير. وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب. لا يقال : قام فلان إن شاء الله ، ولا قام فلان لو لا فلان ، وقد قيل : همّه بها هو الشهوة وما يخطر على القلب ، كما يقال : ما يهمّني ذلك أي ما أشتهيه. (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (أن) في موضع رفع ، وجواب لو لا محذوف لعلم السامع. (كَذلِكَ) الكاف في موضع رفع أي أمر البراهين كذلك ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أي أريناه البراهين كذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ) لام كي والناصب للفعل «أن». (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي المخلصين لأداء الرسالة ، والمخلصين لطاعة الله جلّ وعزّ.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥)

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) حذفت الألف من «استبقا» في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها. كما يقال : جاءني عبد الله في التثنية ، ومن العرب من يقول : جاءني عبد الله بإثبات الألف بغير همز ويجمع بين ساكنين لأن الثاني مدغم والأول حرف مدّ ولين ، ومنهم من يقول : جاءني عبد الله بإثبات الألف والهمزة ، كما تقول في الوقف. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) قال أبو إسحاق : القد القطع أي جذبت فانقطع قال أبو جعفر : في هذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجمع فيه المعاني ، والمعنى : سابق يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الباب ممتنعا منها ليخرج ، وسابقته إلى الباب لتقف عليه فتمنعه من الخروج فلما سبقها جذبته لئلا يخرج فقطعت قميصه. (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) (ما) ابتداء ، وخبره (أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عطف عليه. قال الكسائي : ويجوز أو عذابا أليما بمعنى ويعذب عذابا أليما.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧)

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قد ذكرنا فيه اختلافا. والأشبه بالمعنى ـ والله أعلم ـ أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ولو كان طفلا لكان شهادته ليوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغني أن يأتي بدليل من العادة لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال

١٩٩

بالعادة ، وليس هذا بمخالف للحديث تكلّم أربعة وهم صغار منهم صاحب يوسف يكون بمعنى صغير وليس بشيخ ، وفي هذا دليل آخر بيّن وهو أن ابن عبّاس رحمه‌الله هو الذي روى الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي. (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) في موضع جزم بالشرط ، وفيه من النحو ما يشكل. يقال : حروف الشرط تردّ الماضي إلى المستقبل ، وليس هذا في كان. فقال المازني : القول مضمر ، وقال محمد بن يزيد هذا لقوّة كان فإنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال أبو إسحاق : المعنى : إن يكن أي إن يعلم فالعلم لم يقع وكذلك الكون لأنه يؤدي عن العلم (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) فخبّر عن كان بالفعل الماضي ، كما قال زهير : [الطويل]

٢٣٢ ـ وكان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها ولم يتقدّم (١)

وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ) (٢) بضم القاف والباء واللام ، وكذا «دبر». قال أبو إسحاق : يجعله غاية أي من قبله ومن دبره قال : ويجوز «من قبل» «ومن دبر» بفتح اللام والراء ، ويشبّهه بما لا ينصرف لأنه معرفة ومزال عن بابه.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩)

(يُوسُفُ) نداء مفرد أي يا يوسف.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠)

(وَقالَ نِسْوَةٌ) ويقال : نسوة ، والجمع الكثير نساء ، وحكي «قد شغفها» بكسر الغين. ولا يعرف في كلام العرب إلّا «شغفها» بفتح الغين ، وكذا (قَدْ شَغَفَها) أي تركها مشغوفة. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في هذا الفعل. وهذه لام توكيد ولا تقع في الماضي هاهنا إلّا أن الأخفش أجاز : إنّ زيدا لنعم الرجل ؛ لأن نعم لا تتصرّف.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١)

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) أي بعيبهن إياها واحتيالهنّ في ذمها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) في الكلام حذف أي أرسلت إليهنّ تدعوهن إلى وليمة لتوقعهنّ فيما وقعت فيه. (وَأَعْتَدَتْ) من

__________________

(١) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوان ص ٢٢ ، والأزهيّة ص ١٥٨ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣ ، ولسان العرب (طوى) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٢٩٧ ، والمحتسب ١ / ٣٣٨.

٢٠٠