إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

أبو إسحاق : التقدير في أن يجاهدوا ، وقال غيره : هذا غلط وإنما المعنى ضدّ هذا ولكن التقدير (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) في التّخلّف لئلّا يجاهدوا ، وحقيقته في العربية كراهة أن لا يجاهدوا كما قال جلّ وعزّ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ٧٦].

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧)

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) لأنهم قالوا إن يؤذن لنا في الجلوس أفسدنا وحرّضنا على المسلمين ويدلّ على هذا أن بعده (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) ، (فَثَبَّطَهُمْ) الله جلّ وعزّ. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) يكون التقدير قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون هذا هو الإذن الذي تقدّم ذكره وقيل : المعنى وقال لهم أصحابهم هذا.

(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) مفعول ثان ، والمعنى : يطلبون لكم الفتنة أي الإفساد والتحريض ، ويقال: بغيته كذا أي أعنته على طلبه وبغيته كذا طلبته له.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨) (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي لقد طلبوا الإفساد من قبل أن يظهر أمرهم وينزل الوحي بما أسرّوه وبما سيفعلونه لأنه قال جلّ وعزّ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) [براءة : ٩٥] أخبر بعيبهم وقلّبوا لك الأمور أي دبّروا واحتالوا في التضريب والإفساد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) من أذن يأذن فإذا أمرت زدت همزة مكسورة وقبلها همزة هي فاء الفعل ولا يجتمع همزتان فأبدلت من الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت : ائذن لي ، فإذا وصلت زالت العلّة في الجمع بين همزتين فهمزت فقلت : ومنهم من يقول أذن لي (١) وروى ورش عن نافع ومنهم من يقول اذن لي خفّف (٢) الهمزة. قال أبو جعفر : يقال : ائذن لفلان ثم ائذن لفلان وهجاء الأول والثاني واحد بألف وباء قبل الذال في الخطّ فإن قلت : ائذن لفلان وأذن لغيره كان الثاني بغير ياء ، وكذلك الفاء

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢.

١٢١

والفرق بين ثم والفاء والواو أنّ ثم يوقف عليها وينفصل والفاء والواو لا يوقف عليها ولا ينفصلان.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (٥٠)

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) شرط ومجازاة وكذا (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا) عطف.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١)

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) نصب بلن وحكى أبو عبيدة أن من العرب من يجزم بها. وقرأ طلحة بن مصرّف هل يصيبنا (١) وروي عن أعين قاضي الري أنه قرأ قل لن يصبّنا (٢) بنون مشدّدة وهذا لحن لا يؤكّد بالنون ما كان خبرا ولو كان هذا في قراءة طلحة لجاز ، قال الله جلّ وعزّ (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥]. (ما كَتَبَ اللهُ لَنا ما) في موضع رفع. (هُوَ مَوْلانا) ابتداء وخبر ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) جزم لأنه أمر وكسرت اللام الثانية لالتقاء الساكنين ، وإن شئت كسرت الأولى على الأصل والتسكين لثقل الكسرة.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (٥٢)

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) والكوفيون يدغمون اللام في التاء ، فأما لام المعرفة فلا يجوز معها إلّا الإدغام كما قال جلّ وعزّ (التَّائِبُونَ) [التوبة : ١١٢] لكثرة لام المعرفة في كلامهم ، ولا يجوز الإدغام في قوله (قُلْ تَعالَوْا) [الانعام : ١٥١] لأن قل معتلّ يجمعوا عليه علتين. وواحد (الْحُسْنَيَيْنِ) الحسنى والجمع الحسن ولا يجوز أن ينطق به إلّا معرّفا ، لا يقال : رأيت امرأة حسنى. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ) في موضع نصب بنتربّص.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٣)

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدر في موضع الحال ولفظ أنفقوا لفظ أمر ، ومعناه الشرط والمجازاة. وهكذا تستعمل العرب في مثل هذا تأتي بأو كما : [الطويل]

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٢ ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا.

(٢) انظر المختصر لابن خالويه ٥٣ ، والمحتسب ١ / ٢٩٤.

١٢٢

١٨٧ ـ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (١)

والمعنى : إن أسأت أو أحسنت فنحن لك على ما تعرفين ، ومعنى الآية : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يقبل منهم فقال :

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤)

(أَنْ) الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع ، والمعنى وما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم ، وقرأ الكوفيون أن يقبل منهم نفقاتهم (٢) لأن النفقات والانفاق واحد. قال أبو إسحاق : ويجوز وما منعهم أن يقبل منهم نفقاتهم (إِلَّا أَنَّهُمْ) بمعنى وما منعهم من أن يقبل الله نفقاتهم (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا) فإن الأولى والثانية في موضع نصب ويجوز عند سيبويه أن يكونا في موضع جر.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧)

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) كذا الوقف عليه وفي الخط بألفين الأولى همزة والثانية عوض من التنوين وكذا رأيت جزأا. (أَوْ مَغاراتٍ) من غار يغير. قال الأخفش : ويجوز (مَغاراتٍ) (٣) من أغار يغير كما قال : [البسيط]

١٨٨ ـ الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربّي ومسّانا (٤)

(أَوْ مُدَّخَلاً) فيه خمس قراءات (٥) : هذه إحداها ، وروي عن قتادة وعيسى والأعمش (أَوْ مُدَّخَلاً) بتشديد الدال والخاء ، وفي حرف أبيّ أو متدخّلا (٦) وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن أو مدخلا بفتح الميم وإسكان الدال. قال أبو إسحاق : ويقرأ أو مدخلا بضم الميم وإسكان الدال. قال أبو جعفر : الأصل في مدّخل مدتخل ، قلبت التاء دالا لأن الدال مجهورة والتاء مهموسة وهما من مخرج

__________________

(١) الشاهد لكثير عزّة في ديوانه ص ١٠١ ، ولسان العرب (سوأ) و (حسن) ، و (قلا) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢١ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣١٨ ، والأغاني ٩ / ٣٨ ، وأمالي القالي ٢ / ١٠٩ ، وتزيين الأسواق ١ / ١٢٤ ، وتاج العروس (سوأ) ، و (قلي).

(٢) انظر تيسير الداني ٩٧.

(٣) وهذه قراءة سعد بن عبد الرحمن بن عوف ، انظر البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، ومختصر ابن خالويه ٥٣.

(٤) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٦٢ ، والكتاب ٤ / ٢١٠ ، وإصلاح المنطق ١٦٦ ، والأغاني ٤ / ١٣٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٤٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٩٢ ، وشرح المفصل ٦ / ٥٣ ، ولسان العرب (مسا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٦ / ٥٠.

(٥) انظر البحر المحيط ٥ / ٥٦ ، ومختصر ابن خالويه ٥٣.

(٦) في البحر المحيط ٥ / ٥٦ «وقرأ أبيّ مندخلا» بالنون من (اندخل).

١٢٣

واحد ، والأصل الأولى في مدّخّل مدتخّل ، وقيل الأصل فيه متدخّل على متفعّل ، كما في قراءة أبيّ. ومعناه دخول بعد دخول أي قوما يدخلون معهم ، ومدخل من دخل ، ومدخل من أدخل كذا المصدر والمكان والزمان كما أنشد سيبويه : [الطويل]

١٨٩ ـ مغار ابن همّام على حيّ خثعما (١)

(وَهُمْ يَجْمَحُونَ) ابتداء وخبر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨)

وقرأ الأعرج ومنهم من يلمزك (٢) بضم الميم والأكثر في المتعدي يفعل بكسر العين.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر. قال الفراء (٣) : ويجوز «فريضة من الله» ، بمعنى ذلك فريضة من الله.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١)

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ الَّذِينَ) في موضع رفع. (يُؤْذُونَ) مهموز لأنه من آذى ، وإن شئت خفّفت الهمزة فأبدلت منها واوا. (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) ابتداء وخبر وكذا (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) على قراءة الحسن ، وقرأ أهل الكوفة (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) وقرءوا (وَرَحْمَةٌ) خفضا عطف على خير ، وهذا عند أهل العربية لأنه قد باعد بين الاسمين وهذا يقبح في المخفوض ، والرفع عطفا على أذن ، والتقدير قل هو أذن خير وهو رحمة أي هو مستمع خير لكم أي مستمع ما يجب استماعه وقابل ما يجب أن يقبله وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ ويقولون هو أذن قال مستمع

__________________

(١) الشاهد لحميد بن ثور في الكتاب ١ / ٢٩٢ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٧ ، وليس في ديوانه ، وللطماح بن عامر كما في حاشية الخصائص ٢ / ٢٠٨ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص ٣٥١ ، والخصائص ٢ / ٢٠٨ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٩ ، ولسان العرب (لحسن) و (علق) ، والمحتسب ٢ / ١٢١ ، وصدره :

«وما هي إلّا في إزار وعلقة»

(٢) هذه قراءة يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبي رجاء ، انظر البحر المحيط ٥ / ٥٧.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٤.

١٢٤

وقائل. قال : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يصدّق بالله ويصدّق المؤمنين. قال أبو جعفر : فاللام على هذا زائدة عند الكوفيين ومثله (هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥] وعند محمد بن يزيد متعلّقة بمصدر دلّ عليه الفعل.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٦٢)

(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ابتداء وخبر ، فيذهب سيبويه أن التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله أحقّ أن يرضوه ثم حذف ، وقال محمد بن يزيد ليس في الكلام حذف. والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله على التقديم والتأخير ، وقال الفراء (١) : المعنى أحقّ أن يرضوه والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت. قال أبو جعفر : وقول سيبويه أولاها لأنه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن أن يقال ما شاء الله وشئت ولا يقدّر في شيء تقديم ولا تأخير ومعناه صحيح.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣)

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) حذفت النون للجزم. (أَنَّهُ) في موضع نصب بيعلموا والهاء كناية عن الحديث ، (مَنْ يُحادِدِ اللهَ) في موضع رفع بالابتداء. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) يقال : ما بعد الفاء في الشرط مبتدأ فكان يجب أن يكون «فإنّ له» بكسر إنّ فللنحويين في هذا أربعة أقوال : مذهب الخليل وسيبويه (٢) أنّ «أن» الثانية مبدلة من الأولى ، وزعم أبو العباس (٣) أنّ هذا القول مردود وأنّ الصحيح ما قال الجرمي قال : إنّ الثانية مكررة للتوكيد ، ونظيره (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [النمل : ٥] ، وكذا (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : ١٧]. قال الأخفش (٤) : المعنى فوجوب النار له. قال أبو العباس : قول الأخفش هذا خطأ لأنه يبتدئ أنّ ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان : المعنى : فالواجب أنّ له نار جهنم ، وأجاز الخليل وسيبويه فإنّ له نار جهنّم بالكسر. قال سيبويه : وهو جيد وأنشد (٥) : [الطويل]

١٩٠ ـ وعلمي بأسدام المياه فلم تزل

قلائص تخدي في طريق طلائح (٦)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٥.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ١٥٣.

(٣) انظر المقتضب ٢ / ٣٥٦.

(٤) انظر المقتضب ٢ / ٣٥٧.

(٥) البيتان لتميم بن مقبل في ديوانه ٤٥ ، والكتاب ٣ / ١٥٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٦ ، وشرح الشواهد للشنتمري ١ / ٤٦٧.

(٦) أسدام : جمع سدم : وهو الماء المتغيّر طعمه ولونه لقلّة الواردين. والقلائص : جمع القلوص : الناقة الفتيّة الشابة. والطلائح : جمع الطليحة : الناقة المعيية لطول السفر. وتخدي : تسرع.

١٢٥

وأنّي إذا ملّت ركابي مناخها

فإني على حظّي من الأمر جامح (١)

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤)

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) خبر ويدلّ على أنه أنّ بعده (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) لأنهم كفروا عنادا وقيل : هو بمعنى الأمر كما يقال يفعل ذلك. (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) في موضع نصب أي من أن تنزل عليهم ، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في موضع خفض على حذف «من» ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها مفعولة لأنّ سيبويه أجاز حذرت زيدا وأنشد : [الكامل]

١٩١ ـ حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار (٢)

وهذا عند أبي العباس مما غلط فيه سيبويه ولا يجوز عنده أنا حذر زيدا لأن حذرا شيء في الهيئة فلا يتعدّى. قال أبو جعفر : حدّثنا علي بن سليمان قال : سمعت محمد بن يزيد يقول : حدّثني أبو عثمان المازني قال : قال لي اللاحقي : لقيني سيبويه فقال لي : أتعرف في إعمال فعل شرا؟ ولم أكن أحفظ في ذلك : [الكامل]

حذر أمورا لا تصير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) فأعلم الله جلّ وعزّ أنهم قد كفروا فقال : (لا تَعْتَذِرُوا) أي لا تعتذروا بقولكم إنما كنّا نخوض ونلعب. (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ثم قال جلّ وعزّ : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ) حذفت الألف للجزم. قال الكسائي : وقرأ زيد بن ثابت (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) بالنون ونصب طائفة بنعذّب ، وكذا قرأ أبو عبد الرحمن وعاصم ، وقرأ الجحدري إن يعف عن طائفة بفتح الياء وضم الفاء يعذّب (٣) بضم الياء وكسر الذال (طائِفَةٍ) نصب بالفعل. والمعنى إن يعف عن طائفة قد تابت يعذّب طائفة لم تتب. وحكى أهل اللغة منهم الفراء (٤) أنه يقال للواحد : طائفة وأنه يقال : أكلت طائفة من الشّاة أي قطعة. قال أبو إسحاق : ويروى أن هاتين الطائفتين كانتا ثلاثة اثنان هزئا وواحد ضحك فجاء

__________________

(١) الجامح : الماضي على وجهه.

(٢) مرّ الشاهد رقم ١٢١.

(٣) انظر البحر المحيط ٥ / ٦٨.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٥.

١٢٦

واحد لطائفة ، كما يقال : جاءتني طائفة أي رجل واحد ، وتقديره في العربية : جاءتني نفس طائفة.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٦٧)

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) ابتداء. (بَعْضُهُمْ) ابتداء ثان ويجوز أن يكون بدلا ويكون الخبر من بعض. قال أبو إسحاق : هذا متّصل بقوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة: ٥٦] أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض أيديهم عن الجهاد.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨)

(خالِدِينَ) نصب على الحال. (هِيَ حَسْبُهُمْ) ابتداء وخبر.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

(كَالَّذِينَ) قال أبو إسحاق : الكاف في موضع نصب أي وعد الله الكفار نار جهنّم وعدا كما وعد الذين من قبلهم. (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) خبر كان ولم ينصرف لأنه أفعل صفة الأصل فيه أشدد أي كانوا أشدّ منكم قوة فلم يتهيأ لهم دفع عذاب الله جلّ وعزّ (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي انتفعوا بنصيبهم من الدنيا كما فعل الذين من قبلهم.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠)

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ) حذف الياء للجزم. (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رفع بيأتي. (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) بدل ، ومن لم يصرف ثمود جعله اسما للقبيلة ، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قيل يراد به قوم لوط لأن أرضهم ايتفكت بهم أي انقلبت ، وقيل : المؤتفكات كلّ من أهلك كما يقال : انقلبت عليه الدنيا.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ

١٢٧

طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) ابتداء وخبر أي أكبر من نعيمهم ويجوز في غير القرآن النصب لأن هذا مما وعدوا به.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣)

(جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) كسرت الدال لالتقاء الساكنين والفعل غير معرب ولا يكون فعل الأمر إلا مستقبلا عند جميع النحويين ، وكذا سيفعل وسوف يفعل فأما يفعل فقد اختلف فيه النحويون فالبصريون يقولون يكون مستقبلا وحالا. والكوفيون يقولون : يكون مستقبلا لأن هذه الزوائد إنما جيء بها علامة للاستقبال ، وفاعل عند البصريين كيفعل ، وهو عند الكوفيين للحال إلّا أن يكون مجازا.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤)

(وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) يدلّ على أن المنافقين كفار وفي قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣] دليل قاطع. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (أن) في موضع نصب. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) شرط ومجازاة ، وكذا (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) في موضع رفع.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧)

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) مفعولان. (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) في موضع خفض.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩)

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في موضع رفع بالابتداء والأصل المتطوّعين أدغمت التاء في الطاء. (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) في موضع خفض عطف على المؤمنين ولا يجوز أن يكون عطفا على المطّوّعين لأنك لو عطفت عليهم

١٢٨

لعطفت على الاسم قبل أن يتمّ لأن (فَيَسْخَرُونَ) عطف على يلمزون. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) خبر الابتداء.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١)

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) مفعول من أجله وإن شئت كان مصدرا. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ) ابتداء وخبر. (حَرًّا) على البيان.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) أمر فيه معنى التهديد ، والأصل أن تكون اللام مكسورة فحذفت الكسرة لثقلها ، (قَلِيلاً) و (كَثِيراً) نصب على أنهما نعت لظرف أو لمصدر (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) مفعول من أجله للجزاء.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤)

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) حذفت لأنه مجزوم بلا.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) (٨٦)

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا) في موضع نصب أي بأن آمنوا.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٨٧)

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جمع خالفة أي النساء وقد يقال للرجل : خالفة وخالف إذا كان غير نجيب ، إلّا أنّ فواعل جمع فاعلة ولا يجمع فاعل صفة على فواعل إلا في الشعر إلّا في حرفين وهما فارس وهالك فأما هالك فعلى المثل وأما فارس فلا يشكل.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨)

(لكِنِ الرَّسُولُ) ابتداء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عطف عليه. (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في موضع الخبر.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩)

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ابتداء وخبر.

١٢٩

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) قرأ الأعرج والضحاك (الْمُعَذِّرُونَ) (١) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس رواها أصحاب القراءات إلّا أنّ مدارها على الكلبي. وهي من أعذر إذا بالغ في العذر. وأما المعذّرون بالتشديد ففيه قولان : قال الأخفش والفراء (٢) وأبو حاتم وأبو عبيد : الأصل المعتذرون ثم أدغمت فألقيت حركة التاء على العين ويجوز عندهم المعذّرون بضمّ العين لالتقاء الساكنين ولأن ما قبلها ضمّة ويجوز المعذّرون الذين يعتذرون ولا عذر لهم. قال أبو العباس محمد بن يزيد : ولا يجوز أن يكون فيه المعتذرين ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس ؛ وذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه وأن سياق الكلام يدلّ أنّهم مذمومون لا عذر لهم. قال لأنهم جاءوا (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ولو كانوا من الضعفاء والمرضى أو الذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. قال أبو جعفر : أصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذّر ، وقول العرب «من عذير من فلان» معناه : قد أتى أمرا عظيما يستحقّ أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به فمن يعذرني إن عاقبته. (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) نصب بلام كي.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١)

(وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) اسم ليس. (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في موضع رفع اسم (ما).

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٩٢)

(وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) الجملة في موضع نصب على الحال. (حَزَناً) مصدر. (أَلَّا يَجِدُوا) نصب بأن. قال الفراء (٣) ويجوز «أن لا يجدون» يجعل «لا» بمعنى ليس ، فهو عند البصريين بمعنى أنّهم لا يجدون.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٨٦ ، وهذه قراءة زيد بن علي وأبي صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٤٨.

١٣٠

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي النساء اللواتي يخلفن أزواجهن.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩٧)

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً) نصب على البيان. (وَنِفاقاً) عطف عليه. (وَأَجْدَرُ) عطف على أشدّ (أَلَّا) في موضع نصب بأن كما يقال : أنت خليق أن تفعل ولا يجوز أنت خليق الفعل. قال أبو إسحاق : لأن «ما» بعد أن يدلّ على أنّ الفعل مستقبل يجعل الحذف عوضا ، وقال غيره : الحذف لطول الكلام.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٩٨)

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ) في موضع رفع بالابتداء. (ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) مفعولان ، والتقدير : ينفقه حذفت الهاء لطول الاسم. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة إلّا أن مجاهدا وأبا عمرو وابن محيصن قرءوا (دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) بضم السين وأجمعوا على فتح السين في قوله جلّ وعزّ (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] والفرق بينهما ـ وهو قول الأخفش والفراء : أن السّوء بالضم المكروه. قال الأخفش : أي عليهم دائرة الهزيمة والشرّ. قال الفراء : أي عليهم دائرة العذاب والبلاء قالا : ولا يجوز امرأ سوء بالضم كما لا يقال : هو امر عذاب ولا شرّ ، وحكي عن محمد بن يزيد قال : السوء بالفتح الرداءة قال : وقال سيبويه : مررت برجل صدق. معناه برجل صلاح ، وليس من صدق اللسان ولو كان من صدق اللسان لما قلت : مررت بثوب صدق ومررت برجل سوء ليس هو من مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية (٢) سؤته ، وإنما معناه مررت برجل فساد ، وقال الفراء : السّوء بالفتح مصدر سؤته سوءا ومساءة وسوائية ومسائية.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٧ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٤٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٩٥.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٠.

١٣١

الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

(قُرُباتٍ) الواحدة قربة والجمع قرب وقربات وقربات وقد ذكرنا علله. قال أبو جعفر : قال الأخفش : ويقال : قربة. وحكى ابن سعدان أن يزيد بن القعقاع قرأ (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) (١).

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) رفعا عطفا على السابقين. قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه لأنه السابقين منهما. (أَبَداً) ظرف زمان (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ابتداء وخبر.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) ابتداء أي قوم منافقون. وقد ذكرنا أنّ المنافق مشتقّ من النافقاء ، وفي الحديث «المنافق الذي إذا حدّث كذّب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (٣). (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) يكون قولك مردوا نعتا للمنافقين ، ويجوز أن يكون تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وهي الزكاة المفروضة فيما روي وفيها خمسة أوجه : قال أبو إسحاق : الأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فإنك تطهّرهم وتزكّيهم بها ، ويجوز أن يكون في موضع الحال. قال الأخفش : ويجوز أن تكون للصدقة ، ويكون (اتَّبَعُوهُمْ) توكيدا ، ويجوز أن يكون تطهّرهم للصدقة وتزكّيهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والوجه الخامس أن تجزم على جواب الأمر كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

١٩٢ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان (٤)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٩٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٩٦ ، وهذه قراءة الحسن وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن أبي سعيد وطلحة ويعقوب والأنصار جميعا.

(٣) أخرجه الترمذي في سننه باب الإيمان ١٠ / ٩٧.

(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٧٣ (دار صادر) وعجزه :

«ورسم عفت آياته منذ أزمان»

١٣٢

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) فيه جوابان : أحدهما أنه منسوخ بقوله جلّ وعزّ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [التوبة : ٨٤] ، والآخر أنه غير منسوخ وأنّ المعنى وادع لهم إذا جاءوك بالصدقات ، وكذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل والعلماء على هذا ويدلّ عليه (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي إذا دعوت لهم حين يأتونك بصدقاتهم سكّن ذلك قلوبهم وفرحوا وبادروا رغبة في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء ، ومنه الصلاة على الجنازة.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فتحت (أنّ) يعلموا ، ولو كان في خبرها اللام لكسرتها وهي فاصلة وإن شئت مبتدأة.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) هذا من رؤية العين لا غير لأنه لم يتعدّ إلا إلى مفعول واحد.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) معطوف والتقدير ومنهم آخرون مرجئون لأمر الله من أرجأته أخّرته ، ومنه قيل : المرجئة لأنهم أخّروا العمل ، ومن قرأ (مُرْجَوْنَ) (١) فله تقديران : أحدهما أن يكون من أرجيته ، وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : لا يقال : أرجيته بمعنى أخّرته ولكن يكون من الرجاء. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) «إما» في العربية لأحد الأمرين ، والله جلّ وعزّ عالم بمصير الأشياء ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٠٧)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) معطوف أي : ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء ، ومن قرأ (الَّذِينَ) بلا واو وهي قراءة المدنيين فهو

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠١ ، وتيسير الداني ٩٧.

١٣٣

عنده رفع بالابتداء لا غير ، وفي الخبر قولان : زعم الكسائي أن التقدير : الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا أي لا تقم في مسجدهم كما قال : [السريع]

١٩٣ ـ من باب من يغلق من داخل (١)

قال : يريد من باب من يغلق بابه من داخل. قال أبو جعفر : هذا خطأ عند البصريين ولا يجوز في شعر ولا غيره ولو جاز هذا لقلت : الذي اشتريت عمرو بمعنى الذي اشتريت داره عمرو. قال أبو جعفر : يكون خبر الابتداء لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم. (ضِراراً) مصدر مفعول من أجله. (وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً) عطف كله.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

(لَمَسْجِدٌ) ابتداء. (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) نعت. (أَحَقُ) خبر الابتداء. (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) في موضع نصب أي بأن تقوم فيه. قال سعيد بن المسيب : المسجد الذي أسّس على التقوى مسجد المدينة الأعظم ، وروي عن ابن عباس أنه مسجد قباء ، وكذا قال الضحاك وقد ذكرنا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عنه فقال : هو مسجدي هذا. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال الشّعبي : هم أهل مسجد قباء أنزل الله جلّ وعزّ فيهم هذا. قال أبو جعفر : يكون على قول الشعبي فيه لمسجد قباء ويكون الضميران مختلفين ، وقد يجوز أن يكونا متّفقين ويكونا لمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩)

(أَفَمَنْ أَسَّسَ) (٢) (بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) من بمعنى الذي وهو في موضع رفع بالابتداء وخبره (خَيْرٌ) ، (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) عطف على الأولى ، وهذه قراءة زيد بن ثابت وبها قرأ نافع. وفيه أربع قراءات سوى هذه القراءة : قرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بفتح الهمزة ونصب البنيان وهو اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به وأن الفاعل

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في الدرر ١ / ٢٩٨ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٠ ، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ١ / ٨٢ ، ويروى هكذا :

«أعوذ بالله وآياته

من باب من يغلق من خارج»

(٢) هذه قراءة نافع وابن عامر ، انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، وتيسير الداني ٩٨.

١٣٤

سمّي فيه ، وقرأ نصر بن عاصم (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) (١) رفع أسسا بالابتداء وخفض بنيانه بالإضافة والخبر (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) والجملة في الصلة وأسس وأسّ بمعنى واحد مثل عرب وعرب. قال أبو حاتم : وقرأ بعض القرّاء ا فمن أساس بنيانه (٢). قال أبو جعفر : أساس واحد وجمعه أسس ، والقراءة الخامسة حكاها أبو حاتم أيضا وهي ا فمن أساس بنيانه (٣) وهذا جمع أسّ كما يقال : خفّ وأخفاف والكثير أساس مثل خفاف وقال الشاعر : [الخفيف]

١٩٤ ـ أصبح الملك ثابت الآساس

بالبهاليل من بني العبّاس (٤)

(خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) مثل الأول. (عَلى شَفا) والتثنية شفوان والجمع أشفاء وشفيّ وشفيّ وجرف وجرفة هار ، والأصل هائر ، وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ثم يقال : هائر مثل صائم ثم يقلب فيقال : هار ، وزعم الكسائي أنه يكون من ذوات الواو ومن ذوات الياء وأنه يقال : تهوّر وتهيّر. وحكى أبو عبيد أنّ أبا عمرو بن العلا كان يحبّ أن يميل إذا كانت الراء مكسورة بعد ألف فإن كانت مفتوحة أو مضمومة لم يمل. قال أبو جعفر : هذا قول الخليل وسيبويه (٥) والعلّة عندهما في ذلك أنّ الراء إذا كانت مكسورة فكأنّ فيها كسرتين للتكرير الذي فيها فحسنت الإمالة فإذا كانت مفتوحة فكأنّ فيها فتحتين فلا تجوز الإمالة وكذا إذا كانت مضمومة نحو (وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٩] ، وأما «افر» فإنما أميل لكسرة الفاء.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

(رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) خبر لا يزال.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

(بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) اسم أنّ. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكّدان. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ مِنَ) في موضع رفع بالابتداء وخبره (أَوْفى).

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، ومختصر ابن خالويه ٥٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ١٠٣ ، ومختصر ابن خالويه ٥٥.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٢.

(٤) الشاهد للحافظ ابن حجر في تاج العروس (بهل) ، ولسديف بن ميمون في طبقات الشعراء لابن المعتز ٣٩.

(٥) انظر الكتاب ٤ / ٢٤٨.

١٣٥

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

(التَّائِبُونَ) رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين أي هم التائبون وفيه قولان سوى هذا : قال أبو إسحاق يجوز أن يكون بدلا أي يقال التائبون ، قال : ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء قال : وهو أحسن عندي ، ويكون التقدير التائبون لهم الجنة وفي قراءة عبد الله التائبين العابدين الحامدين (١) وفيه تقديران يكون نعتا للمؤمنين في موضع خفض ويكون منصوبا على المدح.

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) اسم كان ، والخبر (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) والموعدة عند العلماء كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم عليه‌السلام. قال أبو إسحاق : يروى أنّه وعده أنّه يسلم فاستغفر له ، وقال غيره : لا يجوز أن يكون استغفر له إلّا وقد أسلم ولكنّه وعده أنّه يظهر إسلامه فاستغفر له فلمّا لم يظهره تبيّن له أنّه عدوّ لله فتبرّأ منه. قال أبو إسحاق : لما أقام على الكفر تبيّن له أنه عدو لله ، وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فلمّا تبيّن له أنه عدوّ لله ، قال مات كافرا. (إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) اسم أنّ وخبرها.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في موضع خفض على النعت للمهاجرين والأنصار ، (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) سيبويه (٢) يجوز أن ترفع القلوب بتزيغ ويضمر في كاد الحديث ، وإن شئت رفعتها بكاد ، ويكون التقدير من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ ، وزعم أبو حاتم أنّ من قرأ «يزيغ» (٣) بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد. قال أبو جعفر : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع. حكى الفراء : رحبت البلاد وأرحبت ، ورحبت لغة أهل الحجاز.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ١٠٦.

(٢) انظر الكتاب ١ / ١١٩.

(٣) هذه قراءة حمزة وحفص ، انظر البحر المحيط ٥ / ١١١ ، وتيسير الداني ٩٨.

١٣٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه وروى شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : الكذب ليست فيه رخصة اقرءوا إن شئتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أهل ترون في الكذب رخصة لأحد؟

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

(أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) اسم كان. (ذلِكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) رفع بيصيبهم أي عطش. (وَلا نَصَبٌ) عطف أي تعب و «لا» زائدة للتوكيد وكذا (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي مجاعة. (وَلا يَطَؤُنَ) عطف على يصيبهم (يَغِيظُ) في موضع نصب لأنه نعت لموطئ أي غائظا. (وَلا يَنالُونَ) قال الكسائي : هو من قولهم أمر منيل وليس من التناول إنّما التناول من نلته بالعطيّة.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١)

(وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) والعرب تقول : واد ووادية ، ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه ، والقياس أن يجمع ووادي فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم يستثقلون واحدة حتى قالوا : أقّتت في وقّتت ، وقال الخليل وسيبويه : في تصغير واصل اسم رجل أو يصل ولا يقولون غيره ، وحكى الفراء في جمع واد أوداء.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) لفظ خبر ومعناه أمر. قال أبو إسحاق : ويجوز والله أعلم أن تكون هذه الآية تدلّ على أن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ) قال الأخفش : أي فهلّا نفر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

١٣٧

قرأ أبان بن تغلب (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (١) وروى المفضل عن الأعمش وعاصم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (٢) بفتح الغين وإسكان اللام. قال الفراء : لغة أهل الحجاز وبني أسد (٣) غلظة بكسر الغين ولغة تميم غلظة بضم الغين.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

يجوز أن يكون (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا ويجوز أن يكون خبرا.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨)

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) رفع بجاءكم ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) نعت وكذا (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) وكذا (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال الفراء (٤) : فلو قرئ : عزيزا عليه ما عنتّم حريصا رؤوفا رحيما ، نصبا جاز بمعنى لقد جاءكم كذلك. قال أبو جعفر : عنتّم من قوله : أكمة عنوت إذا كانت شاقّة مهلكة. وأحسن ما قيل في هذا المعنى مما هو موافق لكلام العرب ما حدّثنا به أحمد بن محمد الأزديّ قال : حدّثني عبد الله بن محمد الخزاعي قال : سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت عبد الله بن داود الجريبيّ يقول في قول الله جلّ وعزّ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) قال : إن تدخلوا النار ، حريص عليكم؟ قال : إن تدخلوا الجنة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

(فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) ابتداء وخبر وكذا (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ومن رفع العظيم جعله نعتا لربّ.

__________________

(١) و (٢) و (٣) انظر البحر المحيط ٥ / ١١٨.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٦.

١٣٨

(١٠)

شرح إعراب سورة يونس عليه السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١)

قال أبو جعفر : قرأ عليّ أحمد بن شعيب بن علي بن الحسين بن حريث قال :أخبرنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس : الر وحم ونون الرحمن مفرّقة فحدثت به الأعمش فقال : عندك أشباه هذا ولا تخبرني. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا في سورة البقرة أن ابن عباس رحمة الله عليه قال : معنى «الر» أنا الله أرى. ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب وأنشد : [الرجز]

١٩٥ ـ بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا (١)

قال سيبويه : يريد إن شرّا فشرّ ولا أريد الشر إلّا أن تشاء. وقال الحسن وعكرمة «الر» قسم ، وقال سعيد (٢) عن قتادة «الر» اسم السورة ، قال : وكذا كل هجاء في القرآن ، وقال مجاهد : هي فواتح السور ، وقال محمد بن يزيد : هي تنبيه وكذا حروف التهجّي. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ابتداء وخبر أي تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم ، وإن شئت كان التقدير هذه تلك آيات الكتاب الحكيم. قال أبو عبيدة (٣) : الحكيم المحكم.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) خبر كان ، واسمها (أَنْ أَوْحَيْنا) وفي قراءة عبد الله (أَكانَ

__________________

(١) الشاهد لنعيم بن أوس في الدرر ٦ / ٣٠٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٢٠ ، وللقيم بن أوس في نوادر أبي زيد ص ١٢٦ ، ولحكيم بن معيّة التميمي وللقمان بن أوس بن ربيعة في لسان العرب (معي) ، وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٥٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢٦٢ ، ولسان العرب (تا) ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ١١٨ ، ونوادر أبي زيد ١٢٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢١٠ ، اللغة : إن شرا فا : أي : إن أردت بي شرا فلك مني شرّ ، وإلا أن تا : إلا أن تريده لي.

(٢) انظر تفسير الطبري ١ / ٦٦.

(٣) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٧٢.

١٣٩

لِلنَّاسِ عَجَب) (١) على أنه اسم كان ، والخبر (أَنْ أَوْحَيْنا) ، (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) في موضع نصب أي بأن أنذر الناس وكذا (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) ويجوز أنّ لهم قدم صدق بمعنى قل.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

(ما مِنْ شَفِيعٍ) في موضع رفع والمعنى ما شفيع (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) رفع بالابتداء (جَمِيعاً) على الحال. (وَعْدَ اللهِ) مصدر لأنّ معنى مرجعكم وعدكم. (حَقًّا) مصدر نصبا وأجاز الفراء (٢) «وعد الله» بالرفع بمعنى مرجعكم إليه وعد الله. قال أحمد بن يحيى ثعلب يجعله خبر مرجعكم ، وأجاز الفراء «وعد الله حقّ» وقرأ يزيد بن القعقاع (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) (٣) يكون «أنّ» في موضع نصب أي وعدكم أنه يبدأ الخلق ، ويجوز أن يكون التقدير : لأنه يبدأ الخلق كما يقال : لبّيك أن الحمد والنّعمة لك ، والكسر أجود ، وأجاز الفراء (٤) أن يكون «أنّ» في موضع رفع. قال أحمد بن يحيى : يكون التقدير : حقا ابتداء الخلق.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) مفعولان. (وَالْقَمَرَ نُوراً) عطف. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) بمعنى وقدّر له مثل (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين : ٣] ويجوز أن يكون المعنى قدّره ذا منازل مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقدّره ولم يقل : وقدّرهما والشمس والقمر جميعا منازل ، ففي هذا جوابان : أحدهما أنه خصّ القمر لأن العامة به تعرف الشّهور ، والجواب الآخر أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه والفراء : [الطويل]

١٩٦ ـ رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن جول الطّويّ رماني (٥)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٢٦.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٧ ، والبحر المحيط ٥ / ١٢٩.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٥٦.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٤٥٧.

(٥) الشاهد لعمرو بن أحمر في ديوانه ١٨٧ ، والكتاب ١ / ١٢٥ ، والدرر ٢ / ٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٤٩ ، وله أو للأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي في لسان العرب (جول). والطوي : البئر.

١٤٠