إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

وقرأ الأعرج تتوفّى (١) على تأنيث الجماعة. (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) في موضع الحال. قال الفراء(٢) : المعنى ويقولون (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١)

(ذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر ذلك. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) خفض بالياء. (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في موضع خفض نسق على (ما) ، وإن شئت نصبت بمعنى و «بأنّ» وحذفت الباء بمعنى وذلك أنّ الله ، ويجوز أن يكون في موضع رفع نسقا على ذلك.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي العادة في تعذيبهم عند قبض الأرواح وفي القبور كعادة آل فرعون ، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار وبعد هذا أيضا (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وليس هذا بتكرير لأن الأول للعادة في التعذيب والثاني للعادة في التغيير.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (٥٦)

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسم «إنّ» وخبرها ، وهو مخصوص وقد بيّنه جلّ وعزّ بقوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ).

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) شرط ودخلت النون توكيدا وصلح ذلك في الخبر لمّا دخلت (ما) هذا قول البصريين ، وقال الكوفيون : تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع إمّا في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) قال الكسائي : (من) بمعنى الذي. قال أبو إسحاق : المعنى افعل بهم فعلا من القتل تفرّق به من خلفهم. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكّرون توعّدك إياهم.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨)

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) قال الكسائي : السواء العدل ، وقال الفراء (٣) : يقال : معناه افعل بهم كما يفعلون سواء. قال : ويقال : معنى (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٢.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٣.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٤.

١٠١

سَواءٍ) جهرا لا سرّا. قال أبو جعفر : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه ، والمعنى إمّا تخافنّ من قوم بينك وبينهم عهد ـ خيانة فانبذ إليهم العهد أي قل قد نبذت إليكم عهدكم وأنا مقاتلكم ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء ، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يتقون بك فيكون ذلك خيانة ثم بيّن هذا بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ).

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا اسم تحسبنّ وخبره ، وقرأ حمزة. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) (١) فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحلّ القراء به ولا يسمع لمن عرف الإعراب أو عرّفه. قال أبو جعفر : وهذا تحامل شديد وقد قال أبو حاتم أكثر من هذا قال : لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال أبو جعفر : القراءة تجوز ويكون المعنى ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلّا أنّ القراءة بالتاء أبين. قال الفراء : وفي حرف عبد الله بن مسعود ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون (٢) ويروى ولا تحسب الذين بفتح الباء ، وهذا على إرادة النون الخفيفة كما قال الشاعر : [الطويل]

١٧٣ ـ وسبّح على حين العشيّات والضّحى

ولا تحمد المثرين والله فاحمدا (٣)

وإن شئت كسرت الدال ، وقرأ عبد الله بن عامر. (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٤) بفتح الهمزة ، واستبعد أبو حاتم وأبو عبيد هذه القراءة قال أبو عبيد : وإنما تجوز على أن يكون المعنى ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال أبو جعفر : الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج إلّا بكسر إن ، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ كما تقول : حسبت زيدا أبوه خارج ، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه ، وهذا محال ، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قاله يصحّ به معنى إلّا أن تجعل «إلّا» زائدة ، ولا وجه لتوجيه حذف في كتاب الله جلّ وعزّ إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها ، والقراءة جيدة على أن يكون المعنى لأنهم لا يعجزون ، وزعم الفراء أنه تجوز قراءة حمزة على إضمار «أن» يكون المعنى

__________________

(١) وهذه قراءة حفص وابن عامر أيضا ، انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٥ ، وتيسير الداني ٩٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ ، ومعاني الفراء ١ / ٤١٤.

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ١٨٧ ، ولسان العرب (آ) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٦٤ ، وبلا نسبة في المخصص ١٣ / ٨٦ ، وفي الديوان (وصلّ).

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٦.

١٠٢

ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا قال أبو جعفر : لا يجوز إضمار «أن» إلا بعوض ومن أضمرها فقد أضمر بعض اسم وقد شبّه الفراء هذا بقولهم : عسى يقوم زيد ، وهو لا يشبهه لأن «أن» لو كانت هاهنا مضمرة لنصبت يقوم ، وقد ذكرنا أنه من قرأ (لا يُعْجِزُونَ) (١) بكسر النون فقد لحن.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كل ما تعدّه لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عددك. وقرأ الحسن (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ) (٢) على التكثير ، وقرأ بو عبد الرحمن (عَدُوًّا لِلَّهِ) (٣). (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) عطف على عدو ويجوز أن يكون عطفا على وأعدوا لهم بإضمار فعل.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) لأن السلم مؤنّثة ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة ، وحكى أبو حاتم (فَاجْنَحْ) (٤) لها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) ابتداء وخبر أي كافيك الله ، ويقال : أحسبه إذا كفاه (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) في موضع نصب معطوف على الكاف في التأويل أي يكفيك الله ويكفي من اتّبعك كما قال: [الطويل]

١٧٤ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (٥)

ويجوز أن يكون (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) (٦) في موضع رفع ، وللنحويين فيه على هذا ثلاثة

__________________

(١) هذه قراءة ابن محيصن ، انظر مختصر ابن خالويه ٥٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٥٠٦.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٥٠.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٤١٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥٠٩.

(٥) الشاهد لجرير في ذيل الأمالي ١٤٠ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٨١ ، وسمط اللئالي ص ٨٩٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٧٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٤٠٧ ، وشرح المفصل ٢ / ٥١ ، ولسان العرب (حسب) و (هيج) ، و (عصا) ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٦٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٨٤.

(٦) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١١.

١٠٣

أقوال : قال أبو جعفر : سمعت علي بن سليمان يقول : يكون عطفا على اسم الله جلّ وعزّ أي حسبك الله ومن اتّبعك قال : ومثله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يكفينيه الله وأبناء قيلة» (١) والقول الثاني أن يكون التقدير: ومن اتّبعك من المؤمنين كذلك على الابتداء وأخبر كما قال الفرزدق : [الطويل]

١٧٥ ـ وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (٢)

والقول الثالث : أحسنها أن يكون على إضمار بمعنى وحسبك من اتّبعك من المؤمنين وهكذا الحديث على إضمار ومن كفى. القول الأول لأنه قد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يقال : ما شاء الله وشئت ، والقول الثاني فالشاعر مضطرّ فيه إذا كانت القصيدة مرفوعة وإن كان فيه غير هذا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥)

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) اسم «يكن» فإن قال قائل : لم كسر أول العشرين وفتح أول ثلاثين وما بعده إلى ثمانين إلّا ستين؟ فالجواب عند سيبويه (٣) أنّ عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان والدليل على هذا قولهم ستّون وتسعون كما قيل : ستّة وتسعة.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

وقرأ أبو جعفر وعلم أنّ فيكم ضعفاء كما يقال كريم وكرماء ، وقراءة أهل المدينة وأبي عمرو ضعفا(٤) وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد. قال أبو عبيد : لكثرة من قرأ بها وأنها قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن اتّبعه عليها ، وهذا الكلام وإن كان أبو عبيد رحمه‌الله معلوما منه أنه لم يقصد إلا إلى خير وإنما يقال : ومن اتّبعه فيمن يجوز أن يخالف ، وإسناد الحديث ليس بذاك. وقال أبو عمرو بن العلاء : الضّعف لغة أهل الحجاز ، والضّعف لغة تميم فأمّا التفريق بينهما فلا يصحّ أعني في المعنى.

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ٨ / ٤٣.

(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٢٦ ، وجمهرة أشعار العرب ٨٨٠ ، وجمهرة اللغة ٣٨٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٣٧ ، والخصائص ١ / ٩٩ ، ولسان العرب (سحت) و (جلف) و (ودع) ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٨ ، وجمهرة اللغة ٤٨٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ٢٧٩ ، وشرح المفصل ١ / ٣١ ، والمحتسب ١ / ١٨٠.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٢٦٦.

(٤) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٣.

١٠٤

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧)

(أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) وتكون على تأنيث الجماعة أسرى أسارى وأسارى. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أي المغانم والفداء ، (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يريد لكم ثواب الآخرة لأنه خير لكم.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٦٨)

فيه خمسة أجوبة : فمن أحسنها أنّ المعنى لو لا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم ، وقيل : المعنى لو لا كتاب من الله نزل وهو القرآن فآمنتم به فاستحققتم العفو والصفح لعذّبكم ، وقيل : المعنى لو لا أنّ الله جلّ وعزّ كتب أنه سيحل لكم المغانم لعذّبكم ، والجواب الخامس أن المعنى لو لا أنّ الله جلّ وعز كتب أنه يغفر لأهل بدر ما تقدّم من ذنوبهم وما تأخّر لعذّبكم. ومعنى (لَوْ لا) في اللغة امتناع شيء لوقوع شيء. و (كِتابٌ) مرفوع بالابتداء و (سَبَقَ) في موضع النعت له ولا يكون خبرا لأنه لا يجوز أن يؤتى بخبر لما ارتفع بعد لو لا بالابتداء. هذا قول سيبويه والتقدير لو لا كتاب من الله سبق تدارككم (لَمَسَّكُمْ) والأصل فيها فعل ثم أدغمت ويجوز الإظهار كما قال : [البسيط]

١٧٦ ـ مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي

أنّى أجود لأقوام وإن ضننوا (١)

(فِيما أَخَذْتُمْ) أدغمت الذال في التاء لأن المهموس أخفّ ويجوز الإظهار هنا.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) في الفاء معنى الشرط والمجازاة ، وقال سيبويه (٢) فالكلم اسم وفعل وحرف ، والتقدير في الآية قد أحللت لكم الفداء فكلوا ممّا غنمتم ، (حَلالاً طَيِّباً) منصوب على الحال.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٠)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال (لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ)

__________________

(١) الشاهد لقعنب بن أم صاحب في الخصائص ١ / ١٦٠ ، والكتاب ١ / ٥٨ ، وسمط اللآلي ٥٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٨ ، ولسان العرب (ظلل) و (ضنن) ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ونوادر أبي زيد ٤٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ١٥٠ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢ ، ولسان العرب (حمم) ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، والمنصف ٢ / ٦٩.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٠.

١٠٥

فيه ثلاثة أجوبة : يكون المعنى يا أيّها النبي قل لهم قولوا لمن في أيديكم من الأسرى ، ويكون على أنّ المخاطبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مخاطبة لأمته كما قال جلّ وعزّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ويكون على تحويل المخاطبة في (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، فأمّا أن يكون على التعظيم فبعيد. (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) شرط وكسرت الميم لالتقاء الساكنين والجواب (يُؤْتِكُمْ) فلذلك حذفت منه الياء.

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) أي في نقض العهد لأنهم عاهدوه ألّا يحاربوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إن فعلوا هذا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي خانوا أولياءه المؤمنين بديئا. وجمع خيانة خيائن وكان يجب أن يقال : خوائن لأنه من ذوات الواو إلّا أنهم فرّقوا بينه وبين جمع خائنة ، ويقال : خائن وخون وخونة وخانة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) اسم إنّ. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) معطوف عليه. (أُولئِكَ) رفع بالابتداء (بَعْضُهُمْ) ابتداء ثان. (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) خبره والجميع خبر إنّ ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء ، والخبر (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة من ولايتهم (٢). يقال : وليّ بيّن الولاية ووال بيّن الولاية. قال أبو جعفر : والفتح في هذا أبين وأحسن لأنه بمعنى النصر ، وقال أبو إسحاق : ويجوز الكسر لأنه مشتمل فصار كالصناعة وكالخياطة. قال : ويجوز (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) بالنصب على الإغراء.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

وقال الكسائي : يجوز النصب في قوله : (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٣).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤)

(حَقًّا) مصدر.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٨ ، وتيسير الداني ٩٦.

(٣) انظر البحر المحيط ٤ / ٥١٨.

١٠٦

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ابتداء والواحد «ذو» والرحم مؤنثة. (بَعْضُهُمْ) ابتداء. (أَوْلى بِبَعْضٍ) الخبر والجملة خبر الأول ، وفي قوله (فِي كِتابِ اللهِ) جلّ وعزّل. أقوال : منها أن هذه الآية تدلّ على أنه لا يورّث إلّا من كان له في كتاب الله ذكر إلّا أن يجمع المسلمون على شيء أو يصحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل معنى (فِي كِتابِ اللهِ) في اللوح المحفوظ ، وقيل (فِي كِتابِ اللهِ) في حكم الله كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (١) جلّ وعزّ فقضى بالجلد وتغريب عام والرجم عليها إذا كانت محصّنة ، وليس في القرآن الرجم فقيل : معنى «بكتاب الله» جلّ وعزّ بحكم الله ، وقيل: لمّا قال جلّ وعزّ (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] كان القبول من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب الله جلّ وعزّ : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اسم «إنّ» وخبرها.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه ، الحدود ، حديث ٤٤٤٥ ، والترمذي في سننه الحدود ٦ / ٢٠٦.

١٠٧

(٩)

شرح إعراب سورة براءة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

من ذلك قوله جلّ وعزّ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ).

رفع بالابتداء ، والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وحسن الابتداء بالنكرة لأنها قد وصلت ، ويجوز أن ترفع براءة على أنها خبر ابتداء محذوف. يقال : برئت من العهد والدّين والرجل براءة ، وبرأت من المرض أبرأ ، ولا يعرف فعلت أفعل مما لامه همزة إلا هذا ويقال : برئت من المرض أبرأ برءا وبرءوا ، وبريت القلم وأبريت الناقة جعلت في أنفها برة. وهي حلقة من حديد ، فإن كانت من خشب فهي خشاش ، وإن كانت من شعر فهي خزامة. والوقف براءه بالهاء. قال سيبويه : أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو تاء القت. قال : وزعم أبو الخطاب أنّ ناسا من العرب يقولون : طلحت كما فعلوا بتاء الجميع. (مِنَ اللهِ) فتحت النون لالتقاء الساكنين هذه اللغة الفصيحة ، وللنحويين فيها أقوال : قال الكسائي : أصل (من) منا حذفوا الألف وأبقوا الفتحة ، وقيل : كرهوا الجمع بين كسرتين فحركوها في أكثر المواضع بالفتح. قال أبو جعفر : وأحسن ما قيل في هذا قول سيبويه(١) قال : لمّا كثر استعمالهم لها ولم يكن فعلا وكان الفتح أخفّ عليهم فتحوا وشبهوها بأين وكيف. قال سيبويه : وناس من العرب يكسرون فيقولون : من الله على القياس. قال أبو حاتم : زعم هارون أن أبا عمرو بن العلاء قرأ براءة من الله إلى الذين عاهدتم (٢) وإن شئت قلت : عاهدتمو على الأصل والحذف لأن الواو ثقيلة.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) قال الكسائي : المصدر سيوحا وسيحانا وسياحة. قال الفراء : وساح الماء سيحا. (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أثبت الهاء فرقا بين المذكر والمؤنث. قال أبو جعفر :

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٢٦٥.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٥١.

١٠٨

وقد ذكرناه ، وذكرنا ما هذه الشهور (١). (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ) في موضع نصب باعلموا وإن شئت قلت: أنّكمو كما تقدّم غير معجزي الله حذفت النون للإضافة. ويجوز على قول سيبويه أن تحذفها لالتقاء الساكنين وتنصب.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣)

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) عطف على براءة. (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ظرف وقد ذكرنا ما قيل فيه ، والحجّ الأصغر العمرة. (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في موضع نصب ، والتقدير «بأن الله» ، ومن قرأ إنّ الله قدّره بمعنى قال إنّ الله ، (بَرِيءٌ) خبر. (وَرَسُولِهِ) عطف على الموضع ، وإن شئت على المضمر كلاهما حسن لأنه قد طال الكلام ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (٢) عطف على اللفظ.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في موضع نصب بالاستثناء.

قال الأخفش التقدير واقعدوا لهم على كل مرصد وحذفت «على» قال أبو جعفر : قد حكى سيبويه : ضرب الظهر والبطن ، بحذف «على» إلّا أنّ (كُلَّ مَرْصَدٍ) نصبه على الظرف جيّد كما تقول :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) أي من القتل و (أَحَدٌ) مرفوع بإضمار فعل كالذي بعده وهذا حسن في «إن» وقبيح في أخواتها ، ومذهب سيبويه في الفرق بين إن وأخواتها أنها لمّا كانت أمّ حروف الشرط لأنها لا تكون لغيره خصّت بهذا ، وقال محمد بن يزيد : أما قوله لأنها لا تكون في غيره فغلط لأنها تكون بمعنى «ما» ،

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٨٠.

(٢) انظر البحر المحيط ٤ / ٨.

١٠٩

وزائدة ، ومخففة من الثقيلة ولكنها مبهمة وليس كذا غيرها وأنشد سيبويه : [الكامل]

١٧٧ ـ لا تجزعي إن منفسا أهلكته

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (١)

(ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) مفعولان حذف من أحدهما الحرف والجمع مآمن.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) اسم يكون (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) استثناء. قال محمد بن إسحاق : هم بنو بكر.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) قال الأخفش سعيد : أضمر ، أي كيف لا تقتلونهم والله أعلم ، وقال أبو إسحاق : المعنى كيف يكون لهم عهد ثم حذف كما قال : [الطويل]

١٧٨ ـ وخبرتماني أنّما الموت بالقرى

فكيف وهذا هضبة وكثيب (٢)

قال : التقدير وكيف مات (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وبعده (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وليس هذا تكريرا ولكن الأول لجميع المشركين والثاني لليهود خاصة ، والدليل على هذا قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني اليهود باعوا حجج الله جلّ وعزّ وبيانه بطلب الرئاسة وطمع في شيء وجمع إل آلال في القليل ، والكثير ألال ، وذمّة وذمم.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

(فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم.

__________________

(١) الشاهد للنمر بن تولب في الكتاب ١ / ١٨٨ ، وديوانه ٧٢ ، وتخليص الشواهد ٤٩٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٤ ، وسمط اللآلي ٤٦٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٦٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٧٢ ، وشرح المفصّل ٢ / ٣٨ ، ولسان العرب (نفس) و (خلل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٣٥ ، وبلا نسبة في الأزهيّة ص ٢٤٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٥١ ، والجنى الداني ٧٢ ، وجواهر الأدب ٦٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢ ، والردّ على النحاة ١١٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٨٨ ، وشرح ابن عقيل ٢٦٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١٦٦ ، والمقتضب ٢ / ٧٦.

(٢) الشاهد لكعب بن سعد الغنوي في اللسان (قول) و (هذا) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٣ / ١٣٦ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٨٣.

١١٠

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) جمع إمام ، والأصل أأممة كمثال وأمثلة ثم أدغمت الميم في الميم ، وقلبت الحركة على الهمزة همزتان فأبدلت من الثانية ياء ، وزعم الأخفش أنّك تقول : هذا أيمّ من هذا بالياء. قال المازني : أومّ بالواو. وقرأ حمزة فقاتلوا أامّة الكفر (١). فأكثر النحويين يذهب إلى أنّ هذا لحن لا يجوز لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة ، وزعم أبو إسحاق أنه جائز على بعد ، قال : لأنه قد وقع في الكلمة علّتان الإدغام والتضعيف فلمّا ألقيت حركة الميم على الهمزة تركت الهمزة لتدلّ بحركتها على ذلك.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣)

(أَلا تُقاتِلُونَ) توبيخ وفيه معنى التحضيض.

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

(قاتِلُوهُمْ) أمر. (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) جوابه وهو جزم بمعنى المجازاة ، والتقدير إن تقاتلوهم يعذّبهم الله. (بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) كلّه عطف ، ويجوز فيه كله الرفع على القطع من الأول ويجوز النصب على إضمار أن وهو محمول على المعنى ، والكوفيون يقولون على الصرف كما قال : (٢) [الوافر]

١٧٩ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والشّهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام

وإن شئت رفعت ونأخذ وإن شئت نصبته. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) القراءة بالرفع لأنه ليس من جنس الأول لأن القتال غير موجب لهم التوبة من الله جلّ وعزّ وهو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٩٦ ، قراءة الكوفيين وابن عامر (أئمة) بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفا ، وقراءة الباقين بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مدّ.

(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٠٦ ، والأغاني ١١ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥١١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨ ، والكتاب ١ / ٢٥٨ ، وشرح المفصّل ٦ / ٨٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٧٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ٢٠٠ ، والأشباه والنظائر ٦ / ١١ ، والاشتقاق ص ١٠٥ ، وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤٥٨ ، والإنصاف ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١ ، وشرح عمدة الحافظ ٣٥٨ ، ولسان العرب (حبب) ، و (ذنب) ، والمقتضب ٢ / ١٧٩.

١١١

موجب لهم العذاب والخزي وشفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم ، ونظيره (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) تم الكلام ثم قال (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) [الشورى : ٢٤] وقرأ ابن أبي إسحاق ويتوب الله (١) بالنصب وكذا روي عن عيسى والأعرج. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

(أَمْ حَسِبْتُمْ) خروج من شيء إلى شيء. (أَنْ تُتْرَكُوا) في موضع المفعولين على قول سيبويه ، وعند أبي العباس أنه قد حذف الثاني ، (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) جزم بلمّا وإن كانت «ما» زائدة فإنّها عند سيبويه تكون جوابا لقولك قد فعلت وكسرت الميم لالتقاء الساكنين. قال الفراء (وَلِيجَةً) بطانة من المشركين يتخذونهم ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧)

(أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) اسم كان. (شاهِدِينَ) على الحال. و (أُولئِكَ) ابتداء. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الخبر.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) (ما) كافة والفعل متقدّم لأنه لمن. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) حذفت الألف للجزم. قال سيبويه : واعلم أنّ الآخر إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلّا يكون الجزم بمنزلة الرفع. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) وعسى من الله جلّ وعزّ واجبة.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩)

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) التقدير في العربية أجعلتم أصحاب سقاية الحاجّ وقيل : التقدير كإيمان من آمن بالله وجعل الاسم موضع المصدر إذ علم معناه مثل : إنّما

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ١٩.

١١٢

السخاء حاتم وإنّما الشعر زهير. (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقرأ أبو وجزة أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام (١) سقاة جمع ساق والأصل فيه سقية على فعلة كذا الجمع المعتلّ من هذا نحو قاض وقضاة وناس ونساة فإن لم يكن معتلا جمع على فعلة نحو ناسئ ونسأة للذين كانوا ينسئون الشهور.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)

(الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع رفع بالابتداء ، وخبره (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) ، و (دَرَجَةً) على البيان.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

(خالِدِينَ) نصب على الحال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) مفعولان. (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تطيعوهم ولا تختصّوهم.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) اسم «كان» وما بعده معطوف عليه. (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) خبر كان ويجوز في غير القرآن رفع «أحبّ» على الابتداء والخبر واسم كان مضمر فيها ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

١٨٠ ـ إذا متّ كان النّاس صنفان شامت

وآخر مثن بالّذي كنت أصنع (٢)

وأنشد سيبويه : [البسيط]

١٨١ ـ هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الدّاء مبذول (٣)

__________________

(١) هذه قراءة ابن الزبير والباقر وأبي حيوة ، انظر البحر المحيط ٥ / ٢٢.

(٢) الشاهد للعجير السلولي في الكتاب ١ / ١١٨ ، والأزهيّة ص ١٩٠ ، وتخليص الشواهد ٢٤٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٧٢ ، والدرر ١ / ٢٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٨٥ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٦ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٣٦ ، واللمع في العربية ص ١٢٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٧.

(٣) الشاهد لهشام أخي ذي الرمة في الكتاب ١ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٤ ، ولهشام بن عقبة في ـ

١١٣

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥)

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) قال الفراء (١) : لم ينصرف مواطن لأنه جمع ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع ، إلّا أن الشاعر ربما اضطرّ فجمع وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر ، وأنشد : [الرجز]

١٨٢ ـ فهنّ يعلكن حدائداتها (٢)

قال أبو جعفر : رأيت أبا إسحاق يتعجّب من هذا قال : أخذ قول الخليل رحمه‌الله وأخطأ فيه لأن الخليل يقول لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد ولا يجمع جمع التكسير فأما بالألف والتاء فلا يمتنع.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ظرف أي ونصركم يوم حنين. وانصرف حنين لأنه مذكر اسم واد ومن العرب من لا يجريه يجعله اسما للبقعة ، (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) حذفت الياء للجزم.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢٦)

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي أنزل عليهم ما يسكّنهم ويذهب خوفهم حتى اجترءوا على قتال المشركين. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة يقوّون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال لأن الملائكة صلوات الله عليهم لم تقاتل إلا في يوم بدر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨)

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابتداء وخبر. (فَلا يَقْرَبُوا) نهي فلذلك حذفت منه النون.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ

__________________

ـ الأزهية ص ١٩١ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٨٥ ، وتذكرة النحاة ١٤١ ، والدرر ٢ / ٤٢ ، ولذي الرمّة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢١ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ٢ / ٨٦٨ ، ورصف المباني ٣٠٢ ، وشرح المفصّل ٣ / ١١٦ ، والمقتضب ٤ / ١٠١ ، وهمع الهوامع ١ / ١١١.

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٢٨.

(٢) الشاهد بلا نسبة في معاني الفراء ١ / ٤٢٨ ، وتاج العروس (حدد) وللسان العرب (حدد).

١١٤

بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) للنحويين في هذا أقوال : فمن أحسنها أنه مرفوع على إضمار مبتدأ والتقدير صاحبنا عزير ، وأنشد الأخفش : [الطويل]

١٨٣ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر (١)

ويجوز أن يكون (عُزَيْرٌ) رفع بالابتداء و (ابْنُ) خبره ، ويحذف التنوين لالتقاء الساكنين أجاز سيبويه مثل هذا بعينه ، وقول ثالث لأبي حاتم قال : لو قال قائل إنّ عزيرا اسم عجمي فلذلك حذفت منه التنوين. قال أبو جعفر : هذا القول غلط لأن عزيرا اسم عربيّ مشتق قال الله جلّ وعزّ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩] ولو كان عجميا لانصرف لأنه على ثلاثة أحرف في الأصل ثم زيدت عليه ياء التصغير ، وقد قرأ القراء من الأئمة في القراءة واللغة (عُزَيْرٌ) منوّنا. قرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبان بن تغلب وعاصم والكسائي (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وهذا بيّن على الابتداء والخبر وكذا (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وكذا (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقرأ عاصم وطلحة (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) وجعل الهمزة من الأصل وقدّر ضهيئا فعيلا. وترك الهمز أجود لأنه لا نعلم أحدا من أهل اللغة حكى أنّ في الكلام فعيلا وإذا لم يهمز قدّر ظهياء فعلاء ، الهمزة زائدة كما زيدت في شأمل وغرقئ إلا أنه يجوز أن يكون فعيلا لا نظير له كما أن كنهبلا فنعلل لا نظير له كما أن قرنفلا فعنلل لا نظير له.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١)

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) مفعولان. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) منصوب على إضمار فعل ويجوز أن يكون عطفا.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢)

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان.

__________________

(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ٣٧ ، والكتاب ٣ / ١٩٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ١١٣ ، وشرح شواهد المغني ص ١٣٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٣٨ ، ولأوس بن حجر في ديوانه ٤٩ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٢٨ ، وللأسود أو للعين المنقري في الدرر ٦ / ٩٨ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٢١ ، ولسان العرب (شعث) ، والمحتسب ١ / ٥٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٤٢ ، والمقتضب ٣ / ٢٩٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٣٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٣٢ ، وباقي السبعة بغير همز.

١١٥

(بِأَفْواهِهِمْ) جمع فوه على الأصل لأن الأصل في فم فوه مثل حوض وأحواض ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) يقال : كيف دخلت إلّا وليس في الكلام حرف نفي؟ ولا يجوز ضربت إلّا زيدا فزعم الفراء (١) أن «إلّا» إنما دخلت في الكلام طرفا من الجحد ، قال أبو إسحاق : الجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف وأدوات الجحد «ما ولا ولم ولن وليس» وهذه لا أطراف لها ينطق بها ، ولو كان الأمر كما أراد لجاز كرهت إلا زيدا ولكن الجواب أنّ العرب تحذف مع «أبى» والتقدير ويأبى الله كلّ شيء إلّا أن يتمّ نوره. قال علي بن سليمان : إنما أجاز هذا في يأبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال أبو جعفر : وهذا قول حسن كما قال : [الطويل]

١٨٤ ـ وهل لي أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلّا أن أكون لها ابنما (٢)

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

(لِيُظْهِرَهُ) لام كي أي ليظهره بالحجّة والبراهين وقد أظهره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٤)

(إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ) دخلت اللام على يفعل ولا تدخل على فعل بمضارعة يفعل الأسماء (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) رفع بالابتداء ويجوز أن يكون معطوفا على ما في يأكلون أي ويأكلها الذين يكنزون الذهب والفضة. (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ولم يقل ينفقونهما ففيه أربعة أقوال يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز ، ويكون ولا ينفقون الأموال ، ويكون ولا ينفقون الفضة وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد سيبويه : [المنسرح]

١٨٥ ـ نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والرّأي مختلف (٣)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٤٣٣.

(٢) الشاهد للمتلمس في ديوانه ص ٣٠ ، والأصمعيات ص ٣٤٥ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٥٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٩٣ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ١٨٢ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ١١٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨١٦ ، وشرح المفصّل ٩ / ١٣٣ ، والمنصف ١ / ٥٨.

(٣) الشاهد لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ٢٣٩ ، والكتاب ١ / ١٢٣ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٥ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٥٧ ، ولعمرو بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧ ، ـ

١١٦

والتقدير الرابع أن يكون ينفقونها للذهب والثاني معطوفا عليه. (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في موضع خبر الابتداء أي اجعل لهم موضع البشارة عذابا أليما.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

(يَوْمَ) ظرف والتقدير يعذّبون. (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ). (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) اسم ما لم يسمّ فاعله. (وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) عطف. (هذا ما كَنَزْتُمْ) أي يقال لهم.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦)

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) اسم «إنّ» وخبرها ، وأعربت (اثْنا عَشَرَ) دون نظائرها لأن فيها حرف الإعراب أو دليله ، (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ابتداء وخبر وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ذلِكَ الدِّينُ) أي ذلك القضاء. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الأكثر أن يكون هذا للأربعة لأن أكثر ما تستعمل العرب فيما جاوز العشرة «فيها ومنها». (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) مصدر في موضع الحال ، قال أبو إسحاق : مثل هذا من المصادر عافاه الله عافية ، وعاقبه عاقبة لا يثنّى ولا يجمع وكذا عامّة وخاصّة. قال : ومعنى كافة معنى محيطين بهم مشتقّ من كفّة الشيء وهي حرفه لأنك إذا بلغت إليه كففت عن الزيادة.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) هكذا يقرأ أكثر الأئمة ولم يرو أحد عن نافع علمناه. (إِنَّمَا النَّسِيءُ) (١) بلا همز إلا ورش وحده ، وهو مشتقّ من نسأه وأنسأه إذا أخره. حكى اللغتين الكسائي ، فنسىء بمعنى منسؤ أو منسأ. قال أبو عبيد : وقرأها ابن

__________________

ـ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٧٩ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٤٥٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ٢١٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٢٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٩.

(١) قرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني (النسيّ) بتشديد الياء من غير همز.

١١٧

كثير بغير مدّ ولا همز قال أبو حاتم : قرأها ابن كثير بإسكان السين. قال أبو جعفر : المعروف عن قراءة ابن كثير (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) على فعيل. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وقرأ الكوفيون (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرأ الحسن وأبو رجاء (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) بضم الياء وكسر الضاد. والقراءات الثلاث كلّ واحدة منها تؤدي عن معنى. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أوتيت جوامع الكلم» (٣) فيضلّ به الذين كفروا ، إلّا أنهم يحسبونه فيضلّون به ، ويضلّ به الذين كفروا بمعنى المحسوب لهم ، و (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد حذف منه المفعول أي يضلّ به الذين كفروا من يقبل منهم. (لِيُواطِؤُا) نصب بلام كي (فَيُحِلُّوا) عطف عليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٣٨)

(ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) الأصل تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء لقربها منها فاحتجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن ، والمعنى : اثّاقلتم إلى نعيم الأرض وإلى الإقامة بالأرض ، والتقدير أرضيتم بنعيم الدنيا من نعيم الآخرة. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) ابتداء وخبر.

(إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

(إِلَّا تَنْفِرُوا) شرط فلذلك حذفت منه النون والجواب (يُعَذِّبْكُمْ). (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) عطف. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ابتداء وخبر.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) شرط ومجازاة. (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظرف.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، ومعاني الفراء ١ / ٤٣٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، ومختصر ابن خالويه ٥٢.

(٣) أخرجه مسلم في المساجد ٧ ، ٨ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٢٥٠ ، ٣١٤ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٧٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٠٦٨.

١١٨

(ثانِيَ اثْنَيْنِ) نصب على الحال أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر رضي الله عنه أي أحد اثنين. قال علي بن سليمان : التقدير فخرج ثاني اثنين مثل (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧]. (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فأشاد جلّ وعزّ بذكر أبي بكر رضي الله عنه ، ورفع قدره بخروجه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذله نفسه ولو أراد أن يهاجر آمنا لفعل ، وقوله (لا تَحْزَنْ) فيه معنى أمنه كما قال (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] وقال في قصة لوطعليه‌السلام (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) [العنكبوت : ٣٣] وفي قصة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَخَفْ) [الذاريات: ٢٨] وقال (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي ينصرنا ويمنع منا فأوجب لأبي بكر رضي الله عنه بهذا التقى والإحسان كما قال جلّ وعزّ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨]. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) القول عند أكثر أهل التفسير وأهل اللغة أن المعنى فأنزل الله سكينته على أبي بكر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم أنه معصوم والله جلّ وعزّ أمره بالخروج وأنه ينجيه والدليل على هذا أنه قال لأبي بكر (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فسكن أبو بكر رضي الله عنه ، قال الله جلّ وعزّ فأنزل الله سكينته عليه ومعنى الفاء في العربية أن يكون الثاني يتبع الأول ، فكما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحزن إنّ الله معنا سكن واطمأن ، وليس هذا مثل (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٢٦] لأن هذا في يوم حنين لمّا اضطرب المسلمون خاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد علم أنه في نفسه معصوم ، فلمّا أيّد الله المؤمنين ورجعوا سكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك وزال خوفه الذي لحقه على المؤمنين ، (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الهاء تعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالضميران مختلفان ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب قال الله جلّ وعزّ (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [العلق : ١١ ، ١٢ ، ١٣] ثم قال (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤]. (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي وصفها بهذا ، (وَكَلِمَةُ اللهِ) ابتداء. (هِيَ الْعُلْيا) ابتداء وخبر ، والابتداء والخبر خبر الأول ، ويجوز أن يكون «العليا» الخبر ، و «وهي» فاصلة ، وقرأ الحسن ويعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) (١) بالنصب عطفا على الأول ، وزعم الفراء أنّ هذا بعيد. قال : لأنك تقول : أعتق فلان غلام أبيه ولا تقول : غلام أبي فلان ، وقال أبو حاتم نحوا من هذا ، قال : كأن يكون وكلمته هي العليا. قال أبو جعفر : الذي ذكره الفقراء لا يشبه الآية ولكن يشبهها ما أنشده سيبويه : [الخفيف]

١٨٦ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٢)

وهذا جيد حسن لأنه لا إشكال فيه بل يقول النحويون الحذّاق : إنّ في إعادة

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٥٢ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٦.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧٠).

١١٩

الذّكر في مثل هذا فائدة وهي أنّ فيه معنى التعظيم. قال الله جلّ وعزّ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ١ ، ٢] فهذا لا إشكال فيه. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ابتداء وخبر.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

(انْفِرُوا) حكى الأخفش «انفروا» ، (خِفافاً وَثِقالاً) نصب على الحال ، وفيه قولان : أحدهما أنه منسوخ بقوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] ، والآخر أنه غير منسوخ لأن الجهاد فرض إلّا أنّ بعض المسلمين يحمله عن بعض فإذا وقع الاضطرار وجب الجهاد على كلّ أحد.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) خبر كان. (وَسَفَراً قاصِداً) عطف عليه. (لَاتَّبَعُوكَ) وهذه الكناية للمنافقين لأنهم داخلون فيمن خوطب بالنفير. وهذا موجود في كلام العرب يذكرون الجملة ثم يأتون بالإضمار عائدا على بعضها كما قيل في قول الله جلّ وعزّ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] إنها القيامة ثم قال جلّ وعزّ : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] يعني جلّ وعزّ جهنم. حكى أبو عبيدة (١) : إنّ (الشُّقَّةُ) السفر ، وحكى الكسائي : إنه يقال: شقّة وشقّة.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣)

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) في معناه قولان : أحدهما أنه افتتاح الكلام كما تقول : أصلحك الله كان كذا وكذا ، والقول الآخر وهو أولى لأن المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم ويدلّ على هذا (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) لأنه لا يقال : لم فعلت ما أمرتك به؟ والأصل «لما» حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ، وأنّ «ما» قد اتّصلت باللام ولا يوقف عليها إلّا بالهاء لمه.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥)

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) في موضع نصب. قال

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ٢٦٠.

١٢٠