إعراب القرآن - ج ١

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 2-7451-3023-4
الصفحات: ٢٩٣

(ما) في موضع رفع أي ويفتيكم القرآن. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) في موضع خفض لأنه عطف على اليتامى ، وكذا (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ).

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨)

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) رفعت امرأة بإضمار فعل يفسره ما بعده وإنما يحسن هذا في ان لقوّتها في باب المجازاة وإذا كان الفعل ماضيا وهو يجوز في المستقبل في الشعر وأنشد سيبويه : [الخفيف]

١٠٦ ـ وإذا واغل ينبهم يحيّوه

وتعطف عليه كأس السّاقي (١)

وقول من قال : خفت بمعنى تيقّنت خطأ. قال أبو إسحاق (٢) : المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. قال أبو جعفر : الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد والإعراض أن لا يكلّمها ولا يأنس بها فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا (٣) هذه قراءة المدنيين وقرأ الكوفيون (أَنْ يُصْلِحا) (٤) وقرأ عاصم (الجحدي) أن يصلحا (٥) بفتح الياء وتشديد الصاد وفتحها ، وقرءوا كلّهم صلحا إلا أنه روي عن الأعمش أنه قرأ إلّا أن يصلحا بينهما إصلاحا. قال أبو جعفر : وهذا كله محمول على المعنى كما يقال : هو يدعه تركا فمن قال : يصلحا فالمصدر إصلاحا على قوله وصلح اسم ، ومن قال : يصّالحا فالمصدر إصلاحا ، والأصل : تصالحا ثم أدغم ومن قال : يصّلحا فالأصل عنده يصطلحا اصطلاحا ثم يدغم ونظيره قول امرئ القيس : [الطويل]

١٠٧ ـ ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (٦)

وقال القطامي : [الوافر]

١٠٨ ـ وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا (٧)

لأن معنى تتبّعه وتتّبعه واحد. وللنحويين في هذا قولان : فمنهم من يقول : العامل فيه فعل محذوف والمعنى إلا أن يصّالحا بينهما فيصلح الأمر صلحا فعلى هذا

__________________

(١) الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه ص ١٥٦ ، والإنصاف ٢ / ٦١٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٦ ، والدرر ٥ / ٧٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٨ ، والكتاب ٣ / ١٢٨ ، وبلا نسبة في شرح المفصّل ٩ / ١٠ ، ولسان العرب (وغل) ، والمقتضب ٢ / ٧٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٩ ، وتاج العروس (وغل) ، وفي رواية «فمتى واغل».

(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه ص ٥٨٧.

(٣) هذه قراءة السبعة ، انظر البحر المحيط ٣ / ٣٧٩.

(٤) مرّ الشاهد رقم (٧٨).

(٥) مرّ الشاهد رقم (٧٧).

٢٤١

القول لا يكنى عن المصدر متّصلا ، ومنهم من يقول العامل فيه الأول والكلام محمول على المعنى فهذا يكنى عنه متصلا ، وهذا يقع مشروحا في باب الألف واللام. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ابتداء وخبر. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي تشح بما لها فيه من المنفعة. (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) أي وإن تؤثروا الإحسان والتقوى فتجملوا العشرة. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وإذا خبّره جازى عليه.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩)

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) قيل : في القسمة واللّين والكسوة وقال الحسن والضحاك : في الحبّ والجماع (١). (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) مصدر ، وقال الحسن (٢) والضحاك : ولا تمل إلى الشابّة وتترك الأخرى لا أيمّا فتتزوج ولا ذات زوج. (فَتَذَرُوها) منصوب لأنه جواب النهي. (كَالْمُعَلَّقَةِ) الكاف في موضع نصب.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١)

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) عطف على «الذين». (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) في موضع نصب. قال الأخفش : أي بأن تتقوا الله.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١٣٣)

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) شرط وجوابه (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) عطف على الجواب.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ) في موضع نصب لأنه خبر كان. (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) رفع بالابتداء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥)

(كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ) نعت لقوّامين وإن شئت كان خبرا بعد خبر. وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في قوامين من ذكر «الذين آمنوا» لأنه يصير المعنى كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم وحين شهادتكم ولم ينصرف لأن فيه ألف

__________________

(١) وهو قول عمر وابن عباس أيضا ، انظر البحر المحيط ٣ / ٣٨٠ وتفسير الطبري ٥ / ٣١٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٥ / ٣١٦.

٢٤٢

التأنيث. (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ولو كان الحق على أنفسكم. (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) عطف بأو. (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا) خبر يكن واسمها فيها مضمر أي أن يكون المطالب غنيا ، (أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ولم يقل به و «أو» إنما يدلّ على الحصول لواحد ، ففي هذا للنحويين أجوبة قال الأخفش : تكون «أو» بمعنى الواو قال : ويجوز أن يكون التقدير إن يكن من تخاصم غنيّين أو فقيرين فقال : غنيا فحمله على لفظ من مثل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [محمد : ١٦] والمعنى يستمعون. قال أبو جعفر : والقولان خطأ لا تكون «أو» بمعنى الواو ولا تضمر من كما لا يضمر بعض الاسم ، وقيل إنما قال بهما لأنه قد تقدّم ذكرهما كما قال (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [النساء : ١٢]. (أَنْ تَعْدِلُوا) في موضع نصب. وقرأ ابن عامر والكوفيون (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) (١) وقد ذكرناه ، والفعل منه لوى والأصل فيه لوي قلبت الياء ألفا بحركتها وحركة ما قبلها والمصدر ليّا والأصل لويا وليّانا والأصل لويانا ثم أدغمت الواو وفي الحديث «ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه» (٢) قال ابن الأعرابي : عقوبته حبسه وعرضه شكايته ، وزعم بعض النحويين أنّ من قرأ (تلوا) بمعنى «تلووا» والأصل : تلؤوا همزت الواو كما يقال : (أُقِّتَتْ) فصار تلؤوا ثم خفّفت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فوجب أن تحذف فصار تلو.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) اسم «إنّ» والخبر (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ويقال : الله لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)؟ فالجواب إنّ الكافر إذا آمن غفر له كفره فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول ومعنى «ثم ازدادوا كفرا» أصرّوا على الكفر. (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الجنّة وقيل : لا يخصّهم بالتوفيق كما يخصّ أولياءه.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩)

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نعت للمنافقين وفي هذا دليل على أنّ من عمل معصية من الموحّدين ليس بمنافق لأنه

__________________

(١) هي قراءة حمزة أيضا ، انظر البحر المحيط ٣ / ٣٨٦.

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٤ / ٢٢٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٥١ ، وأبو داود في سننه ٣٦٢٨ ، والنسائي في سننه ٧ / ٣١٦ ، والمتقي في كنز العمال (١٥٤٣٩).

٢٤٣

لا يتولّى الكافرين. (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي أيبتغون أن يعتزوا بهم. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) نصب على الحال.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠)

فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأنّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضى بالكفر كفر ، قال الله جلّ وعزّ (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) والأصل التنوين فحذف استخفافا.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١)

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) نعت للمنافقين. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ) اسم كان وكذا (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) جاء على الأصل ، ولو أعلّ لكان لم نستحذ والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ وفي حرف أبيّ ومنعناكم من المؤمنين (١) وهو محمول على المعنى لأن المعنى قد استحوذنا عليكم ويجوز أن يكون على حذف قد. وقد ذكرنا معنى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٤٢)

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) مجاز أي يخادعون أولياء الله. (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي معاقبهم ، وإن شئت أسكنت الهاء فقلت «وهو» لأن الضمّة ثقيلة وقبل الكلمة واو ، وحكي إسكان الواو وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي (وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٢) بإسكان العين ، وقال محمد بن يزيد : هذا لحن لأنه زوال الإعراب. قال أبو جعفر : وقد أجاز سيبويه ذلك وأنشد : [الرجز]

١٠٩ ـ إذا اعوججن قلت صاحب قوّم (٣)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩١ ، ومعاني الفراء ١ / ٢٩٢.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٣ ، ومختصر ابن خالويه (٢٩).

(٣) مرّ الشاهد (٢٢).

٢٤٤

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) في موضع نصب على الحال ، وكذا يراءون الناس أي يرون الناس أنّهم يتديّنون بصلاتهم وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج يرؤّون الناس (١) على وزن (يُدَعُّونَ) [الطور : ١٣] ، وحكى أنها لغة سفلى مضر والقراءة الأولى أولى لإجماعهم على الذين هم يراءون ، ويقال : فلان مراء وفعل ذلك رئاء الناس. (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يذكرون الله جلّ وعزّ بقراءة ولا تسبيح وإنّما يذكرونه بالتكبير وبما يراءون به والتقدير : إلّا ذكرا قليلا.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣)

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) أي مضطربين يظهرون لهؤلاء أنهم منهم ولهؤلاء أنهم منهم وفي حرف أبيّ متذبذبين (٢) ويجوز الإدغام على هذه القراءة (مُذَبْذَبِينَ) بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية وروي عن الحسن مذبذبين (٣) بفتح الميم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤)

(لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مفعولان أي لا تجعلوهم خاصتكم وبطانتكم. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي في تعذيبه إياكم.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥)

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤) وقرأ الكوفيون (فِي الدَّرْكِ) (٥) والأول أفصح ، والدليل على ذلك أنه يقال في جمعه : أدراك مثل جمل وأجمال. وقد ذكرنا أن الإدراك الطبقات والمنازل إلا أن استعمال العرب أن يقال لكل ما تسافل : أدراك ، يقال للبئر : أدراك ، ويقال لما تعالى : درج فللجنّة درج وللنار أدراك.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦)

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء فأولئك مع المؤمنين أي فأولئك يؤمنون مع المؤمنين. (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) مفعولان وحذفت الياء في المصحف من «يؤتي»

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٣ ، ومختصر ابن خالويه (٢٩).

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٤.

(٣) وهي قراءة ابن عباس أيضا ، انظر مختصر ابن خالويه (٢٩).

(٤) قرأ الحرميان والعربيان «في الدرك» انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٦.

(٥) وهي قراءة حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب ، انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٦.

٢٤٥

لأنها محذوفة في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وأهل المدينة يحذفونها في الوقف ويثبّتون أمثالها في الإدراج ، واعتلّ لهم الكسائي بأنّ الوقف موضع حذف ، ألا ترى أنك تحذف الإعراب في الوقف (١).

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧)

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ ما) في موضع نصب والمعنى أن الله جلّ وعزّ لا ينتفع بعذابكم ولا بظلمكم فلم يعذّبكم (إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي يشكر عباده على طاعته ومعنى يشكرهم يثيبهم.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (١٤٨)

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) أي لا يريد أن يجهر أحد بسوء من القول ، وتمّ الكلام ثم قال جلّ وعزّ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) استثناء ليس من الأول في موضع نصب أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان بكذا ، ويجوز أن يكون «من» في موضع رفع ، ويكون التقدير لا يحبّ الله أن يجهر بالسوء إلا من ظلم ، ويجوز إسكان اللام ومن قرأ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (٢) فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة وتقديره ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩)

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) أي من القول السيئ. (أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي أن تبدوا خيرا فهو خير من القول السّيئ أو تخفوه أو تعفوا عن سوء مما لحقكم فإنّ الله يعفو عنكم لعفوكم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١٥٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) اسم «إنّ» والجملة الخبر (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي بين الإيمان بالله ورسله. (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) وهم اليهود آمنوا بموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفروا بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) ولم يقل : ذينك لأن ذلك يقع للإثنين كما قال جلّ وعزّ (بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] في سورة «البقرة» ، ولو كان ذينك لجاز ، والمعنى ويريدون أن يتّخذوا بين الإيمان والجحد طريقا.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٣٩٨.

٢٤٦

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١)

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) لأنهم لا ينفعهم إيمانهم بالله جل وعز إذا كفروا برسوله وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به جلّ وعزّ لأنه مرسل للرسول ومنزّل عليه الكتاب وكفروا بكل رسول مبشّر بذلك الرسول فلهذا ، صاروا الكافرين حقا والتقدير قلت قولا حقا وما قبله يدلّ عليه. (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) و (لِلْكافِرِينَ) يقوم مقام المفعول الثاني.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٥٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء في موضع رفع ، وإن شئت كان في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره ما بعده.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣)

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً) هم اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه بلا كتاب وينزل ومعه كتاب تعنّتا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعلم الله جل وعز أن آباءهم قد تعنّتوا موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكبر من هذا. (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) جهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة ، وقول أبي عبيدة (١) : إن التقدير فقالوا جهرة في موضع الحال. (وَأَرِنا) (٢) بإسكان الراء بعيدة في العربية لأنه حذف بعد حذف. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) أي بعظيم ما جاءوا به. (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي البراهين أنه لا معبود إلا الله جلّ وعزّ (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) من الآيات التي جاء بها وسمّيت الآية سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة وهي قاهرة للقلوب بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١٥٤)

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على الحال. (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) (٣) من عدا

__________________

(١) انظر مجاز القرآن ١ / ١٤٢.

(٢) راجع إعراب الآية ١٢٧ ـ البقرة.

(٣) انظر البحر المحيط ٣ / ٤٠٣.

٢٤٧

تعدو ، وتعدّوا ، والأصل فيه تعتدوا ، فأدغمت التاء في الدال ، ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا ، والذي يقرأ بهذا إنما يروم الخطأ.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٥٥)

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) خفض بالباء و «ما» زائدة. (وَكُفْرِهِمْ) عطف وكذا (وَقَتْلِهِمُ).

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً(١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٥٨)

كسرت «إنّ» لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة. (رَسُولَ اللهِ) بدل ، وإن شئت على معنى أعني (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) رويت روايات في التشبيه الذي كان منها أن رؤساءهم لمّا فقدوا المسيح أخذوا رجلا فقتلوه ولبّسوه ثيابا مثل ثياب المسيح وصلبوه على خشبة مرتفعة ومنعوا الناس من الدنوّ منه لئلّا يفطن بهم ثم دفنوه ليلا ، وقيل : كان المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم محبوسا عند خليفة قيصر فاجتمعت اليهود إليه فتوهّم أنهم يريدون خلاصه فقال لهم : أنا أخلّيه لكم قالوا بل نريد قتله فرفعه الله جل وعز إليه أي حال بينهم وبينه فأخذ خليفة قيصر رجلا فقتله وقال لهم : قد قتلته خوفا منه فهو الذي شبّه عليهم ، وقد يكون آمن به وأطلقه فرفع وشبّه عليهم بغيره ممّن قد استحق القتل في حبسه ، وقد يكون امتنع من قتله لما رأى من الآيات قال الله جلّ وعزّ (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) تمّ الكلام. ثم قال جلّ وعزّ (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) استثناء ليس من الأول في موضع نصب ، وقد يجوز أن يكون في موضع رفع على البدل أي ما لهم به علم إلّا اتباع الظن ، وأنشد سيبويه : [الرجز]

١١٠ ـ وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس (١)

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) نعت لمصدر وفيه تقديران : أبينهما أنّ التقدير قال الله جلّ وعزّ هذا قولا يقينا ، والقول الآخر أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا وروى الأعشى عن أبي بكر بن عياش عن عاصم :

__________________

(١) الشاهد لجران العود في ديوانه ص ٩٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ، والدرر ٣ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٥٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٧ ، والمقاصد ٣ / ١٠٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٢٧١ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٦١ ، والجنى الداني ١٦٤ ، ورصف المباني ص ٤١٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٩ ، وشرح شذور الذهب ٣٤٤.

٢٤٨

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

بغير إدغام والإدغام أجود لقرب اللام من الراء وأنّ في الراء تكريرا فالإدغام فيها حسن. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي قادرا على أن يمنع أولياءه من أعدائه ولا يمنعه من ذاك مانع ولا يغلبه غالب. (حَكِيماً) فيما يدبّره من أمور خلقه.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (١٥٩)

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) لأن أهل الكتاب فيه على ضربين منهم من كذّبه ومنهم من اتّخذه إلها فيضطرّ قبل موته إلى الإيمان به لأنه يتبيّن أنه كان على باطل إذا عاين وتقدير سيبويه (١) وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به ، وتقدير الكوفيين وإن من أهل الكتاب إلّا من ليؤمننّ به ، وحذف الموصول خطأ. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي على من كان فيهم.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرا) (١٦٠)

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال أبو إسحاق : هذا بدل من (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [آية : ١٥٥](حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) نحو كل ذي ظفر وما أشبهه (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي صدّا كثيرا.

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢)

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) رفع بالابتداء. (يُؤْمِنُونَ) في موضع الخبر ، والكوفيون يقولون : رفع بالضمير (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، في نصبه ستة أقوال فسيبويه ينصبه على المدح أي وأعني المقيمين. قال سيبويه : هذا باب ما ينصب على التعظيم ومن ذلك المقيمين الصلاة وأنشد (٢) : [البسيط]

١١١ ـ وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلّا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها

وأنشد (٣) : [الكامل]

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٣٦٣.

(٢) البيتان لمالك بن خياط العكلي في شرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١ ، والكتاب ٢ / ٥٩ ، ولابن حماط العكلي في خزانة الأدب ٥ / ٤٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٧٠ ، ولسان العرب (ظعن) ، وتاج العروس (ظعن).

(٣) مرّ البيتان في الشاهد رقم (٣٣).

٢٤٩

١١٢ ـ لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيبون معاقد الأزر

وهذا أصحّ ما قيل في المقيمين ، وقال الكسائي : (وَالْمُقِيمِينَ) معطوف على «ما». قال أبو جعفر : وهذا بعيد لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين ، وحكى محمد بن جرير أنه قيل : إن المقيمين هنا الملائكة عليهم‌السلام لدوامهم على الصّلاة والتسبيح والاستغفار ، واختار هذا القول ، وحكى أنّ النصب على المدح بعيد لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) في (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) فلا ينتصب على المدح ولم يتمّ خبر الابتداء لأنه جعل «والمؤتون» عطفا وجعل الخبر ما ذكر. ومذهب سيبويه غير ما قال ، وقيل : والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك أي من قبلك ومن قبل المقيمين وقيل : «والمقيمين» عطف على الكاف التي في أولئك وقيل : هو معطوف على الهاء والميم أي منهم ومن المقيمين. وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض ، والجواب السادس أن يكون و «المقيمين» عطفا على قبلك ويكون المعنى ومن قبل المقيمين ثم أقام المقيمين مقام قبل كما قال (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وقرأ سعيد بن جبير وعاصم الجحدري والمقيمون الصلاة وكذا هو في حرف عبد الله بن مسعود فأما حرف أبيّ فهو فيه (وَالْمُقِيمِينَ) (١) كما في المصاحف. (وَالْمُؤْتُونَ) (٢) فيه خمسة أقوال : قال سيبويه : وأما «المؤتون» فمرفوع بالابتداء. وقال : غيره : هو مرفوع على إضمار مبتدأ أي فهم المؤتون الزكاة ، وقيل هو معطوف على المضمر الذي في المقيمين ، وقيل : هو عطف على المضمر الذي في يؤمنون أي يؤمنون هم والمؤتون ، والجواب الخامس أن يكون معطوفا على الراسخين.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣)

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) انصرف نوح وهو اسم أعجمي لأنه على ثلاثة أحرف فخفّ فأما (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) فأعجمية وهي معرفة فلذلك لم ينصرف ، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة. روي عن الحسن أنه قرأ ويونس (٣) بكسر النون

__________________

(١) وهي قراءة عمرو بن عبيد وعيسى بن عمرو مالك بن دينار وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو أيضا ، انظر البحر المحيط ٣ / ٤١١.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٤١٢.

(٣) وهي قراءة نافع في رواية ابن جماز عنه أيضا ، انظر البحر المحيط ٣ / ٤١٣.

٢٥٠

وكذا يوسف بكسر السين يجعلهما من أنس وأسف ويجب على هذا أن ينصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يأ أنس ويأ اسف ومن لم يهمز قال : يوانس ويواسف وحكى أبو زيد : يونس ويوسف.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤)

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) بإضمار فعل أي وقصصنا رسلا لأنه معطوف على ما قد عمل فيه الفعل ومثله ما أنشد سيبويه (١) : [المنسرح]

١١٣ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

ويجوز أن يكون (وَرُسُلاً) عطفا على المعنى لأن المعنى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إنا أرسلناك موحين إليك وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل وفي حرف أبيّ ورسل (٢) بالرفع. (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) مصدر مؤكّد ، وأجمع النحويون على أنك إذا أكّدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا وأنه لا يجوز في قول الشاعر : [الرجز]

١١٤ ـ امتلأ الحوض وقال قطني (٣)

أن يقول : قال قولا فكذا لمّا قال : تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥)

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) على البدل من (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ) ويجوز أن يكون على

__________________

(١) البيتان للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى ١ / ٢٥٥ وحماسة البحتري ٢٠١ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦ ، والكتاب ١ / ١٤٤ ، ولسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٨ ، وبلا نسبة في الردّ على النحاة ١١٤ ، وشرح المفصّل ٧ / ١٠٥ ، والمحتسب ٢ / ٩٩.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٤١٤.

(٣) الشاهد بلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٥٧ ، والإنصاف ١٣٠ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٠٩ ، وتخليص الشواهد ١١١ ، وجواهر الأدب ص ١٥١ ، والخصائص ١ / ٢٣ ، ورصف المباني ص ٣٦٢ ، وسمط اللآلي ٤٧٥ ، وشرح الأشموني ١ / ٥٧ ، وشرح المفصّل ١ / ٨٢ ، وكتاب اللامات ١٤٠ ، ولسان العرب (قطط) و (قطن) ، ومجالس ثعلب ص ١٨٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٦١ ، ومقاييس اللغة ٥ / ١٤ ، والمخصّص ١٤ / ٦٢ ، وتهذيب اللغة ٨ / ٢٦٤ ، وكتاب العين ٥ / ١٤ ، وبعده :

«مهلا رويدا قد ملأت بطني»

٢٥١

إضمار فعل ، ويجوز نصبه على الحال أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ورسلا.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦)

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) رفع وإن شئت شدّدت النون ونصبت. (يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) والشاهد المبيّن لشهادته أن يبيّن ، ويعلم ذلك. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (١٦٨)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اسم «إنّ» والجملة الخبر ، وكذا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) مفعول ثان وقد حذفت منه «إلى» كما حذفت «من» في قوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥].

(إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧٠)

(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) بدل.

(فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) على مذهب سيبويه (١) وآتوا خيرا لكم ، وعلى قول الفراء (٢) نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم ، وعلى قول أبي عبيدة (٣) : يكن خيرا لكم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١)

(يا أَهْلَ الْكِتابِ) نداء مضاف. (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) نهي والغلو والتجاوز في الظلم. (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) رفع بالابتداء ف (عِيسَى) بدل منه وكذا (ابْنُ مَرْيَمَ) ويجوز أن يكون خبر الابتداء ، ويكون المعنى إنما المسيح ابن مريم فكيف يكون إلها هو محدث

__________________

(١) انظر الكتاب ١ / ٣٤٠ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٦.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢٩٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٤١٦.

(٣) وهو مذهب الكسائي أيضا ، انظر البحر المحيط ٣ / ٤١٦ ، ومجاز القرآن ١ / ١٤٣.

٢٥٢

ليس بقديم ويكون (رَسُولُ اللهِ) خبرا ثانيا. (فَآمِنُوا بِاللهِ) أي بأنه إله واحد خالق المسيح ومرسله. (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) قال سيبويه : ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) لأنك إذا قلت : انته فأنت تخرجه وتدخله في آخر وأنشد : [السريع]

١١٥ ـ فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبى بينهما أسهلا (١)

ومذهب أبي عبيدة انتهوا يكن خيرا لكم. قال محمد بن يزيد : هذا خطأ لأنه لا يضمر الشرط وجوابه وهذا لا يوجد في كلام العرب ، ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف. قال علي بن سليمان : هذا خطأ فاحش لأنه يكون المعنى انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم. (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ابتداء وخبر. (سُبْحانَهُ) مصدر. (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) في موضع نصب أي كيف يكون له ولد وولد الرجل مشبه له ولا شبيه لله جلّ وعزّ : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) بيان ، وإن شئت حال ومعنى وكيل كاف لأوليائه.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢)

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) أي لن يأنف (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) في موضع نصب أي من أن يكون عبدا لله (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) فدلّ بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم وكذا (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) [هود : ٣١].

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧٣)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) رفع بالابتداء والجملة الخبر ، ويجوز أن يكون نصبا على إضمار فعل يفسره ما بعده وكذا (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) وقد ذكرنا معنى تسمية عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلمة (٢). ومن أحسن ما قيل فيه أنّ عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان يهتدى به صار بمنزلة كلام الله جلّ وعزّ الذي يهتدى به ولما كان يحيى به من موت الكفر قيل له روح الله جلّ وعزّ على التمثيل.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤)

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي يهتدى به من الضلالة فهو نور مبين أي واضح بين.

__________________

(١) الشاهد لعمر بن أبي ربيعة في خزانة الأدب ٢ / ١٢٠ ، والكتاب ١ / ٣٤٠ ، وله أو لغيره من الحجازيين في شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢٨ ، وبلا نسبة في لسان العرب (وعد).

(٢) انظر إعراب الآية ٤٥ ـ آل عمران.

٢٥٣

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (١٧٥)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي امتنعوا بكتابه عن معاصيه وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به ، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي إلى ثوابه.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦)

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) فيها ثلاثة أقوال : منها أن الكلالة الميت الذي لا والد له ولا ولد ، ومنها أنها الورثة الذين لا والد فيهم ولا ولد ، وقيل : الكلالة المال. (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) رفع بإضمار فعل وجاز هذا لأن «إن» أصل حروف المجازاة وبعدها فعل ماض (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) في موضع نصب وقيل : خفض وفيه ثلاثة أقوال : قال الفراء (١) : أي لئلا تضلّوا وهذا عند البصريين خطأ لأن «لا» لا تحذف هاهنا ، وقال محمد بن يزيد وجماعة من البصريين : التقدير كراهة أن تضلّوا ثم حذف وهو مفعول من أجله ، والقول الثالث : أن المعنى يبيّن الله لكم الضلالة أي فإذا بيّن لكم الضلالة اجتنبتموها. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ابتداء وخبر أي بكل شيء من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها ذو علم.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٩٧.

٢٥٤

(٥)

شرح إعراب سورة المائدة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا) للنداء وحروف النداء عند سيبويه (١) خمسة وهي : يا وأيا وهيّا وأي والألف. و «ها» للتنبيه و (أيّ) نداء مفرد والنعت لازم له ليبيّنه (الَّذِينَ) نعت لأيّ ويقال : «الّذون». (آمَنُوا) صلة الذين والأصل «أأمنوا» فخفّفت الهمزة الثانية ولا يجوز الجمع بينهما في حرف واحد إلّا في فعّال. (أَوْفُوا) مجزوم عند الكوفيين وأضمروا اللام ، وغير معرب عند البصريين لأنه لا يضارع. (بِالْعُقُودِ) خفض بالباء وهو جمع عقد يقال : عقدت الحبل والعهد وأعقدت العسل ووجب بهذا أن يوفى بكل يمين وأمان وبيع واجارة إذا لم يكن حراما. (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) اسم ما لم يسمّ فاعله أي أحل لكم أكلها والانتفاع بها. وبنو تميم يقولون : «بهيمة» (٢).

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في موضع نصب بالاستثناء ، وهو عند سيبويه (٣) بمنزلة المفعول ، وعند أبي العباس بمعنى استثنيت. قال أبو إسحاق (٤) : لا يجوز إلا ما قاله سيبويه والذي قال أبو العباس لا يصحّ ، وزعم الفراء (٥) : أنه يجوز الرفع بجعلها «إلا» العاطفة والنصب عنده بإن. (غَيْرَ مُحِلِّي) نصب على الحال مما في أوفوا. قال الأخفش : أي يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد ، وقال غيره : حال من الكاف والميم ، والتقدير : أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد ، والأصل محلّين حذفت

__________________

(١) انظر الكتاب ٢ / ٢٣٤.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٣١ ، وهذه قراءة أبي السمال.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٣٤٦.

(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٦١٧.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٢٩٨.

٢٥٥

النون استخفافا وحذفت الياء في الوصل لالتقاء الساكنين. (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ابتداء وخبر. (إِنَّ اللهَ) اسم «إنّ» (يَحْكُمُ) في موضع الخبر أي بين عباده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) وهي العلامات وقيل هي البدن المشعرة أي المعلمة أي لا تستحلّوها قبل محلّها وقيل هي العلامات التي بين الحلّ والحرم لا تتجاوزوها غير محرمين. (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) عطف ، وكذا (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ) قيل: هذا كلّه منسوخ وقيل حرّم عليهم أن يمسوا الهدي والقلائد قبل محلّ الهدي وروي عن الأعمش ولا آمّي البيت الحرام (١) بحذف النون والإضافة. (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) في موضع نصب أي مبتغين ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بضم الياء. قال الكسائي : هما لغتان ولا يعرف البصريون الضم في هذا المعنى وإنما يقال ذلك في الإجرام (أَنْ صَدُّوكُمْ) في موضع نصب مفعول من أجله أي لأن صدّوكم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (أَنْ صَدُّوكُمْ) (٢) بكسر إن وهو اختيار أبي عبيد وروي عن الأعمش إن يصدّوكم (٣) وهذه القراءة لا تجوز بإجماع النحويين إلّا في شعر على قول بعضهم لأن «إن» إذا عملت فلا بدّ في جوابها من الفاء والفعل وإن كان سيبويه قد أنشد : [الرجز]

١١٦ ـ إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٤)

فإنّما أجازه في الشعر وقد ردّ عليه قوله فأما «إن صدّوكم» بكسر «إن» فالعلماء الجلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء منها أنّ هذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ستّ فالصدّ كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك فهذا لا يكون إلّا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي فوجب على هذا ألّا يجوز إلا أن صدّوكم ، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا لأن قوله تعالى :

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٣١ ، ومعاني الفراء ١ / ٢٩٩ والبحر المحيط ٣ / ٤٣٥ (وهي قراءة عبد الله وأصحابه).

(٢) انظر تيسير الداني ٨٢.

(٣) انظر المحتسب ١ / ٢٠٦.

(٤) مرّ الشاهد رقم (٨٥).

٢٥٦

(لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) إلى آخر الآية يدلّ على أنّ مكة كانت في أيديهم وأنّهم لا ينهون عن هذا إلّا وهم قادرون على الصدّ عن البيت الحرام فوجب من هذا فتح «أن» لأنه لما مضى وأيضا فلو كان للمستقبل لكان بعيدا في اللغة لأنك لو قلت لرجل يخاف من آخر الشتم والضرب والقتل : لا تغضب إن ضربك فلان لكان بعيدا لأنك توهم أن يغضب من الضرب فقط. (أَنْ تَعْتَدُوا) في موضع نصب لأنه مفعول به أي لا يكسبنّكم شنآن قوم الاعتداء ، وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد «شنان» بإسكان النون لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما وقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان قال الأخفش : ثم قال (عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) فقطعه من أول الكلام. (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) اسم انّ وخبرها.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) اسم ما لم يسمّ فاعله وما بعده عطف عليه ، ويجوز فيما بعده النصب بمعنى وحرّم الله عليكم الدم ، والأصل في دم فعل يدلّ على ذلك قول الشاعر: [الوافر]

١١٧ ـ جرى الدميان بالخبر اليقين (١)

وهو من دمي يدمى مثل : حذر يحذر ، وقيل : وزنه فعل بإسكان العين. (وَالنَّطِيحَةُ) بالهاء وإن كانت مصروفة عن مفعولة لأنه لم يتقدّمها اسم. وكذا يقول : خضيبة فإن ذكرت مؤنّثا قلت : رأيت كفّا خضيبا هذا قول الفرّاء ، والبصريون يقولون : جعلت اسما فحذفت منها الهاء كالذبيحة ، وقيل : هي بمعنى ناطحة قال الفراء : أهل نجد يقولون «السبع» فيحذفون الضمة. (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) في موضع نصب بالاستثناء (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) وحقيقته في اللغة تستدعوا القسم بالقداح. قال الأخفش وأبو عبيدة : واحد الأزلام زلم وزلم. (ذلِكُمْ فِسْقٌ) ابتداء وخبر. (الْيَوْمَ) ظرف والعامل فيه يئس والتقدير اليوم يئس الذين كفروا من تغيير دينكم وردّكم عنه لما رأوا من استبصاركم بصحّته واغتباطكم به. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فدلّ بهذا على أن الإيمان والإسلام أشياء كثيرة ، وهذا خلاف قول المرجئة. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) (من) في موضع رفع

__________________

(١) مرّ الشاهد رقم (١٣).

٢٥٧

بالابتداء ، والتقدير فإنّ الله له غفور رحيم ثم حذف له وأنشد سيبويه : [الرجز]

١١٨ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (١)

(اضْطُرَّ) في موضع جزم بالشرط إلّا أنه فعل ماض لا يعمل فيه عامل ، ويجوز كسر النون وضمّها ، وقرأ ابن محيصن فمن اطّرّ (٢) وهو لحن لأن الضاد فيها تفش فلا تدغم في شيء. (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) (٣) على الحال ، وإن شئت كسر النون في «فمن» على أصل التقاء الساكنين.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ما) في موضع رفع بالابتداء ، والخبر (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وذا زائدة ، وإن شئت كان بمعنى الذي وكان الخبر (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهو الحلال ، وكل حرام فليس بطيب ، وقيل : الطيب ما التذّه أكله وشاربه ولم يكن عليه منه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة. (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) قال الأخفش : واحدتها جارحة. (مُكَلِّبِينَ) نصب على الحال. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الأصل أمسكنه وحذفت الهاء لطول الاسم وفي هذا وفيما قبله دليل على أنه أن أكل الجارحة لم يؤكل منه. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الذكر باللسان ، وقيل : بالقلب والذي توجبه اللغة أن يكون باللسان حقيقة وبالقلب مجازا.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥)

(مُحْصِنِينَ).

نصب على الحال. (غَيْرَ مُسافِحِينَ) مثله ، وإن شئت كان نعتا. (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) عطف على مسافحين ولا يجوز أن يكون معطوفا على محصنين. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) شرط والجواب (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). قال أبو إسحاق (٤) : أي من بدل شيئا مما

__________________

(١) الشاهد لأبي النجم العجلي في تخليص الشواهد ٢٨١ ، والكتاب ١ / ١٣٨ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩ ، والدرر ٢ / ١٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٤ ، وشرح المفصل ٦ / ٩٠ ، والمحتسب ١ / ٢١١ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٤٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٢٤ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٦١ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٠ والمقتضب ٤ / ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٤٤٢ (بإدغام الضاد في الطاء).

(٣) وقرأ أبو عبد الرّحمن والنخعي وابن وثاب (متجنف) بدون ألف ، انظر البحر المحيط ٣ / ٤٤٢.

(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجّاج ٦٣٠.

٢٥٨

أحلّه الله فجعله حراما أو حرّم شيئا مما أحلّه الله فقد حبطت أعماله أي لا يثاب عليها. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لا يجوز أن يكون الظرف متعلقا بالخاسرين فيدخل في الصلة ولكنه متعلّق بالمصدر ، وقد ذكرنا نظيره فيما تقدّم (١) وأما قول مجاهد رواه عنه ابن جريج في قول الله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) قال «بالله» فمعناه من كفر بالإيمان كفر بالله وحبط عمله والدليل على ذلك أنّ سفيان روى عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد قال : «الإيمان قول وعمل يزيد وينقص» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قال زيد بن أسلم : أي إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وقال غيره : في الكلام حذف أي إذا قمتم إلى الصلاة وقد أحدثتم وقيل كان واجبا أن يتهيّأ للصلاة كلّ من قام إليها ثم نسخ ذلك. (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (٣) فمن قرأ بالنصب جعله عطفا على الأول أي واغسلوا أرجلكم ، وقد ذكرنا الخفض (٤) إلا أنّ الأخفش وأبا عبيدة (٥) يذهبان إلى أنّ الخفض على الجوار (٦) والمعنى للغسل. قال الأخفش : ومثله : «هذا جحر ضب خرب» وهذا القول غلط عظيم لأن الجوار لا يجوز في الكلام أن يقاس عليه وإنما هو غلط ونظيره الأقواء. ومن أحسن ما قيل أنّ المسح والغسل واجبان جميعا والمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين وفي الآية تقديم وتأخير على قول بعضهم قال : التقدير : إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى

__________________

(١) مرّ في إعراب الآية ١٣٠ سورة البقرة.

(٢) الحديث في إتحاف السادة المتقين ٩ / ١٥٢ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٥ / ٤١٩ ، واللئالئ المصنوعة للسيوطي ١ / ١٩ ، وتنزيه الشريعة لابن عراق ١ / ١٥٠ ، وميزان الاعتدال ٢١١٧ ، ٨٦٥٨.

(٣) هذه قراءة نافع وابن عامر وحفص ، انظر البحر المحيط ٣ / ٤٥٢ ، وتيسير الداني ٨٢.

(٤) (وأرجلكم) : بالخفض هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وأبي بكر ، وأنس وعكرمة والشعبي والباقر وقتادة وعلقمة والضحاك.

(٥) انظر مجاز القرآن ١ / ١٥٥.

(٦) انظر إعراب القرآن للزجاج ٦٣١.

٢٥٩

الكعبين. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) أي ذوي جنب لأن جنبا مصدر وهو واحد فإن جمعته قلت: جنوب وأجناب وجناب. وحكى ثعلب ومحمد بن جرير : أجنب الرجل وجنب واجتنب والمصدر الجنابة والإجناب. (فَاطَّهَّرُوا) (١) والأصل فتطهّروا فأدغمت التاء في الطاء لأنها من أصول الثنايا العليا وطرف اللسان وجيء بألف الوصل ليوصل إلى الساكن وقرأ الزهري أو جاء أحد منكم من الغيط. (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) لام كي أي إرادته ليطهّركم من الذنوب. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بالثواب.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) قيل : هذا الميثاق الذي في قوله جلّ وعزّ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : هذا الميثاق الذي أخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم في بيعة الرضوان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٨)

(شُهَداءَ) أي مبيّنين وهو منصوب على أنه خبر ثان من كونوا ، ويجوز أن يكون نعتا لقوامين وبدلا ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) منصوب بأن ولا تحول «لا» بين العامل والمعمول فيه لأنها قد تقع زائدة. (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ابتداء وخبر.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إذا قلت : وعد لم يكن إلّا للخير وأوعد للشر إلا أن يبيّن. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) رفع بالابتداء. (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) عطف عليه.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢)

(وَلَقَدْ) لام توكيد (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو الذي كان موسىصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٣ / ٤٥٣.

(٢) وقرأ ابن المسيب ليطهركم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.

٢٦٠