إعراب القرآن - ج ١

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 2-7451-3023-4
الصفحات: ٢٩٣

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦)

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ابتداءان. (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) نسق. (خالِدِينَ) على الحال.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧)

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) السنّة في كلام العرب الطريق المستقيم وفلان على السنّة أي على الطريق المستقيم لا يميل إلى شيء من الأهواء.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩)

(وَلا تَهِنُوا) نهي ، والأصل : توهنوا حذفت الواو لأن بعدها كسرة فأتبعت يوهن. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ابتداء وخبر وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لأن الفتحة تدلّ عليها.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠)

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) وقرأ الكوفيون (قَرْحٌ) (١) وقرأ محمد اليماني (قَرْحٌ) (٢) بفتح الراء. قال الفراء (٣) : كأن القرح ألم الجراح وكأن القرح الجراح بعينها ، وقال الكسائي والأخفش : هما واحد. قال أبو جعفر : هذا مثل فقر وفقر فأمّا القرح فهو مصدر قرح يقرح قرحا. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) قيل : هذا في الحرب تكون مرّة للمؤمنين لينصر الله دينه وتكون مرّة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم الله وليمحّص ذنوبهم. وقيل : معنى نداولها بين الناس من فرح وغمّ وصحّة وسقم لنكد الدنيا وفضل الآخرة عليها. (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وحذف الفعل أي وليعلم الله الّذين آمنوا داولها. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء يوم القيامة على الناس بأعمالهم فقيل لهذا شهيد. قيل : إنّما سمّي شهيدا لأنه مشهود له بالجنّة.

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١)

(وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) نسق أيضا وفي معناه ثلاثة أقوال قيل : يمحّص يختبر،

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٣٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٦٨ ، وهذه قراءة أبي بكر والأعمش أيضا.

(٢) انظر المحتسب ١ / ١٦٦ ، والبحر المحيط ٣ / ٦٨ ، وهذه قراءة أبي السمال وابن السميفع.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٢٣٥.

١٨١

وقال الفراء : أي وليمحّص الله ذنوب الذين آمنوا ، والقول الثالث أي يمحّص يخلص وهذا أعرفها. قال الخليل رحمه‌الله يقال : محص الحبل يمحص محصا إذا انقلع وبره منه اللهمّ محّص عنّا ذنوبنا أي خلّصنا من عقوبتنا. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) «أن» وصلتها يقومان مقام المفعولين. (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي علم شهادة والمعنى ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم وفرق سيبويه بين لم ولمّا (١) ، فزعم أنّ لم يفعل نفي فعل وأنّ لمّا يفعل نفي قد فعل. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) جواب النفي ، وهو عند الخليل (٢) منصوب بإضمار أن ، وقال الكوفيون : هو منصوب على الصرف ، فيقال لهم ليس يخلو الصرف من أن يكون شيئا لغير علّة أو لعلة فلعلّة نصب ولا معنى لذكر الصرف. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٣) فهذا على النسق ، وقرأ مجاهد (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أَنْ) في موضع نصب على البدل من الموت و (قَبْلِ) غاية.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤)

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ابتداء وخبر وبطل عمل ما روي عن ابن عباس أنه قرأ قد خلت من قبله رسل بغير ألف ولام. (أَفَإِنْ ماتَ) شرط. (أَوْ قُتِلَ) عطف عليه والجواب (انْقَلَبْتُمْ) وكلّه استفهام ولم تدخل ألف الاستفهام في انقلبتم لأنها قد دخلت في الشرط ، والشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد وكذا المبتدأ وخبره تقول : أزيد منطلق؟ ولا تقول : أزيد أمنطلق.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥)

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) «أن» في موضع اسم كان. قال أبو إسحاق (٤) : المعنى وما كان لنفس لتموت إلا بإذن الله. قال أبو جعفر : لنفس تبيين

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٣٥ ، والإنصاف مسألة ٧٥.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢٣٥ ، ومختصر ابن خالويه ٢٢.

(٣) انظر مصحف عبد الله ، والبحر المحيط ٣ / ٧٤.

(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤٢٠.

١٨٢

ولو لا ذلك لكنت قد فرقت بين الصلة والموصول. (كِتاباً مُؤَجَّلاً) مصدر ودل بهذه الآية على أن كلّ إنسان مقتول أو غير مقتول قد بلغ أجله وأن الخلق لا بدّ أن يبلغوا آجالهم آجالا واحدة كتبها الله عليهم لأن معنى مؤجّلا إلى أجل.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦)

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) (١)

قال الخليل وسيبويه (٢) : هي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم فالوقف على قوله وكأيّن وقرأ أبو جعفر وابن كثير وكاإن وهو مخفّف من ذاك وهو كثير في كلام العرب. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء ربيّون (٣) بضم الراء. قال أبو جعفر : وقد ذكر سيبويه مثل هذا وقد ذكرنا معنى الآية : وقرأ أبو السمّال العدوي فما وهنوا لما أصابهم (٤) بإسكان الهاء وهذا على لغة من قال : وهن. حكى أبو حاتم : وهن يهن مثل ورم يرم ويجوز (ما ضَعُفُوا) بإسكان العين بحذف الضمة والكسرة لثقلها وحكى الكسائي (وَما ضَعُفُوا) بفتح العين ولا يجوز حذف الفتحة لخفتها.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧)

وقرأ الحسن (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) جعله اسم «كان» ومن نصب جعله خبر كان وجعل اسمها (أَنْ قالُوا) لأنه موجب.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠)

وأجاز الفراء (٥) (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) بمعنى أطيعوا الله مولاكم.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١)

(سَنُلْقِي) فعل مستقبل وحذفت الضمة من الياء لثقلها وقرأ أبو جعفر والأعرج

__________________

(١) هذه قراءة نافع وأبي عمر وابن كثير ، أما قراءة الباقين فبالألف وفتح القاف والتاء. انظر تيسير الداني ٧٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٣ / ٧٧.

(٣) هذه قراءة علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس أيضا ، انظر مختصر ابن خالويه ٢٢ ، والمحتسب ١ / ١٧٣.

(٤) انظر البحر المحيط ٣ / ٧٨ ، ومختصر ابن خالويه ٢٢.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٢٣٧.

١٨٣

وعيسى (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وهما لغتان. (مَثْوَى الظَّالِمِينَ) رفع بئس.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢)

ويجوز (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ) مدغما وكذا (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ). (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة أي منكم من يريد الغنيمة بقتاله ومنكم من يريد الآخرة بقتال. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) في هذه الآية غموض في العربية وذاك أن قوله جلّ وعزّ (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) ليس بمخاطبة للذين عصوا وإنما هو مخاطبة للمؤمنين ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم أن ينصرفوا إلى ناحية الجبل ليتحرّزوا إذ كان ليس فيهم فضل للقتال. (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) للعاصين خاصة وهم الرماة وهذا في يوم أحد كانت الغلبة بدئا للمؤمنين حتى قتلوا صاحب راية المشركين فذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) فلمّا عصى الرماة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشغلوا بالغنيمة صارت الهزيمة عليهم ثم عفا الله عنهم ونظير هذا من المضمر (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) [التوبة : ٤٠] أي على أبي بكر الصدّيق قلق حتّى تبين له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكن (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٤٠] للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٥٣)

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) وقرأ الحسن ولا تلون (١) بواو واحدة وقد ذكرنا نظيره (٢) ، وروى أبو يوسف الأعشى عن أبي بكر بن عيّاش عن عاصم ولا تلوون بضم التاء وهي لغة شاذة. (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) لمّا صاح صائح يوم أحد قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم زال غمّهم بما أصابهم من القتل والجراح لغلط ما وقعوا فيه ، وقيل : وقفهم الله جلّ وعزّ على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم وقيل فأثابكم أن غمّ الكفار كما غموكم لكيلا تحزنوا بما أصابكم دونهم.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٨٩.

(٢) انظر إعراب الآية ٧٨ ـ آل عمران.

١٨٤

لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) «أمنة» منصوبة بأنزل ونعاس بدل منها ، ويجوز أن يكون «أمنة» مفعولا من أجله ونعاسا بأنزل يغشى للنعاس وتغشى للأمنة. (وَطائِفَةٌ) ابتداء والخبر (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ، ويجوز أن يكون الخبر (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) والواو بمعنى إذ والجملة في موضع الحال ، ويجوز في العربية وطائفة بالنصب على إضمار أهمّت. (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) مصدر أي يظنّون ظنّا مثل ظنّ الجاهلية وأقيم النعت مقام المنعوت والمضاف مقام المضاف إليه. (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) «من» الأولى للتبعيض والثانية زائدة. (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اسم إنّ وكلّه توكيد ، وقال الأخفش: بدل. وقرأ أبو عمرو وابن أبي ليلى (١) وعيسى (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (٢) رفع بالابتداء «ولله» الخبر والجملة خبر «إنّ». (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) ، وقرأ الكوفيون في بيوتكم بكسر الباء أبدل من الضمة كسر لمجاورتها الياء. (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) (٣) وقرأ أبو حيوة (لَبَرَزَ) (٤) والمعنى : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم في اللوح المحفوظ القتل إلى مضاجعهم ، وقيل : كتب بمعنى فرض. (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) وحذف الفعل الذي مع لام كي والمعنى : وليبتلي الله ما في صدوركم فرض عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحّص عنكم سيّئاتكم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١٥٥)

(الَّذِينَ) اسم «إنّ» والخبر (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي استدعى زللهم بأن ذكّرهم خطاياهم فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا ، وقيل : ببعض ما كسبوا بانهزامهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا

__________________

(١) ابن أبي ليلى : عبد الرّحمن الأنصاري الكوفي ، تابعي كبير ، عرض على علي بن أبي طالب (ت ٨٢ ه‍) ترجمته في غاية النهاية ١ / ٣٧٦.

(٢) انظر تيسير الداني ٧٥.

(٣) هذه قراءة الجمهور ، انظر البحر المحيط ٣ / ٩٧.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٩٧.

١٨٥

غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦)

(غُزًّى) جمع غاز مثل صائم وصوّم ، ويقال : غزّاء كما يقال : صوّام ، ويقال : غزاة وغزيّ كما قال : [الكامل]

٨٦ ـ قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا (١)

وروي عن الزهري أنه قرأ (غُزًّى) بالتخفيف (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) فيه قولان أحدهما أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ جعل ظنّهم أن إخوانهم لو قعدوا عندهم ولم يخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قتلوا ، والقول الآخر أنهم لما قالوا هذا لم يلتفت المؤمنون إلى قولهم فكان ذلك حسرة. (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يقدر على أن يحيي من خرج إلى القتال ويميت من أقام في أهله.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٥٧)

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) قال عيسى أهل الحجاز يقولون : متّم وسفلى مضر يقولون : متّم بضم الميم. قال أبو جعفر : قول سيبويه (٢) إنه شاذ جاء على متّ يموت ومثله عنده فضل يفضل وأما الكوفيون فقالوا من قال : متّ قال : يمات مثل خفت تخاف ومن قال : متّ قال يموت ، وهذا قول حسن وجواب «أو» (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) وهو محمول على المعنى لأن معنى ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم ليغفرنّ لكم.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨)

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) فوعظهم بهذا أي لا تفرّوا من القتال ومما أمرتكم به وفرّوا من عقاب الله فإنكم إليه تحشرون لا يملك لكم أحد ضرّا ولا نفعا غيره.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩)

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) «ما» زائدة وخفضت (رَحْمَةٍ) بالباء ويجوز أن تكون «ما»

__________________

(١) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ص ٥٣ ، ولسان العرب (غزا) ، وتهذيب اللغة ٨ / ١٦٣ ، وذيل الأمالي ٢ / ٨ ، والحماسة البصرية ١ / ٢٠٦ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤ ، وللصلتان العبدي في أمالي المرتضى ٢ / ١٩٩ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٤ / ٤٣٤ ، وعجزه :

«والباكرين وللمجدّ الرّائح»

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٤٨٦.

١٨٦

سما نكرة خفضا بالباء ورحمة نعتا لما ويجوز فبما رحمة أي فبالذي هو رحمة أي لطف من الله جلّ وعزّ. (لِنْتَ لَهُمْ) كما قال : [الكامل]

٨٧ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا (١)

وغير أيضا (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) على فعل ـ الأصل فظظ. (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) والمصدر مشاورة وشوار فأما مشورة وشورى فمن الثلاثي. (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وقرأ جابر بن زيد أبو الشعثاء وأبو نهيك (فَإِذا عَزَمْتَ) أي فتوكّل على الله أي لا تتّكل على عدّتك وتقوّ بالله ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠)

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) شرط والجواب في الفاء وما بعدها وكذا (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليثقوا بالله وليرضوا بجميع ما فعله. هذا معنى التوكل.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١)

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (٢) قد ذكرناه (٣) وذكرنا قراءة ابن عباس (يَغُلَ) (٤) (وَمَنْ يَغْلُلْ) شرط. (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) جوابه أي ومن يغلل بما غلّه يوم القيامة يحمله على رؤوس الأشهاد عقوبة له وفي هذا موعظة لكل من فعل معصية مستترا بها وتمّ الكلام (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) عطف جملة على جملة.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣)

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ابتداء وخبر يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ودخل الجنة أي هم متفاضلون ويجوز أن يكون «هم» لمن اتّبع رضوان الله ولمن باء بسخطه ، ويكون المعنى لكل واحد منهم حظّه من عمله.

__________________

(١) مرّ الشاهد (٣٠).

(٢) هذه قراءة السبعة عدا ابن كثير وأبي عمر وعاصم فقد قرءوا بفتح الياء وضمّ العين. انظر تيسير الداني ٧٦.

(٣) انظر معاني ابن النحاس ورقة (٥٥ ب).

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٤٦.

١٨٧

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤)

(إِذْ) ظرف والمعنى في المنّة فيه أقوال منها أن يكون معنى من أنفسهم أنه بشر مثلهم فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أنّ ذلك من عند الله جل وعز ، وقيل : من أنفسهم منهم ، فشرفوا به فكانت تلك المنة ، وقيل : من أنفسهم أي يعرفونه بالصدق والأمانة فأما قول من قال معناه «من العرب» فذلك أجدر أن يصدقوه إذ لم يكن من غيرهم فخطأ لأنه لا حجة لهم في ذلك لو كان من غيرهم كما أنه لا حجة لغيرهم في ذلك. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) في موضع نصب نعت لرسول.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥)

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) المصيبة التي قد أصابتهم يوم أحد أصابوا مثليهما يوم بدر ، وقيل : أصابوا مثليها يوم بدر ويوم أحد جميعا

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٦)

(فَبِإِذْنِ اللهِ) قيل : بعلمه ولا يعرف في هذا إلّا الإذن ولكن يكون فبإذن الله فبتخليته بينكم وبينهم (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧)

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) وحذف الفعل أي خلّى بينكم وبينهم والمنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه وانهزموا يوم أحد إلى المدينة فلما (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فأكذبهم الله جلّ وعزّ فقال : (قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ).

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨)

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في موضع نصب على النعت للذين نافقوا أو على أعني يجوز أن يكون رفعا على إضمار مبتدأ. (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي فكما لا تقدرون أن تدفعوا عن أنفسكم الموت كذا لا تقدرون أن تمنعوا من القتل من كتب الله جلّ وعزّ عليه أن يقتل.

١٨٨

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩)

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) مفعولان. (بَلْ أَحْياءٌ) أي بل هم أحياء.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠)

(فَرِحِينَ) نصب على الحال ؛ ويجوز في غير القرآن رفعه يكون نعتا لأحياء. (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) قيل : لم يلحقوا بهم في الفضل وقيل : هم في الدنيا. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بدل من «الذين» وهو بدل الاشتمال ويجوز أن يكون المعنى بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢)

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ابتداء والخبر (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ويجوز أن يكون الذين بدلا من المؤمنين وبدلا من الذين لم يلحقوا بهم.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣)

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) بدل من الذين قبله. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) ابتداء وخبر أي كافينا الله. يقال : أحسبه إذا كافأه. (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) مرفوع بنعم أي نعم القيّم والحافظ الله والناصر لمن نصره.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥)

وقد ذكرنا (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ).

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦)

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) هذه أفصح اللغتين وقال : «يحزنك». ويقال : إنّ هؤلاء قوم أسلموا ثم ارتدّوا خوفا من المشركين فاغتمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله جلّ وعزّ (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي لن يضرّوا أولياء الله حين تركوا نصرهم إذ كان الله جلّ وعزّ ناصرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧)

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) مجاز جعل ـ مما استبدلوا به من الكفر وتركوه من الإسلام بمنزلة البيع والشراء.

١٨٩

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) لام النفي وأن مضمرة إلّا أنها لا تظهر. ومن أحسن ما قيل في الآية أن المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمنين بالمنافقين حتى يميّز بينهما بالمحنة والتكليف فتعرفوا المؤمن من المنافق والخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل : المعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الإقرار فقط حتى يفرض عليهم الفرائض ، وقيل : هذا خطاب للمنافقين خاصة أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من عداوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي ما كان ليعيّن لكم المنافقين حتّى تعرفوهم ولكن يظهر ذلك بالتكليف والمحنة وقيل : ما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على ما يشاء من ذلك.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

قرأ هل المدينة وأكثر القراء : (وَلا يَحْسَبَنَ) بالياء في الموضعين جميعا وقرأ حمزة بالتاء (١) فيهما ، وزعم أبو حاتم : أنه لحن لا يجوز وتابعه على ذلك جماعة ، وقرأ يحيى بن وثاب (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) [آل عمران : ١٧٨] بكسر «إن» فيهما جميعا. قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش يذكر كسر «إن» يحتجّ به لأهل القدر لأنه كان منهم ويجعله على التقديم والتأخير أي ولا يحسبنّ الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. قال : ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار : إنّما نملي لهم ليزدادوا إيمانا ، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبيّن اللحق فحكّه. قال أبو جعفر : التقدير على قراءة نافع أنّ «أنّ» تنوب عن المفعولين ، وأما قراءة حمزة فزعم الكسائي والفراء (٢) أنّها جائزة على التكرير أي ولا تحسبنّ الذين كفروا لا تحسبنّ إنما نملي لهم. قال أبو إسحاق(٣) : «أنّ» بدل من الذين أي ولا يحسبن أنما نملي لهم خير لأنفسهم أي إملاءنا للذين كفروا خيرا لأنفسهم كما قال : [الطويل]

٨٨ ـ فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما (٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٧.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢٤٨ ، والبحر المحيط ٣ / ١٢٩.

(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤٤١.

(٤) مرّ الشاهد رقم (٤٨).

١٩٠

قال أبو جعفر : قراءة يحيى بن وثاب بكسر إن فيهما جميعا حسنة كما تقول : حسبت عمرا أبوه خارج. فأما (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) على قراءة نافع فالذين في موضع رفع والمفعول الأول محذوف. قال الخليل وسيبويه والكسائي والفراء (١) والمعنى : البخل هو خيرا لهم ، «وهو» زائدة ، عماد عند الكوفيين وفاصلة عند البصريين ومثل هذا المضمر قول الشاعر : [الوافر]

٨٩ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف (٢)

لمّا أن قال السفيه دلّ على السفل فأضمره ولما قال جلّ وعزّ : يبخلون دلّ على البخل ونظيره قول العرب : «من كذب كان شرا له» (٣) فأما قراءة حمزة ولا تحسبنّ الذين يبخلون فبعيدة جدا وجوازها أن يكون التقدير : ولا تحسبنّ الذين يبخلون مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ويجوز في العربية وهو خير لهم ابتداء وخبر. (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) ابتداء وخبر وكذا (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكذا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، البخل والبخل في اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل لأنه لا يذمّ بذلك ، وأهل الحجاز يقولون : يبخلون وقد بخلوا. وسائر العرب يقولون : بخلوا يبخلون وبعض بني عامر يقولون : يجدبي أي يجتبي فيبدلون من التاء دالا إذا كان قبلها جيم ويقولون يجدلون أي يجتلدون.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١)

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) وإن شئت أدغمت الدال في السين لقربها منها (قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) كسرت إن لأنها حكاية وبعض العرب يفتح. قال أهل التفسير : لما أنزل الله جلّ وعزّ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قال قوم من اليهود إن الله فقير يقترض منا وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم لا إنهم يعتقدون هذا لأنهم أهل كتاب ولكنهم كفروا بهذا القول لأنهم أرادوا تشكيك المؤمنين وتكذيب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنه فقير على قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه اقترض منا. (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) نصب بسنكتب وقرأ الأعمش وحمزة سيكتب ما قالوا (٤) فما هاهنا اسم ما لم يسمّ فاعله واعتبر حمزة بقراءة ابن مسعود ويقال ذوقوا عذاب الحريق. (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي ونكتب قتلهم أي رضاهم بالقتل (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي نوبّخهم بهذا.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٤٨.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٦٧).

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٤١٢.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٤٩ ، وتيسير الداني ٧٧.

١٩١

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢)

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) حذفت الضمة من الياء لثقلها.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣)

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) في موضع خفض بدلا من الذين في قوله (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) [آية : ١٨١](أَلَّا نُؤْمِنَ) في موضع نصب. قال الملهم صاحب الأخفش من أدغم بغنّة كتب أن لا منفصلا ومن أدغم بغير غنّة كتب ألّا متصلا وقيل بل يكتب منفصلا لأنها «أن» دخلت عليها «لا» وقيل : من نصب الفعل كتبها متصلة ومن رفع كتبها منفصلة (حَتَّى يَأْتِيَنا) نصب بحتى. وقرأ عيسى بن عمر (بِقُرْبانٍ) (١) بضم الراء. إن جمعت قربانا قلت : قرابين وقرابنة. (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) على تذكير الجميع أي جاء أوائلكم وإذا جاء أوائلهم فقد جاءهم. (بِالْبَيِّناتِ) بالآيات المعجزات (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) بالقربان. (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين إن الله جلّ وعزّ عهد إليكم ألّا تؤمنوا حتى تؤتوا بقربان تأكله النار.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِير) (١٨٤)

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) شرط (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) جوابه فهذا تعزية لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ابتداء وخبر. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) «ما» كافة ولا يجوز أن تكون بمعنى الذي ولو كان ذلك لقلت : أجوركم فرفعت على خبر «إن» وفرقت بين الصلة والموصول. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ابتداء وخبر أي أنها فانية فهي بمنزلة ما يغر ويخدع.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦)

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَ) لا ما قسم فإن قيل : لم ثبتت الواو في «لتبلونّ» وحذفت من «لتسمعنّ»؟ فالجواب أنّ الواو في لتبلونّ قبلها فتحة فحركت

__________________

(١) انظر المحتسب ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط ٣ / ١٣٨.

١٩٢

لالتقاء الساكنين ولم يجز حذفها لأنه ليس قبلها ما يدلّ عليها وحذفت في ولتسمعنّ لأن قبلها ما يدلّ عليها ولا يجوز همز الواو في لتبلونّ لأن حركتها عارضة.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ) على حكاية الخطاب ، وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء (١) لأنهم غيب والهاء كناية عن أهل الكتاب ، وقيل : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي عن أمره.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨)

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) وروى الحسين بن علي الجعفي عن الأعمش بما آتوا (٢) أي أعطوا. قيل : يراد بهذا اليهود وفي قراءة أبيّ بما فعلوا (٣) ، وقال ابن زيد : هم المنافقون كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نخرج ونحارب معك ثم يتخلّفون ويعتذرون ويفرحون بما فعلوا لأنهم يرون أنهم قد تمّت لهم الحيلة (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كرّر «تحسبنّ» لطول الكلام ليعلم أنه يراد الأول كما تقول : لا تحسب زيدا إذا جاءك وكلّمك لا تحسبه مناصحا.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتداء وخبر ، وكذا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ) في موضع نصب على أنه اسم «إن» (لِأُولِي) خفض باللام وزيدت فيها الواو فرقا بينها وبين «إلى». (الْأَلْبابِ) خفض بالإضافة وحكى سيبويه (٤) عن يونس : قد لببت ولا يعرف في المضاعف سواه.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١)

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في موضع خفض على النعت لأولي الألباب. (قِياماً وَقُعُوداً)

__________________

(١) وهذه قراءة ابن كثير أيضا ، انظر تيسير الداني ٧٧.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٣.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤ ، والبحر المحيط ٣ / ١٤٣.

(٤) انظر الكتاب ٤ / ١٤٧.

١٩٣

نصب على الحال. (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في موضع حال أي مضطجعين. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليكون ذلك أزيد في بصائرهم ويكون «ويتفكّرون» عطفا على الحال أو على يذكرون أو منقطعا. (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي ما خلقته من أجل باطل أي خلقته دليلا عليك ، والتقدير : يقولون «باطلا» مفعول من أجله. (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك من أن يكون خلقت هذا باطلا. حدّثنا عبد السلام بن أحمد بن سهل قال : حدّثنا محمد بن علي بن محرّر قال : حدّثنا أبو أسامة قال : حدّثنا الثوريّ عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معنى «سبحان الله» فقال : «تنزيه الله عن السوء» (١). (سُبْحانَكَ) مصدر وأضيف على أنه نكرة.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣)

(رَبَّنا) نداء مضاف. (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) في موضع نصب أي بأن آمنوا. (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) المعنى وتوفّنا أبرارا مع الأبرار ، ومثل هذا الحذف كلّه قوله : [الوافر]

٩٠ ـ كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ (٢)

وواحد الأبرار بارّ كما يقال : صاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون واحدهم برّا مثل كتف وأكتاف.

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي على ألسن رسلك مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي) أي بأنّي ، وقرأ عيسى بن عمر (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي) (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١١ / ٦٤.

(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ١٢٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٦٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٨ ، وشرح المفصّل ٣ / ٥٩ ، والكتاب ٢ / ٣٦٣ ، ولسان العرب (وقش) ، و (قعع) و (شنن) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٦٧ ، وبلا نسبة في سرّ صناعة الإعراب ١ / ٢٨٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٠١ ، وشرح المفصّل ١ / ٦١ ، ولسان العرب (خدر) و (أقش) و (دنا) ، والمقتضب ٢ / ١٣٨.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤.

١٩٤

بكسر الهمزة أي فقال إني. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ابتداء وخبر أي دينكم واحد. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) ابتداء. (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي في طاعة الله جلّ وعزّ. (وَقُتِلُوا) أي قاتلوا أعدائي. (وَقُتِلُوا) أي في سبيلي ، وقرأ ابن كثير وابن عامر (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) (١) على التكثير ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا (٢) لأن الواو لا تدلّ على أن الثاني بعد الأول. قال هارون القارئ : حدّثني يزيد بن حازم (٣) عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه أنه قرأ وقتلوا وقتلوا (٤) خفيفة بغير ألف. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي لأسترنّها عليهم في الاخرة فلا أوبّخهم بها ولا أعاقبهم عليها. (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) مصدر مؤكد عند البصريين ، وقال الكسائي : وهو منصوب على القطع ، قال الفراء (٥) : هو مفسّر.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١٩٦)

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) نهي مؤكد بالنون الثقيلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب (لا يَغُرَّنَّكَ) بنون خفيفة.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧)

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ذلك متاع قليل أي ابتداء وخبر ، وكذا (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) والجمع مآو.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨)

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) في موضع رفع بالابتداء ، وقرأ يزيد بن القعقاع (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٦) بتشديد النون (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) مثل ثوابا عند البصريين ، وقال الكسائي : يكون مصدرا وقال الفراء (٧) : هو مفسّر ، وقرأ الحسن نزلا (٨) بإسكان الزاي وهي لغة تميم ، وأهل الحجاز وبنو أسد يثقّلون.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٧.

(٢) انظر تيسير الداني ٧٧.

(٣) يزيد بن حازم بن زيد الأزدي الجهضمي البصري. روى عن سليمان بن يسار وعكرمة (ت ١٤٨ ه‍) ترجمته في تهذيب التهذيب ١١ / ٣١٧.

(٤) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٢.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥١ ، والبحر المحيط ٣ / ١٥٣.

(٦) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤.

(٧) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥١.

(٨) وهذه قراءة مسلمة بن محارب والأعمش أيضا ، وانظر مختصر ابن خالويه ٢٤.

١٩٥

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩)

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) اسم «إنّ» واللام توكيد. قال الضحاك: وما أنزل إليكم القرآن وما أنزل إليهم التوراة والإنجيل. قال الحسن : نزلت في النجاشيّ (١). (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من المضمر الذي في يؤمن ، وقال الكسائي : يكون قطعا من من لأنها معرفة وتكون قطعا من وما أنزل إليهم. قال الضحاك : (خاشِعِينَ) أي أذلّة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) أمر فلذلك حذفت منه النون. (وَصابِرُوا وَرابِطُوا) عطف عليه وكذا (وَاتَّقُوا اللهَ) أي لا يكن وكدكم الجهاد فقط اتقوا الله في جميع أموركم. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتكونوا على رجاء من الفلاح. قال الضحّاك : الفلاح البقاء.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٣ / ١٥٥.

١٩٦

(٤)

شرح إعراب سورة النساء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) «يا» حرف ينادى به ، وقد يجوز أن يحذف إذا كان المنادى يعلم بالنداء و «أيّ» نداء مفرد و «ها» تنبيه. «النّاس» نعت لأيّ لا يجوز نصبه على الموضع لأن الكلام لا يتم قبله إلّا على قول المازني ، وزعم الأخفش : أنّ أيّا موصولة بالنعت ولا تعرف الصلة إلّا جملة. (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أمر فلذلك حذفت منه النون. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) في موضع نصب على النعت. (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أنّثت على اللفظ ، ويجوز في الكلام من نفس واحد ، وكذا (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما) المذكر والمؤنث في التثنية على لفظ واحد في العلامة وليس كذا الجمع لاختلافه واتفاق التثنية. (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) (١) هذه قراءة أهل المدينة بإدغام التاء في السين ، وقراءة أهل الكوفة (تَسائَلُونَ) بحذف التاء لاجتماع تاءين ولأن المعنى يعرف ومثله (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) [النور : ١٥]. (وَالْأَرْحامَ) عطف أي واتّقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ إبراهيم وقتادة وحمزة (وَالْأَرْحامَ) (٢) بالخفض وقد تكلّم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحلّ القراءة به ، وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علّة قبحه فيما علمته. وقال سيبويه (٣) : لم يعطف على المضمر المخفوض لأنه بمنزلة التنوين ، وقال أبو عثمان المازني : المعطوف والمعطوف عليه شريكان لا يدخل في أحدهما إلّا ما دخل في الآخر فكما لا يجوز مررت بزيد وك وكذا لا يجوز مررت بك وزيد ، وقد جاء في الشعر كما قال : [البسيط]

٩١ ـ فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٤)

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٨.

(٢) انظر تيسير الداني ٧٨.

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٤٠٣.

(٤) الشاهد بلا نسبة في الإنصاف ٤٦٤ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٢٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٠ ، والدرر ٢ / ٨١ ، ـ

١٩٧

وكما قال : [الطويل]

٩٢ ـ وما بينها والكعب غوط نفانف (١)

وقال بعضهم (وَالْأَرْحامَ) قسم وهذا خطأ من المعنى والإعراب لأن الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلّ على النصب روى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن النذر بن جرير عن أبيه قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاء قوم من مصر حفاة عراة فرأيت وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ثم صلّى الظهر وخطب الناس فقال : «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم والأرحام ، ثم قال تصدّق رجل بديناره تصدّق رجل بدرهمه تصدّق رجل بصاع تمره» (٢) وذكر الحديث فمعنى هذا على النصب لأنه حضّهم على صلة أرحامهم ، وأيضا فلو كان قسما كان قد حذف منه لأن المعنى : ويقولون بالأرحام أي وربّ الأرحام : ولا يجوز الحذف إلّا أن لا يصحّ الكلام إلّا عليه. وأيضا فقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله» (٣) فكما لا يجوز أن تحلف إلّا بالله كذا لا يجوز أن تستحلف إلّا بالله فهذا يرد قول من قال المعنى أسألك بالله وبالرّحم ، وقد قال أبو إسحاق (٤) : معنى (تَسائَلُونَ بِهِ) تطلبون حقوقكم به ولا معنى للخفض على هذا. والرحم مؤنثة ويقال : رحم ورحم ورحم ورحم. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) قال ابن عباس أي حفيظا. قال أبو جعفر : يقال : رقب الرجل وقد رقبته رقبة ورقبانا.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) مفعولان ولا يقال : يتيم إلّا لمن بلغ دون العشر ، وقيل : لا يقال : يتيم إلا لمن لم يبلغ الحلم ، يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتم بعد بلوغ» (٥). (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرّمة خبيثة وتدعوا الطّيب وهو مالكم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أي

__________________

ـ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٧ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٠٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٢ ، وشرح المفصّل ٣ / ٧٨ ، والكتاب ٢ / ٤٠٤ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٩.

(١) الشاهد لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٥٣ وفيه (تنائف) بدل (نفانف) ، والحيوان ٦ / ٤٩٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٦٤ ، وبلا نسبة

في الإنصاف ٢ / ٤٦٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٦٦٣ ، وشرح المفصّل ٣ / ٧٩ ، ولسان العرب (غوط) ، وتاج العروس (غوط). وصدره :

«نعلّق في مثل السواري سيوفنا»

(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٤ / ٣٥٩ ، ومسلم في الزكاة ٧٠.

(٣) أخرجه الترمذي في النذور ٧ / ١٦ ، وابن ماجة في سننه ـ باب ، حديث ٢٠٩٤ ، وأبو داود في سننه ، الإيمان والنذور ، حديث ٣٢٤٩ ، والدارمي في النذور ٢ / ١٨٥.

(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٤٥٥ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦٤.

(٥) أخرجه أبو داود في سننه ٢٨٧٣ ، والمتقي في كنز العمال ٩٠٤٩٩.

١٩٨

لا تجمعوا بينهما فتأكلوهما. (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (١) وقرأ الحسن (حُوباً) (٢). قال الأخفش : وهي لغة بني تميم والحوب المصدر وكذا الحيابة والحوب الاسم. وقرأ ابن محيصن ولا تبّدلوا (٣) أدغم التاء في التاء وجمع بين ساكنين ، وذلك جائز لأن الساكن الأول حرف مدّ ولين ، ولا يجوز هذا في قوله (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤].

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا) (٣)

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) شرط أي إن خفتم ألّا تعدلوا في مهورهنّ في النفقة عليهن. (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فدلّ بهذا على أنه لا يقال : نساء إلا لمن بلغ الحلم. واحد النساء نسوة ولا واحد لنسوة من لفظه ولكن يقال : امرأة. ويقال : كيف جاءت «ما» للآدميين ففي هذا جوابان : قال الفراء (٤) : «ما» هاهنا مصدر وهذا بعيد جدّا لا يصحّ فانكحوا الطيبة ، وقال البصريون : «ما» تقع للنعوت كما تقع «ما» لما لا يعقل يقال : ما عندك؟ فيقال : ظريف وكريم فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء أي الحلال وما حرّمه الله فليس بطيب. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) في موضع نصب على البدل من «ما» ولا ينصرف عند أكثر البصريين في معرفة ولا نكرة لأن فيه علّتين إحداهما أنه معدول. قال أبو إسحاق : والأخرى أنه معدول عن مؤنث وقال غيره : العلّة أنّه معدول يؤدّي عن التكرير صحّ أنها لا تكتب وهذا أولى قال الله عزوجل : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] فهذا معدول عن مذكّر ، وقال الفراء (٥) : لم ينصرف لأن فيه معنى الإضافة والألف واللام ، وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة ، وزعم الأخفش أنه إن سمّي به صرفه في المعرفة والنكرة لأنه قد زال عنه العدل. (فَإِنْ خِفْتُمْ) في موضع جزم بالشرط (أَلَّا تَعْدِلُوا) في موضع نصب بخفتم (فَواحِدَةً) أي فانكحوا واحدة وقرأ الأعرج (فَواحِدَةً) بالرفع. قال الكسائي : التقدير فواحدة تقنع. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عطف على واحدة. (ذلِكَ أَدْنى) ابتداء وخبره (أَلَّا تَعُولُوا) في موضع نصب.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤)

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) مفعولان الواحدة صدقة. قال الأخفش : وبنو تميم

__________________

(١) وهذه قراءة الجمهور ، انظر البحر المحيط ٣ / ١٦٩.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥٣ ، والإتحاف ١١٢ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦٩ ، وهذه لغة بني تميم.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥٣ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٠.

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥٤.

١٩٩

يقولون : صدقة والجمع صدقات ، وإن شئت فتحت ، وإن شئت أسكنت (١). قال المازني: يقال صداق المرأة بالكسر ولا يقال : بالفتح ، وحكى يعقوب وأحمد ابن يحيى الفتح. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) مخاطبة للأزواج وزعم الفراء (٢) أنه مخاطبة للأولياء لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. قال أبو جعفر : والقول الأول أولى لأنه لم يجر للأولياء ذكر. (نَفْساً) منصوبة على البيان ، ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدّم ما كان على البيان ، وأجاز المازني وأبو العباس أن يتقدم إذا كان العامل فعلا وأنشد : [الطويل]

٩٣ ـ وما كان نفيسا بالفراق تطيب (٣)

وسمعت أبا إسحاق يقول : إنّما الرواية «وما كان نفسي». (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) منصوب على الحال من الهاء. يقال : هنؤ الطعام ومرؤ فهو هنيء مريء على فعيل ، وهنيء يهنأ فهو هني على فعل ، والمصدر على فعل ، وقد هنأني ومرأني فإن أفردت قلت : أمرأني بالألف.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥)

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) روى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : يعني اليتامى لا تؤتوهم أموالهم. كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وهذا من أحسن ما قيل في الآية وشرحه في العربية ولا تؤتوا السفهاء الأموال التي تملكونها ويملكونها كما قال : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : ٥٩] ، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : أولادكم لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء ، وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) قال : النساء. قال أبو جعفر : وهذا القول لا يصحّ ، إنّما تقول العرب في النساء : سفائه وقد قيل «ولا تؤتوا السفهاء

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه ٢٤ والبحر المحيط ٣ / ١٧٤ ، والقراءة الأولى لأبي واقد ، والثانية بالفتح عن قتادة ، والثالثة عن قتادة وأبي السمال.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢٥٦ ، والبحر المحيط ٣ / ١٧٤.

(٣) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ص ٢٩٠ ، والخصائص ٢ / ٣٨٤ ، ولسان العرب (صبب) ، وللمخبّل السعدي أو لأعشى همدان أو لقيس بن الملوّح في الدرر ٤ / ٣٦ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٢٣٥ ، وللمخبّل السعدي أو لقيس بن معاذ في شرح شواهد الإيضاح ص ١٨٨ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ١٩٧ ، والإنصاف ص ٨٢٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٦٦ ، وشرح ابن عقيل ٣٤٨ ، وشرح المفصّل ٢ / ٧٤ ، والمقتضب ٣ / ٣٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٢ ، وصدره :

«أتهجر ليلى بالفراق حبيبها»

٢٠٠