إعراب القرآن - ج ١

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 2-7451-3023-4
الصفحات: ٢٩٣

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥)

(كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) على اللفظ ويجوز في غير القرآن آمنوا على المعنى. (وَقالُوا سَمِعْنا) على حذف أي سمعنا سماع قابلين وقيل : سمع بمعنى قبل ، كما يقال : سمع الله لمن حمده. (غُفْرانَكَ) مصدر ، (رَبَّنا) نداء مضاف.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

(لا تُؤاخِذْنا) جزم لأنه طلب ، وكذا (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). ولفظه لفظ النهي. (وَاعْفُ عَنَّا) طلب أيضا ولفظه لفظ الأمر ، ولذلك لم يعرب عند البصريين وجزم عند الكوفيين وكذا (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) وكذا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

__________________

ـ ٤ / ٤٣٩ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٨٧١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١٠ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٧٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٥٨١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٦٣ ، وشرح المفصل ٢ / ٦٦ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٨٨ ، والمقتضب ٢ / ٦٥.

١٤١

(٣)

شرح إعراب سورة آل عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس بمصر في قول الله عزوجل :

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)

(الم) (١) (اللهُ) وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد (١) وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي (الم اللهُ) (٢) بقطع الألف. قال الأخفش سعيد : ويجوز (الم اللهُ) بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال أبو جعفر : القراءة الأولى قراءة العامة ، وقد تكلّم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه (٣) أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين واختاروا لها الفتح لئلا يجمعوا بين كسرة وياء وكسرة قبلها. قال سيبويه : ولو أردت الوصل لقلت : الم الله ففتحت الميم لالتقاء الساكنين كما فعلت بأين وكيف. قال الكسائي : حروف التهجّي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حرّكتها بحركة الألف فقلت : الم الله والم اذكروا والم اقتربت. وقال الفراء (٤) : الأصل : الم الله كما قرأ الرؤاسي ألقيت حركة الهمزة على الميم ، وقال أبو الحسن بن كيسان : الألف التي مع اللام بمنزلة «قد» وحكمها حكم ألف القطع لأنهما حرفان جاءا لمعنى وإنما وصلت لكثرة الاستعمال فلهذا ابتدئت بالفتح. قال أبو إسحاق(٥) : الذي حكاه الأخفش من كسر الميم خطأ لا يجوز ولا تقوله العرب لثقله. (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه

__________________

(١) عمرو بن عبيد ، أبو عثمان البصري ، روى الحروف عن الحسن البصري ، وهو رأس المعتزلة. وردت له رواية في حروف القرآن (ت ١٤٤ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ١ / ٦٠٢.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٩

(٣) انظر الكتاب ٤ : ٢٦٥

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٩.

(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٢٧.

١٤٢

القيّام وقال (١) خارجة (٢) في مصحف عبد الله الحيّ القيّم (٣). قال أبو جعفر : القيّوم فيعول الأصل فيه قيووم ثم وقع الإدغام ، والقيّام الفيعال الأصل فيه القيوام ثم أدغم وقيّم فيعل عند البصريين الأصل فيه قيوم ثم أدغم ، وزعم الفراء (٤) أنّه فعيل. قال ابن كيسان : لو كان كما قال لما أعلّ كما لم يعلّ سويق وما أشبهه. اسم الله عزوجل مرفوع بالابتداء ، والخبر (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) و (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) نعت ، وإن شئت كان الخبر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ثم جيء بخبر بعد خبر. (مُصَدِّقاً) نصب على الحال ، وعند الكوفيين على القطع قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اشتقاق (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) في الكتاب الذي قبل هذا.

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

(مِنْ قَبْلُ) غاية وقد ذكرناه (٥) و (هُدىً) في موضع نصب على الحال ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. (إِنَّ الَّذِينَ) اسم إنّ والصلة (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) والخبر (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ابتداء وخبر ، وكذا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) وروى العباس بن الفضل (٦) عن أبي عمرو (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧)

هذه الآية كلها مشكلة. وقد ذكرناها ، وسنزيدها شرحا إن شاء الله. قال أبو جعفر: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أنّ المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ١٩٠ ، وهي قراءة إبراهيم النخعي والأعمش وابن مسعود وأصحاب عبد الله وزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبي رجاء أيضا. وانظر المحتسب ١ / ١٥١.

(٢) خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي : أخذ القراءة عن نافع وأبي عمرو ، وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه ، وروى أيضا عن حمزة حروفا. (ت ١٦٨ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ١ / ٢٦٨.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه (١٩) ، والمحتسب ١ / ١٥١ ، وهي قراءة علقمة بن قيس.

(٤) انظر الإنصاف مسألة ١١٥.

(٥) انظر إعراب الآية (٢٥) سورة البقرة.

(٦) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الأنصاري ، قاضي الموصل ، حاذق من أكابر أصحاب أبي عمرو (ت ١٨٦ ه‍) ترجمته في غاية النهاية ١ / ٣٥٣.

١٤٣

لِمَنْ تابَ وَآمَنَ) [طه : ٨٢] والمتشابهات نحو (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] يرجع فيه إلى قوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [طه : ٨٢] وإلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] فأما ترك صرف «أخر» فلأنها معدولة عن الألف واللام. وقد ذكرناه (١). (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) «الذين» في موضع رفع بالابتداء والخبر (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) ويقال زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ، (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) مفعول من أجله أي ابتغاء الاختبار الذي فيه غلوّ وإفساد ذات البين ومنه فلان مفتون بفلانة أي قد غلا في حبّها. (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ) عطف على الله جلّ وعزّ. هذا أحسن ما قيل فيه لأن الله جلّ وعزّ مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم جهّال. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا أكثر من هذا الاحتجاج فأما القراءة المرويّة عن ابن عباس وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم (٢) فمخالفة لمصحفنا وإن صحّت فليس فيها حجة لمن قال الراسخون في العلم ويقول الراسخون في العلم آمنا بالله فأظهر ضمير الراسخين ليبيّن المعنى كما أنشد سيبويه : [الخفيف]

٧٠ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٣)

فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين في العلم بعض تفسيره حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأواه [التوبة : ١١٤] وما (غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦] فهذا لا يلزم لأن ابن عباس رحمه‌الله قد علم بعد ذلك وفسّر ما وقف عنه ، وجواب أقطع من هذا إنما قال الله عزوجل (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ولم يقل جلّ وعزّ : وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحدهم علمه الآخر. قال ابن كيسان : ويقال : الراصخون بالصاد لغة لأنّ بعدها خاء. (يَقُولُونَ) في موضع نصب على الحال من الراسخين كما قال : [مجزوء الكامل]

٧١ ـ الرّيح تبكي شجوه

والبرق يلمع في الغمامه (٤)

ويجوز أن يكون الراسخون في العلم تمام الكلام ويكون يقولون مستأنفا.

__________________

(١) انظر إعراب الآية ١٨٤ ـ سورة البقرة.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ١٩١.

(٣) الشاهد لعدي بن زيد في ديوانه ٦٥ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٣٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٦ ، ١١٨ ، ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ١٧٦ ، والكتاب ١ / ١٠٦ ، ولسوادة أو لعدي في لسان العرب (نغص) ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ١٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٩٠ و ١١ / ٣٦٦ ، والخصائص ٣ / ٥٣ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٠٠.

(٤) الشاهد ليزيد بن مفرغ الحميري في ديوانه ص ٢٠٨.

«الريح تبكي شجوها

والبرق يضحك في الغمامه»

وفي لسان العرب (درك) ، وفي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ١٢٧ ، وغير منسوب في الأضداد لابن الأنباري ٤٢٤.

١٤٤

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨)

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) جزم لأن لفظه لفظ النهي ، ويجوز لا تزغ قلوبنا رفع بفعلها ، ويجوز لا يزغ قلوبنا على تذكير الجميع. (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) لم تعرب لدن لأنها غير متمكّنة وفيها تسع لغات : لغة أهل الحجاز لدن ويقال : لدن بإسكان النون ولدن بكسرها. قال الفراء : بعض بني تميم يقول لد قال العجاج : [الرجز]

٧٢ ـ من لد شولا فإلى إتلائها (١)

وحكى الكسائي لد يا هذا ، وحكى أبو حاتم لد بإسكان الدال. قال الفراء : ربيعة تقول : من لدن يا هذا بإسكان الدال وكسر النون ، وأسد يقولون : لدن بضم اللام والدال وإسكان النون ، وحكى أبو حاتم لدن يا هذا بضم اللام وإسكان الدال ، ويقال : لدي بمعنى لدن.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ويجوز جامع الناس بالتنوين والنصب وهو الأصل وحذف التنوين استخفافا ، ويجوز جامع الناس بغير تنوين وبالنصب ، وأنشد سيبويه : [المتقارب]

٧٣ ـ فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) وقرأ أبو عبد الرّحمن لن يغني عنهم أموالهم لأنه قد فرق وهو تأنيث غير حقيقي. قال أبو حاتم : بالتاء أجود مثل (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) [الفتح : ١١]. (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرّف (وَقُودُ) بضم الواو ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن يقول : أقود مثل (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١].

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في شرح المفصّل ٤ / ١٠١ ، و ٨ / ٣٥ ، والكتاب ١ / ٣٢٢ ، ولسان العرب (لدن) ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٢ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٢ ، وهو غير موجود في ديوان العجاج.

(٢) الشاهد لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ٥٤ ، والأشباه والنظائر ٦ / ٢٠٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٧٤ ، والدرر ٦ / ٢٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٩٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٣٣ ، والكتاب ١ / ٢٢٤ ، ولسان العرب (عتب) و (عسل) ، والمقتضب ٢ / ٣١٣ ، والمنصف ٢ / ٢٣١ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٦٥٩ ، ورصف المباني ص ٤٩ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٦ ، ٩ / ٣٤ ، ومجالس ثعلب ص ١٤٩ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥٥٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٩٩.

١٤٥

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١)

قد ذكرنا موضع الكاف ، وزعم الفراء (١) أن المعنى : كفرت العرب كفرا ككفر آل فرعون. قال أبو جعفر : لا يجوز أن تكون الكاف متعلّقة بكفروا لأن كفروا داخل في الصلة وكدأب خارج منها. قال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر «كدأب» (٢) بفتح الهمزة وقال لي وأنا غليّم : على أيّ شيء يجوز «كدأب» فقلت : أظنّه من دئب يدأب دأبا فقيل ذلك منّي وتعجّب من جودة تقديري على صغري ولا أدري أيقال ذلك أم لا؟ قال أبو جعفر : هذا القول خطأ لا يقال البتّة : دئب ، وإنما يقال : دأب يدأب ، دؤبا ودأبا ، هكذا حكى النحويون منهم الفراء ، حكى في «كتاب المصادر» كما قال : [الطويل]

٧٤ ـ كدأبك من أمّ الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل (٣)

فأما الدأب فإنه يجوز كما يقال : شعر وشعر ونهر ونهر لأن فيه حرفا من حروف الحلق.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) بمعنى إحداهما فئة وقرأ الحسن ومجاهد (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) بالخفض على البدل ؛ قال أحمد بن يحيى ويجوز النصب على الحال أي التقتا مختلفتين قال أبو إسحاق (٤) : النصب بمعنى أعني. ترونهم مّثليهم (٥) نصب على الحال ، ومن قرأ ترونهم (٦) فالنصب عنده على خبر ترى وقد ذكرنا المعنى.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ١٩١.

(٢) انظر البحر المحيط ٢ / ٤٠٧.

(٣) الشاهد لامرى القيس في ديوانه ص ٩ ، وجمهرة اللغة ص ٦٨٨ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٢٣ ، والمنصف ١ / ١٥٠ ، وتاج العروس (أسل).

(٤) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٣٥.

(٥) انظر تيسير الداني ٧٢.

(٦) انظر البحر المحيط ٢ / ٤٠٧ ، والمحتسب ١ / ١٥٤.

١٤٦

وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) اسم ما لم يسمّ فاعله ، وحرّكت الهاء من الشهوات فرقا بين الاسم والنعت ويجوز إسكانها لأن بعدها واوا. قال ابن كيسان : قال بعضهم لا تكون (الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) أقلّ من تسعة لأن معناها المجمّعة فالثلاثة قناطير فإذا جمعتها صارت مثل قولك : ثلاث ثلاثات. (الذَّهَبِ) مؤنثة ، يقال : هي الذهب الحسنة ، وجمعها ذهاب وذهوب ويجوز أن يكون جمع ذهبة وجمع فضة فضض ، والخيل مؤنّثة. قال ابن كيسان : حدّثت عن أبي عبيدة أنه قال : واحد الخيل خائل مثل طائر وطير وقيل له : خائل لأنه يختال في مشيته قال ابن كيسان : إذا قلت : نعم لم تك إلّا للإبل فإذا قلت : أنعام وقعت للإبل وكلّ ما ترعى. لا يجوز أن تدغم الثاء من «الحرث» في الذال من «ذلك» كما فعلت في (يَلْهَثْ ذلِكَ) [الأعراف : ١٧٦] لأن الراء من الحرث ساكنة فلو أدغمت اجتمع ساكنان.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١٥)

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ، لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي) رفع بالابتداء أو بالصفة. قال أبو حاتم : ويجوز جنات (١) بالخفض على البدل من خير ، سمعت يعقوب يذكر ذلك وغيره ويجوز (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج : ٧٢] بالخفض. قال ابن كيسان: ويجوز «جنّات» بالخفض على البدل وبالنصب على إعادة الفعل ويكون للذين متعلقا بقوله : (أَأُنَبِّئُكُمْ) على قول الفراء (٢) وتبيينا على قول الأخفش أي ملغاة. (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) عطف على جنات.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٦)

قال (الَّذِينَ يَقُولُونَ) في موضع خفض أي للذين اتقوا عند ربهم الذين يقولون ، إن شئت كان رفعا أي هم الذين ونصبا على المدح أي أعني الذين.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) (١٧)

(الصَّابِرِينَ) بدل من الذين إذا كان نصبا أو خفضا وإن كان رفعا كان الصابرين

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ٤١٧ ، وهي قراءة يعقوب.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ١٩٦.

١٤٧

بمعنى أعني الصابرين. (وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) عطف كلّه. (بِالْأَسْحارِ) واحدها سحر تقول : سير به سحر يا فتى ، لا ينصرف لأنه معدول عن الألف واللام وهو معرفة ولا يجوز أن يرفع إذا كان معرفة لأن الظروف إنما ترفع هاهنا مجازا فإذا وقعت فيها علّة أقرّت على بابها نصبا فإن نكّرته جاز فيه الرفع وصرف. قال أبو إسحاق (١) : السحر من حيث يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قد ذكرنا فيه قراءات وفسّرنا إعرابها فأما قراءة أبي المهلب (٢) (شُهَداءَ لِلَّهِ) (٣) فهي نصب على الحال وروي عنه (شُهَداءَ لِلَّهِ) أي هم شهداء لله ويروى عنه شهداء الله ويروى عنه شهداء الله. (قائِماً بِالْقِسْطِ) نصب على الحال المؤكّدة وعند الكوفيين على القطع وفي قراءة عبد الله القائم بالقسط على النعت وفي قراءته (٤).

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩)

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) وهذا بكسر «إنّ» لا غير. قال الأخفش : المعنى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلّا من بعد ما جاءهم العلم. قال أبو إسحاق(٥) : الذي هو أجود عندي أن يكون «بغيا» منصوبا بما دلّ عليه «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» أي اختلفوا بغيا بينهم. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ) شرط والجواب (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ويجوز رفع يكفر بجعل «من» بمعنى الذي.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠)

(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) حذفت الياء في السواد لأن الكسرة تدلّ عليها والنون عوض

__________________

(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٣٣٨.

(٢) أبو المهلّب : محارب بن دثار السدوسي الكوخي ، عرض على أبيه عن عمر بن الخطاب ، وروى عن جابر وابن عمر ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٤٢.

(٣) انظر المحتسب ١ / ١٥٥.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٠٠.

(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه ٣٤٠.

١٤٨

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) شرط والجواب (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ابتداء وخبر.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الذين اسم إن والخبر (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فإن قيل : كيف دخلت الفاء في خبر «إنّ» ولا يجوز : إن زيدا فمنطلق؟ فالجواب أنّ «الذي» إذا كان اسم «إن» وكان في صلته فعل كان في الكلام معنى المجازاة فجاز دخول الفاء ، ولا يجوز ذا في ليت ولعلّ وكأنّ ، لأنّ «إنّ» تأكيد. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وقرأ حمزة ويقاتلون الذين يأمرون بالقسط (١) وهو وجه بعيد جدّا لأنّ بعض الكلام معطوف على بعض والنسق واحد والتفسير يدلّ على «يقتلون». قال أبو العالية : كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيّون يدعونهم إلى الله جلّ وعزّ فقتلوهم فقام أناس من المؤمنين بعدهم فأمروهم بالإسلام فقتلوهم فيهم نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) إلى آخرها وروى شعبة (٢) عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة (٣) عن عبد الله قال : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيّا ثم يقوم سوق بقتلهم من آخر النهار.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢)

قرأ أبو السمّال العدوي أولئك الذين حبطت أعمالهم (٤) وهي لغة شاذة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) «ذلك» في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي أمرهم ذلك.

(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٥)

قال الكسائي (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ).

أي في يوم. وقال البصريون : المعنى لحساب يوم واللام في موضعها. ويجوز في غير القرآن وأفيت مثل (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١].

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٣.

(٢) شعبة بن الحجاج بن الورد ، أبو بسطام الأزدي العتكي مولاهم نزيل البصرة ومحدّثها (ت ١٦٠ ه‍) ترجمته في تذكرة الحفاظ ١٩٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ١ / ٥١ ، وحلية الأولياء ٤ / ٢٠.

(٤) هذه قراءة أبي واقد وأبي الجراح ، انظر مختصر ابن خالويه ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٣١.

١٤٩

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦)

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الفراء (١) يذهب فيما يرى إلى أن الأصل في (اللهُمَ) يا الله أمّنا منك بخير فلما كثر واختلط حذفوا منه وإن الضمّة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمّنا لمّا حذفت انتقلت. قال أبو جعفر : هذا عند البصريين من الخطأ العظيم حتى قال بعضهم : هذا الحاد في اسم الله عزوجل. قال أبو جعفر : القول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه (٢) أن الأصل يا الله ثم جاءوا بحرفين عوضا من حرفين وهما الميمان عوضا من «يا» والدليل على هذا أنه ليس أحد من الفصحاء يقول «يا اللهمّ» لأنهم لا يجمعون بين الشيء وعوضه ، والضمة التي في اللهمّ عندهما هي ضمّة المنادى المرفوع. فأمّا قول الفراء : إنّ الأصل يا الله أمّنا فلو كان كذا لوجب أن يقال : أؤمم وأن يدغم فيضم ويكسر وكان يجب أن تكون ألف وصل لا حكم لها ، وكان يجب أن يقال : يا اللهمّ ، وأيضا فكيف يصحّ المعنى أن يقال : يا الله أمّنا منك بخير. (مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) وهذا لا يقدّمه أحد بين يدي دعائه (مالِكَ الْمُلْكِ) منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ولا يجوز أن يكون عنده صفة لقوله : «اللهمّ» من أجل الميم وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السّريّ في هذا وقالا : يجوز أن يكون صفة كما يكون صفة إذا جئت بيا. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير : أنّ وفد نجران أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليهم سورة آل عمران وفسّر لهم من أولها إلى رأس الثمانين فقال : تؤتي الملك من تشاء «ملك النبوة». قال ابن إسحاق : وكانوا نصارى فأعلم الله جلّ وعزّ بعنادهم وكفرهم وأنّ عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان الله جلّ وعزّ أعطاه آيات تدلّ على نبوّته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عزوجل منفرد بهذه الأشياء من قوله :

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧)

فلو كان عيسى إلها لكان هذا إليه فكان في ذلك اعتبار وآية بيّنة ثم حذّر الله جلّ وعزّ المؤمنين ، وأمرهم ألّا يتخذوهم أولياء فقال :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨)

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢٠٣.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ١٩٨.

١٥٠

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) جزما على التي وكسرت الذّال لالتقاء الساكنين. قال الكسائي : ويجوز (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) بالرفع على الخبر كما يقال : ينبغي أن تفعل ذلك. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) شرط وجوابه أي فليس من أولياء الله مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) مصدر وكذا تقيّة والأصل الواو (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) قال أبو إسحاق : أي ويحذّركم الله إيّاه ثم استغنوا عن ذلك بذا وصار المستعمل. قال : وأما (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة: ١١٦] فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك ، وقال غيره : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي عقابه مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، وقال (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي مغيّبي فجعلت النفس في موضع الإضمار لأنه فيها يكون (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) على الازدواج.

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠)

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يَوْمَ) نصب بتقدير : ويحذّركم الله نفسه يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا ، ويجوز أن يكون التقدير : وإلى الله المصير يوم تجد كل نفس (ما عَمِلَتْ) مفعول. (مُحْضَراً) حال. (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف على «ما» الأولى ولو كانت «ما» منقطعة من الأولى على أن تكون شرطا وتعطف جملة على جملة لم يجز إلّا أن تجزم تودّ ولا نعلم أحدا قرأ به وإن كان جائزا في النحو. (أَمَداً) اسم أنّ. (بَيْنَها) ظرف. (بَعِيداً) من نعته. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ابتداء وخبر.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١)

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ) شرط. (تُحِبُّونَ) خبر كنتم. (فَاتَّبِعُونِي) أمر والفاء وما بعدها جواب الشرط. (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) جواب الأمر وفيه معنى المجازاة والمحبة من الله جلّ وعزّ الثناء والثواب وروي أنّ المسلمين قالوا : يا رسول الله إنّنا لنحبّ ربّنا فأنزل الله عزوجل (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يحبّه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وأن لا يؤذي جاره» (١) وقرأ أبو رجاء العطارديّ (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) بفتح الياء. قال الكسائي : يقال : يحبّ وتحبّ واحبّ ، ويحبّ بكسر الياء وتحبّ ونحبّ وإحبّ قال : وهذه لغة بعض قيس يعني الكسر قال : والفتح لغة تميم

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٤ / ٦١ ، والطبري في تفسيره ٣ / ٢٢٣.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٤٨.

١٥١

وأسد وقيس وهي على لغة من قال : حبّ وهي لغة قد ماتت. قال الأخفش : لم تسمع حببت. قال الفراء : لم تسمع حببت إلّا في بيت أنشده الكسائي : [الطويل]

٧٥ ـ وأقسم لو لا تمره ما حببته

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق (١)

قال أبو جعفر : لا يجوز عند البصريين كسر الياء من يحب لثقل الكسرة في الياء فأما فتحها فمعروف يدلّ عليه محبوب. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) عطف على يحببكم وروى محبوب عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من «يغفر» في اللام من «لكم». قال أبو جعفر : لا يجيز الخليل وسيبويه (٢) إدغام الراء في اللام لئلا يذهب التكرير وأبو عمرو أجلّ من أن يغلط في مثل هذا ولعلّه كان يخفي الحركة كما يفعل في أشياء كثيرة.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) شرط إلّا أنه ماض لا يعرب والتقدير فإن تولوا على كفرهم والجواب (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) قال الفراء (٣) : أي إنّ الله اصطفى دينهم. قال أبو جعفر : هذا التقدير لا يحتاج إليه لأن المعنى اختارهم وروي عن ابن عباس أنه قال : أدم خلق من أديم الأرض. قال أبو جعفر : أديم الأرض وجهها فسمّي آدم لأنه خلق من وجه الأرض. قال أحمد بن يحيى من قال سمّي آدم من أديم الأرض فقد أخطأ في العربية لأنه يجب أن يصرفه لأنه فاعل مثل طابق قال : ولكنه مشتق من شيئين أحدهما أن يكون مشتقا من قولهم : أدمت فلانا بنفس أي خلطته فقيل آدم لأنه خلق من أخلاط قال : والقول عندي أنّ آدم أفعل من الأدمة في اللون. قال أبو جعفر : الذي أنكره أحمد بن يحيى قول أكثر النحويين وقد يجوز أن يكون آدم أفعل مشتقا من أديم الأرض وأن يكون فاعلا كما قال إلّا أنا نقدّره أفعل فلا ينصرف. ونوح اسم أعجمي إلّا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف وقد يجوز أن يشتقّ من ناح ينوح. ولم ينصرف عمران لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

(ذُرِّيَّةً) قال الأخفش : هي نصب على الحال ، وقال الكوفيون : على القطع وقال

__________________

(١) يروى في صدر هذا البيت «والله لو لا تمره» ، والشاهد لعيلان بن شجاع النهشلي في لسان العرب (حبب) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٢٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٠ ، وشرح المفصّل ٧ / ١٣٨ ، والخصائص ٢ / ٢٢٠ ، ومغني اللبيب رقم (٥٨٥).

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٥٨٤.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٢٠٧.

١٥٢

أبو إسحاق (١) هي بدل. وذرّية مشتقة من الذرّ لكثرتها وفيها تقديران تكون فعليّة وتكون فعلولة أصلها ذرّورة فاستثقلوا التضعيف فأبدلوا من الراء الأخيرة ياء ثم أدغموا الواو في الياء فقالوا ذرّيّة ويقال : ذرّيّة. (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ابتداء وخبر.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٥)

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) قال أبو عبيدة (٢) : «إذ» زائدة وقال محمد بن يزيد : التقدير أذكر إذ قال وقال أبو إسحاق (٣) : المعنى : واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) منصوب على الحال ، وقيل : هو نعت لمفعول محذوف أي نذرت لك ما في بطني غلاما محرّرا أي يخدم الكنيسة. قال أبو جعفر : القول الأول أولى من جهة التفسير وسياق اللام والإعراب ، فأمّا التفسير فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : حملت امرأة عمران بعد ما أسنّت فنذرت ما في بطنها محررا فقال لها عمران : ما صنعت ويحك فولدت أنثى فقبلها ربّها بقبول حسن وكان لا يحرّر إلّا الغلمان فتساهم عليها الأحبار بالأقلام التي يكتبون بها الوحي فكفلها زكرياء واتّخذ لها مرضعا فلما شبّت جعل لها محرابا لا يرتقى إليه إلّا بسلم فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ وفاكهة القيظ في الشتاء قال (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) قالت (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٣٧] فعند ذلك طمع زكرياء في الولد. قال : إنّ الذي يأتيها بهذا قادر على أن يرزقني ولدا ، وقال الضحاك : كان أكثر من يجعل خادما للأحبار ينبّأ فلذلك كان لا يقبل إلّا الغلمان. فهذا التفسير ، وسياق الكلام أنها قالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أي وليست الأنثى مما يقبل فقال الله جلّ وعزّ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [آل عمران : ٣٧] وأما الإعراب فإنّ إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع ويجوز على المجاز في أخرى ، وحذف اللام في مثل هذا لا يستعمل.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦)

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) حال ، وإن شئت بدل. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) وقد ذكرنا أنه يقرأ (بِما وَضَعَتْ) (٤) وهي قراءة بعيدة لأنها قد قالت : إنّي وضعتها أنثى وروي عن ابن عباس (بِما وَضَعَتْ) (٥) بكسر التاء أي قيل لها هذا (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) الكاف

__________________

(١) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥١ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٥٤.

(٢) انظر مجاز القرآن ١ / ٩٠.

(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٢.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢٠٧ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٥٦ ، وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر ويعقوب.

(٥) انظر البحر المحيط ٢ / ٤٥٦.

١٥٣

في موضع نصب على خبر ليس أو على الظرف. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) مفعولان ولم تنصرف مريم لأنه اسم مؤنث معرفة وهو أيضا أعجميّ. (وَذُرِّيَّتَها) عطف على الهاء والألف.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧)

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) مصدر تقبّل تقبّل إلّا أن معنى تقبّل وقبل واحد فالمعنى فقبلها ربّها بقبول حسن ونظيره (١) : [الرجز]

٧٦ ـ وقد تطوّيت انطواء الحضب (٢)

لأن معنى تطوّيت وانطويت واحد. قال أبو جعفر : الحضب الحيّة ومثله للقطامي : [الوافر]

٧٧ ـ وليس بأن تتّبعه اتّباعا (٣)

(وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ولم يقل : إنباتا لأنه لما قال : أنبتها دلّ على نبت كما قال: [الطويل]

٧٨ ـ فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (٤)

وإنما مصدر ذلّت ذلّ ولكنه قد دلّ على معنى أذللت ، وقرأ مجاهد (فَتَقَبَّلَها) بإسكان اللام على الطلب والمسألة (رَبُّها) نداء مضاف (وَأَنْبَتَها) بإسكان التاء (وَكَفَّلَها) (٥) بإسكان اللام زكرياء بالمدّ والنصب ، وقرأ الكوفيّون (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)

__________________

(١) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٨٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، ولسان العرب (روض) ، والمقتضب ١ / ٧٤ ، وبلا نسبة في المحتسب ٢ / ٢٦٠.

(٢) الشاهد لرؤبة في ديوانه ص ١٦ ، ولسان العرب (حضب) ، والدرر ٣ / ٥٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٩١ ، وشرح المفصّل ١ / ١١٢ ، والكتاب ٤ / ١٩٦ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٢٠ ، وتاج العروس (حضب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (طوى) ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٧ ، والمخصص ٨ / ١١٠ و ١٠ / ١٨٢ ، وبعده :

«بين قتادة ردهة وشقب»

(٣) الشاهد للقطامي في ديوانه ص ٣٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٣٢ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧٢٨ ، والكتاب ٤ / ١٩٥ ، ولسان العرب (تبع) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٦٣٠ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٤٥ ، وجمهرة الأمثال ١ / ٤١٩ ، وشرح المفصّل ١ / ١١١ ، والمقتضب ٣ / ٢٠٥. وصدره :

«وخير الأمر ما استقبلت منه»

(٤) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٨٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، ولسان العرب (روض) ، والمقتضب ١ / ٧٤ ، وبلا نسبة في المحتسب ٢ / ٢٦٠.

(٥) انظر القراءات المختلفة في البحر المحيط ٢ / ٤٦٠.

١٥٤

أي وكفّلها الله زكرياء ، وروى هارون بن موسى (١) عن عبد الله بن كثير وأبي عبد الله المدني(٢) وكفلها زكريّاء بكسر الفاء. قال الأخفش سعيد : يقال : كفل يكفل وكفل يكفل ولم أسمع كفل وقد ذكرت. قال الفراء (٣) : أهل الحجاز يمدّون زكريّاء ويقصرونه ، وأهل نجد يحذفون منه الألف ويصرفونه فيقولون : زكريّ. قال الأخفش : فيه أربع لغات زكرياء بالمدّ وزكريّا بالقصر وزكريّ بتشديد الياء والصرف وزكر ورأيت زكريا. قال أبو حاتم : زكريّ بلا صرف لأنه أعجميّ. وهذا غلط لأن ما كانت فيه ياء مثل هذه انصرف ، ولم ينصرف زكريّاء في المدّ والقصر لأن فيه ألف تأنيث والدليل على هذا أنه لا يصرف في النكرة وقال قوم : لم ينصرف لأنه أعجميّ. (كُلَّما دَخَلَ) منصوب بوجد أي كلّ دخوله أي كلّ وقت دخوله ، وإن شئت أملت الألف من حساب لكسرة الحاء.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٨)

(هُنالِكَ) في موضع نصب لأنه ظرف يتضمّن المكان وأحوال الزمان وهو مبني لأنه بمنزلة ذلك وهنا بمنزلة هذا ، وبنو تميم يقولون : هناك بمنزلة هنالك واللام مكسورة لالتقاء الساكنين ، (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) على اللفظ.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩)

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس فناداه الملائكة (٤) وهو اختيار أبي عبيد وروي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم كان عبد الله يذكّر الملائكة في كلّ القرآن قال أبو عبيد : أنا اختار ذلك خلافا على المشركين لأنهم قالوا الملائكة بنات الله. قال أبو جعفر : هذا احتجاج لا يحصل منه شيء لأن العرب تقول : قالت الرجال وقال الرجال وكذا النساء وكيف يحتجّ عليهم بالقرآن ولو جاز أن يحتجّ عليهم بهذا لجاز أن يحتجّوا بقوله (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٤٢] ولكن الحجة عليهم في قوله جلّ وعزّ : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] أي فلم يشاهدوا خلقهم فكيف يقولون : إنهم إناث فقد علم أنّ هذا ظنّ وهوى ، وأما فناداه فهو جائز على تذكير

__________________

(١) هارون بن موسى الأعور البصري الأزدي ، صدوق ، له قراءة معروفة ، روى القراءة عن عاصم الجحدري وعاصم بن أبي النجود وعن أبي عمرو (ت ٢٠٠ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٣٤٨.

(٢) أبو عبد الله المدني : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الصادق ، قرأ على آبائه محمد الباقر فزين العابدين فالحسين فعلي. (ت ١٤٨ ه‍) ، ترجمته في غاية النهاية ١ / ١٩٦.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ٢٠٨.

(٤) انظر تيسير الداني ٧٣.

١٥٥

الجميع ونادته على تأنيث الجماعة. (وَهُوَ قائِمٌ) ابتداء وخبر. (يُصَلِّي) في موضع رفع ، وإن شئت كان نصبا على أنه حال من المضمر. (أَنَّ اللهَ) وقرأ حمزة (١) والكسائي (أَنَّ اللهَ) أي قالت الملائكة : إن الله (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) هذه قراءة أهل المدينة وقرأ حمزة (يُبَشِّرُكَ) (٢) وقرأ حميد بن قيس المكيّ الأعرج (يُبَشِّرُكَ) بضم الياء وإسكان الباء. قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد وقال محمد بن يزيد : يقال : بشرته أي أخبرته بما أظهر في بشرته السرور وبشّرته على التكثير قال أبو إسحاق (٣) يقال : بشرته أبشره وأبشره. قال الكسائي : سمعت غنيّا تقول : بشرته أبشره. قال الأخفش : يقال : بسرته فبشر وابشر أي سررته فسرّ ومنه (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) [فصلت : ٣٠]. قال الفراء : لا يقال : من هذا إلّا أبشر (٤) وحكي عن محمد بن يزيد بشّرته فأبشر مثل قرّرته فأقرّ وفطّرته فأفطر أي طاوعني (بِيَحْيى) لم ينصرف لأنه فعل مستقبل سمّي به وقيل : لأنه أعجمي ، ومذهب الخليل وسيبويه أنك إن جمعته قلت يحيون بفتح الياء في كل حال ، وقال الكوفيون: إن كان عربيا فتحت الياء وإن كان أعجميا ضممتها لأنه لا يعرف أصلها (مُصَدِّقاً) حال. (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل : فرض عليه أن يتّبعه. (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا) عطف. (مِنَ الصَّالِحِينَ). قال أبو إسحاق (٥) : الصالح الذي يؤدّي لله جلّ وعزّ ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠)

(وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وبلغت الكبر واحد. (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ابتداء وخبر في موضع الحال ، وعاقر بلا هاء على النسب ولو كان على الفعل لقيل : عقرت فهي عقيرة كأنّ بها عقرا يمنعها من الولادة. (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الكاف في موضع نصب أي يفعل ما يشاء مثل ذلك.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١)

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً اجْعَلْ) بمعنى صيّر فلذلك وجب أن يتعدّى إلى مفعولين

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ٤٦٥.

(٢) انظر تيسير الداني ٧٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٦٥.

(٣) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٦.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ٢١٢.

(٥) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٥٨.

١٥٦

و «لي» في موضع الثاني وإذا كان بمعنى خلق لم يتعدّ إلّا إلى واحد نحو قوله : (خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [الأنبياء : ٣٣]. (قالَ آيَتُكَ) ابتداء. (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) خبره ويجوز رفع تكلّم بمعنى أنك لا تكلّم الناس مثل (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] والكوفيون يقولون : الرفع على أن تكون «لا» بمعنى ليس. (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) ظرف وقد ذكرنا قول قتادة أن زكريّاء عوقب بمنع الكلام حين سأل وهذا قول مرغوب عنه لأن الله عزوجل لم يخبرنا أن زكرياء أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدلّ على كون الولد إذ كان ذلك مغيّبا عنّي. قال الأخفش : (إِلَّا رَمْزاً) استثناء ليس من الأول. قال الكسائي ؛ يقال : رمز يرمز ويرمز ، وقرأ علقمة بن قيس (١) (إِلَّا رَمْزاً) (٢) وقرأ الأعمش (إِلَّا رَمْزاً) (٣) وهما اسمان والمسكّن المصدر. (وَسَبِّحْ) أمر أي نزّه الله جلّ وعزّ عمّا يقول المشركون وقيل : سبّح أي صلّ ومنه فرغ فلان من سبحته. (بِالْعَشِيِ) قيل : هو جمع وقيل : هو واحد والأولى أن يكون واحدا للمستقبل. قال الأصمعي : يقال : أنا آتيك عشيّ غد وأنا آتيك عشيّة اليوم وأتيته عشيّة أمس وعشيّ أمس.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) أمر فلذلك حذفت منه النون. (وَاسْجُدِي) عطف عليه يقال: سجد إذا تطامن وذلّ ، وركع إذا انحنى ، ومنه يقال : ركع الشيخ مع الراكعين يجوز أن يكون معناه اركعي مع الذين يصلّون في جماعة ويجوز أن يكون معناه كوني مع الراكعين وإن لم تصلّي معهم.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

(ذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر ذلك فهو خبر الأمر ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وخبره (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ). (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) «إذ» في موضع نصب أي : وما كنت لديهم ذلك الوقت (أَقْلامَهُمْ) جمع قلم من قلمه إذا قطعه

__________________

(١) علقمة بن قيس النخعي الفقيه ، خال إبراهيم النخعي ، عرض على ابن مسعود وسمع عليا وعمر وعائشة (ت ٦٢ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ١ / ٥١٦.

(٢) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠ ، والمحتسب ١ / ١٦١ والبحر المحيط ٢ / ٤٧٢ ، وهي قراءة يحيى بن وثاب أيضا.

(٣) انظر مختصر ابن خالويه ٢٠ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٧٢.

١٥٧

وقد ذكرنا أنه قيل : أقلامهم سهامهم (١) وأجود من هذا القول : أي أقلامهم التي يكتبون بها الوحي جمعوها فرموا بها في نهر لينظروا أيّها يستقبل جري الماء فيكون صاحبه الذي يكفل مريم أي يضمن القيام بأمرها. فأما أن تكون الأقلام القداح فبعيد لأن هذه هي الأزلام التي نهى الله عزوجل عنها إلّا أنه يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على غير الجهة التي كانت الجاهلية تفعلها. (أَيُّهُمْ) ابتداء وهو متعلق بفعل محذوف أي ينظرون أيّهم يكفل مريم وحكى سيبويه (٢) : اذهب فانظر زيد أبو من هو؟ وإن نصبت انقلب المعنى.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥)

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) متعلّقة بيختصمون ويجوز أن تكون متعلقة بقوله «وما كنت لديهم» ، (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) ولم يقل : اسمها لأن معنى كلمة ولد قال إبراهيم النخعيّ (٣) المسيح الصدّيق. قال أبو عبيد : هو في لغتهم مسيحا ، وقيل : إنما سمّي المسيح لأنه مسح بدهن كانت الأنبياء تتمسّح به طيّب الرائحة فإذا مسّح به علم أنه نبيّ. «عيسى» (٤) اسم أعجميّ فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف التأنيث ، ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه ، ويجوز أن يكون مشتقا من العيس ومن العيس. قال الأخفش (وَجِيهاً) منصوب على الحال ، وقال الفراء (٥) : هو منصوب على القطع. قال أبو إسحاق (٦) : النصب على القطع كلمة محال لأن المعنى أنه بشّر بعيسى في هذه الحال ولم يبيّن معنى القطع فإن كان القطع معنى فلم يبيّنه ما هو؟ وإن كان لفظا فلم يبيّن ما العامل؟ وإن كان يريد أنّ الألف واللام قطعتا منه فهذا محال لأن الحال لا تكون إلّا نكرة والألف واللام بمعهود فكيف يقطع منه ما لم يكن فيه قطّ. قال الأخفش (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عطف على وجيه أي ومقرّبا وجمع وجيه وجهاء ووجاه.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦)

قال الأخفش : (وَيُكَلِّمُ).

__________________

(١) انظر إعراب الآية ٣٥.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٢٩٤.

(٣) إبراهيم النخعي : بن يزيد بن قيس بن الأسود الكوفي ، قرأ على علقمة بن قيس ، وقرأ عليه سليمان الأعمش (ت ٩٦ ه‍). انظر غاية النهاية ١ / ٢٩.

(٤) انظر تاج العروس (عيس).

(٥) انظر معاني الفراء ١ / ٢١٣.

(٦) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٦٢.

١٥٨

عطف على «وجيها». قال الأخفش والفراء (١) (وَكَهْلاً) معطوف على وجيها. قال أبو إسحاق (٢) : وكهلا بمعنى ويكلّم الناس كهلا. وروى ابن جريج (٣) عن مجاهد قال : الكهل الحليم. قال أبو جعفر : هذا لا يعرف في اللغة وإنما الكهل عند أهل اللغة من ناهز الأربعين وقال بعضهم : يقال له : حدث إلى ستّ عشرة سنة ثم شابّ إلى اثنتين وثلاثين سنة ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين. قال الأخفش : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على وجيها.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

(إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) عطف على «يقول» ، ويجوز أن يكون منقطعا أي فهو يكون. وقد تكلم العلماء في معناه فقيل : هو بمنزلة الموجود المخاطب لأنه لا بدّ أن يكون ما أراد جلّ وعزّ فعلى هذا خوطب وقيل : أخبر الله جلّ وعزّ بسرعة ما يريد أنه على هذا وقيل : علامته لما يريد كما كان نفخ عيسى عليه‌السلام في الطائر علامة لخلق الله جلّ وعزّ إيّاه. وقيل : أي يخرجه من العدم إلى الوجود فخوطب العباد على ما يعرفون. وقيل له أي من أجله كما تقول : أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨)

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونعلّمه بالنون يردّونه على قوله (نُوحِيهِ) [آل عمران : ٤٤] والياء أولى لقوله (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فالياء أقرب. قال الأخفش (وَيُعَلِّمُهُ) في موضع نصب عطفا على «وجيها».

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) في نصبه قولان أحدهما أنّ التقدير ويجعله رسولا والآخر ويكلمهم رسولا. (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) أي بأني فإنّ في موضع نصب (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ٢١٣.

(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٣٦٣.

(٣) ابن جريج : عبد الملك بن عبد العزيز القرشي ، روى القراءة عن ابن كثير (ت ١٥٠ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ١ / ٤٦٩.

١٥٩

الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) بدل منها ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من آية ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي هي أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير. (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) هذه قراءة أبي عمرو وأهل الكوفة وقرأ يزيد بن القعقاع كهيئة الطّائر فأنفخ فيه فيكون طائرا وقرأ نافع كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا (١) والقراءتان الأوليان أبين والتقدير في هذه فانفخ في الواحد منها أو منه لأن الطير يذكّر ويؤنث فيكون الواحد طائرا ، وطائر وطير مثل تاجر وتجر. (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) أي بالذي تأكلونه ويجوز أن يكون ما والفعل مصدرا. (وَما تَدَّخِرُونَ) وقرأ مجاهد والزهريّ وأيوب السختيانيّ وما تذخرون (٢) بالذال معجمة مخفّفا. قال الفراء : أصلها الذال يعني تذخرون من ذخرت فالأصل تذتخرون فثقل على اللسان الجمع بين الذال والتاء فأدغموا وكرهوا أن تذهب التاء في الذال فيذهب معنى الافتعال فجاءوا بحرف عدل بينهما وهو الدال فقالوا : تدّخرون. قال أبو جعفر : هذا القول غلط بيّن لأنهم لو أدغموا على ما قال لوجب أن يدغموا الذال في التاء وكذا باب الإدغام أن يدغم الأول في الثاني فكيف تذهب التاء والصواب في هذا مذهب الخليل وسيبويه أنّ الذال حرف مجهور يمنع النفس أن يجري والتاء حرف مهموس يجري معه النفس فأبدلوا من مخرج التاء حرفا مجهورا أشبه الذال في جهرها فصار تذدخرون ثم أدغمت الذال في الدال فصار تدّخرون : قال الخليل وسيبويه : وإن شئت أدغمت الدال في الذال فقلت تذّخرون وليس هذا بالوجه.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠)

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي وجئتكم مصدّقا. قال أحمد بن يحيى : لا يجوز أن يكون معطوفا على «وجيها» لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون لما بين يديه. (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) فيه حذف ليتعلق به لام كي ، أي ولأحلّ لكم جئتكم وقد ذكرنا معناه ونزيده شرحا قيل إنّما أحلّ لهم عيسى عليه‌السلام ما حرّم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة نحو أكل الشحوم وكلّ ذي ظفر وقيل : إنّما أحلّ لهم عيسى عليه‌السلام أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة عليهم في التوراة.

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بكسر «إن» على الابتداء وحكى أبو حاتم عن الأخفش :

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٧٤.

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ٢١٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٩٠.

١٦٠