تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ، ثم رجع إلينا مرعوبا ، (١) ، فقلن (٢) : ما دهاك؟ قال : إنّي أخشى أن يكون لي لمم ، فقلن : ما كان الله ليبتليك بالشيطان ، وفيك من خصال الخير ما فيك ، فما الّذي رأيت؟ قال : إنّي كلّما دنوت من صنم منها تمثّل لي رجل أبيض طويل يصيح (٣) : «وراءك يا محمد لا تمسّه) قالت : فما عاد إلى عيد لهم حتى نبّئ» (٤).

وقال أبو أسامة : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه قال : «كان صنم (٥) من نحاس يقال له إساف أو نائلة يتمسّح المشركون به إذا طافوا ، فطاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطفت معه ، فلما مررت مسحت به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تمسّه ، قال زيد : فطفنا فقلت في نفسي : لأمسّنّه حتى انظر ما يكون (٦) ، فمسحته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تنه» (٧).

هذا حديث حسن (٨). وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده : قال زيد فو الله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه.

وقال جرير بن عبد الحميد ، عن سفيان الثّوري ، عن عبد الله بن

__________________

(١) في الطبقات «مرعوبا فزعا».

(٢) في الطبقات «فقالت له عمّاته».

(٣) في الطبقات «يصيح بي».

(٤) في الطبقات «تنبّأ».

(٥) في مجمع الزوائد ٩ / ٤١٨ «بين الصفا والمروة صنمان من نحاس ، أحدهما يقال له يساف والآخر يقال له نائلة ، وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما».

أقول : لعلّ هذا هو الأصحّ ، لأن النصّ عند الذهبي يوحي أن إساف ونائلة اسم لصنم واحد ، والمشهور أنّهما صنمان ، وقد مرّ ذكرهما قبل قليل.

(٦) في المجمع «ما يقول».

(٧) في المجمع «فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد إنّه يبعث أمّة وحده».

(٨) رواه أبو يعلى والبزّار والطبراني. (مجمع الزوائد ٩ / ٤١٨).

٨١

محمد بن عقيل عن جابر قال : «كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد (١) مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه ، وأحدهما يقول لصاحبه : اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله ، فقال : كيف تقوم خلفه ، وإنّما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ (٢) ، قال : فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم». تفرّد به جرير ، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاريّ عثمان بن أبي شيبة. وهو منكر (٣).

وقال إبراهيم بن طهمان ، ثنا بديل بن ميسرة ، عن عبد الكريم ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبيه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال : «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعا قبل أن يبعث ، فبقيت له بقيّة ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال : فنسيت يومي والغد ، فأتيته في اليوم الثالث ، فوجدته في مكانه ، فقال : يا فتىّ لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك». أخرجه أبو داود (٤).

وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي ، أنبأ أبو محمد بن البن ، أنا جدّي ، أنا أبو القاسم عليّ بن أبي العلاء ، أنا عبد الرحمن بن أبي نصر ، أنا علي بن أبي العقب ، أنا أحمد بن إبراهيم ، ثنا محمد بن عائذ ، حدّثني الوليد ، أخبرني معاوية بن سلّام ، عن جدّه أبي سلام الأسود ، عمّن حدّثه ،

__________________

(١) في دلائل النبوّة للبيهقي ١ / ٣١٧ ، وميزان الاعتدال ٣ / ٣٥ «يشهد».

(٢) في ميزان الاعتدال ٣ / ٣٦ «قبل» ، وقال الحافظ الذهبي : «يعني أنه حديث عهد برؤية استلام الأصنام ، لا أنّه هو المستلم ، حاشا وكلّا».

(٣) قال المناوي : رأيت أصحابنا يذكرون أن عثمان روى أحاديث لا يتابع عليها. وقال الذهبي : عثمان لا يحتاج إلى متابع ، ولا ينكر له أن ينفرد بأحاديث لسعة ما روى وقد يغلط ، وقد أعتمده الشيخان في صحيحهما ، وروى عنه أبو يعلى ، والبغوي ، والنّاس ، وقد سئل عنه أحمد فقال : ما علمت إلّا خيرا ، وأثنى عليه. وقال يحيى : ثقة مأمون.

(٤) سنن أبي داود (٤٩٩٦) ، كتاب الأدب ، باب في العدّة. وقال : قال محمد بن يحيى : هذا عندنا عبد الكريم بن عبد الله بن شقيق.

٨٢

أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أنا بأعلى مكة ، إذا براكب عليه سواد فقال : هل بهذه القرية رجل يقال له أحمد؟ فقلت ما بها أحمد ولا محمد غيري ، فضرب ذراع راحلته فاستناخت ، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الّذي بين كتفيّ فقال : أنت نبيّ الله؟ قلت : ونبيّ أنا؟ قال : نعم. قلت : بم أبعث؟ قال بضرب أعناق قومك ، قال : فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها ، فقالت : حريّا أو خليقا أن لا يكون ذلك ، فهي أكبر كلمة تكلّمت بها في أمري ، فأتيته بالزّاد ، فأخذه وقال : الحمد لله الّذي لم يمتني حتى زوّدني نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعاما ، وحمله لي في ثوبه»

٨٣
٨٤

ذكر زيد بن عمرو بن نفيل (١)

قال موسى بن عقبة : أخبرني سالم أنّه سمع أباه (٢) يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح» (٣) ، وذلك قبل الوحي ، فقدّم (٤) إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل وقال : «لا آكل ممّا يذبحون على أنصابهم (٥) ، أنا لا آكل إلّا مما ذكر اسم الله

__________________

(١) انظر عنه في : نسب قريش ٣٦٤ ، جمهرة نسب قريش وأخبارها ٤١٦ ـ ٤١٨ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥ ، والسير والمغازي لابن إسحاق ١١٦ ـ ١١٩ ، طبقات ابن سعد ١ / ١٦١ ، ١٦٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٩٥ ، الروض الأنف ١ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧ ، جمهرة أنساب العرب لابن حزم ١٥٠ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٠ ـ ٣٦ ، الأغاني ٣ / ١٢٣ ـ ١٣١ تهذيب الأسماء واللغات للنووي ق ١ ج ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٥ رقم ١٩٢ ، أسد الغابة لابن الأثير ٢ / ٢٣٦ ـ ٢٣٨ ، الوافي بالوفيات ١٥ / ٣٨ ، ٣٩ ، رقم ٣٩ ، الإصابة ١ / ٥٦٩ ، ٥٧٠ رقم ٢٩٢٣.

(٢) في صحيح البخاري ٤ / ٢٣٢ : «حدّثنا سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر».

(٣) في أخبار مكة ٢ / ٢٣٠ (بالحاشية) : بلدح واد بين فخ والحديبيّة ، والحديبيّة واقعة في آخر بلدح. وقال البكري في معجم ما استعجم ١ / ٢٧٣. موضع في ديار بني فزارة ، وهو واد عند الجرّاحيّة ، في طريق التنعيم إلى مكة. وقال ياقوت في معجم البلدان ١ / ٤٨٠ : واد قبل مكة من جهة المغرب.

(٤) في صحيح البخاري «فقدّمت إلى النبيّ».

(٥) في الصحيح : «قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم».

٨٥

عليه». رواه البخاري (١) ، وزاد في آخره : (٢) «فكان يعيب على قريش ذبائحهم ، ويقول : الشّاة خلقها الله ، وأنزل لها من السّماء الماء ، وأنبت لها من الأرض ، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟» إنكارا لذلك وإعظاما له (٣).

ثم قال البخاري : قال موسى : حدّثني سالم بن عبد الله ، ولا أعلمه إلّا تحدّث به ، عن ابن عمر : «أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشّام يسأل عن الدّين ويتّبعه ، فلقي عالما من اليهود ، فسأله عن دينهم فقال : إنّي لعلّي أن أدين دينكم (٤) قال : إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.

قال زيد : ما أفرّ إلّا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنّي (٥) أستطيعه ، فهل تدلّني على غيره؟ قال : ما أعلمه إلّا أن يكون حنيفا. قال : وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم ، لم يكن يهوديّا ولا نصرانيا ولا يعبد إلّا الله ، فخرج زيد فلقي عالما من النّصارى ، فذكر له مثله فقال : لن تكون على ديننا ، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال : ما أفرّ إلّا من لعنة الله ، (٦) فقال له كما قال اليهوديّ ، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل ، و ٦ / ٢٢٥ كتاب الذبائح والصيد والتسمية ، باب ما ذبح على النصب والأصنام ، وانظر السير والمغازي لابن إسحاق ١١٨ ، معجم ما استعجم ١ / ٢٧٣ ، الأغاني ٣ / ١٢٦.

(٢) في الصحيح «وأن زيد بن عمرو كان يعيب».

(٣) الصحيح للبخاريّ ٤ / ٢٣٣ ، ومسند أحمد ١ / ١٨٩ ، نسب قريش ٣٦٤ ، الروض الأنف ١ / ٢٥٦ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٠ و ٣٤ ، الإصابة ١ / ٥٦٩.

(٤) في الصحيح «أدين دينكم فأخبرني» وفي الروض الأنف ١ / ٢٥٦ «بدينكم ، فأخبروني».

(٥) في الصحيح «وأنا».

(٦) في الصحيح ، والروض الأنف زيادة : «ولا أحمل من لعنة الله ، ولا من غضبه شيئا أبدا ، وأني أستطيع ، فهل تدلّني على غيره؟ قال : ما أعلمه إلّا أن يكون حنيفا ، قال : وما الحنيف؟

قال : دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلّا الله».

٨٦

فلمّا برز رفع يديه فقال : اللهمّ إنّي أشهدك أنّي على دين إبراهيم». هكذا أخرجه البخاري (١).

وقال عبد الوهاب الثقفي : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه قال : «خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما حارّا (٢) وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب ، وقد ذبحنا له شاة فأنضجناها ، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل ، فحيّا كلّ واحد منهما صاحبه بتحيّة الجاهليّة ، فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا زيد ما لي أرى قومك قد شنقوا لك (٣)؟ قال : والله يا محمد إنّ ذلك لبغير (٤) نائلة ترة (٥) لي فيهم ، ولكنّي خرجت أبتغي هذا الدّين حتى أقدم على أخبار فدك (٦) فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت : ما هذا بالدّين الّذي أبتغي ، فقدمت (٧) الشّام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، فخرجت (٨) فقال لي شيخ منهم : إنّك تسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلّا شيخ بالجزيرة (٩) ، فأتيته (١٠) ، فلمّا رآني قال : ممّن أنت؟ قلت : من أهل بيت الله ، قال (١١) : من أهل الشّوك والقرظ؟ إنّ

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ٢٣٣ كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو ، الروض الأنف ١ / ٢٥٦ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٢ ، الإصابة ١ / ٥٦٩ ، الأغاني ٣ / ١٢٦ ، ١٢٧.

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ٤١٧ «من أيام مكة».

(٣) في دلائل النبوّة للبيهقي ١ / ٣٨٥ «شنفوك».

(٤) في مجمع الزوائد «لغير».

(٥) «ترة» ليست في مجمع الزوائد.

(٦) فدك : بفتح أوّله وثانيه. قال البكري : معروفة ، بينها وبين خيبر يومان. (معجم ما استعجم ٣ / ١٠١٥) وقال ياقوت : قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة.

(معجم البلدان ٤ / ٢٣٨) وفي الدلائل للبيهقي «يثرب».

(٧) في المجمع «فخرجت حتى أقدم على أحبار الشام».

(٨) في المجمع «قلت ما هذا الدين الّذي ابتغي».

(٩) في المجمع «بالحيرة».

(١٠) في المجمع «فخرجت حتى أقدم عليه».

(١١) ليس في مجمع الزوائد لفظ «قال» فجملة «من أهل الشوك والقرظ» هي من لفظ زيد.

٨٧

الّذي تطلب قد ظهر ببلادك ، قد بعث نبيّ قد طلع نجمه ، وجميع من رأيتهم في ضلال ، قال : فلم أحسّ بشيء (١) ، قال : فقرّب إليه السّفرة فقال : ما هذا يا محمد؟ قال : شاة ذبحت للنّصب (٢). قال : ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال : فتفرّقا (٣). وذكر باقي الحديث (٤).

(٥) وقال اللّيث ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : «لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، وكان يحيي الموءودة ، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : مع! لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها ، فيأخذها ، فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها». هذا حديث صحيح (٦).

وقال محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، أنّ زيد بن عمرو بن نفيل مات ، ثم أنزل على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه يبعث يوم القيامة أمّة وحده» (٧). إسناده حسن.

أنبئت عن أبي الفخر أسعد ، أخبرتنا فاطمة ، أنا ابن ريدة ، أنا

__________________

(١) في المجمع «بشيء بعد يا محمد».

(٢) في المجمع «ذبحناها لنصب من الأنصاب».

(٣) دلائل النبوّة للبيهقي ١ / ٣٨٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧ ، ٤١٨.

(٤) مرّت بقيّة الحديث قبل صفحتين بقليل حين ذكر الصنم النحاس الّذي يقال له أساف ونائلة.

(٥) من هنا إلى قوله «باب» أخبرتنا ست الأهل .. غير مثبت في الأصل ، والمثبت من نسخة دار الكتب المصرية و (ع) والمنتقى لابن الملا ..

(٦) أخرجه البخاري ٤ / ٢٣٣ كتاب المغازي ، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل ، وانظر ، نسب قريش ٣٦٤ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥ ، الروض الأنف ١ / ٢٥٦ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٣ ، ٣٤ ، الإصابة ١ / ٥٦٩ ، المعجم الكبير للطبراني ٢٤ / ٨٢ رقم ٢١٦ ، تهذيب الأسماء واللغات ق أج ١ / ٢٠٥.

(٧) سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٦ ، نسب قريش ٣٦٥ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٤ ، الإصابة ١ / ٥٧٠ ، مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧.

٨٨

الطّبرانيّ ، أنا عليّ بن عبد العزيز ، أنا عبد الله بن رجاء ، أنا المسعوديّ ، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد ، عن أبيه ، عن جدّه قال : «خرج أبي وورقة بن نوفل يطلبان الدّين حتى مرّا بالشّام ، فأما ورقة فتنصّر (١) ، وأما زيد فقيل له : إنّ الّذي تطلب أمامك ، فانطلق حتى أتى الموصل ، فإذا هو براهب فقال : من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال : من بيت إبراهيم ، قال : ما تطلب؟ قال : الدّين ، فعرض عليه النّصرانيّة ، فأبى أن يقبل ، وقال : لا حاجة لي فيه (٢) ، قال : أمّا إنّ الّذي تطلب سيظهر بأرضك ، فأقبل وهو يقول :

لبّيك حقّا

تعبّدا ورقّا

البرّ أبغى لا الخال (٣)

وما مهجّر (٤) كمن قال (٥)

عذت بما عاذ به إبراهيم (٦)

أنفي لك اللهمّ عان راغم

مهما تجشّمني فإنّي جاشم (٧)

__________________

(١) وفي السير والمغازي ١١٦ زيادة : «فاستحكم في النصرانية ، واتّبع الكتب من أهلها حتى علم كثيرا من أهل الكتاب. فلم يكن فيهم أعدل أمرا ، ولا أعدل شأنا من زيد بن عمرو بن نفيل». وسيأتي نحوه بعد قليل.

(٢) في مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧ «فيها».

(٣) الخال : الخيلاء والكبر. وفي المجمع الزوائد «الحال» بالحاء المهملة وهو تحريف.

(٤) في السير والمغازي لابن إسحاق ١١٦ «ليس مهجر» وكذا في سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٢ وفي الأغاني ٣ / ١٢٤ «وهل مهجّر» ، وفي مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧ «وهل مهاجر». قال السهيليّ في الروض الأنف ١ / ٢٦٢ : «ليس مهجر كمن» أي ليس من هجّر وتكيّس ، كمن آثر العائلة والنوم. والمهجر : السّائر في المهاجرة.

(٥) قال : من قال يقيل قيلولة.

(٦) إبراهيم : بحذف الياء بعد الهاء.

(٧) جاشم : من جشم الأمر إذا تجشّمه وتكلّفه بمشقّة.

وانظر هذا القول مع اختلاف في الترتيب والألفاظ في السير والمغازي ١١٦ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٢ ، نسب قريش ٣٦٤ ، الأغاني ٣ / ١٢٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧ تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٢.

٨٩

ثم يخرّ فيسجد للكعبة. قال : فمرّ زيد بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزيد بن حارثة ، وهم يأكلان من سفرة لهما ، فدعياه فقال : يا بن أخي لا آكل مما ذبح على النّصب ، قال : فما رئي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل مما ذبح على النّصب من يومه ذاك حتى بعث (١).

قال : وجاء سعيد بن زيد إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال : «يا رسول الله إنّ زيدا كان كما رأيت ، أو كما بلغك ، فاستغفر له ، قال : نعم فاستغفروا له فإنّه يبعث يوم القيامة أمّة وحده» (٢).

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٣) قال : كانت قريش حين بنوا (٤) الكعبة يتوافدون على كسوتها كلّ عام تعظيما لحقّها ، وكانوا يطوفون بها ، ويستغفرون الله عندها ، ويذكرونه مع تعظيم الأوثان والشّرك في ذبائحهم ودينهم كلّه.

وقد كان نفر من قريش : زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وعثمان بن الحويرث بن أسد ، وهو ابن عمّ ورقة ، وعبيد الله بن جحش بن رئاب ، وأمّه أميمة بنت عبد المطّلب بن هاشم (٥) حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم ، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النّفر إلى بعض وقالوا : تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض ، فقال قائلهم : تعلمنّ (٦) والله ما قومكم على شيء ، لقد أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه ، وما

__________________

(١) السير والمغازي لابن إسحاق ١١٨ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٦ ، السير والمغازي لابن إسحاق ١١٩ ، نسب قريش ٣٦٥ ، الأغاني ٣ / ١٢٧ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٢ و ٣٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ٤١٧ ، الإصابة ١ / ٥٧٠.

(٣) السير والمغازي ١١٥ ، ١١٦ ، سيرة ابن هشام ، ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٥.

(٤) في السير والمغازي ١١٥ «رفعوا بنيان الكعبة».

(٥) في السير «حليف بني أميّة».

(٦) في السير «تعلمون» ، وفي السيرة «تعلموا».

٩٠

وثن يعبد لا يضرّ ولا ينفع ، فابتغوا لأنفسكم ، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنّصارى والملل كلّها ، يتّبعون الحنيفيّة دين إبراهيم ، فأمّا ورقة فتنصّر ، ولم يكن منهم أعدل شأنا من زيد ابن عمرو ، اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلّا دين إبراهيم (١).

وقال الباغنديّ : حدّثنا أبو سعيد الأشجّ ، حدّثنا أبو معاوية (٢) عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنّة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين».

وقال البكّائيّ ، عن ابن إسحاق (٣) : حدّثني هشام ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : «لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة ، وهو يقول : يا معشر قريش ، والّذي نفسي بيده! ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول : اللهمّ لو أعلم أيّ الوجوه أحبّ إليك عبدتك به ، ثم يسجد على راحلته».

قال ابن إسحاق (٤) : فقال زيد في فراق دين قومه :

أربّا واحدا أم ألف ربّ

أدين إذا تقسّمت الأمور

عزلت اللّات والعزّى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصّبور (٥)

في أبيات (٦).

__________________

(١) انظر السير والمغازي ١١٦ وسيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥.

(٢) في (ع) : «معاوية» بدلا من «أبو معاوية» ، والتصحيح من تهذيب التهذيب ٩ / ١٣٧.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥ وانظر السير والمغازي ١١٦.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٦ ، ٢٥٧.

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٧ ، السير والمغازي ١١٧.

(٦) انظر الاختلاف وبقية الأبيات في : نسب قريش ٣٦٤ ، ٣٦٥ ، جمهرة نسب قريش وأخبارها ٤١٦ ، الأصنام للكلبي ٢١ ، ٢٢ ، الأغاني ٣ / ١٢٤ ، ١٢٥ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ٣٥ ، البداية والنهاية ٢ / ٢٤٢ ، بلوغ الأرب للآلوسي ٢ / ٢٢٠.

٩١

قال ابن إسحاق (١) : وكان الخطّاب بن نفيل عمّه وأخوه لأمّه يعاتبه (٢) ويؤذيه حتى أخرجه إلى أعلى مكة ، فنزل حراء مقابل مكة ، فإذا دخل مكة سرّا آذوه وأخرجوه ، كراهية ، أن يفسد عليهم دينهم ، وأن يتابعه أحد. ثم خرج يطلب دين إبراهيم ، فجال الشام والجزيرة (٣).

إلى أن قال ابن إسحاق (٤) : فردّ إلى مكة حتى إذا توسّط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.

* * *

(٥) باب

أخبرتنا ستّ الأهل بنت علوان ، أنبأنا البهاء عبد الرحمن ، أنا منوجهر ابن محمد ، أنا هبة الله بن أحمد ، حدّثنا الحسين بن عليّ بن بطحا ، أنبأ محمد بن الحسين الحرّانيّ ، ثنا محمد بن سعيد الرّسعنيّ ، ثنا المعافى بن سليمان ، ثنا فليح ، عن هلال بن عليّ ، عن عطاء بن يسار قال : «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التّوراة ، فقال : أجل ، والله إنّه لموصوف في التّوراة بصفته (٦) في القرآن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٧) وحرزا للأمّيين ، أنت عبدي ورسولي ، سمّيتك المتوكّل ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سخّاب (٨) بالأسواق ، ولا يدفع السّيئة بالسّيئة ، ولكن يعفو ويغفر (٩) ، ولن يقبضه الله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٠.

(٢) في السيرة «يعاتبه على فراق دين قومه».

(٣) السيرة ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦٣.

(٤) السيرة ١ / ٢٦٣ ، السير والمغازي ١١٩.

(٥) حتى هنا ينتهي النقص في الأصل.

(٦) في صحيح البخاري «ببعض صفته».

(٧) سورة الأحزاب الآية ٤٥.

(٨) السّخب والصّخب ، بمعنى الصّياح.

(٩) وفي رواية «يصفح» بدل «يغفر».

٩٢

حتى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلّا الله فيفتح بها (١) أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا (٢).

قال عطاء : ثم لقيت كعب الأحبار فسألته ، فما اختلفا في حرف ، إلّا أنّ كعبا يقول بلغته : (أعينا عموما ، وآذانا صموما وقلوبا غلوفا) (٣).

أخرجه البخاري عن العوفيّ ، عن فليح (٤).

وقد رواه سعيد بن أبي هلال ، عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن سلّام ، فذكر نحوه (٥).

ثم قال عطاء : وأخبرني أبو واقد اللّيثي أنّه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلّام.

قلت : وهذا أصحّ فإنّ عطاء لم يدرك كعبا.

وروى نحوه أبو غسّان محمد بن مطرّف ، عن زيد بن أسلم ، أنّ عبد الله بن سلّام قال : صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التّوراة ، وذكر الحديث (٦).

وروى عطاء بن السّائب ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه : «إنّ الله ابتعث نبيّه لإدخال رجل الجنّة ، فدخل الكنيسة ، فإذا هو بيهود ، وإذا بيهوديّ يقرأ التّوراة ، فلمّا أتوا على صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسكوا ، وفي ناحية الكنيسة رجل مريض ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما لكم أمسكتم؟) قال

__________________

(١) في الأصل «به» والتصحيح من صحيح البخاري.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ٢١ كتاب البيوع ، باب كراهية السّخب في السوق ، و ٦ / ٤٤ ، ٤٥ كتاب التفسير ، سورة الفتح ، باب إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، مسند أحمد ٢ / ١٧٤ وأخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ ٣ / ٢٧٤.

(٣) في المسند «أعينا عمومي وآذانا صمومي ، وقلوبا غلوفي. قال يونس : غلفي».

(٤) كتاب البيوع ، باب كراهية السخب.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) انظر تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٣٤١.

٩٣

المريض : أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا ، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التّوراة فقرأ حتّى أتى على صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ، فقال : هذه صفتك وأمّتك أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله» ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لوا أخاكم» (١). أخرجه أحمد بن حنبل في «مسندة» (٢).

أخبرنا جماعة عن ابن اللّتّي أنّ أبا الوقت أخبره ، أنا الدّاوديّ ، أنا ابن حمويه ، أنا عيسى ، السّمرقنديّ ، أنا الدّارميّ ، أنبأ مجاهد بن موسى ، حدّثنا معن بن عيسى ، حدّثنا معاوية بن صالح ، عن أبي فروة ، عن ابن عبّاس أنّه سأل كعبا : «كيف تجد نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التّوراة؟ قال : نجده محمد ابن عبد الله ، يولد بمكة ، ويهاجر إلى طابة ، ويكون ملكه بالشام ، وليس بفحّاش ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يكافئ بالسّيّئة السّيّئة ، ولكن يعفو ويغفر ، أمّته الحمّادون ، يحمدون الله في كلّ سرّاء ، ويكبّرون الله على كلّ نجد ، يوضّئون أطرافهم ، ويأتزرون في أوساطهم ، يصفّون في صلاتهم كما يصفّون في قتالهم ، دويّهم في مساجدهم كدويّ النّحل ، يسمع مناديهم في جوّ السّماء (٣).

قلت : يعني الأذان.

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني محمد بن ثابت بن شرحبيل ، عن أمّ الدّرداء قالت : قلت لكعب الحبر : كيف تجدون صفة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التّوراة. فذكر نحو حديث عطاء.

__________________

(١) بمعنى تولّوا أمره.

(٢) ج ١ / ٤١٦ ، وانظر تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٣٤١ ، ٣٤٢.

(٣) نهاية الأرب للنويري ١٦ / ١١٩ ، ١٢٠.

٩٤

باب

قصّة سلمان الفارسي (١)

قال ابن إسحاق (٢) : حدّثني عاصم بن عمر ، عن محمود بن لبيد ،

__________________

(١) انظر عنه : مسند أحمد ٥ / ٤٣٧ ـ ٤٤٤ ، السير والمغازي لابن إسحاق ٨٧ ـ ٩٣ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٧ ـ ٢٥٣ ، طبقات ابن سعد ٤ / ٧٥ ـ ٩٣ ، طبقات خليفة ٧ و ١٤٠ و ١٨٩ ، المحبّر ٧٥ ، تاريخ خليفة. ٩٠ ، التاريخ الكبير ٤ / ١٣٥ ، ١٣٦ ، المعارف ٢٧٠ ، ٢٧١ ، الجرح والتعديل ٤ / ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، الكنى والأسماء للدولابي ١ / ٧٨ ، المعرفة والتاريخ ٣ / ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ، مشاهير علماء الأمصار ٤٤ رقم ٢٧٤ ، تاريخ أبي زرعة ١ / ٦٤٨ ، ٦٤٩ ، حلية الأولياء ١ / ١٨٥ ـ ٢٠٨ ، ذكر أخبار أصبهان ١ / ٤٨ ـ ٥٧ ، الاستيعاب ٢ / ٥٦ ـ ٦١ ، مقدّمة مسند بقيّ بن مخلد ٨٥ رقم ٥٦ ، تاريخ الرسل والملوك ١ / ٩٣ وما بعدها و ٢ / ٥٦٦ وما بعدها ، و ٣ / ١٧١ وما بعدها ، و ٤ / ١١ وما بعدها ، أنساب الأشراف ١ / ٤٨٨ ، تاريخ بغداد ١ / ١٦٣ ـ ١٧١ ، تاريخ دمشق (مخطوط التيمورية) ١٦ / ٩٢ و ٢٤ / ٣٧٨ ، تهذيب تاريخ دمشق ٦ / ١٩٠ ـ ٢١١ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٢٨٧ ، الروض الأنف للسهيلي ١ / ٢٥٠ ، ٢٥١ ، صفة الصفوة ١ / ٥٢٣ ـ ٥٥٥ رقم ٥٩ ، التذكرة الحمدونية ١ / ١٣٠ و ١٣٨ و ١٤٤ تهذيب الأسماء واللغات ق ١ ج ١ / ٢٢٦ ـ ٢٢٨ ، تهذيب الكمال ١ / ٥٢٣ ، أسد الغابة ٢ / ٤١٧ ، دول الإسلام ١ / ٣١ ، المعين في طبقات المحدّثين ٢١ رقم ٤٩ ، الكاشف ١ / ٣٠٤ رقم ٢٠٣٨ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٥٠٥ ـ ٥٥٨ رقم ٩١ ، مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٢ ـ ٣٣٤ ، الوافي بالوفيات ١٥ / ٣٠٩ ، ٣١٠ رقم ٤٣٣ ، مرآة الجنان ١ / ١٠٠ ، عيون الأثر ١ / ٦٠ ـ ٦٨ ، الوفيات لابن قنفذ ٥٤ ، تهذيب التهذيب ٤ / ١٣٧ ، تقريب التهذيب ١ / ٣١٥ رقم ٣٤٦ ، الإصابة ٢ / ٦٢ ، ٦٣ رقم ٣٣٥٧ ، خلاصة تذهيب التهذيب ١٤٧ ، كنز العمال ١٣ / ٤٢١ ، شذرات الذهب ١ / ٤٤ ، موسوعة علماء المسلمين (من إعدادنا) ٢ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩ رقم ٦٤١.

(٢) السير والمغازي ٨٧ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٧.

٩٥

عن ابن عبّاس. حدّثني سلمان الفارسيّ قال : «كنت رجلا من أهل فارس من أهل أصبهان ، من قرية يقال لها جيّ (١) وكان أبي دهقان أرضه (٢) ، وكان يحبّني حبّا شديدا ، لم يحبّه شيئا من ماله ولا ولده ، فما زال به حبّه إيّاي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسيّة حتّى كنت قطن النّار (٣) التي يوقدها ، فلا أتركها تخبر ساعة ، فكنت لذلك (٤) لا أعلم من أمر النّاس شيئا إلّا ما أنا فيه ، حتّى بنى أبي بنيانا له ، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل ، فدعاني فقال : أي بنيّ ، إنّه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه ، ولا بدّ لي من اطلاعها ، فانطلق إليها (٥) فمرهم بكذا وكذا ، ولا تحتبس عليّ (٦) فإنّك إن احتبست عنّي شغلني (٧) ذلك عن كلّ شيء ، فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة للنّصارى (٨) ، فسمعت أصواتهم (٩) فقلت : ما هذا؟ قالوا : النّصارى (١٠) ، فدخلت (١١) فأعجبني حالهم (١٢) ، فو الله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس.

وبعث أبي في طلبي في كلّ وجه حتّى جئته حين أمسيت ، ولم أذهب

__________________

(١) جيّ : بفتح الجيم وياء مشدّدة. مدينة ناحية أصبهان ، تسمّى عند العجم شهرستان ، وعند المحدّثين : المدينة ، وقد نسب إليها المديني عالم من أهل أصبهان ، (معجم البلدان ٢ / ٢٠٢).

(٢) رئيسها.

(٣) قطن النار : مقيم عندها. وسيأتي التعريف في متن المؤلّف في آخر هذا الخبر.

(٤) في السير والمغازي «كذلك».

(٥) في السير والمغازي «إليهم».

(٦) في السير والمغازي «عني».

(٧) في السير والمغازي «شغلتني عن كل شيء». وفي سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٧ «شغلتني عن كل شيء من أمري».

(٨) في السير والمغازي «النصارى» وفي السيرة لابن هشام «كنيسة من كنائس النصارى».

(٩) في السير «أصواتهم فيها» وفي السيرة «أصواتهم فيها وهم يصلّون» وفيها زيادة.

(١٠) في السير «هؤلاء النصارى يصلّون».

(١١) في السير «فدخلت انظر».

(١٢) في السير «فأعجبني ما رأيت من حالهم».

٩٦

إلى ضيعته فقال : أين (١) كنت؟ فقلت : (٢) مررت بالنّصارى ، فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم ، فجلست انظر كيف يفعلون. قال : أي بنيّ دينك ودين آبائك خير من دينهم ، فقلت : لا والله ما هو بخير من دينهم ، هؤلاء قوم يعبدون الله ، ويدعونه ويصلّون له ، نحن (٣) نعبد نارا نوقدها بأيدينا ، إذا تركناها ماتت ، فخاف (٤) فجعل في رجليّ حديدا وحبسني (٥) ، فبعثت إلى النّصارى فقلت : أين أصل (٦) هذا الدّين الّذي أراكم عليه؟ قالوا : بالشام ، فقلت : فإذا قدم عليكم من هناك ناس فآذنوني ، قالوا : نفعل ، فقدم عليهم ناس من تجارهم (٧) فآذنوني بهم ، فطرحت الحديد من (٨) رجليّ ولحقت بهم ، فقدمت معهم الشّام (٩) ، فقلت : من أفضل أهل هذا الدّين؟ قالوا : الأسقف صاحب الكنيسة ، فجئته فقلت : إنّي قد أحببت أن أكون معك في كنيستك ، وأعبد الله فيها معك ، وأتعلّم منك الخير ، قال : فكن معي ، قال : فكنت معه ، فكان رجل سوء ، يأمر بالصّدقة ويرغّبهم فيها ، فإذا جمعوها له (١٠) اكتنزها ولم يعطها المساكين ، فأبغضته بغضا شديدا ، لما رأيت من حاله ، فلم ينشب أن مات ، فلمّا جاءوا ليدفنوه قلت لهم : هذا رجل

__________________

(١) في السير «أي بني أين كنت ، ألم أكن قلت لك»؟.

(٢) في السير ٨٧ «فقلت : يا أبتاه مررت بأناس يقال لهم النصارى».

(٣) في السير «ونحن إنّما نعبد».

(٤) في السير «فخافني».

(٥) في السير «وحبسني في بيت عنده».

(٦) في السير «فقلت لهم : أين أهل».

(٧) يحذف المؤلّف هنا فقرة ، أنقلها من السير هي : «فبعثوا إليّ : إنه قد قدم علينا تجار من تجارنا ، فبعثت إليهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الخروج فآذنوني بهم ، قالوا : نفعل ، فلما قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرحيل بعثوا إليّ بذلك».

(٨) في السير «الّذي في رجلي».

(٩) في السير «فانطلقت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت».

(١٠) في السير «إليه».

٩٧

سوء ، كان يأمركم بالصّدقة (١) ويتكنزها ، قالوا : وما علامة ذلك؟ قلت : أنا أخرج إليكم كنزه ، (٢) فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا (٣) فلمّا رأوا ذلك قالوا : والله لا يدفن أبدا ، فصلبوه (٤) ورموه بالحجارة ، وجاءوا برجل (٥) فجعلوه مكانه ، ولا والله (٦) يا بن عبّاس ، ما رأيت رجلا قطّ لا يصلّي الخمس ، أرى أنّه أفضل منه ، وأشدّ اجتهادا ، ولا أزهد في الدّنيا ، ولا أدأب ليلا ونهارا (٧) ، وما أعلمني أحببت شيئا قطّ قبله حبّه ، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة ، فقلت (٨) : قد حضرك ما ترى من أمر الله (٩) فما ذا تأمرني وإلى من توصيني؟ قال لي : أي بنيّ ، والله ما أعلمه إلّا رجلا (١٠) بالموصل ، فأته فإنّك ستجده على مثل حالي.

فلما مات (١١) لحقت بالموصل ، فأتيت صاحبها فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزّهد (١٢) ، فقلت له : إنّ فلانا أوصى بي إليك (١٣). قال : فأقم أي بنيّ ، فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة ، فقلت : إنّ فلانا أوصى بي إليك (١٤) ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى

__________________

(١) في السير «ويرغّبكم فيها ، حتى إذا جمعتموها إليه اكتنزها ولم يعطها المساكين».

(٢) في السير «فقالوا : فهاته».

(٣) أي فضّة.

(٤) في السير «فصلبوه على خشبة».

(٥) في السير «برجل آخر».

(٦) في السير «فلا والله».

(٧) في السير «ليلا ولا نهارا منه».

(٨) في السير «فقلت يا فلان».

(٩) في السير «من أمر الله عزوجل وإني والله ما أحببت شيئا قطّ حبّك».

(١٠) في الأصل «رجل» والتصحيح من السير والمغازي.

(١١) في السير «فلما مات وغيّب».

(١٢) في السير «والزهاد في الدنيا».

(١٣) في السير «أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك».

(١٤) في السير «أوصاني إليك».

٩٨

من توصيني (١)؟ قال : والله ما أعلمه (٢) إلّا رجلا (٣) بنصيبين (٤) ، فلما (٥) دفنّاه لحقت بالآخر (٦) ، فأقمت عنده على مثل حالهم ، حتى حضره الموت (٧) فأوصى بي إلى رجل من عمّورية بالروم ، فأتيته فوجدته على مثل حالهم ، فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقيرات (٨) ، ثم (٩) احتضر فكلّمته ، فقال : أي بنيّ والله ما أعلم (١٠) بقي أحد على مثل ما كنّا عليه (١١) ، ولكن قد أظلّك زمان نبيّ يبعث من الحرم ، مهاجره بين حرّتين أرض سبخة ذات نخل ، وإنّ فيه علامات لا تخفى ، بين كتفيه خاتم النّبوّة ، يأكل الهديّة ولا يأكل الصّدقة ، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل ، فإنّه قد أظلّك زمانه ، فلمّا وأريناه أقمت (١٢) حتى مرّ بي رجال من تجّار العرب من كلب ، فقلت لهم : تحملوني (١٣) إلى أرض العرب ، وأنا

__________________

(١) كلمة «توصيني» ليست في السير.

(٢) في السير «ما أعلمه أي بني».

(٣) في الأصل «رجل» والتصحيح من السير والمغازي.

(٤) من بلاد على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام (معجم البلدان ٥ / ٢٨٨).

(٥) في السير «هو على مثل ما نحن عليه ، فالحق به ، فلما».

(٦) في السير «فقلت له : يا فلان إن فلانا أوصاني إلى فلان ، وفلان أوصاني إليك ، قال : فأقم أي بني».

(٧) في السير «حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إنّه قد حضرك من أمر الله ما ترى وقد كان فلان أوصاني إلى فلان ، وأوصاني فلان إلى فلان ، وأوصاني فلان إليك ، فإلى من؟ قال : أي بني والله ما أعلم أحدا على مثل ما نحن عليه إلّا رجلا بعمّورية من أرض الروم ، فأته فإنك ستجده على مثل ما كنا عليه ، فلما واريته خرجت حتى قدمت على صاحب عمّورية فوجدته على مثل حالهم».

(٨) في السير «بقرات».

(٩) في السير «ثم حضرته الوفاة ، فقلت : يا فلان إنّ فلانا كان أوصاني إلى فلان ، وفلان إلى فلان ، وفلان إليك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصيني».

(١٠) في السير «أعلمه».

(١١) في السير «ما كنا عليه آمرك أن تأتيه ، ولكنه».

(١٢) في السير ٩٠ «أقمت على خير».

(١٣) في السير «تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب».

٩٩

أعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا : نعم ، فأعطيتهم إيّاها وحملوني ، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبدا من رجل يهوديّ (١) بوادي القرى ، فو الله لقد رأيت النّخل ، وطمعت أن يكون البلد الّذي نعت لي صاحبي ، وما حقّت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة (٢) فابتاعني (٣) ، فخرج بي حتى قدمنا المدينة ، فو الله ما هو إلّا أن رأيتها فعرفت نعتها (٤) فأقمت في رقّي (٥).

وبعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، لا يذكر لي شيء من أمره ، مع ما أنا فيه من الرّقّ ، حتى قدم قباء ، وأنا أعمل لصاحبي في نخله (٦) ، فو الله إنّي لفيها ، إذ جاء ابن عمّ له فقال : يا فلان قاتل الله بني قيلة (٧) ، والله إنّهم الآن (٨) مجتمعون على رجل جاء من مكة ، يزعمون أنّه نبيّ ، فو الله ما هو إلّا أن سمعتها فأخذتني العرواء ـ يقول الرّعدة ـ حتّى ظننت لأسقطنّ على صاحبي ، ونزلت أقول : ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة ، وقال : مالك ولهذا أقبل على (٩) عملك. فقلت : لا شيء ، إنّما سمعت خيرا فأحببت أن أعلمه ، فلمّا أمسيت وكان عندي شيء من طعام ، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بقباء فقلت له : بلغني أنّك رجل صالح ، وأنّ معك أصحابا لك غرباء ، وقد كان عندي شيء للصّدقة ،

__________________

(١) في السير «من يهود» بدلا من «يهودي».

(٢) في السير «من يهود وادي القرى».

(٣) في السير «من صاحبي الّذي كنت عنده».

(٤) في السير «نعته».

(٥) في السير «مع صاحبي».

(٦) في السير «نخلة له».

(٧) هي أمّ الأوس والخزرج الأنصار.

(٨) في السير «الآن لفي قباء».

(٩) في السير «قبل عملك».

١٠٠