تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به ، كلّنا قد تعرّى وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة ، فإنّي لأقبل معهم كذلك وأدبر ، إذ لكمني لاكم ما أراها (١) ، لكمة وجيعة ، وقال : شدّ عليك إزارك ، فأخذته فشددته ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي (٢).

حرب الفجار (٣)

قال ابن إسحاق (٤) : وهاجت حرب الفجار (٥) ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرون سنة ، سمّيت بذلك لمّا استحلّت كنانة وقيس عيلان في الحرب من المحارم بينهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنت أنبّل على أعمامي» أي أردّ عنهم نبل عدوّهم إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أميّة.

__________________

(١) في السيرة «أراه».

(٢) في السيرة زيادة «وإزاري عليّ من بين أصحابي».

(٣) العنوان إضافة على الأصل من سيرة ابن هشام ١ / ٢٠٩.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٠ ، ٢١١.

(٥) الفجار : بالكسر. وكانت للعرب فجارات أربع. ذكرها المسعودي ٢ / ٢٧٥ والسهيليّ في الروض ١ / ٢٠٩.

٦١
٦٢

شأن خديجة

قال ابن إسحاق (١) : ثم إنّ «خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ» وهي أقرب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قصيّ برجل ، كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، وكانت تستأجر الرجال في مالها (٢) ، وكانت قريش تجارا (٣) فعرضت على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرج في مال لها إلى الشّام (٤) ، ومعه غلام لها اسمه «ميسرة» ، فخرج إلى الشام ، فنزل تحت شجرة بقرب صومعة ، فأطلّ (٥) الرّاهب إلى ميسرة فقال : من هذا؟ (٦) فقال : رجل من قريش ، قال : ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبيّ (٧).

ثم باع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجارته وتعوّض ورجع ، فكان «ميسرة» ـ فيما

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٨ ، ٢١٢ السير والمغازي لابن إسحاق ٨١ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٨٠.

(٢) في السيرة والسير وتاريخ الطبري ، زيادة : «وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه».

(٣) في السيرة والسير وتاريخ الطبري «قوما تجارا».

(٤) في السيرة والسير وتاريخ الطبري زيادة : «وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار».

(٥) في السيرة والسيرة وتاريخ الطبري «فأطلع» ..

(٦) في المصادر المذكورة «من هذا الرجل الّذي نزل تحت هذه الشجرة».

(٧) قال السهيليّ في الروض ١ / ٢١١ : «يريد ما نزل تحتها هذه الساعة إلّا نبيّ ، ولم يرد : ما نزل تحتها قط إلّا نبيّ ، لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك ..».

وأقول : لقد ورد في المصادر السابقة لفظ «قط» والله أعلم.

٦٣

يزعمون ـ إذا اشتدّ الحرّ يرى ملكين يظلّانه من الشمس وهو يسير (١).

وروى قصّة خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشام تاجرا ، المحامليّ (٢) ، عن عبد الله ابن شبيب ، وهو واه (٣) ، ثنا أبو بكر بن شيبة (٤) ، حدّثني عمر بن أبي بكر العدوي ، حدّثني موسى بن شيبة ، حدّثتني عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أمّ سعد (٥) بنت سعد بن الربيع ، عن نفيسة بنت منيه (٦) أخت يعلى قالت : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر الحديث بطوله ، وهو حديث منكر. قال : فلما قدم مكة باعت خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا (٧).

وحدّثها «ميسرة» عن قول الراهب ، وعن الملكين ، وكانت لبيبة حازمة ، فبعثت إليه تقول : يا بن عمّي ، إنّي قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك

__________________

(١) انظر : سيرة ابن هشام ١ / ٢١٢ ، والسير والمغازي ٨١ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٢٨٠.

(٢) المحاملي : فتح الميم والحاء ، نسبة إلى المحامل التي يحمل فيها الناس في السفر ، والمقصود به : القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبيّ ، المتوفى سنة ٣٣٠ ه‍. وهو ثقة. انظر عنه : الفهرست ٢٣٣ ، أخبار الراضي للصولي ٢٣٠ ، تاريخ بغداد ٨ / ١٩ ـ ٢٣ ، تاريخ دمشق مخطوط التيمورية ٣٦ / ٤٠٣ ، الكامل في التاريخ ٨ / ٣٩٢ ، اللباب ٣ / ١٧١ ، معجم الشيوخ لابن جميع (بتحقيقنا) ٢٥٣ رقم ٢١٣ ، العبر ٢ / ٢٢٢ ، تذكرة الحفاظ ٢ / ٨٢٤ ـ ٨٢٦ ، البداية والنهاية ١١ / ٢٠٣ و ٢٠٤ ، مرآة الجنان ٢ / ٢٩٧ ، الوافي بالوفيات ١٢ / ٣٤١ ، المنتظم ٦ / ٣٢٧ ، طبقات الشافعية للإسنويّ ٢ / ٣٨٤ ، الأعلام ٢ / ٢٥١ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٣١٥ ، تاريخ التراث العربيّ ١ / ٤٥٢.

(٣) سبق الإشارة إلى ضعف عبد الله بن شبيب ، وإلى مصادر ترجمته.

(٤) في نسخة دار الكتب المصرية «ابن أبي شيبة» وهو وهم واسمه : عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة. (تهذيب التهذيب).

(٥) هنا سقط في نسخة دار الكتب.

(٦) في الأصل وفي نسخة القدسي ٢ / ٣١ «منبه» بالباء الموحّدة ، وهو تحريف ، والتصحيح من طبقات ابن سعد ١ / ١٣١ ونهاية الأرب ١٦ / ٩٧ ، والإصابة ٣ / ٦٦٨ رقم ٩٣٥٨ في ترجمة أخيها يعلى بن أمية ، وقال : منية : بضم الميم وسكون النون.

(٧) انظر طبقات ابن سعد ١ / ١٢٩ ـ ١٣١ ، نهاية الأرب ١٦ / ٩٧.

٦٤

وصدقك وحسن خلفك ، ثم عرضت عليه نفسها ، فقال ذلك لأعمامه ، فجاء معه حمزة عمّه حتى دخل على خويلد (١) فخطبها منه ، وأصدقها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين بكرة ، فلم يتزوّج عليها حتى ماتت (٢). وتزوّجها وعمره خمس وعشرون سنة.

وقال أحمد في «مسندة» : (٣) حدّثنا أبو كامل ، ثنا حمّاد ، عن عمّار ابن أبي عمار ، عن ابن عبّاس ـ فيما يحسب حمّاد ـ : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر خديجة ، وكان أبوها يرغب عن أن يزوّجه ، فصنعت هي طعاما وشرابا ، فدعت أباها وزمرا من قريش ، فطعموا وشربوا حتى ثملوا ، فقالت لأبيها : إنّ محمدا يخطبني فزوّجني إيّاه ، فزوّجها إيّاه ، فخلّقته (٤) وألبسته حلّة كعادتهم ، فلما صحا نظر ، فإذا هو مخلّق فقال : ما شأني؟ فقالت : زوّجتني محمدا ، فقال : وأنا أزوّج يتيم أبي طالب! لا لعمري ، فقالت : أما تستحي؟ تريد أن تسفّه نفسك معي عند قريش بأنّك كنت سكران ، فلم تزل به حتى رضي.

وقد روى طرفا منه الأعمش ، عن أبي خالد الوالبي ، عن جابر بن سمرة أو غيره.

وأولاده كلّهم من خديجة سوى إبراهيم ، وهم : القاسم ، والطّيّب ،

__________________

(١) هو خويلد بن أسد ، وقيل : بل عمرو بن خويلد بن أسد ، وقيل بل عمرو بن أميّة عمّها وكان شيخا كبيرا وهو الصحيح ، على ما في نهاية الأرب ١٦ / ٩٨ ، وعند ابن سعد في الطبقات ١ / ١٣٢ هو عمرو بن أسد بن عبد العزّي ، وهو يومئذ شيخ كبير لم يبق لأسد لصلبه يومئذ غيره ، ولم يلد عمرو بن أسد شيئا.

وينفي الواقدي الأقوال الأخرى فيقول : «فهذا كلّه عندنا غلط ووهم ، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار ، وأنّ عمّها عمرو بن أسد تزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (طبقات ابن سعد ١ / ١٣٣).

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٣ ، ٢١٤.

(٣) ج ١ / ٣١٢ وانظر تاريخ الطبري ٢ / ٢٨٢.

(٤) خلّقته : طيّبته. وفي المسند «فجعلته».

٦٥

والطّاهر ، وماتوا صغارا رضّعا قبل المبعث ، ورقيّة ، وزينب ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة (١) ـ رضي‌الله‌عنهم ـ ، فرقيّة ، وأمّ كلثوم تزوّجتا عثمان بن عفان (٢) ، وزينب زوجة أبي العاص بن الرّبيع بن عبد شمس (٣) ، وفاطمة زوجة عليّ ـ رضي‌الله‌عنهم ـ أجمعين (٤).

حديث بنيان الكعبة

وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين قريش في وضع الحجر (٥)

قال ابن إسحاق : (٦) فلما بلغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمّون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وإنّما كانت رضما (٧) فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها (٨).

وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدّة (٩) فتحطّمت ، فأخذوا خشبها وأعدّوه لتسقيفها ، وكان بمكة نجّار قبطيّ ، فتهيّأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حيّة تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٤.

(٢) تسمية أزواج النبي وأولاده لأبي عبيدة معمر بن المثنى ـ ص ٥٣.

(٣) تهذيب الكمال للمزّي ١ / ١٩٢ ، تسمية أزواج النبي ٥٣.

(٤) انظر في أولاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تسمية أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولاده لأبي عبيد ٤٨ ـ ٥٣ ، تهذيب الكمال للمزيّ ١ / ١٩٢ ، ١٩٣ تهذيب الأسماء واللغات للنووي ق ١ ج ١ / ٢٦ ، تهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٩٣.

(٥) العنوان إضافة من سيرة ابن هشام.

(٦) سيرة ابن هشام ١ / ٢٢١.

(٧) الرّضم : أن تنضّد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط ، (الروض الأنف ١ / ٢٢١).

(٨) في سيرة ابن هشام ١ / ٢٢٢ زيادة : «وذلك أنّ نفرا سرقوا كنزا للكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الّذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة. قال ابن هشام : فقطعت قريش يده ، وتزعم قريش أنّ الذين سرقوه وضعوه عند دويك».

(٩) في السيرة «لرجل من تجار الروم».

٦٦

كلّ يوم ، فتشرف (١). على جدار الكعبة ، فكانت ممّا يهابون ، وذلك أنّه كان لا يدنو منها أحد إلّا احزألّت (٢) وكشّت (٣) وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تشرف (٤) على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها ، فذهب بها (٥) ، قال : فاستبشروا بذلك ، ثم هابوا (٦) هدمها.

فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول وهو يقول : اللهمّ لم ترع ، اللهمّ لم نرد إلّا خيرا. ثم هدم من ناحية الرّكنين (٧) ، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض.

ثم بنوا ، فلمّا بلغ البنيان موضع الرّكن ، يعني الحجر الأسود ، اختصموا فيمن يضعه ، وحرصت كلّ قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال.

ثمّ إنّهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أنّ أبا أميّة بن المغيرة ، وكان أسنّ قريش ، قال : اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد ، (٨) ففعلوا ، فكان أوّل من دخل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا به ، فلمّا انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال : «هاتوا لي ثوبا» (٩) فأتوا به ، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب ، ثم قال : «لتأخذ

__________________

(١) في السيرة ١ / ٢٢٤ «فتتشرّق».

(٢) اجزألّت : رفعت ذنبها.

(٣) كشّت : صوّتت.

(٤) في السيرة ١ / ٢٢٥ «تتشرّق» وكذا في السير ١٠٤.

(٥) السيرة ١ / ٢٢٥.

(٦) يبدأ النقل من السيرة ١ / ٢٢٦.

(٧) توجد زيادة بعد هنا في السيرة ١ / ٢٢٦ ، ٢٢٧.

(٨) في السيرة ١ / ٢٢٨ إضافة «يقضي بينكم فيه».

(٩) اللفظ في السيرة «هلمّ إليّ ثوبا».

٦٧

كلّ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعا» ، ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده وبني عليه (١).

حديث الحمد

وقال ابن وهب ، عن يونس ، عن الزّهري قال : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت ، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الرّكن اختصمت قريش في الركن أيّ القبائل تضعه (٢)؟ قالوا : تعالوا نحكّم أوّل من يطلع علينا (٣) فطلع عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة (٤) فحكّموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ، ثم أخذ سيّد كلّ قبيلة بناحية من الثوب (٥) ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه ، ثم طفق لا يزداد على السنّ إلّا رضا حتى دعوه الأمين ، قبل أن ينزل عليه وحي ، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلّا التمسوه فيدعو لهم فيها (٦).

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٨ ، والسير والمغازي لابن إسحاق ١٠٣ ـ ١٠٨ ونهاية الأرب ١٦ / ٩٩ ـ ١٠٣ طبقات ابن سعد ١ / ١٤٥ ، ١٤٦ ، عيون الأثر ١ / ٥١ ـ ٥٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٩٠ ، السيرة لابن كثير ١ / ٢٧٣ ، ٢٧٤ و ٢٧٦ ـ ٢٨١ ، أخبار مكة ١ / ١٥٨ ـ ١٦٤.

(٢) في أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٥٩ وسيرة ابن كثير ١ / ٢٧٤ «تلي رفعه».

(٣) في أخبار مكة «يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك».

(٤) قال ابن الأثير في النهاية : «كل شملة مخطّطة من مآزر الأعراب فهي نمرة».

(٥) العبارة عند الأزرقي وابن كثير : «ثم أمر (ثم أخرج) سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب».

(٦) انظر : أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩ سيرة ابن كثير ١ / ٢٧٤ ، المعرفة والتاريخ ٣ / ٢٥٢ ، ٢٥٣.

وقال : هذا سياق حسن وهو من سير الزهري.

وفيه من الغرابة قوله : «فلما بلغ الحلم» والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمره خمس وثلاثون سنة ، وهو الّذي نصّ عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله».

وانظر نحو هذا الحديث في المصنّف لعبد الرزاق ٥ / ١٠٠ ، ١٠١ ، رقم ٩١٠٤.

٦٨

ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما : أنّ البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة (١).

وقال داود بن عبد الرحمن العطّار ، ثنا ابن خثيم (٢) عن أبي الطّفيل قال : قلت : له يا خال ، حدّثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش قال : كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق (٣) وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلّى ، ثم إنّ سفينة للروم أقبلت ، حتى إذا كانت بالشّعيبة (٤) انكسرت ، فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها ، وروميّ يقال له «باقوم» نجّار بان (٥) فلمّا قدموا مكة قالوا : لو بنينا بيت ربّنا ـ عزوجل ـ واجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضّواحي ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته ، فنودي : يا محمد عورتك ، فذلك أوّل ما نودي ، والله أعلم. فما رئيت له عورة بعد (٦).

وقال أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب : إنّ إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى البيت وذكر الحديث ، إلى أن قال : فمرّ عليه الدّهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته جرهم ، فمرّ عليه الدّهر فانهدم فبنته قريش. وذكر في الحديث وضع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر الأسود مكانه (٧).

وقال يونس ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ،

__________________

(١) سيرة ابن كثير ١ / ٢٧٤.

(٢) هو عبد الله بن عثمان بن خثيم. (انظر تهذيب التهذيب ٥ / ٣١٤) وقد ورد «خيثم» في أخبار مكة للأزرقي وهو تصحيف ١ / ١٥٧.

(٣) العناق : الأنثى من ولد المعز.

(٤) قال ابن سعد في الطبقات ١ / ١٤٥ «كانت مرفأ السفن قبل جدّه» وأخبار مكة ١ / ١٥٧

(٥) في أخبار مكة «وروميّا كان فيها يقال له يا قوم نجارا بناء».

(٦) أخبار مكة ١ / ١٥٧ ، طبقات ابن سعد ١ / ١٤٥.

(٧) أخبار مكة ١ / ٦٢ وانظر شفاء الغرام (بتحقيقنا) ج ١ / ١٥٢.

٦٩

عن عمرة (١) ، عن عائشة قالت : «ما زلنا نسمع أنّ إسافا ونائلة ـ رجل وامرأة من جرهم ـ زنيا في الكعبة فمسخا حجرين» (٢).

وقال موسى بن عقبة : إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أنّ السّيل كان يأتي من فوقها من فوق الرّدم الّذي صنعوه فأخربه (٣) ، فخافوا أن يدخلها الماء ، وكان رجل يقال له «مليح» (٤) سرق طيب الكعبة ، فأرادوا أن يشيّدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلّا من شاءوا ، فأعدّوا لذلك نفقة وعمّالا (٥).

وقال زكريّا بن إسحاق : ثنا عمرو بن دينار أنّه سمع جابرا يقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار ، فقال له عمّه العبّاس : يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك (٦) دون الحجارة ، ففعل ذلك (٧) ، فسقط مغشيّا عليه ، فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا». متّفق عليه (٨).

وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج (٩).

مسلم الزّنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه قال : جلس رجال من

__________________

(١) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة. (سيرة ابن هشام).

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ١٠٥ ، أخبار مكة ١ / ١١٩ ، الروض الأنف ١ / ١٠٥ ، مروج الذهب ٢ / ٥٠ ، كتاب الأصنام للكلبي ٢٩ ، شفاء الغرام ١ / ٦٠٠.

(٣) في حاشية الأصل «فأضرّ به. خ يعني في نخسة أخرى».

(٤) راجع سيرة ابن هشام في ذلك ١ / ٢٢٢.

(٥) السيرة لابن كثير ١ / ٢٧٥.

(٦) عند البخاري «منكبيك».

(٧) لفظ البخاري : «قال : فحلّه ، فجعله على منكبيه».

(٨) البخاري ١ / ٩٦ كتاب الصلاة ، باب كراهية التعرّي في الصلاة ، ومسلم (٣٤٠) كتاب الحيض ، باب الاعتناء بحفظ العورة ، وأحمد في المسند ٣ / ٣١٠ و ٣٣٣ و ٥ / ٤٥٥.

(٩) صحيح مسلم (٣٤٠ / ٧٦) كتاب الحيض.

٧٠

قريش فتذاكروا بنيان الكعبة فقالوا : كانت مبنيّة برضم يابس (١) ، وكان بابها بالأرض ، ولم يكن لها سقف ، وإنّما تدلّى الكسوة على الجدر ، وتربط من أعلى الجدر من بطنها ، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جبّ يكون فيه ما يهدى للكعبة بنذر من جرهم ، وذلك أنّه عدا على ذلك الجبّ قوم من جرهم فسرقوا ما به (٢) فبعث الله تلك الحيّة فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش ، وكان قرنا الكبش (٣) معلّقين في بطنها مع معاليق من حلية (٤).

إلى أن قال : (٥) حتى بلغوا الأساس الّذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل القواعد ، فرأوا حجارة كأنّها الإبل الخلف (٦) لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرّك الحجر منها ، فترتجّ جوانبها ، قد تشبّك بعضها ببعض ، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين حجرين فانفلقت منه فلقة ، فأخذها رجل (٧) فنزّت من يده حتى عادت في مكانها ، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم ، ورجفت مكة بأسرها ، فأمسكوا (٨).

إلى أن قال : وقلّت النّفقة عن عمارة البيت ، فأجمعوا على أن يقصّروا عن القواعد ويحجّروا ما يقدرون ويتركوا بقيّته في الحجر ، ففعلوا ذلك وتركوا ستّة أذرع وشبرا ، ورفعوا بابها وكسوها (٩) بالحجارة حتى لا يدخلها السّيل ولا

__________________

(١) في أخبار مكة «ليس بمدر».

(٢) عند الأزرقي «فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة».

(٣) عند الأزرقي «الّذي ذبحه إبراهيم خليل الرحمن».

(٤) أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٥٩ ، ١٦٠.

(٥) الأزرقي ١ / ١٦٢.

(٦) بمعنى الصخور العظيمة.

(٧) هو أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. (أخبار مكة ١ / ١٦٣).

(٨) أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٦٢ ، ١٦٣.

(٩) عند الأزرقي «أكبسوها».

٧١

يدخلها إلّا من أرادوا ، وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب ، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه (١).

إلى أن قال : فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب ، حتى بلغوا السقف ، فقال لهم «باقوم» النّجّار الروميّ : أتحبّون أن تجعلوا سقفها مكبّسا (٢) أو مسطّحا؟ قالوا : بل مسطّحا ، وجعلوا فيه ستّ دعائم في صفّين ، وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع (٣) ، وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها ، وزوّقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها ، وصوّروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر ، وصوّروا إبراهيم يستقسم بالأزلام (٤) ، وصوّروا عيسى وأمّه ، وكانوا أخرجوا ما في جبّ الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش ، وجعلوه عند أبي طلحة العبدريّ (٥) ، وأخرجوا منها هبل (٦) ، فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ، ثم ستروها بحبرات يمانية (٧).

وفي الحديث عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن حويطب بن عبد العزّى وغيره : فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى البيت ، فأمر بثوب فبلّ بماء وأمر بطمس تلك الصّور ، ووضع كفّيه على صورة عيسى وأمّه وقال : «امحوا الجميع إلّا ما تحت يدي». رواه الأزرقي (٨).

ابن جريج قال : سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح ،

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ١٦٣.

(٢) في الأصل «ملنّس» والتصحيح من أخبار مكة ١ / ١٦٤.

(٣) أي في عهد إسماعيل عليه‌السلام. (الروض الأنف ١ / ٢٢١).

(٤) الأزلام : سهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية.

(٥) هو عبد الله بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار بن قصيّ.

(٦) أحد أصنام الكعبة المشهورة.

(٧) أخبار مكة ١ / ١٦٤ ـ ١٦٧.

(٨) أخبار مكة ١ / ١٦٥.

٧٢

وأنا أسمع : أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال : نعم أدركت تمثال مريم مزوّقا في حجرها عيسى قاعد (١) ، وكان في البيت ستّة أعمدة سواري (٢) ، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الّذي يلي الباب (٣) ، فقلت لعطاء : متى هلك؟ قال في الحريق زمن ابن الزّبير ، قلت : أعلى عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تعني كان؟ قال : لا أدري ، وإنّي لأظنّه قد كان على عهده (٤).

قال داود بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج : ثم عاودت عطاء بعد حين فقال : تمثال عيسى وأمّه في الوسطى من السّواري (٥).

قال الأزرقيّ : ثنا داود العطّار ، عن عمرو بن دينار قال : أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمّه ، قال داود : فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة : أنّ النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «يا شيبة امح كلّ صورة (٦) إلّا ما تحت يدي» قال : فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمّه (٧).

قال الأزرقيّ ، عن سعيد بن سالم ، حدّثني يزيد بن عياض بن جعدبة (٨) ، عن ابن شهاب : «أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل الكعبة وفيها صور

__________________

(١) عند الأزرقي «قاعدا مزوّقا».

(٢) بيّن الأزرقي وصفها كما نقطت في هذا التربيع :

(٣) قال ابن جريج : فقلت لعطاء. (الأزرقي).

(٤) أخبار مكة ١ / ١٦٨.

(٥) انظر أخبار مكة ١ / ١٦٨.

(٦) عند الأزرقي «كل صورة فيه».

(٧) أخبار مكة ١ / ١٦٨.

(٨) كذا في الأصل ، وفي أخبار مكة ١ / ١٦٨. وفي نسخة دار الكتب بالأزلام ، ما شأن إبراهيم

٧٣

الملائكة ، فرأى صورة إبراهيم فقال : «قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام ، ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال : امحوا ما فيها إلّا صورة مريم». ثم ساقه الأزرقي (١) بإسناد آخر بنحوه ، وهو مرسل ، ولكنّ قول عطاء وعمرو ثابت ، وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم (٢).

وقال معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم (٣) عن أبي الطّفيل قال : لما بني البيت كان النّاس ينقلون الحجارة والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي : (لا تكشف عورتك) فألقى الحجر ولبس ثوبه. رواه أحمد في «مسندة» (٤).

وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدّشتكيّ : ثنا عمرو بن أبي قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، عن أبيه قال : (كنت أنا وابن أخي

__________________

= والأزلام؟ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين ، ثم أمر بتلك الصور كلّها فطمست».

وقال ابن هشام أيضا ٤ / ١٠٤ «وحدّثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له ، عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : دخل مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير بغضب في يده إلى الأصنام ، ويقول : «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه ، ما بقي منها صنم إلّا وقع».

وفي نسخة دار الكتب المصرية «عياض عن جدّته» ، وهو تصحيف واضح.

(١) أخبار مكة ١ / ١٦٩ عن محمد بن يحيى بن أبي عمر ، عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب ، عن عكرمة.

(٢) وهو باطل منكر ، وخاصة استثناء صورة عيسى ابن مريم وأمّه من المحو لأنّه مخالف لعقيدة التوحيد ، والنهي عن التصوير ، والصلاة في مكان توجد فيه صور ، وينقض ذلك ما ورد عند ابن هشام في السيرة ٤ / ٩٤ : «وحدّثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل البيت يوم الفتح ، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه‌السلام مصوّرا في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : قاتلهم الله ، جعلوا شيخنا يستقسم».

(٣) في الأصل «خيثم» والتصحيح من تهذيب التهذيب ٥ / ٣١٤ وقد مرّ قبل قليل ، وسيأتي قريبا مصحّحا.

(٤) المسند ٣ / ٣١٠ و ٣٣٣ و ٥ / ٤٥٥.

٧٤

ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة ، فإذا غشينا النّاس ائتزرنا ، فبينا هو أمامي خرّ على وجهه منبطحا ، فجئت أسعى وألقيت حجري ، وهو ينظر إلى السماء ، فقلت : ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره وقال : «نهيت أن أمشي عريانا» فكنت أكتمها النّاس مخافة أن يقولوا مجنون). رواه قيس بن الربيع بنحوه ، عن سماك (١).

وقال حمّاد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، عن عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب ، فكان أوّل من دخل النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : قد جاء الأمين.

أخبرنا سليمان بن حمزة ، أنا محمد بن عبد الواحد ، أنا محمد بن أحمد ، أنّ فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم ، أنبأ ابن بريدة ، أنبأ الطّبرانيّ ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزّاق (٢) ، عن معمر ، عن ابن خثيم ، عن أبي الطّفيل قال : «كانت الكعبة في الجاهلية مبنيّة بالرضم ، ليس فيها مدر (٣) ، وكانت قدر ما نقتحمها (٤) ، وكانت غير مسقوفة ، إنّما توضع ثيابها عليها ، ثم تسدل عليها سدلا (٥) ، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا ، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة (٦) ، فأقبلت سفينة من أرض الروم

__________________

(١) أخرجه البخاري بنحوه ٢ / ١٥٥ ، ١٥٦ كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ٤ / ٢٣٤ كتاب بدء الخلق ، باب أيام الجاهلية ، ومسلم (٣٤٠ و ٣٤١) كتاب الحيض ، باب الاعتناء بحفظ العورة ، مسند أحمد ٣ / ٢٩٥ و ٣٨٠ ، وانظر أخبار مكة للأزرقي ١ / ١٧٠ وسيرة ابن كثير ١ / ٢٥١.

(٢) انظر «المصنّف» له ، ج ٥ / ١٠٢ رقم ٩١٠٦.

(٣) المدر : الطين اليابس.

(٤) في المصنّف : «يقتحمها العناق».

(٥) في المصنّف «ثم يسدل سدلا عليها».

(٦) في المصنّف «كهيئة هذه الحلقة».

٧٥

فانكسرت بقرب جدّة (١) ، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها ، فوجدوا رجلا روميّا عندها ، فأخذوا الخشب (٢) ، وكانت السفينة تريد الحبشة ، وكان الروميّ الّذي في السفينة نجّارا ، فقدموا به وبالخشب ، فقالت قريش : نبني بهذا الّذي في السفينة بيت ربّنا ، فلما أرادوا هدمه إذا هم بحيّة على سور البيت ، مثل قطعة الجائز (٣) سوداء الظّهر ، بيضاء البطن ، فجعلت كلّما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته ، سعت إليه فاتحة فاها ، فاجتمعت قريش : عند المقام (٤) فعجوا (٥) إلى الله وقالوا : ربنا لم نرع (٦) ، أردنا تشريف بيتك وتزيينه (٧) ، فإن كنت ترضى بذلك ، وإلّا فما بدا لك فافعل ، فسمعوا خوارا في السّماء ، فإذا هم بطائر (٨) أسود الظّهر ، أبيض البطن ، والرّجلين ، أعظم من النّسر ، فغرز مخلابه في رأس (٩) الحيّة ، حتى انطلق بها يجرّها ، ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا ، فانطلق بها نحو أجياد ، فهدمتها قريش ، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي ، تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحمل حجارة من أجياد ، وعليه نمرة ، فضاقت عليه النّمرة ، فذهب يضعها على عاتقه ، فبرزت عورته من صغر النّمرة ، فنودي : يا محمّد ، خمّر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك.

__________________

(١) في المصنّف «حتى إذا كانوا قريبا من جدّه انكسرت السفينة».

(٢) أضاف في المصنّف «أعطاهم إيّاها».

(٣) الجائز : الخشبة التي توضع عليها أطراف العوارض في سقف البيت ، والعوارض : خشب سقف البيت المعرضة (أي الموضوعة بالعرض).

وفي أخبار مكة ١ / ١٥٨ «لها رأس مثل رأس الجدي».

(٤) في المصنّف «الحرم».

(٥) أي رفعوا أصواتهم.

(٦) في نسخة القدسي ٢ / ٤٥ «ترع» وهو تحريف.

(٧) في المصنّف «ترتيبه».

(٨) في المصنّف «أعظم من النسر».

(٩) في المصنّف «فغرز مخاليبه في قفا الحيّة».

٧٦

وكان بين بنيان الكعبة ، وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث صحيح (١).

وقد روى نحوه داود العطّار ، عن ابن خثيم (٢).

ورواه محمّد بن كثير المصّيصيّ ، عن عبد الله بن واقد ، عن عبد الله ابن عثمان بن خثيم ، عن نافع بن سرجس قال : سألت أبا الطّفيل ، فذكر نحوه.

وقال عبد الصّمد بن النّعمان : حدّثنا ثابت بن يزيد ، ثنا هلال بن خبّاب ، عن مجاهد ، عن مولاه ، أنّه حدّثه أنّه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهليّة قال : ولي حجر أنا نحتّه بيدي أعبده من دون الله ، فأجيء باللّبن الخاثر الّذي أنفسه (٣) على نفسي فأصبّه عليه ، فيجيء الكلب فيلحسه ، ثم يشغر فيبول ، فبنينا حتى بلغنا الحجر ، وما يرى الحجر منّا أحد ، فإذا هو وسط حجارتنا ، مثل رأس الرجل ، يكاد يتراءى منه وجه الرجل ، فقال بطن من قريش : نحن نضعه ، وقال آخرون : بل نحن نضعه. فقالوا : اجعلوا بينكم حكما. قالوا : أوّل رجل يطلع من الفجّ ، فجاء النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : أتاكم الأمين ، فقالوا له ، فوضعه في ثوب ، ثم دعا بطونهم ، فأخذوا بنواحيه معه ، فوضعه هو (٤).

اسم مولى مجاهد : السّائب بن عبد الله.

__________________

(١) المصنّف لعبد الرزاق الصّنعاني ٥ / ١٠٢ ـ ١٠٣ رقم ٩١٠٦ وفيه زيادة بعد ذلك ، ورواه ابن حجر في فتح الباري ٣ / ٢٨٥ دون زيادة ، وذكر طرفا منه الإمام أحمد في مسندة ٥ / ٤٥٥ وانظر طبقات ابن سعد ١ / ١٥٧.

(٢) انظر أخبار مكة ١ / ١٥٧.

(٣) أنفس : أبخل به على نفسي. (النهاية لابن الأثير).

(٤) مسند أحمد ٣ / ٤٢٥.

٧٧

وقال إسرائيل ، عن أبي يحيى القتّات ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كان البيت قبل الأرض بألفي سنة (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (١) قال : من تحته مدّا. وروى نحوه عن منصور ، عن مجاهد.

__________________

(١) سورة الإنشقاق ، الآية ٣.

٧٨

وممّا عصم الله به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر الجاهليّة

إنّ قريشا كانوا يسمّون الحمس ، يعني الأشدّاء الأقوياء ، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة ، ولا يقفون مع النّاس بعرفة ، يفعلون ذلك رياسة وبأوا (١) ، وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في جملة ما خالفوا. فروى البخاريّ ومسلم من حديث جبير بن مطعم قال : «أضللت بعيرا لي يوم عرفة ، فخرجت أطلبه بعرفة ، فرأيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا مع النّاس بعرفة ، فقلت : هذا من الحمس ، فما شأنه هاهنا» (٢).

وقال ابن إسحاق : حدّثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة ، عن الحسن بن محمد بن الحنفيّة ، عن أبيه ، عن جدّه ، سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما هممت بقبيح ممّا يهمّ به أهل الجاهليّة مرّتين ، عصمني الله فيهما ، قلت ليلة لفتى من قريش : أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه اللّيلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال : نعم ، فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور

__________________

(١) البأو : الكبر والتعظيم. (النهاية لابن الأثير ١ / ٩١).

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٧٥ في كتاب الحج ، باب الوقوف بعرفة ، ومسلم (١٢٢٠) كتاب الحج ، باب في الوقوف وقوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ، والنسائي ٥ / ٢٥٥ كتاب مناسك الحج ، باب رفع اليدين في الدعاء بعرفة ، والدارميّ ، في كتاب المناسك ٤٩ ، وانظر أخبار مكة ١ / ١٨٨.

٧٩

مكة ، فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير ، فقلت : ما هذا؟ قالوا : فلان تزوّج ، فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني ، فنمت ، فما أيقظني إلّا مسّ الشّمس ، فرجعت إلى صاحبي ، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك ، فو الله ما هممت بعدها بسوء ممّا يعمله أهل الجاهليّة ، حتى أكرمني الله بنبوّته» (١).

وروي مسعر ، عن العبّاس بن ذريح (٢) ، عن زياد النّخعيّ ، ثنا عمّار ابن ياسر أنّهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل أتيت في الجاهليّة شيئا حراما؟ قال : لا ، وقد كنت معه على ميعادين ، أمّا أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي ، والآخر غلبتني عيني» أو كما قال.

وقال ابن سعد (٣) : أنا محمد بن عمر ، ثنا أبو بكر بن أبي سبرة ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عبّاس ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : حدّثتني أمّ أيمن قالت : «كان بوانة صنما تحضره قريش ، تعظّمه وتنسّك (٤) له النّسّاك (٥) ، ويحلّقون رءوسهم عنده ، ويعكفون عنده يوما (٦) في السنة ، وكان أبو طالب يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحضر ذلك العيد ، فيأبى ، حتى رأيت أبا طالب غضب (٧) ، ورأيت عمّاته غضبن (٨) يومئذ أشدّ الغضب ، وجعلن يقلن : إنّا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا (٩) ، فلم يزالوا به

__________________

(١) قال ابن كثير في السيرة ١ / ٢٥٢ : «هذا حديث غريب جدا ، وقد يكون عن عليّ نفسه ويكون قوله في آخره : حتى أكرمني الله عزوجل بنبوّته ، مقمحما ، والله أعلم.

وقد رواه البيهقي في دلائل النبوّة.

(٢) ذريح : بفتح الذال المعجمة وكسر الراء.

(٣) الطبقات الكبرى ١ / ١٥٨.

(٤) تذبح له.

(٥) في الطبقات «النسائك».

(٦) في الطبقات «يوما إلى الليل».

(٧) في الطبقات «غضب عليه».

(٨) في الطبقات «غضبن عليه».

(٩) في الطبقات زيادة «وجعلن يقلن : ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثّر لهم جمعا».

٨٠