تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

ناقة صهباء يرمي الجمرة ، لا ضرب ولا طرد ، ولا إليك إليك (١). حديث حسن.

الصّهباء : الشقراء.

وكانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاح (٢) أغارت عليها غطفان وفزارة ، فاستنقذها سلمة ابن الأكوع وجاء بها يسوقها. أخرجه البخاريّ (٣). وهو من الثّلاثيّات.

وجاء أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدى يوم الحديبيّة جملا في أنفه برّة من فضّة ، كان غنمه من أبي جهل يوم بدر ، أهداه ليغيظ بذلك المشركين إذا رأوه ، وكان مهريا (٤) يغزو عليه ويضرب في لقاحه (٥).

وقيل : كان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرون لقحة بالغابة ، يراح إليه منها كلّ ليلة بقربتين من لبن (٦).

وكانت له خمس عشرة لقحة ، يرعاها يسار مولاه الّذي قتله العرنيّون واستاقوا اللّقاح ، فجيء بهم فسملهم (٧).

وكان له من الغنم مائة شاة ، لا يريد أن تزيد ، كلّما ولّد الراعي بهيمة ذبح مكانها شاة (٨).

__________________

(١) رواه أحمد في المسند ٣ / ٤١٣ ، وروى نصفه الأول ابن سعد في الطبقات ١ / ٤٩٣.

(٢) اللقاح : ذوات الألبان من النّوق. (تاج العروس).

(٣) أخرجه البخاري في الجهاد ٤ / ٢٧ باب من رأى العدوّ فنادى بأعلى صوته : يا صباحاه ، حتى يسمع الناس ، وفي المغازي ٥ / ٧١ باب غزوة ذات قرد ، ومسلم (١٨٠٦) في الجهاد والسير ، باب غزوة ذي قرد وغيرها ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٨.

(٤) المهرية : من كرائم الإبل ، تنسب إلى حيّ مهران بن حيدان.

(٥) أخرجه أبو داود في المناسك (١٧٤٩) باب في الهدي ، وأحمد في المسند ١ / ٢٦١.

(٦) رواه ابن سعد في الطبقات ١ / ٤٩٤ ، والنويري في نهاية الأرب ١٨ / ٣٠١ ، والمزّي في تهذيب الكمال ١ / ٢١٠.

(٧) عيون الأثر ٢ / ٣٢٢ ، وطبقات ابن سعد ١ / ٤٩٥.

(٨) عيون الأثر ٢ / ٣٢٢.

٥٢١

وقد سحر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمّ في شواء

قال وهيب ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر ، حتّى كان يخيّل إليه أنّه يصنع الشيء ولم يصنعه ، حتى إذا كان ذات يوم رأيته يدعو ، فقال : «أشعرت أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته : أتاني رجلان ، فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجليّ ، فقال أحدهما : ما وجع الرّجل؟ قال الآخر : مطبوب ، قال : من طبّه؟ قال : لبيد بن الأعصم (١) ، قال : فيم؟ قال : في مشط ومشاطة (٢) وجفّ طلعة ذكر ، قال : فأين هو؟ قال : في ذي أروان (٣) ، فانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا رجع أخبر عائشة فقال : كأنّ نخلها رءوس الشياطين ، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء ، فقلت : يا رسول الله أخرجه للنّاس ، قال : أما أنا فقد شفاني الله ، وخشيت أن أثوّر على النّاس منه شرّا.

في لفظ : في بئر ذي أروان (٤).

روى عمر مولى عفرة ـ وهو تابعيّ ـ أنّ لبيد بن أعصم سحر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى التبس بصره وعاده أصحابه ، ثمّ إنّ جبريل وميكائيل أخبراه ، فأخذه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعترف ، فاستخرج السّحر من الجبّ ، ثمّ نزعه فحلّه ، فكشف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعفا عنه (٥).

__________________

(١) اليهودي.

(٢) في صحيح البخاري «مشاقة». (٤ / ٩٠) و (٧ / ٢٩).

(٣) في صحيح البخاري «بئر ذروان».

(٤) رواه البخاري في بدء الخلق ٤ / ٩٠ ، ٩١ باب صفة إبليس وجنوده ، وفي الطب ٧ / ٢٩ ، ٣٠ باب هل يستخرج السّحر ، وفي الدعوات ٧ / ١٦٤ باب تكرير الدعاء ، وأحمد في المسند ٦ / ٥٠ و ٩٦ وانظر جامع الأصول ٥ / ٦٦ ، وابن ماجة (٣٥٤٥) في الطب ، وابن سعد في الطبقات ٢ / ١٩٦.

(٥) الحديث مرسل ، وله شاهد من حديث زيد بن أرقم الّذي أخرجه النسائي في تحريم الدم

٥٢٢

وروى يونس ، عن الزّهري قال في ساحر أهل العهد : لا يقتل ، قد سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهوديّ ، فلم يقتله (١).

وعن عكرمة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عفا عنه (٢).

قال الواقديّ : هذا أثبت عندنا ممّن روى أنّه قتله (٣).

وقال أبو معاوية : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : كانوا يقولون إنّ اليهود سمّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمّت أبا بكر (٤).

وفي «الصّحيح» عن ابن عبّاس أنّ امرأة من يهود خيبر أهدت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة مسمومة (٥).

وعن جابر ، وأبي هريرة ، وغيرهما أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث ـ وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم ـ سمّا قاتلا في عنز لها ذبحتها وصلتها (٦) ، وأكثرت السّمّ في الذّراعين والكتف ، فلمّا صلّى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغرب انصرف وهي جالسة عند رحله ، فقالت : يا أبا القاسم هديّة أهديتها لك ، فأمر بها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذت منها ، ثم وضعت بين يديه وأصحابه حضور ، منهم بشر بن البراء بن معرور ،

__________________

(٧) / ١١٢ و ١١٣ باب سحرة أهل الكتاب ، ونصّه : «سحر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من اليهود ، فاشتكى لذلك أيّاما ، فأتاه جبريل فقال : إنّ رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستخرجها فحلّها ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّما أنشط من عقال ، فما ذكر ذلك لذلك اليهوديّ ولا رآه في وجهه قطّ» ، وروى الحديث ابن سعد في الطبقات ٢ / ١٩٦ ، ١٩٧.

(١) رواه ابن سعد في الطبقات ٢ / ١٩٩.

(٢) ابن سعد في الطبقات ٢ / ١٩٩.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) ابن سعد ٢ / ٢٠٠.

(٥) ابن سعد ٢ / ٢٠٠.

(٦) صلتها : أي شوتها.

٥٢٣

وتناول رسول الله فانتهش (١) من الذّراع ، وتناول بشر عظما آخر ، فانتهش منه ، وأكل القوم منها. فلمّا أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقمة قال : «ارفعوا أيديكم فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنّها مسمومة» فقال بشر : والّذي أكرمك ، لقد وجدت ذلك من أكلتي ، فما منعني أن ألفظها إلّا أنّي كرهت أن أبغض إليك طعامك ، فلمّا أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك ، ورجوت أن لا تكون ازدردتها وفيها بغي ، فلم يقم بشر حتى تغيّر لونه ، وماطله وجعه سنة ومات.

وقال بعضهم : لم يرم بشر من مكانه حتى توفّي ، فدعاها فقال : ما حملك؟ قالت : نلت من قومي ، وقتلت أبي وعمّي وزوجي ، فقلت : إن كان نبيّا فستخبره الذّراع ، وإن كان ملكا استرحنا منه ، فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثّبت. وقال أبو هريرة : لم يعرض لها واحتجم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كاهله. حجمه أبو هند بقرن وشفرة ، وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم ، وعاش بعد ذلك ثلاث سنين.

وكان في مرض موته يقول : «ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها بخيبر ، وهذا أوان انقطاع أبهري ، وفي لفظ : ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألم سمّها ـ والأبهر عرق في الظّهر ـ وهذا سياق غريب. وأصل الحديث في «الصحيح» (٢).

__________________

(١) النّهس : أخذ اللّحم بأطراف الأسنان. والنّهش : الأخذ بجميعها. (النهاية لابن الأثير).

(٢) انظر : صحيح البخاري ٥ / ٨٤ في المغازي ، باب الشاة التي سمّت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خيبر ، و ٣ / ١٤١ في الهبة ، باب قبول الهدية من المشركين ، ومسلم (٢١٩٠) في السلام ، باب السّمّ ، وأبو داود في الديات (٤٥٠٨) و (٤٥٠٩) و (٤٥١٠) و (٤٥١١) و (٤٥١٢) و (٤٥١٣) و (٤٥١٤) باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات ، أيقاد منه؟ ، وابن ماجة ، في الطب (٣٥٤٦) باب السحر ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٥ و ٣٧٣ ، وابن هشام في السيرة النبويّة ٤ / ٤٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢٩٥ ، ٢٩٦ باب ما جاء في الشاة المسمومة ، وقال : رواه الطبراني والبزّار ، والحديث بكاملة في طبقات ابن سعد ٢ / ٢٠٢ ، ٢٠٣.

٥٢٤

وروى أبو الأحوص ، عن أبي مسعود قال : لأن أحلف بالله تسعا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل قتلا أحبّ إليّ من أن أحلف واحدة ، يعني أنّه مات موتا ، وذلك فإنّ الله اتّخذه نبيّا وجعله شهيدا (١).

__________________

(١) كتب هنا في حاشية الأصل : «بلغت قراءة خليل بن أيبك على مؤلّفه ، فسح الله في مدّته ، في الميعاد العاشر.

بلغت قراءة في الميعاد السادس عشر على مؤلّفه الحافظ أبي عبد الله الذهبي. كتبه عبد الرحمن البعلي»

٥٢٥
٥٢٦

باب ما وجد من صورة نبيّنا

وصور الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام عند أهل الكتاب بالشّام.

قال عبد الله بن شبيب الرّبعيّ ـ وهو ضعيف بمرّة (١) ـ : ثنا محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم ، حدّثتني أمّ عثمان عمّتي ، عن أبيها سعيد عن أبيه ، أنّه سمع أباه جبير بن مطعم يقول : لمّا بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وظهر أمره بمكة ، خرجت إلى الشام ، فلمّا كنت ببصرى أتتني جماعة من النّصارى فقالوا لي : أمن الحرم أنت؟ قلت : نعم ، قالوا : فتعرف هذا الّذي تنبّأ فيكم؟ قلت : نعم ، فأدخلوني ديرا لهم فيه صور فقالوا : انظر هل ترى صورته؟ فنظرت فلم أر صورته ، قلت : لا أرى صورته ، فأدخلوني ديرا أكبر من ذاك فنظرت ، وإذا بصفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصورته وبصفة أبي بكر وصورته ، وهو آخذ بعقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا لي : هل ترى صفته؟

__________________

(١) قال أبو أحمد الحاكم : ذاهب الحديث ، وقال فضلك الرازيّ : يحلّ عنقه ، وقال ابن حبّان : يقلب الأخبار ويسرقها.

انظر عنه : الكامل في ضعفاء الرجال لابن عديّ ٤ / ١٥٧٤ ، ١٥٧٥ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩ / ٤٧٤ ، ٤٧٥ رقم ٥١٠٦ ، والمغني في الضعفاء للذهبي ١ / ٣٤٢ رقم ٣٢١٢ ، وميزان الاعتدال له ٢ / ٤٣٨ رقم ٤٣٧٦ ، ولسان الميزان لابن حجر ٣ / ٢٩٩ ، ٣٠٠ رقم ١٢٤٥.

٥٢٧

قلت : نعم ، قالوا : هو هذا؟ قلت : اللهمّ نعم ، أشهد أنّه هو ، قالوا ، أتعرف هذا الّذي أخذ بعقبه؟ قلت : نعم ، قالوا : نشهد أنّ هذا صاحبكم وأنّ هذا الخليفة من بعده.

رواه البخاري في «تاريخه» (١) ، عن محمد ، غير منسوب عن محمد ابن عمر بن سعيد ، أخصر من هذا.

وقال إبراهيم بن الهيثم البلدي : حدّثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس ، ثنا عبد الله بن إدريس ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهليّ ، عن هشام بن العاص الأمويّ قال :

بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل ندعوه إلى الإسلام ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغسّاني ، فدخلنا عليه ، وإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسول نكلّمه ، فقلنا : والله لا نكلّم رسولا ، إنّما بعثنا إلى الملك (٢) ، فأذن لنا وقال : تكلّموا ، فكلّمته ودعوته إلى الإسلام ، وإذا عليه ثياب سواد ، قلنا : ما هذه؟ قال : لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا : ومجلسك هذا ، فو الله لنأخذنّه منك ، ولنأخذنّ منك الملك الأعظم إن شاء الله ، أخبرنا بذلك نبيّنا (٣) ، قال : لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنّهار فكيف صومكم؟ فأخبرناه ، فملأ وجهه سوادا وقال : قوموا ، وبعث معنا رسولا إلى الملك ، فخرجنا حتّى إذا كنّا قريبا من المدينة ، فقال الّذي معنا : إنّ دوابّكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على

__________________

(١) التاريخ الكبير ١ / ١٧٩ وفيه في آخره : «قال : إنّه لم يكن نبيّ إلّا كان بعده نبيّ إلّا هذا النّبيّ».

(٢) زاد في السيرة الشامية : «فإن أذن لنا كلّمناه وإلّا لم نكلّم الرسول».

وتراجع السيرة لوجود اختلاف في نصّ الرواية عمّا هنا.

(٣) لعلّ هنا نقصا يستدرك من الرواية المقبلة وهو قوله : (قال : أنتم إذا السمراء ، قلنا : وما السمراء؟).

٥٢٨

براذين وبغال؟ قلنا : والله لا ندخل إلّا عليها ، فأرسلوا ، إلى الملك أنّهم يأبون ، فدخلنا على رواحلنا متقلّدين سيوفنا ، حتّى انتهينا إلى غرفة له ، فأنخنا في أصلها ، وهو ينظر إلينا ، فقلنا : لا إله إلّا الله والله أكبر ، والله يعلم لقد تنقّضت الغرفة حتى صارت كأنّها عذق (١) تصفّقه الرّياح (٢) ، فأرسل إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا ، فدخلنا عليه ، وهو على فراش له ، عنده بطارقته من الروم ، وكلّ شيء في مجلسه أحمر ، وما حوله حمرة ، وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه ، فضحك وقال : ما كان عليكم لو حيّيتموني بتحيّتكم فيما بينكم ، فإذا عنده رجل فصيح بالعربيّة ، كثير الكلام ، فقلنا : إنّ تحيّتنا فيما بيننا لا تحلّ لك ، وتحيّتك التي تحيّا بها لا يحلّ لنا أن نحيّيك بها ، قال : كيف تحيّتكم فيما بينكم؟ قلنا : «السلام عليك» ، قال : فيم تحيّون ملككم؟ قلنا : بها ، قال : وكيف يردّ عليكم؟ قلنا : بها ، قال : فما أعظم كلامكم؟ قلنا : (لا إله إلّا الله والله أكبر) فلمّا تكلّمنا بها قال : والله يعلم لقد تنقّضت الغرفة ، حتّى رفع رأسه إلينا فقال : هذه الكلمة التي قلتموها حيث تنقّضت الغرفة كلّما قلتموها في بيوتكم تنقّض بيوتكم عليكم؟ قلنا : لا ، ما رأيناها فعلت هذا قطّ إلّا عندك ، قال : لوددت أنّكم كلّما قلتم ينقض كلّ شيء عليكم ، وإنّي خرجت من نصف ملكي ، قلنا : لم؟ قال : لأنّه كان أيسر لشأنها ، وأجدر أن لا يكون من أمر النّبوّة ، وأن يكون من حيل النّاس.

ثم سألنا عمّا أراد ، فأخبرناه ، ثم قال : كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا ، فقمنا ، فأمر بنا بمنزل حسن ونزل كثير ، فأقمنا ثلاثا ، فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا ، ثمّ دعا بشيء كهيئة

__________________

(١) العذق ـ بالفتح ـ النّخلة ، وبالكسر : العرجون بما فيه من الشماريخ.

(٢) هنا زيادة سطر عمّا ورد في (السيرة الشامية).

٥٢٩

الربعة (١) العظيمة ، مذهّبة فيها بيوت صغار ، عليها أبواب ، ففتح بيتا وقفلا ، واستخرج حريرة سوداء فنشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين ، لم أر مثل طول عنقه ، وإذا ليست له لحية ، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله ، قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا آدم عليه‌السلام ، ثمّ فتح لنا بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء ، وإذا له شعر كشعر القطط ، أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللّحية ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا نوح عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين (٢) ، طويل الخدّين أبيض اللّحية كأنّه يتبسّم ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم عليه‌السلام ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا فيها صورة بيضاء (٣) وإذا والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أتعرفون هذا؟ قلنا : نعم ، محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكينا ، قال : والله يعلم أنّه قام قائما ثمّ جلس وقال : والله إنّه لهو؟ قلنا : نعم إنّه لهو ، كأنّما ننظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ، ثمّ قال : أما إنّه كان آخر البيوت ، ولكنّي عجّلته لكم لأنظر ما عندكم ، ثمّ فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا فيها صورة أدماء سحماء (٤) وإذا رجل جعد قطط ، غائر العينين ، حديد النّظر ، عابس ، متراكب الأسنان ، مقلّص الشّفة ، كأنّه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى عليه‌السلام ، وإلى جنبه صورة تشبهه ، إلّا أنّه مدهانّ الرأس ،

__________________

(١) إناء مربّع ، على ما في (النهاية لابن الأثير).

(٢) أي واسعه ، وقيل الأملس ، وقيل البارز. (النهاية).

(٣) هنا زيادة كلمات في (ع) ، وهي دخيلة مقحمة.

(٤) أي سوداء. وفي «المنتقى» لابن الملا (شحماء) وهو تصحيف ، وكذلك في (السيرة الشامية).

٥٣٠

عريض الجبين ، في عينه قبل (١) ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال. هذا هارون بن عمران ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنّه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة ، أقنى ، خفيف العارضين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا إسحاق عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلّا أنّه على شفته السّفلى خال ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال هذا يعقوب عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا إسماعيل جدّ نبيّكم ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنّها صورة آدم ، كأنّ وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا يوسف عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل أحمر ، حمش السّاقين (٢) ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، متقلّد سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل ضخم الأليتين ، طويل الرّجلين ، راكب فرس (٣) ، فقال : هذا سليمان عليه‌السلام ، ثمّ فتح بابا آخر ، فاستخرج صورة ، وإذا شابّ أبيض ، شديد سواد اللّحية ، كثير الشّعر ، حسن العينين ، حسن الوجه ، فقال : هذا عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) هو إقبال السّواد على الأنف ، وقيل هو ميل كالحول.

(٢) أي دقيقهما. وفي «المنتقى» لابن الملّا (خمش) وهو تصحيف.

(٣) كذا ، وله وجه.

٥٣١

فقلنا : من أين لك هذه الصّور؟ لأنّا نعلم أنّها على ما صوّرت ، لأنّا رأينا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصورته مثله ، فقال : إنّ آدم سأل ربّه تعالى أن يريه الأنبياء من ولده ، فأنزل عليه صورهم ، وكانت في خزانة آدم عند مغرب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس ، فدفعها إلى دانيال ، يعني فصوّرها دانيال في خرق من حرير ، فهذه بأعيانها التي صوّرها دانيال (١) ، ثم قال : أما والله لوددت أنّ نفسي طابت بالخروج من ملكي ، وأنّي كنت عبدا لشرّكم ملكة حتى أموت ، ثم أجازنا بأحسن جائزة وسرّحنا.

فلما قدمنا على أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، حدّثناه بما رأيناه ، وما قال لنا ، فبكى أبو بكر وقال : مسكين ، لو أراد الله به خيرا لفعل ، ثمّ قال : أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم واليهود يجدون نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم (٢).

روى هذه القصّة أبو عبد الله بن مندة ، عن إسماعيل بن يعقوب. ورواها أبو عبد الله الحاكم ، عن عبد الله بن إسحاق الخراساني ، كلاهما عن البلديّ ، عن عبد العزيز ، ففي رواية الحاكم كما ذكرت من السّند. وعند ابن مندة قال : ثنا عبيد الله عن شرحبيل ، وهو سند غريب.

وهذه القصّة قد رواها الزّبير بن بكّار ، عن عمّه مصعب بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبيه مصعب ، عن عبادة بن الصّامت : بعثني أبو بكر الصّدّيق في نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل ملك الروم لندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا نسير على رواحلنا حتّى قدمنا دمشق ، فذكره بمعناه.

__________________

(١) زاد هنا في «المنتقى» لابن الملا : (ولم يزل يتوارثها ملك بعد ملك إلى أن وصلت إليّ.

فدعوناه إلى الإسلام فقال : أما والله ...).

(٢) السيرة الشاميّة المعروفة بسبل الهدى والرشاد للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت ٩٤٢ ه‍.) ـ ج ١ / ١٥٧ وما بعدها.

٥٣٢

وقد رواه بطوله : عليّ بن حرب الطّائيّ فقال : ثنا دلهم بن يزيد ، ثنا القاسم بن سويد ، ثنا محمد بن أبي بكر الأنصاريّ ، عن أيّوب بن موسى قال : كان عبادة بن الصّامت يحدّث ، فذكر نحوه.

أنبأنا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر وجماعة ، عن عبد الوهاب بن عليّ الصّوفي ، أنبأ فاطمة بنت أبي حكيم الخبري (١) ، أنا عليّ بن الحسن بن الفضل الكاتب قال : ثنا أحمد بن محمد بن خالد الكاتب من لفظه سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ، أنا عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن المغيرة الجوهري ، ثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقيّ ، ثنا الزّبير بن بكّار ، حدّثني عمّي مصعب بن عبد الله ، عن جدّي عبد الله بن مصعب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبادة بن الصّامت قال : بعثني أبو بكر في نفر من الصّحابة إلى ملك الروم لأدعوه إلى الإسلام ، فخرجنا نسير على رواحلنا حتّى قدمنا دمشق ، فإذا على الشام لهرقل جبلة ، فاستأذنا عليه ، فأذن لنا ، فلما نظر إلينا كره مكاننا وأمر بنا فأجلسنا ناحية ، وإذا هو جالس على فرش له مع السّقف ، وأرسل إلينا رسولا يكلّمنا ويبلّغه عنّا ، فقلنا : والله لا نكلّمه برسول أبدا (٢) ، فانطلق فأعلمه ذلك ، فنزل عن تلك الفرش إلى فرش دونها ، فأذن لنا فدنونا منه ، فدعوناه إلى الله وإلى الإسلام ، فلم يجب إلى خير ، وإذا عليه ثياب سود ، فقلنا : ما هذه المسوح؟ قال : لبستها نذرا لا أنزعها حتّى أخرجكم من بلادي ، قال : قلنا له : تيدك (٣) لا تعجل ، أتمنع منّا مجلسك هذا! فو الله لنأخذنّه وملك الملك الأعظم ، خبّرنا بذلك

__________________

(١) في نسخة دار الكتب (الخيريّ) وهو تصحيف. وهي نسبة إلى (خبر) ، قريبة بنواحي شيراز من فارس.

انظر : الإكمال لابن ماكولا ٣ / ٥٠ ـ ٥١ ، واللباب لابن الأثير ١ / ٤١٨.

(٢) في «دلائل النّبوّة» للبيهقي زيادة : (إنّما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلّمناه).

(٣) أي (اتّئد) والتّيد : الرّفق ، كما في تاج العروس (ت ي د) ٧ / ٤٥٩.

٥٣٣

نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أنتم إذا السّمراء ، قلنا : وما السّمراء؟ قال : لستم بهم ، قلنا : ومن هم؟ قال : قوم يقومون اللّيل ويصومون النّهار ، قلنا : فنحن والله نصوم النّهار ونقوم اللّيل ، قال : فكيف صلاتكم؟ فوصفناها له ، قال : فكيف صومكم؟ فأخبرناه به.

وسألنا عن أشياء فأخبرناه ، فيعلم الله لعلا وجهه سواد حتّى كأنّه مسح أسود ، فانتهرنا وقال لنا : قوموا ، فخرجنا وبعث معنا أدلّاء إلى ملك الروم ، فسرنا ، فلمّا دنونا من القسطنطينية قالت الرّسل الذين معنا : إنّ دوابّكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فأقيموا حتى نأتيكم ببغال وبراذين ، قلنا : والله لا ندخل إلّا على دوابّنا ، فأرسلوا إليه يعلمونه ، فأرسل : أن خلّوا عنهم ، فتقلّدنا سيوفنا وركبنا رواحلنا ، فاستشرف أهل القسطنطينية لنا وتعجّبوا ، فلمّا دنونا إذا الملك في غرفة له ، ومعه بطارقة الروم ، فلمّا انتهينا إلى أصل الغرفة أنخنا ونزلنا ، وقلنا : (لا إله إلّا الله والله أكبر) فيعلم الله تنقّضت الغرفة حتّى كأنّها عذق نخلة تصفّقها الرّياح ، فإذا رسول يسعى إلينا يقول : ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي ، فصعدنا فإذا رجل شابّ قد وخطه الشّيب ، وإذا هو فصيح بالعربية ، وعليه ثياب حمر ، وكلّ شيء في البيت أحمر ، فدخلنا ولم نسلّم ، فتبسّم وقال : ما منعكم أن تحيّوني بتحيّتكم؟ قلنا : إنّها لا تحلّ لكم ، قال : فكيف هي؟ قلنا : «السلام عليكم» ، قال : فما تحيّون به ملككم؟ قلنا : بها ، قال : فما كنتم تحيّون به نبيّكم؟ قلنا : بها ، قال : فما ذا كان يحيّيكم به؟ قلنا : كذلك ، قال : فهل كان نبيّكم يرث منكم شيئا؟ قلنا : لا ، يموت الرجل فيدع وارثا أو قريبا فيرثه القريب ، وأمّا نبيّنا فلم يكن يرث منّا شيئا ، قال : فكذلك ملككم؟ قلنا : نعم.

قال فما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا : لا إله إلّا الله (١) ، فانتفض وفتح

__________________

(١) في «السيرة الشامية» ١ / ١٥٨ زيادة : (فلمّا تكلّمنا بها تنقّضت الغرفة) ، وفيها اختلاف عما هنا في الرواية.

٥٣٤

عينيه ، فنظر إليها وقال : هذه الكلمة التي قلتموها فنقّضت لها الغرفة؟ قلنا : نعم ، قال : وكذلك إذا قلتموها في بلادكم نقّضت لها سقوفكم؟ قلنا : لا ، وما رأيناها صنعت هذا قطّ ، وما هو إلّا شيء وعظت به ، قال : فالتفت إلى جلسائه فقال : ما أحسن الصّدق ، ثمّ أقبل علينا فقال : والله لوددت أنّي خرجت من نصف ملكي وأنّكم لا تقولونها على شيء إلّا نقض لها ، قلنا : ولم ذاك؟ قال : ذلك أيسر لشأنها وأحرى أن لا تكون من النّبوّة (١) وأن تكون من حيلة النّاس.

ثم قال لنا : فما كلامكم الّذي تقولونه حين تفتتحون المدائن؟ قلنا : (لا إله إلّا الله والله أكبر) ، قال : تقولون (لا إله إلّا الله) ليس معه شريك؟ قلنا : نعم ، قال : وتقولون (الله أكبر) أي ليس شيء أعظم منه ، ليس في العرض والطّول؟ قلنا : نعم ، وسألنا عن أشياء ، فأخبرناه ، فأمر لنا بنزل كثير ومنزل ، فقمنا ، ثم أرسل إلينا بعد ثلاث في جوف اللّيل فأتيناه ، وهو جالس وحده ليس معه أحد ، فأمرنا فجلسنا ، فاستعادنا كلامنا ، فأعدناه عليه ، فدعا بشيء كهيئة الرّبعة العظيمة مذهّبة ، ففتحها فإذا فيها بيوت مقفلة ، ففتح بيتا منها ، ثمّ استخرج خرقة حرير سوداء.

فذكر الحديث نحو ما تقدّم. وفيه : فاستخرج صورة بيضاء ، وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّما ننظر إليه حيّا ، فقال : أتدرون من هذا؟ قلنا : هذه صورة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الله بدينكم إنّه لهو هو؟ قلنا : نعم ، الله بديننا إنّه لهو هو ، فوثب قائما ، فلبث مليّا قائما ، ثمّ جلس مطرقا طويلا ، ثمّ أقبل علينا فقال : أما إنّه في آخر البيوت ، ولكنّي عجّلته لأخبركم وانظر ما عندكم ، ثمّ فتح بيتا ، فاستخرج خرقة من حرير سوداء فنشرها ، فإذا فيها

__________________

(١) في «دلائل النّبوّة» للبيهقي : (من أمر النّبوّة).

٥٣٥

صورة سوداء شديدة السّواد ، وإذا رجل جعد قطط ، كثّ اللّحية ، غائر العينين ، مقلّص الشّفتين ، مختلف الأسنان ، حديد النّظر كالغضبان ، فقال : أتدرون من هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذه صورة موسى عليه‌السلام.

وذكر الصّور ، إلى أن قال : قلنا : أخبرنا عن هذه الصّور ، قال : إنّ آدم سأل ربّه أن يريه أنبياء ولده ، فأنزل الله صورهم ، فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم من مغرب الشمس ، فصوّرها دانيال في خرق الحرير ، فلم يزل يتوارثها ملك بعد ملك ، حتّى وصلت إليّ ، فهذه هي بعينها.

فدعوناه إلى الإسلام فقال : أما والله لوددت أنّ نفسي سخت بالخروج من ملكي واتّباعكم ، وأنّي مملوك لأسوأ رجل منكم خلقا وأشدّه ملكة ، ولكنّ نفسي لا تسخو بذلك. فوصلنا وأجازنا ، وانصرفنا.

باب في خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وتحديثه أمّته بها امتثالا لأمر الله لقوله تعالى :

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١)

قرأت على أبي الحسن عليّ بن أحمد الهاشميّ بالإسكندرية ، أخبركم محمد بن أحمد بن عمر ببغداد ، أنا أحمد بن محمد الهاشميّ سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، أنا الحسن بن عبد الرحمن الشافعيّ ، أنا أحمد بن إبراهيم العبقسيّ ، ثنا محمد بن إبراهيم الدّيبلي (٢) سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ، ثنا محمد بن أبي الأزهر ، ثنا إسماعيل بن جعفر ، أنا عبد الله بن

__________________

(١) سورة الضحى ـ الآية ١١.

(٢) وردت مصحفة في نسخة دار الكتب ، انظر النسبة في : اللباب لابن الأثير ١ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣ ، والإكمال لابن ماكولا ٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٥٣٦

دينار ، عن أبي صالح السّمّان ، عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثلي ومثل الأنبياء قبلي ، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله ، إلّا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل من مرّ من النّاس ينظرون إليه ويتعجّبون منه ويقولون : هلّا وضعت (١) هذه اللّبنة؟ قال : فأما اللّبنة ، وأنا خاتم النبيّين». خ. (٢).

عن قتيبة ، عن إسماعيل ، قال الزّهري ، عن ابن المسيّب ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرّعب ، وأعطيت جوامع الكلم ، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض ، فوضعت بين يديّ». أخرجه مسلم والبخاري (٣).

وقال العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّلت على الأنبياء بستّ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرّعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت

__________________

(١) في الأصل (وضع) وفي «الصحيح» (وضعت).

(٢) رواه البخاري في المناقب ٤ / ١٦٢ و ١٦٣ باب خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومسلم (٢٢٨٦) في الفضائل ، باب ذكر كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيّين ، والترمذي في الأمثال (٣٠٢٢) باب ما جاء مثل النبيّ والأنبياء صلّى الله عليه وعليهم أجمعين ، وأحمد في المسند ٥ / ٧ و ١٣ و ٣ / ٩.

(٣) رواه البخاري في الجهاد والسير ٤ / ١٢ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نصرت بالرعب مسيرة شهر .. وأخرجه في التيمّم ١ / ٨٦ أول الباب ، وفي الصلاة ١ / ١١٣ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وفي التعبير ٨ / ٧٢ باب رؤيا الليل ، وفي الاعتصام ٨ / ١٣٨ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت بجوامع الكلم ، وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (٥٢١) و (٥٢٣) ، ورواه الترمذي في السير (١٥٩٤) باب ما جاء في الغنيمة ، والنسائي في الغسل ١ / ٢٠٩ ـ ٢١١ باب التيمّم بالصعيد ، وفي الجهاد ٦ / ٣ ـ ٤ باب وجوب الجهاد ، والدارميّ في السير باب رقم (٢٩) ، وأحمد في المسند ١ / ٩٨ و ٣٠١ و ٢ / ٢٢٢ و ٢٦٤ و ٢٦٨ و ٣١٤ و ٣٩٦ و ٤١٢ و ٤٥٥ و ٥٠١ و ٣ / ٣٠٤ و ٤ / ٤١٦ و ٥ / ١٤٥ و ١٤٨ و ١٦٢ و ٢٤٨ و ٢٥٦.

٥٣٧

إلى الخلق كافّة ، وختم بي النّبيّون». أخرجه مسلم (١).

وقال مالك بن مغول ، عن الزّبير بن عديّ ، عن مرّة الهمدانيّ ، عن عبد الله قال : لمّا أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتهى به إلى سدرة المنتهى أعطي ثلاثا : أعطي الصّلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن كان من أمّته لا يشرك بالله المقحمات. تقحم : أي تلقي في النّار. والحديث صحيح (٢).

وقال أبو عوانة : ثنا أبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضّلت على النّاس بثلاث : جعلت الأرض كلّها لنا مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وأوتيت هؤلاء الآيات ، من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش». صحيح (٣).

وقال بشر بن بكر ، عن الأوزاعيّ : حدّثني أبو عمّار ، عن عبد الله بن فرّوخ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع».

اسم أبيّ عمّار : شدّاد. أخرجه مسلم (٤).

وقال أبو حيّان التّيمي ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : أتي

__________________

(١) في صحيحه ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٣) أول الباب.

(٢) رواه مسلم في الإيمان (١٧٣) باب في ذكر سدرة المنتهى ، والترمذي في تفسير سورة النجم (٣٣٣٠) ، والنسائي في الصلاة ١ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ باب فرض الصلاة ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٧ و ٤٢٢.

(٣) رواه أحمد في المسند ٥ / ١٥١ و ١٨٠ و ٣٨٣.

(٤) في كتاب الفضائل (٢٢٧٨) باب تفضيل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع الخلائق ،

٥٣٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فرفع إليه الذّراع ، وكانت تعجبه ، فنهس منها ، فقال : «أنا سيّد النّاس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الدّانيّ وينفذهم البصر» ـ فذكر حديث الشفاعة بطوله. متّفق عليه (١).

وقال ليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس : سمعت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ، ولا فخر ، وأعطيت لواء الحمد ، ولا فخر ، وأنا سيّد النّاس يوم القيامة ، ولا فخر» ـ وساق الحديث بطوله في الشفاعة (٢).

وفي الباب حديث ابن عبّاس.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وفي القرآن آيات متعدّدة في شرف المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أبي الجوزاء ، عن ابن عبّاس قال : ما خلق الله خلقا أحبّ إليه

__________________

ورواه أبو داود في السّنّة (٤٦٧٣) باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ورواه الترمذي في المناقب (٣٦٩٠) باب (٢١) ، وابن ماجة في الزهد (٤٣٠٨) باب ذكر الشفاعة ، والدارميّ في المقدّمة ، باب رقم (٨) ، وأحمد في المسند ٢ / ٥٤٠ و ٣ / ٢ وانظر : المشكاة (٥٧٤١) وتحفة الأشراف للمزي ١٣٥٨٦ ، والأوائل ٢٩ رقم ١٣.

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة الإسراء ٥ / ٢٢٥ ، ومسلم في الإيمان (١٩٤) باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها (وفيه : «الداعي» بدل «الداني») ، والترمذي في صفة القيامة (٢٥٥١) باب ما جاء في الشفاعة ، وأحمد في المسند ١ / ٤ و ٢ / ٣٦٨ و ٤٣٥ و ٣ / ١٦ و ٤ / ٤٠٧ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢ / ٣٦٩ ، وفي الأوائل ٢٧ رقم ٧ ، وابن الأثير في جامع الأصول ٨ / ٦٣٢ و ٩ / ٦٠٧.

(٢) رواه الترمذي في صفة القيامة (٢٥٥١) باب ما جاء في الشفاعة ، وقال : هذا حديث حسن ، وهو كما قال. وانظر جامع الأصول ٨ / ٥٢٦ ، والأوائل لابن أبي عاصم ، ومسلم (٢٢٧٨) ، وأبو داود (٤٦٧٣) ، والمشكاة للخطيب (٥٧٤١) ، والفتن والملاحم لابن كثير ٢ / ١٧٠ و ٢١٩ و ٢٨٠.

٥٣٩

من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلّا بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١).

وفي «الصحيح» (٢) من حديث قتادة ، عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا نائم أريت أنّي أسير في الجنّة ، فإذا أنا بنهر حافّتاه قباب اللّؤلؤ المجوّف ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الّذي أعطاك الله ، قال : فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر» (٣).

وقال الزّهريّ ، عن أنس ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حوضي كما بين صنعاء وأيلة ، وفيه من الأباريق عدد نجوم السماء (٤)».

وقال يزيد بن أبي حبيب : ثنا أبو الخير أنّه سمع عقبة بن عامر يقول : ما خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه صلّى على شهداء أحد ، ثمّ رقى المنبر وقال : «إنّي لكم فرط وأنا شهيد عليكم ، وأنا انظر إلى حوضي الآن ، وأنا في مقامي هذا ، وإنّي والله ما أخاف أن تشركوا بعدي ، ولكنّي أريت أنّي أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، فأخاف عليكم أن تنافسوا فيها (٥).

__________________

(١) سورة الحجر ـ الآية ٧٢.

وكتب هنا في حاشية الأصل : «بلغت قراءة خليل بن أيبك ، في الميعاد الحادي عشر على مؤلّفه ، فسح الله في مدّته».

(٢) صحيح البخاري في الرقائق ٧ / ٢٠٧ باب في الحوض وقول الله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، ومسند أحمد ٣ / ١٠٣ و ١١٥ و ١٥٢ و ١٩١ و ٢٠٧ و ٢٣٢ و ٢٦٣ و ٢٨٩.

(٣) أذفر : طيّب الريح ، والذفر : بالتحريك يقع على الطيّب والكريه ، ويفرّق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به. (النهاية لابن الأثير).

(٤) رواه الترمذي في صفة القيامة (٢٥٥٩) باب ما جاء في صفة الحوض ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٢٥ و ٢٣٠ و ٤ / ١٤٩ و ١٥٤ و ٥ / ١٤٩.

(٥) رواه البخاري في المناقب ٤ / ١٧٦ باب علامات النّبوّة ، وفي المغازي ٥ / ٤٠ باب غزوة الرجيع ، وفي الرقاق ٧ / ١٧٣ باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، و ٧ / ٢٠٧ باب في الحوض وقول الله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، والنسائي في الجنائز ٤ / ٦١ ـ ٦٢ باب

٥٤٠