تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال ابن إسحاق (١) : سبعون رجلا وامرأتان ، إحداهما أمّ عمارة وزوجها وابناهما.

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٢) : فحدّثني معبد بن كعب بن مالك بن القين ، عن أخيه عبيد الله ، عن أبيه كعب قال : خرجنا في الحجّة التي بايعنا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا ، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيّدنا ، حتى إذا كنّا بظاهر البيداء قال : يا هؤلاء تعلّموا إنّي قد رأيت رأيا ، والله ما أدري توافقونني عليه أم لا ، فقلنا : وما هو يا أبا بشر؟ قال : إنّي قد أردت أن أصلّي إلى هذه البنيّة (٣) ولا أجعلها منّي بظهر ، فقلنا : لا والله لا تفعل ، والله ما بلغنا أنّ نبيّنا يصلّي إلّا إلى الشام ، قال : فإنّي والله لمصلّ إليها ، فكان إذا حضرت الصّلاة توجّه إلى الكعبة ، وتوجّهنا إلى الشام ، حتى قدمنا مكة ، فقال لي البراء : يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتّى أسأله عمّا صنعت ، فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إيّاي ، قال : فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقينا رجل بالأبطح (٤) ، فقلنا : هل تدلّنا على محمد؟ قال : وهل تعرفانه إن رأيتماه؟ قلنا : لا والله ، قال : فهل تعرفان العبّاس؟ فقلنا : نعم ، وقد كنّا نعرفه ، كان يختلف إلينا بالتجارة ، فقال : إذا دخلتما المسجد فانظروا العبّاس (٥) ، قال : فهو الرجل الّذي معه ، قال : فدخلنا المسجد ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعبّاس ناحية المسجد جالسين ، فسلّمنا ، ثمّ جلسنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تعرف

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ١٨٧.

(٣) يعني الكعبة كما في سيرة ابن هشام ، وهذا أحد أسمائها. (انظر شفاء الغرام).

(٤) يضاف إلى مكة وإلى منى ، لأنّ المسافة بينه وبينهما واحدة ، وربما كان إلى منى أقرب ، وهو المحصب. (معجم البلدان).

(٥) هنا في (ع) والمنتقى لابن الملا تكرار كلمات.

٣٠١

هذين يا أبا الفضل؟ قال : نعم ، هذا البراء بن معرور سيّد قومه ، وهذا كعب بن مالك ، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الشاعر)؟ قال : نعم ، فقال له البراء : يا رسول الله إنّي قد كنت رأيت في سفري هذا رأيا ، وقد أحببت أن أسألك عنه ، قال : وما ذاك؟ قال : رأيت أن لا أجعل هذه البنيّة منّي بظهر فصلّيت إليها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد كنت على قبلة لو صبرت عليها ، فرجع إلى قبلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأهله يقولون : قد مات عليها ، ونحن أعلم به ، قد رجع إلى قبلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّى معنا إلى الشام (١).

ثم واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة ، أوسط أيّام التشريق ، ونحن سبعون رجلا للبيعة ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، وإنّه لعلى شركه ، فأخذناه فقلنا : يا أبا جابر والله إنّا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه. فتكون لهذه النّار غدا حطبا ، وإنّ الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته. وقد أسلم رجال من قومك ، وقد واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للبيعة ، فأسلم وطهّر ثيابه ، وحضرها معنا فكان نقيبا ، فلمّا كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى أوّل اللّيل مع قومنا ، فلمّا استثقل النّاس من النّوم تسلّلنا من فرشنا تسلّل القطا ، حتى اجتمعنا بالعقبة ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمّه العبّاس ، وليس معه غيره ، أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ، فكان أوّل متكلّم ، فقال : يا معشر الخزرج إنّ محمدا منّا حيث قد علمتم ، وهو في منعة من قومه وبلاده ، قد منعناه ممّن هو على مثل رأينا منه ، وقد أبى إلّا الانقطاع إليكم ، وإلى ما دعوتموه إليه ، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما وعدتموه ، فأنتم وما تحمّلتم ، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه ، فإنّه في منعة من عشيرته وقومه ، فقلنا : قد سمعنا ما قلت ، تكلّم

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١٨٨.

٣٠٢

يا رسول الله ، فتكلّم ودعا إلى الله ، وتلا القرآن ورغب في الإسلام ، فأجبناه بالإيمان والتصديق له ، وقلنا له : خذ لربّك ولنفسك ، فقال : إنّي أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم ، فأجابه البراء بن معرور فقال : نعم والّذي بعثك بالحقّ نمنعك (١) مما نمنع منه أزرنا (٢) ، فبايعنا يا رسول (٣) الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة (٤) ، ورثناها كابرا عن كابر ، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التّيهان فقال : يا رسول الله إنّ بيننا وبين أقوام حبالا (٥) ، وإنّا قاطعوها ، فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال : بل الدّم الدّم والهدم والهدم (٦) ، أنا منكم وأنتم منّي ، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم ، فقال له البراء بن معرور : أبسط يدك يا رسول الله نبايعك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ، فأخرجوهم له ، فكان نقيب بني النّجّار. أسعد بن زرارة ، ونقيب بني سلمة (٧) البراء بن معرور ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، ونقيب بني ساعدة : سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، ونقيب بني زريق : رافع بن مالك ، ونقيب بني الحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة ، وسعد بن الربيع ، ونقيب بني عوف بن الخزرج : عبادة بن الصّامت ـ وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصّامت خارجة بن زيد ـ ونقيب بني عمرو بن عوف : سعد بن خيثمة ، ونقيب بني

__________________

(١) (نمنعك) ساقطة من الأصل وغيره.

(٢) العرب تكنى عن المرأة بالإزار ، وتكنى به أيضا عن النفس ، وتجعل الثوب عبارة عن لابسه ، على ما في (عيون الأثر).

(٣) في الأصل (يرسول الله) بدون ألف بعد الياء.

(٤) أي السلاح.

(٥) أي مواثيق.

(٦) قال ابن هشام : ويقال : الهدم الهدم : أي ذمّتي ذمّتكم وحرمتي حرمتكم. (٢ / ١٨٩).

(٧) بكسر اللام كما في (عجالة المبتدي للحازميّ).

٣٠٣

عبد الأشهل ـ وهم من الأوس ـ أسيد بن حضير ، وأبو الهيثم بن التّيهان (١) ، قال : فأخذ البراء بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضرب عليها ، وكان أول من بايع ، وتتابع النّاس فبايعوا ، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ (٢) صوت سمعته قطّ ، فقال : يا أهل الجباجب (٣) هل لكم في مذمّم والصّبأة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أزب (٤) العقبة ، هذا ابن أزيب ، أما والله لأفرغنّ لك ، ارفضّوا إلى رحالكم». فقال العبّاس بن عبادة أخو بني سالم : يا رسول الله : والّذي بعثك بالحقّ لئن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا ، فقال : «إنّا لم نؤمر بذلك» فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا ، فلمّا أصبحنا ، أقبلت جلّة من قريش فيهم الحارث بن هشام ، فتى شابّ وعليه نعلان له جديدتان ، فقالوا : يا معشر الخزرج إنّه قد بلغنا أنّكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا ، وإنّه والله ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم ، فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا من شيء ، وما فعلنا ، فلمّا تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأنّي أشركهم في الكلام : يا أبا جابر ـ يريد عبد الله ابن عمرو ـ أنت سيّد من سادتنا وكهل من كهولنا ، لا تستطيع أن تتّخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش ، فسمعه الحارث ، فرمى بهما إليّ وقال : والله لتلبسنّهما ، فقال أبو جابر : مهلا أحفظت لعمر الله الرجل ـ يقول : أخجلته (٥) ـ أردد عليه نعليه ، فقلت : لا والله لا أردّهما ، فأل صالح إنّي لأرجو أن أسلبه (٦).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ١٨٩ ـ ١٩١.

(٢) في حاشية الأصل : (في خ بأبعد).

(٣) يعني منازل منى ، (عيون الأثر ١ / ١٧٢).

(٤) شيطان.

(٥) لعلّ الصواب : (أغضبته) ، على ما في المراجع اللغوية.

(٦) في دلائل النبوّة للبيهقي : (أستلبه) ، وفي سيرة ابن هشام ٢ / ١٩٢ «لأسلبنّه». وكذا في تاريخ الطبري ٢ / ٣٦٣ ـ ٣٦٥.

٣٠٤

قال ابن إسحاق : وحدّثني عبد الله بن أبي بكر قال : ثم انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبيّ يعني ابن سلول فسألوه (١) ، فقال : إنّ هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوّتوا عليّ بمثله ، فانصرفوا عنه (٢).

وقال ابن إدريس ، عن ابن إسحاق : حدّثني عبد الله بن أبي بكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم ، ككفالة الحواريّين لعيسى ابن مريم ، فقال أسعد بن زرارة : نعم يا رسول الله ، قال : فأنت نقيب على قومك ، ثم سمّى النّقباء كرواية معبد بن مالك.

وقال ابن وهب : حدّثني مالك ، حدّثني شيخ من الأنصار أنّ جبريل عليه‌السلام كان يشير للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من يجعله نقيبا ، قال مالك : كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجل ، ومن قبيلة رجلان ، حتّى حدّثني هذا الشيخ أنّ جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة ، قال مالك : وهم تسعة نقباء من الخزرج ، وثلاثة من الأوس.

وقال : ابن إسحاق (٣) :

تسمية من شهد العقبة

قلت : تركت النّقباء لأنّهم قد تقدّموا.

فمن الأوس : سلمة بن سلامة بن وقش.

ومن بني حارثة : ظهير بن رافع ، وأبو بردة بن نيار ، وبهير (٤) بن الهيثم.

__________________

(١) في السيرة : «فقالوا له مثل ما قال كعب من القول».

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ١٩٢.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٠٦.

(٤) بالباء الموحدة كما في الأصل وبعض المراجع ، وورد بالنون عند بعضهم. انظر (عيون الأثر ١ / ١٦٧ والسيرة لابن هشام ٢ / ٢٠٦).

٣٠٥

ومن بني عمرو بن عوف : رفاعة بن عبد المنذر ـ وعدّه ابن إسحاق نقيبا عوض أبي الهيثم بن التّيهان ـ وعبد الله بن جبير بن النّعمان أمير الرّماة يوم أحد ويومئذ استشهد ، ومعن بن عديّ قتل يوم اليمامة ، وعويم بن ساعدة.

فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا (١).

ومن الخزرج من بني النّجّار : أبو أيّوب خالد بن زيد ، ومعاذ بن عفراء وأخوه عوف ، وعمارة بن حزم ، وقتل يوم اليمامة.

ومن بني عمرو بن مبذول : سهل بن عتيك ، بدريّ.

ومن بني عمرو بن النّجّار ، وهم بنو حديلة : أوس بن ثابت ، وأبو طلحة زيد بن سهل.

ومن بني مازن بن النّجّار : قيس بن أبي صعصعة ، وعمرو بن غزيّة.

ومن بلحارث بن الخزرج : خارجة بن زيد ، استشهد يوم أحد ، وبشير بن سعد ، وعبد الله بن زيد صاحب النّداء (٢) ، وخلاد بن سويد ، استشهد يوم قريظة ، وأبو مسعود عقبة بن عمرو (٣).

ومن بني بياضة : زياد بن لبيد ، وفروة بن عمرو ، وخالد بن قيس.

ومن بني زريق : ذكوان بن عبد قيس ، وكان خرج إلى مكة ، فكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان يقال له : مهاجريّ أنصاريّ ، واستشهد يوم أحد ، وعبّاد (٤) بن قيس ، والحارث بن قيس.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٠٧.

(٢) هو الّذي أري النداء للصّلاة ، فجاءوا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر به. (كما في السيرة لابن هشام ٢ / ٢٠٨ وغيرها).

(٣) هو أحدث من شهد العقبة سنّا.

(٤) في الأصل (عبادة).

٣٠٦

ومن بني سلمة : بشر بن البراء بن معرور ابن أحد النّقباء ، وسنان بن صيفي ، والطّفيل بن النّعمان ، واستشهد يوم الخندق ، ومعقل بن المنذر ، ومسعود بن يزيد ، والضّحّاك بن حارثة ، ويزيد بن حرام ، وجبّار (١) بن صخر ، والطّفيل بن مالك.

ومن بني غنم بن سواد : سليم بن عمرو ، وقطبة بن عامر ، ويزيد بن عامر ، وأبو البسر كعب بن عمرو ، وصيفي بن سواد.

ومن بني نابي بن عمرو : ثعلبة بن غنمة ، وقتل بالخندق ، وأخوه عمرو ، وعبس بن عامر ، وعبد الله بن أنيس ، وخالد (٢) بن عديّ.

ومن بني حرام : جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ، وثابت بن الجذع (٣) ، استشهد بالطّائف ، وعمير بن الحارث ، وخديج بن سلامة ، ومعاذ بن جبل.

ومن بني عوف بن الخزرج : العبّاس بن عبادة ، استشهد يوم أحد ، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلويّ حليف لهم ، وعمرو بن الحارث.

ومن بني سالم بن غنم بن عوف : رفاعة بن عمرو ، وعقبة بن وهب.

ومن بني ساعدة : النّقيبان سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو الّذي كان أميرا يوم بئر معونة فاستشهد (٤).

وأمّا المرأتان فأمّ منيع أسماء بنت عمرو بن عديّ ، وأمّ عمارة نسيبة (٥) بنت كعب ، حضرت ومعها زوجها زيد بن عاصم بن كعب ، وابناها حبيب

__________________

(١) في ضبط اسمه خلاف.

(٢) هو خالد بن عمرو بن عديّ. كما في (السيرة لابن هشام ٢ / ٢٠٩).

(٣) تقرأ في مصوّر الأصل : (المجدع). والجذع : هو ثعلبة بن زيد بن الحارث بن حرام.

(٤) في المنتقى لابن الملا : (وبه استشهد).

(٥) ضبطها بالفتح صاحب القاموس والزّبيدي شارحه ، وابن ماكولا.

٣٠٧

وعبد الله ، وحبيب هو الّذي مثّل به مسيلمة الكذّاب وقطّعه عضوا عضوا (١).

قال ابن إسحاق : فلمّا تفرّق النّاس عن البيعة ، فتّشت قريش من الغد عن الخبر والبيعة ، فوجدوه حقّا ، فانطلقوا في طلب القوم ، فأدركوا سعد بن عبادة ، وهرب منذر بن عمرو ، فشدّوا يدي سعد إلى عنقه بتسعة (٢) ، وكان ذا شعر كثير ، فطفقوا يجبذونه بجمّته ويصكّونه ويلكزونه ، إلى أن جاء مطعم بن عديّ ، والحارث بن أميّة ، وكان سعد يجيرهما إذا قدما المدينة ، فأطلقاه من أيديهم وخلّيا سبيله.

قال : وكان معاذ بن عمرو بن الجموح قد شهد العقبة ، وكان أبوه من سادة بني سلمة ، وقد اتّخذ في داره صنما من خشب يقال له مناف (٣) فلما أسلم فتيان بني سلمة : معاذ بن جبل ، وابنه معاذ بن عمرو وغيرهما ، كانوا يدخلون بالليل على صنمه (٤) فيأخذونه ويطرحونه في بعض الحفر (٥) ، وفيها عذر النّاس ، منكّسا على رأسه ، فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على آلهتنا في هذه الليلة! ثم يلتمسه حتى إذا وجده غسّله وطهّره وطيّبه ، ثم قال : أما والله لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى ونام فعلوا به مثل ذلك ، وفعل مرّات ، وفي الآخر علّق عليه سيفه ، ثم قال : إنّي والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى ، فإن كان فيك خير فامتنع ، وهذا السيف معك ، فلمّا كان الليل (٦) أخذوا السيف من عنقه ، ثم أخذوا كلبا ميتا فعلّقوه وربطوه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢١٠.

(٢) النسعة بالكسر : سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره.

(٣) كذا في الأصل والمنتقى لابن الملّا ودلائل النبوّة للبيهقي ، وفي (ع) ونسخة دار الكتب والسيرة النبويّة لابن هشام والروض الأنف (مناة).

(٤) في سيرة ابن هشام «صنم عمرو ذلك».

(٥) في السيرة «في بعض حفر بني سلمة».

(٦) في السيرة «فلما أمسى ونام عمرو غدوا عليه».

٣٠٨

به وألقوه في (١) جبّ عذرة ، فغدا عمرو فلم يجده ، فخرج يتبعه حتّى وجده في البئر منكّسا مقرونا بالكلب ، فلمّا رآه أبصر شأنه ، وكلّمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه ، وقال :

تا الله لو كنت إلها لم تكن

أنت وكلب وسط بئر في قرن (٢)

أفّ لمصرعك إلها مستدن (٣)

الآن فتشناك عن سوء الغبن

الحمد لله العليّ ذي المنن

الواهب الرّزّاق وديّان الدّين

هو الّذي أنقذني من قبل أن

أكون في ظلمة قبر مرتهن (٤)

__________________

(١) في السيرة «ألقوه في بئر من آبار سلمة فيها عذر من عذر الناس».

(٢) أي حبل.

(٣) في السيرة لابن هشام ووفاء ألوفا للسمهودي (لملقاك) بدل (لمصرعك) ، ومستدن : ذليل مستعبد ، وقد أورد ابن هشام هذه المقطوعة ، وبعض ألفاظها هناك مخالف لما هنا ، وفي آخرها شطرة زائدة على ما هنا.

وفي حاشية الأصل هنا : بلغت قراءة خليل بن أيبك ـ السادس ـ على مؤلّفه ، فسح الله في مدّته ، ومحصّن بن عكّاشة يسمع.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٠٥ ، دلائل النبوّة لأبي نعيم ٢ / ١١١.

٣٠٩
٣١٠

ذكر أوّل من هاجر الى المدينة

عقيل وغيره ، عن الزّهريّ ، عن عروة ، عن عائشة ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين بمكة : قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين. وهما الحرّتان ، فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك ، ورجع إلى المدينة بعض (١) من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين ، وتجهّز أبو بكر مهاجرا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على رسلك فإنّي أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر : وترجو ذلك بأبي أنت وأمّي؟ قال : نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين عنده ورق السّمر (٢) أربعة أشهر. أخرجه البخاريّ (٣).

وقال البكّائيّ ، عن ابن إسحاق قال : فلمّا أذن الله لنبيّه في الحرب وبايعه هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام والنّصرة ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللّحوق بالأنصار ، فخرجوا أرسالا ،

__________________

(١) في الجامع الصحيح : «ورجع عامة من كان هاجر».

(٢) بضم الميم.

(٣) صحيح البخاري ٧ / ٣٩ في اللباس ، باب التقنّع ، وأحمد ٦ / ١٩٨ ، وابن سعد في الطبقات ١ / ٢٢٦.

٣١١

فكان أوّل من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة ، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة ، وقد كان قدم من الحبشة مكة ، فآذته قريش ، وبلغه أنّ جماعة من الأنصار قد أسلموا ، فهاجر إلى المدينة.

فعن أمّ سلمة قالت : لمّا أجمع أبو سلمة الخروج رحّل لي بعيره ، ثمّ حملني وابني عليه ، ثمّ خرج بي يقودني. فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه ، فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، هذه (١) ، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده ، فأخذوني منه ، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة ، فقالوا : والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسني بنو المغيرة عندهم ، فانطلق زوجي (٢) إذ فرّقوا بيننا ، فكنت أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح ، فلا أزال أبكي حتى أمسى ، سنة أو قريبا منها. حتى مرّ بي رجل من بني عمّي فرحمني ، فقال : ألا تخرجون من هذه المسكينة ، فرّقتم بينها وبين ولدها؟ فقالوا لي : الحقي بزوجك ، قالت : وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني. فارتحلت بعيري ، ثمّ وضعت سلمة في حجري ، وخرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله. قلت : أتبلّغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي ، حتّى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدريّ ، فقال : إلى أين يا بنت أبي أميّة؟ قلت : أريد زوجي بالمدينة. قال : أو ما معك أحد؟ قالت : قلت : لا والله إلّا الله وبنيّ هذا ، قال : والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معي يهوي بي ، فو الله ما صحبت رجلا من العرب ، أرى أنّه أكرم منه ، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي ، ثمّ استأخر عنّي حتى إذا نزلت استأخر ببعيري ، فحطّ عنه ، ثمّ قيّده في

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٢ / ٢١١ (أرأيت صاحبتك هذه؟).

(٢) في السيرة «أبو سلمة إلى المدينة ، قال : ففرّق بيني وبين زوجي وبين ابني».

٣١٢

الشجر ، ثم تنحّى إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحّله ، ثمّ استأخر عنّي وقال : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتي فأخذ بخطامه ، فقادني حتى ينزل بي ، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة ، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال : زوجك في هذه القرية ، ثم انصرف راجعا.

ثم كان أوّل من قدمها بعد أبي سلمة : عامر بن ربيعة حليف بني عديّ ابن كعب مع امرأته ، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أميّة ، مع امرأته وأخيه أبي أحمد ، وكان أبو أحمد ضرير البصر ، وكان يمشي بمكة بغير قائد ، وكان شاعرا ، وكانت عنده الفارعة (١) بنت أبي سفيان بن حرب ، وكانت أمّه أميمة بنت عبد المطّلب ، فنزل هؤلاء بقباء على مبشّر بن عبد المنذر (٢).

وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : فلمّا اشتدّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أمر رسول الله أصحابه بالهجرة ، فخرجوا رسلا رسلا (٣) ، فخرج منهم قبل مخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو سلمة وامرأته ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته أمّ عبد الله بنت أبي حثمة (٤) ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن مظعون ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الشّريد ، وعمّار بن ياسر ، ثم خرج عمر وعيّاش بن أبي ربيعة وجماعة ، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عيّاشا ، وهو أخوهم لأمّهم ، فقدموا

__________________

(١) في الأصل (الفرعة). ولعلّه على مصطلحهم في حذف الألف المتوسّطة من الأعلام.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٢١١ ـ ٢١٢ ، عيون الأثر ١ / ١٧٣.

(٣) في حاشية الأصل : (هو القطيع من الإبل والغنم ، وجمعه : إرسال) يريد أفواجا متقطّعة يتبع بعضهم بعضا على ما في (النهاية).

(٤) في نسخة دار الكتب ، والإصابة ـ في الكنى ـ (خيثمة) وهو تصحيف ، والصواب ما في الأصل وتاريخ الطبري ٢ / ٣٦٩ والبيهقي ٢ / ١٩٧.

٣١٣

المدينة فذكروا له حزن أمّه ، وأنّها حلفت لا يظلّها سقف ، وكان بها برّا ، فرقّ لها وصدقهم ، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة ، فلم يزل بها إلى قبل الفتح (١).

قلت : وهو الّذي كان يدعو له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القنوت : اللهمّ أنج سلمة بن هشام ، وعيّاش بن أبي ربيعة. الحديث (٢).

قال ابن شهاب : وخرج عبد الرحمن بن عوف ، فنزل على سعد بن الربيع ، وخرج عثمان ، والزّبير ، وطلحة بن عبيد الله ، وطائفة ، ومكث ناس من الصحابة بمكة ، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه ، منهم : سعد بن أبي وقّاص ، على اختلاف فيه.

وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدّثني نافع ، عن ابن عمر ، عن أبيه عمر بن الخطّاب قال : لمّا اجتمعنا للهجرة اتّعدت أنا وعيّاش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وقلنا : الميعاد بيننا التّناضب (٣) من أضاة بني غفار ، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس (٤) ، فأصبحت عندها أنا وعيّاش ، وحبس هشام وفتن ، وقدمنا المدينة فكنّا نقول : ما الله بقابل من هؤلاء توبة ، قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدّقوا رسوله ، ثمّ رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٥) ، فكتبتها بيدي كتابا ، ثمّ بعثت بها إلى هشام ، فقال هشام بن العاص : فلمّا قدمت عليّ خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٣٦٩ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ١٩٧ ، نهاية الأرب ١٦ / ٣٢٢.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد ٣ / ٢٣٤ باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة ، وانظر عيون الأثر ١ / ١٧٥.

(٣) بفتح التاء وكسر الضاد ، (معجم البلدان ، معجم ما استعجم).

(٤) في السيرة «فليمض صاحباه».

(٥) سورة الزمر ـ الآية ٥٣.

٣١٤

النّظر وأصوّبه لأفهمها ، فقلت ، اللهمّ فهّمنيها ، فعرفت إنّما أنزلت فينا لما كنّا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا ، فرجعت فجلست على بعيري ، فلحقت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، قال : فقتل هشام بأجنادين.

وقال عبد العزيز الدّراورديّ ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قدمنا من مكة فنزلنا العصبة (٢) عمر بن الخطّاب ، وأبو عبيدة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فكان يؤمّهم سالم ، لأنّه كان أكثرهم قرآنا (٣).

وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : أوّل من قدم علينا مصعب بن عمير ، فقلنا له : ما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : هو مكانه وأصحابه على أثري ، ثم أتى بعده عمرو بن أمّ مكتوم الأعمى أخو بني فهر ، ثم عمّار بن ياسر ، وسعد بن أبي وقّاص ، وابن مسعود ، وبلال ، ثم أتانا عمر بن الخطّاب في عشرين راكبا ، ثم أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر معه ، فلم يقدم علينا رسول الله حتى قرأت سورا من المفصّل ، أخرجه مسلّم (٤).

وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال : ومكث رسول

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢١٩.

(٢) هو موضع في المدينة عند قباء ، وضبطه بعضهم بفتح العين والصاد ، على ما في تاج العروس ٣ / ٣٧٥ وقيّده في الأصل بضم العين وسكون الصاد ، وفي الحاشية : وقيل (العصبة) وضبطها بفتح الأول وسكون الثاني. (معجم ما استعجم ٣ / ٩٤٦).

(٣) قال في مجمع الزوائد ٩ / ٣٠٠ عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع سالما مولى أبي حذيفة يقرأ من الليل ، فقال الحمد لله الّذي جعل في أمتي مثله. رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح.

(٤) لم أجده في صحيح مسلّم ، وقد أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ٤ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ باب مقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة ، ورواه في تفسير سورة سبّح اسم ربك الأعلى ، وفي فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ، وأحمد في المسند ١ / ٣ ، وابن أبي عاصم النبيل ٥٣ رقم ٩١ ، والمقريزي في إمتاع الأسماع ١ / ٣٤ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٦٣٤ ، وابن سعد في الطبقات ٤ / ٢٠٦ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ١ / ٣٦١.

٣١٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الحجّ بقيّة ذي الحجّة ، والمحرّم ، وصفر ، وإنّ مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يأخذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإمّا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه ، فأخبره الله بمكرهم في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) الآية ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر تحت الليل قبل الغار بثور ، وعمد عليّ فرقد على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يواري عنه العيون (٢).

وكذا قال موسى بن عقبة ، وزاد : فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيّهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه ، إلى أن أصبحوا ، فإذا هم بعليّ ، فسألوه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبرهم أنّه لا علم له به ، فعلموا عند ذلك أنّه قد خرج فارّا منهم ، فركبوا في كلّ وجه يطلبونه (٣).

وكذا قال ابن إسحاق (٤) : لمّا أيقنت قريش أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بويع ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة ، تآمروا فيما بينهم فقالوا : الآن ، فأجمعوا في أمر محمد فو الله لكأنّه قد كرّ عليكم بالرجال ، فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه.

فاجتمعوا له في دار النّدوة ليقتلوه. فلمّا دخلوا الدّار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بتّ (٥) له فقال : أأدخل؟ قالوا : من أنت؟ قال : أنا رجل من أهل نجد ، سمع بالذي اجتمعتم له ، فأراد أن يحضره معكم ، فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي ، قالوا : أجل فادخل ، فلمّا دخل قال بعضهم لبعض : قد كان من الأمر ما قد علمتم ، فأجمعوا رأيا

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ٣٠.

(٢) المغازي لعروة ١٢٩.

(٣) المغازي ١٢٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٢١.

(٥) البتّ : بفتح الباء. هو الكساء الغليظ المربع ، وقيل : الطيلسان من خزّ ونحوه ، وقيل كساء من الصّوف. (هامش عيون الأثر ١ / ١٧٧).

٣١٦

في هذا الرجل ، فقال قائل : أرى أن تحبسوه ، فقال النّجديّ : ما هذا برأي ، والله لئن فعلتم ليخرجنّ رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه ، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم ، ثمّ يغلبوكم على ما في أيديكم من أمركم ، فقال قائل منهم : بل نخرجه فننفيه ، فإذا غيّب عنّا وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع ، قال النّجديّ : ما هذا برأي ، أما رأيتم حلاوة منطقه ، وحسن حديثه ، وغلبته على من يلقاه ، ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت (١) معه على رأيه ، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم ، فقال أبو جهل : والله إنّ لي فيه رأيا ، ما أراكم وقعتم عليه ، قالوا : وما هو؟ قال : أرى أن تأخذوا من كلّ قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا ، ثم تعطوه شفارا صارمة ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلتموه تفرّق دمه في القبائل ، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ، ولم يقروا على حرب قومهم ، وإنّما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم ، قتل النّجديّ : لله درّ هذا الفتى ، هذا الرأي وإلّا فلا شيء ، فتفرّقوا على ذلك واجتمعوا له ، وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك اللّيلة ، فلم يبت موضعه ، بل بيّت عليّا في مضجعه. رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، عن أبيه (٢).

ثنا ابن إسحاق (٣) ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عبّاس.

(ح) (٤). قال ابن إسحاق : وحدّثني الكلبي عن باذام مولى أمّ

__________________

(١) أي اجتمعت.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٣٧١ ـ ٣٧٣ ، طبقات ابن سعد ١ / ٢٢٧ ، نهاية الأرب ١٦ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨ ، عيون الأثر ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٢١.

(٤) رمز بمعنى تحويلة للسند.

٣١٧

هانئ ، عن ابن عبّاس ، فذكر معنى الحديث ، وزاد فيه : وأذن الله عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه بالمدينة (الأنفال) يذكر نعمته عليه وبلاءه عنده (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) (١) الآية.

سياق خروج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى المدينة مهاجرا

قال عقيل : قال ابن شهاب ، وأخبرني عروة أنّ عائشة زوج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : لم أعقل أبويّ إلّا وهما يدينان الدّين ، ولم يمرّ علينا يوم إلّا ويأتينا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفي النّهار بكرة وعشيّا (٢) ، فلمّا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد (٣) ، لقيه ابن الدّغنّة وهو سيّد القارة (٤) ، قال : أين تريد يا أبا بكر؟ قال : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربّي ، قال : إنّ مثلك لا يخرج ولا يخرج ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرّحم ، وتحمل الكلّ ، وتقري الضّيف ، وتعين على نوائب الحقّ ، وأنا لك جار ، فارجع فاعبد ربّك ببلادك ، وارتحل ابن الدّغنّة مع أبي بكر ، فطاف في أشراف قريش ، فقال لهم : إنّ أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكلّ ، ويقري الضّيف ، ويعين على نوائب الحقّ! فأنفذت قريش جوار ابن الدّغنّة ، وقالوا له : مر أبا بكر يعبد ربّه في داره ، فليصلّ وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به ، فإنّا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٢٣.

وكتب هنا في حاشية الأصل : «بلغت قراءة في الميعاد الثالث عشر ، على مؤلّفه الحافظ أبي عبد الله الذهبي. كتبه عبد الرحمن البعلي».

(٢) في الصحيح «عشيّة».

(٣) في ضبطها خلاف (مشارق الأنوار للقاضي عياض).

(٤) (القارة) بتخفيف الراء ، قبيلة تحذق الرمي.

٣١٨

فقال ذلك لأبي بكر ، فلبث يعبد ربّه ولا يستعلن بالصّلاة ولا القراءة في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر ، فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز ، فيصلّي فيه ويقرأ القرآن ، فيتقصّف (١) عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، يعجبون وينظرون إليه ، وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ ، فأفزع ذلك أشراف قريش (٢) فأرسلوا إلى ابن الدّغنّة ، فقدم عليهم ، فقالوا له : إنّا كنّا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربّه في داره ، وإنّه جاوز ذلك ، وابتنى مسجدا بفناء داره ، وأعلن الصّلاة والقراءة ، وإنّا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ، فأته (٣) فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل ، وإن أبى إلّا أن يعلن ذلك فسله أن يردّ عليك جوارك ، فإنّا قد كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة : فأتى ابن الدّغنّة أبا بكر فقال : قد علمت الّذي عقدت لك عليه ، فإمّا أن تقتصر على ذلك ، وإمّا أن تردّ إليّ (٤) ذمّتي ، فإنّي لا أحبّ أن تسمع العرب أنّي أخفرت في رجل عقدت له ، قال أبو بكر : أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله.

والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ بمكة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين : قد أريت دار هجرتكم ، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين. هما الحرّتان (٥) ، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة.

__________________

(١) أي يزدحم ، وهنا في (ع) اضطراب في النّص. وفي الصحيح «ينقذف».

(٢) في الصحيح «قريش من المشركين».

(٣) في صحيح الإمام البخاري (فانهه) ، وفي الأصل (فأته) وكذلك في (دلائل النبوّة للبيهقي).

(٤) في المنتقى لابن الملا : (تردّ عليّ) وهو مخالف لما في الأصل وصحيح الإمام البخاري ، والبيهقي.

(٥) الحرّة : الأرض ذات الحجارة السّود.

٣١٩

وتجهّز أبو بكر مهاجرا (١) فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على رسلك ، فإنّي أرجو أن يؤذن لي ، قال : هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال : نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر (٢) أربعة أشهر.

فبينا (٣) نحن جلوس في بيتنا في نحر الظّهيرة ، قيل لأبي بكر : هذا رسول الله مقبلا متقنّعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمّي ، أما والله إن جاء به في هذه السّاعة إلّا أمر ، قالت : فجاء واستأذن ، فأذن له فدخل ، فقال لأبي بكر : أخرج من عندك ، قال أبو بكر : إنّما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، فقال : اخرج فقد أذن لي في الخروج ، قال : فخذ منّي إحدى راحلتيّ قال : بالثمن ، وقالت عائشة : فجهّزتهما (٤) أحثّ الجهاز (٥) ، فصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب ، فبذلك كانت تسمّى «ذات النّطاقين» (٦) ، ثم لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له (ثور) ، فمكثا (٧) فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ، وهو غلام شابّ لقن ثقف ، فيدلج من عندهما بسحر ، فيصبح في قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكيدون (٨) به إلّا وعاه ، حتّى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظّلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة ، ويريح

__________________

(١) في الصحيح «قبل المدينة».

(٢) في الصحيح «وهو الخبط».

(٣) في الصحيح : «قال ابن شهاب ، قال عروة ، قالت عائشة فبينما نحن».

(٤) في ع : (فجهزناهما) ، وكذلك في صحيح البخاري.

(٥) من الحثّ وهو الاسراع ، (حاشية السندي على صحيح البخاري).

(٦) في صحيح البخاري (ذات النطاق).

(٧) في صحيح البخاري (فكمنا).

(٨) في الجامع الصحيح (يكتادان).

٣٢٠