تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (١) : كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من الصّحابة إلى الحبشة. فحدّثني عبد الرحمن بن الحارث ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أمّه ليلى قالت : كان عمر من أشدّ النّاس علينا في إسلامنا ، فلمّا تهيّأنا للخروج إلى الحبشة ، جاءني عمر ، وأنا على بعير ، نريد أن نتوجّه ، فقال : إلى أين يا أمّ عبد الله؟ فقلت : قد آذيتمونا في ديننا ، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله ، فقال : صحبكم الله ، ثم ذهب ، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقّة عمر بن الخطّاب ، فقال : ترجين أن يسلّم؟ قلت : نعم ، قال : فو الله لا يسلّم حتى يسلّم حمار الخطّاب (٢). يعني من شدّته على المسلمين.

قال يونس ، عن ابن إسحاق : والمسلمون يومئذ بضع (٣) وأربعون رجلا ، وإحدى عشرة امرأة (٤).

__________________

(١) السير والمغازي ١٨١.

(٢) السير والمغازي ١٨١ ، سيرة ابن هشام ٢ / ٩٥ عيون التواريخ ١ / ٧٥.

(٣) في السير والمغازي ١٨٤ «بضعة».

(٤) كتب في حاشية الأصل «بلغت قراءة».

١٨١
١٨٢

الهجرة الأولى الى الحبشة

ثمّ الثانية

قال يعقوب الفسوي في «تاريخه» (١) حدّثني العبّاس بن عبد العظيم ، حدّثني بشّار بن موسى الخفّاف ، ثنا الحسن بن زياد البرجميّ ـ إمام مسجد محمد بن واسع ـ ثنا قتادة قال : أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفّان. سمعت النّضر بن أنس يقول : سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك ، يقول : خرج عثمان برقيّة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحبشة ، فأبطأ خبرهم ، فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته ، فقال : «على أيّ حال رأيتهما»؟ قالت : رأيته حمل امرأته على حمار من هذه الدّبابة (٢) ، وهو يسوقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صحبهما الله ، إنّ عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط» (٣).

ورواه يحيى بن أبي طالب ، عن بشّار ، عن عبد الله بن إدريس ، ثنا ابن إسحاق ، حدّثني الزّهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، وعروة ،

__________________

(١) المعرفة والتاريخ ٣ / ٢٥٥.

(٢) في حاشية الأصل «أي ضعاف تدبّ ولا تسرع».

(٣) وقد ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ٣ / ٦٦! ٧٦ لكنه قال : «روى البيهقي من حديث يعقوب ابن سفيان» ووقع فيه «بشر» بدل «بشار» وهو تصحيف.

١٨٣

وعبد الله بن أبي بكر ، وصلت الحديث عن أبي بكر ، عن أم سلمة قالت : لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى ما يصيبنا من البلاء : «الحقوا بأرض الحبشة فإنّ بها ملكها لا يظلم عنده أحد ، فأقيموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه ، فقدمنا عليه فاطمأننّا في بلاده (١). الحديث.

قال البغوي في تاسع «المخلصيات» (٢) : وروى ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث.

وقال البكّائي : قال ابن إسحاق (٣) : فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ، ومن عمّه ، وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون مخافة الفتنة ، وفرارا بدينهم إلى الله (٤).

فخرج عثمان بزوجته ، وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، فولدت له بالحبشة محمدا ، والزّبير بن العوّام ، ومصعب بن عمير العبدريّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة بن عبد (٥) الأسد المخزوميّ ، وزوجته أمّ سلمة أمّ المؤمنين ، وعثمان بن مظعون الجمحيّ ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطّاب ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة العدويّة ، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزّى العامريّ ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٧ ، السير والمغازي ٢١٣.

(٢) هي أجزاء مشهورة لأبي طاهر المخلّص الذهبي.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٩ ، السير والمغازي ١٧٤.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٦٩ ، ٧٠ السير والمغازي ١٧٤.

(٥) «عبد» ليست في السيرة.

١٨٤

وسهيل (١) بن بيضاء ، وهو سهيل بن وهب الحارثي ، فكانوا أوّل من هاجر إلى الحبشة (٢).

قال : ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إلى الحبشة. ثم سمّى ابن إسحاق (٣) جماعتهم وقال : فكان جميع من لحق بأرض الحبشة ، أو ولد بها ، ثلاثة وثمانين رجلا فعبدوا الله وحمدوا جوار النّجاشي ، فقال عبد الله بن الحارث بن قيس السّهميّ :

يا راكبا بلّغا (٤) عنّي مغلغلة

من كان يرجو بلاغ الله والدين

كلّ امرئ من عبد الله مضطهد

ببطن مكة مقهور ومفتون

أنّا وجدنا بلاد الله واسعة

تنجي من الذّلّ والمخزاة والهون

فلا تقيموا على ذلّ الحياة وخزي

في الممات وعيب غير مأمون

إنّا تبعنا نبيّ الله ، واطرحوا

قول النّبيّ وعالوا في الموازين

فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا

وعائذ (٥) بك أن يعلوا فيطغوني (٦)

وقال عثمان بن مظعون يعاتب أميّة بن خلف ابن عمّه ، وكان يؤذيه (٧) :

أتيم بن عوف والّذي جاء بغضة

ومن دونه الشّرمان والبرك أكتع

أأخرجتني من بطن مكّة آثما (٨)

وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع

__________________

(١) كذا في الأصل ، وسيرة ابن هشام. وفي المغازي لعروة ١٠٥ «سهل» وهو تصحيف.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٧٠ وفيه «فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة». وانظر تاريخ الطبري ٢ / ٣٣١ ، وطبقات ابن سعد ١ / ٢٠٤.

(٣) راجع أسماء المهاجرين في سيرة ابن هشام ٢ / ٧٠ ـ ٧٥ ، والسير والمغازي ١٧٦ ، ١٧٧ ، وانظر تاريخ الطبري ٢ / ٣٣١ ، ونهاية الأرب للنويري ١٦ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، وعيون الأثر لابن سيّد الناس ١ / ١١٥.

(٤) في السيرة «بلغن».

(٥) في السيرة : «وعائذا».

(٦) سيرة ابن هشام ٢ / ٧٥.

(٧) بسبب إسلامه.

(٨) كذا في (ع) والمنتقى لابن الملّا ، وفي الأصل يشبه رسمها أن يكون (آمنا) كما في السيرة.

١٨٥

تريش نبلا لا يواتيك ريشها

وتبري نبالا ريشها لك أجمع

وحاربت أقواما كراما أعزّة

وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع

ستعلم إن نابتك يوما ملمّة

وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع (١)

وقال موسى بن عقبة : ثم إنّ قريشا ائتمروا واشتدّ مكرهم ، وهمّوا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إخراجه ، فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلوه ، فأبوا حميّة.

ولما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شعب بني عبد المطّلب ، أمر أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرّتين ، رجع الذين خرجوا في المرّة الأولى حين أنزلت سورة «النّجم» ، وكان المشركون يقولون : لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنّصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم ، والشرّ. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمنّى هداهم ، فأنزلت (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢) ، فألقى الشيطان (٣) عندها كلمات «وإنّهنّ الغرانيق العلا ، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى» فوقعت في قلب كلّ مشرك بمكة ، ودالت بها ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا :

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٧٦.

(٢) سورة النجم ، الآية ١٩.

(٣) قال الإمام الجصّاص في (الجامع لأحكام القرآن) : قد اختلف في معنى «ألقى الشيطان» فقال قائلون : لما تلا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة ، وذكر فيها الأصنام ، علم الكفّار أنّه يذكرها بالذّم والعيب ، فقال قائل منهم حين بلغ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : تلك الغرانيق العلا. وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام ، فقال سائر الكفّار الذين كانوا بالبعد منه : إنّ محمدا قد مدح آلهتنا ، وظنّوا أنّ ذلك كان في تلاوته ، فأبطل الله ذلك من قولهم ، وبيّن أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتله ، وإنّما تلاه بعض المشركين ، وسمّى الّذي ألقى ذلك في حال تلاوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيطانا ، لأنه كان من شياطين الإنس ، كما قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) والشيطان اسم لكلّ متمرّد عات من الجنّ والإنس. وقيل : إنّه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجنّ قال ذلك عند تلاوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم‌السلام ، كما حكى الله تعالى بقوله : (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ)

١٨٦

إنّ محمدا قد رجع إلى ديننا ، فلمّا بلغ آخر النّجم سجد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد كلّ من حضر من مسلّم أو مشرك ، غير أنّ الوليد بن المغيرة (١) كان شيخا كبيرا رفع ملء كفّيه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السّجود ، بسجود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم ، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان ، وأمّا المشركون فاطمأنّوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لما ألقي في أمنية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدّثهم الشيطان أنّ رسول الله قد قرأها في السّجدة ، فسجدوا تعظيما لآلهتهم.

وفشت تلك الكلمة في النّاس ، وأظهرها الشّيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه ، وحدّثوا أنّ أهل مكة قد أسلموا كلّهم وصلّوا ، وأنّ المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأنزلت (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا

__________________

= إنما قال ذلك إبليس حين تصوّر في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر ، وكما تصوّر في صورة الشيخ النّجديّ ، حين تشاورت قريش في دار النّدوة ، في أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان مثل ذلك جائزا في زمن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضرب من التدبير ، فجائز أن يكون الّذي قال ذلك شيطانا ، فظن القوم أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله. (انظر ج ٣ / ٢٤٦ سورة الحج).

وقال الحافظ البيهقي في دلائل النبوّة ٢ / ٦٢ : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وبيّن جرح رواتها وطعن حملة العلم فيهم. وفي «البحر» أنّ هذه القصة سئل عنها محمد بن إسحاق صاحب «السيرة» فقال : هذا من وضع الزنادقة. وقال أبو منصور الماتريديّ : الصّواب أنّ قوله «تلك الغرانيق إلخ» من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزّنادقة ، والرسالة بريئة من هذه الرواية.

وقال القاضي عياض في الشفاء ٢ / ٢٨ : يكفيك أنّ هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصّحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ، مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته.

وقد فصّل القاضي عياض عدم صحّة هذه الرواية من عدّة وجوه يحسن مراجعتها. في كتابه الشفاء ٢ / ١١٦ ـ ١٢٣ ، وانظر تفسير القرطبي ١٢ / ٨٢ ، والنويري في نهاية الأرب ١٦ / ٢٣٥ ـ ٢٤١.

(١) ويقال هو أبو أحيحة سعيد بن العاص.

١٨٧

نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) الآيات. فلما بيّن الله قضاءه وبرّأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم.

وكان عثمان بن مظعون وأصحابه ، فيمن رجع ، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلّا بجوار ، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون ، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء ، وعذّب (٢) طائفة منهم بالسّياط والنّار ، وعثمان معافى لا يعرض له ، استحبّ البلاء ، فقال للوليد : يا عمّ قد أجرتني ، وأحبّ أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ منّي ، فقال : يا بن أخي لعلّ أحدا آذاك أو شتمك؟ قال : لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني ، فلمّا أبى إلّا أن يتبرّأ منه أخرجه إلى المسجد ، وقريش فيه ، كأحفل ما كانوا ، ولبيد بن ربيعة الشّاعر ينشدهم ، فأخذ الوليد بيد عثمان وقال : إنّ هذا قد حملني على أن أتبرّأ من جواره ، وإنّي أشهدكم أنّي بريء منه ، إلّا أن يشاء ، فقال عثمان : صدق ، أنا والله أكرهته على ذلك ، وهو منّي بريء ، ثم جلس مع القوم فنالوا منه (٣).

قال موسى : وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه (٤) فرارا بدينهم إلى الحبشة ، فبعثت قريش عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بن المغيرة ، وأمروهما أن يسرعا (٥) ففعلا ، وأهدوا للنّجاشيّ فرسا وجبّة ديباج ، وأهدوا العظماء الحبشة هدايا ، فقبل النّجاشيّ هديّتهم ، وأجلس عمرا على سريره ، فقال : إنّ بأرضك رجالا منّا سفهاء ليسوا (٦) على دينك ولا ديننا ، فادفعهم

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٥٢.

(٢) في المنتقى لابن الملّا (وتعذيب).

(٣) دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٦٢.

(٤) (وأصحابه) ساقطة من الأصل. وانظر الخبر بصيغة أخرى في السير والمغازي ١٧٨ ، ١٧٩ ، وتاريخ الطبري ٢ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ ، والمغازي لعروة ١٠٦ ـ ١٠٩.

(٥) في المنتقى لابن الملا (يسيرا).

(٦) كذا في المنتقى لابن الملا. وفي الأصل (ليس).

١٨٨

إلينا ، فقال : حتى أكلّمهم وأعلم على أيّ شيء هم ، فقال عمرو : هم أصحاب الرجل الّذي خرج فينا ، وإنّهم لا يشهدون أنّ عيسى ابن الله ، ولا يسجدون لك إذا دخلوا ، فأرسل النّجاشيّ إلى جعفر وأصحابه ، فلم يسجد له ولا أصحابه وحيّوه بالسّلام ، فقال عمرو : ألم نخبرك بخبر القوم ، فقال النّجاشيّ : حدّثوني أيّها الرّهط ، ما لكم لا تحيّوني كما يحيّيني من أتاني من قومكم ، وأخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا : لا ، قال : أفيهود أنتم؟ قالوا : لا ، قال : فعلى (١) دين قومكم؟ قالوا : لا ، قال : فما دينكم؟ قالوا : الإسلام ، قال : وما الإسلام؟ قالوا : نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، قال : من جاءكم بهذا؟ قالوا : جاءنا به رجل منّا قد عرفنا وجهه ونسبه ، بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا ، فأمرنا بالبرّ والصّدقة (٢) والوفاء والأمانة ، ونهانا أن نعبد الأوثان ، وأمرنا أن نعبد الله ، فصدّقناه ، وعرفنا كلام الله ، فعادانا قومنا وعادوه وكذّبوه ، وأرادونا على عبادة الأصنام ، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا ، فقال النّجاشيّ : والله إن خرج هذا الأمر إلّا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى ، قال (٣) : وأمّا التحيّة فإنّ رسولنا أخبرنا أنّ تحيّة أهل الجنّة السّلام ، فحيّيناك بها ، وأمّا عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه وابن العذراء البتول.

فخفض النّجاشيّ يده إلى الأرض ، وأخذ عودا فقال : والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود ، فقال عظماء الحبشة : والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنّك ، فقال : والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا ، وما أطاع

__________________

(١) في المنتقى لابن الملا (أفعلى).

(٢) في المنتقى لابن الملا (والصدق).

(٣) أي جعفر بن أبي طالب.

١٨٩

الله النّاس فيّ حين ردّ إليّ ملكي ، فأنا أطيع النّاس في دين الله! معاذ الله من ذلك.

وكان أبو النّجاشيّ ملك الحبشة ، فمات والنّجاشيّ صبيّ ، فأوصى إلى أخيه أنّ إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني ، فإذا بلغ فله الملك ، فرغب أخوه في الملك ، فباع النّجاشيّ لتاجر ، وبادر بإخراجه إلى السفينة ، فأخذ الله عمّه قعصا (١) فمات ، فجاءت الحبشة بالتّاج ، وأخذوا النّجاشيّ فملّكوه ، وزعموا أنّ التاجر قال : ما لي بدّ من غلامي أو مالي ، قال النّجاشيّ : صدق ، ادفعوا إليه ماله.

قال : فقال النّجاشيّ حين كلّمه جعفر : ردّوا إلى هذا هديّته ـ يعني عمرا ـ والله لو رشوني على هذا دبر ذهب ـ والدّبر بلغته الجبل ـ ما قبلته ، وقال لجعفر وأصحابه : امكثوا آمنين ، وأمر لهم بما يصلحهم من الرّزق.

وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما ، فمكر به عمرو وقال : إنّك رجل جميل ، فاذهب إلى امرأة النّجاشيّ فتحدّث عندها إذا خرج زوجها ، فإنّ ذلك عون لنا في حاجتنا ، فراسلها عمارة حتى دخل عليها ، فلمّا دخل عليها انطلق عمرو إلى النّجاشيّ فقال : إنّ صاحبي هذا صاحب نساء ، وإنّه يريد أهلك فاعلم علم ذلك ، فبعث النّجاشي ، فإذا عمارة عند امرأته ، فأمر به فنفخ في إحليله سحرة ثم ألقي في جزيرة من البحر ، فجنّ ، وصار مع الوحش ، ورجع عمرو خائب السّعي (٢).

وقال البكّائيّ : قال ابن إسحاق (٣) : حدّثني الزّهريّ ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أمّ سلمة قالت : لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير

__________________

(١) أي قتلا سريعا. كما في (النهاية).

(٢) انظر الخبر في : دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٦٢ ـ ٦٥ ، ودلائل النبوّة لأبي نعيم ١ / ٨٠ ، ٨١.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٧ ، السير والمغازي ٢١٣ ، طبقات ابن سعد ١ / ٢٠٤.

١٩٠

جار النّجاشيّ ، أمنّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى ، لا نؤذى ، ولا نسمع ما نكره (١) ، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النّجاشيّ رجلين جلدين ، وأن يهدوا للنّجاشيّ ، فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص. وذكر القصّة بطولها ، وستأتي إن شاء الله ، رواها جماعة ، عن ابن إسحاق.

وذكر الواقديّ أنّ الهجرة الثانية كانت سنة خمس من المبعث.

وقال حديج (٢) بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عتبة ، عن ابن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النّجاشيّ ، ونحن ثمانون رجلا ، ومعنا جعفر ، وعثمان بن مظعون ، وبعثت قريش عمارة ، وعمرو بن العاص ، وبعثوا معهما بهديّة إلى النّجاشيّ ، فلمّا دخلا عليه سجدا له ، وبعثا إليه بالهديّة ، وقالا : إنّ ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا ، وقد نزلوا أرضك ، فبعث إليهم ، فقال لنا جعفر : أنا خطيبكم اليوم ، قال : فاتّبعوه حتى دخلوا على النّجاشيّ ، فلم يسجدوا له ، فقال : وما لكم لم تسجدوا للملك؟ فقال : إنّ الله قد بعث إلينا نبيّه ، فأمرنا أن لا نسجد إلّا لله ، فقال النّجاشيّ : وما ذاك؟ قال عمرو : إنّهم يخالفونك في عيسى ، قال : فما تقولون في عيسى وأمّه؟ قال : نقول كما قال الله ، هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، التي لم يمسّها بشر ، ولم يفرضها ولد ، فتناول النّجاشيّ عودا فقال : يا معشر القسّيسين والرّهبان ، ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا ، فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، وأنا أشهد أنه نبيّ ، ولوددت أنّي عنده فأحمل نعليه ـ أو قال أخدمه ـ فانزلوا حيث شئتم من أرضي ، فجاء

__________________

(١) في السيرة ٢ / ٨٧ ، وطبقات ابن سعد ١ / ٢٠٤ «نكرهه».

(٢) حديج : بالحاء المهملة المضمومة ، وفتح الدال المهملة ، وفي (ع) وما سيأتي «جريج» وهو تصحيف.

١٩١

ابن مسعود فشهد بدرا (١). رواه أبو داود الطّيالسيّ في «مسندة» عن حديج.

وقال عبيد الله بن موسى : أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة. وساق كحديث حديج.

ويظهر لي أنّ إسرائيل وهم فيه ، ودخل عليه حديث في حديث ، وإلّا أين كان أبو موسى الأشعريّ ذلك الوقت.

رجعنا إلى تمام الحديث الّذي سقناه عن أمّ سلمة (٢) قالت : فلم يبق بطريق من بطارقة النّجاشيّ إلّا دفعا إليه هديّة ، قبل أن يكلّما النّجاشيّ ، وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما ، ليشير على الملك بدفع المسلمين إليهم ، ثم قرّبا هدايا النّجاشيّ فقبلها ، ثم كلّماه فقالا : أيّها الملك إنّه قدم إلى بلادك منّا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، جاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ، ولا أنت ، فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردّهم عليهم ، فهم أعلى بهم عينا (٣) ، وأعلم بما عابوا عليهم ، قالت : ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النّجاشيّ ، فقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم من دينهم ، فأسلمهم إليهما ، فغضب ثم قال : لاها الله إذن لا أسلّمهم إليهما ، ولا يكاد قوم جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عمّا يقولان ، فأرسل إلى الصّحابة فدعاهم ، فلمّا جاءوا وقد دعا النّجاشيّ أساقفته فنشروا مصاحفهم ، سألهم فقال : ما دينكم؟ فكان الّذي كلّمه جعفر فقال :

__________________

(١) دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٦٧.

(٢) هي زوج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أي أبصر بهم.

١٩٢

أيّها الملك ، كنّا قوما أهل جاهليّة نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منّا الضّعيف ، فكنّا على ذلك ، حتى بعث إلينا رسولا منّا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة ، وأمرنا بالصّدق والأمانة وصلة الرّحم ، وعدّد عليه أمور الإسلام ، فصدّقناه واتّبعناه ، فعدا علينا قومنا فعذّبونا ، وفتنونا عن ديننا ، وضيّقوا علينا ، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيّها الملك ، قالت : قال : وهل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر : نعم ، وقرأ عليه صدرا من (كهيعص) (١) فبكى والله النّجاشيّ ، حتى اخضلّ (٢) لحيته ، وبكت أساقفته ، حتى أخضلوا مصاحفهم ، ثم قال النّجاشيّ : إنّ هذا ، والّذي جاء به موسى (٣) ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلّمهم إليكما ولا يكاد (٤).

قالت : فلمّا خرجا من عنده قال عمرو : والله لآتينّهم غدا بما أستأصل به خضراءهم ، فقال له ابن أبي ربيعة ، وكان أتى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإنّ لهم أرحاما ، قال : والله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أنّ عيسى عبد ، ثم غدا عليه ، فقال له ذلك ، فطلبنا ، قالت : ولم ينزل بنا مثلها ، فاجتمع القوم ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا : نقول ، والله ، ما قال الله كائنا في ذلك ما كان ، فلمّا دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول هو عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم العذراء البتول ،

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ١.

(٢) في سيرة ابن هشام ٢ / ٨٨ «اخضلّت».

(٣) هكذا في الأصل و (الدرر لابن عبد البر) ، وفي نسخة دار الكتب (عيسى).

(٤) في السيرة «يكادون».

١٩٣

فأخذ النّجاشيّ عودا ثم قال : ما عدا عيسى ما قلت هذا العود ، فتناخرت بطارقته حوله فقال : وإن نخرتم ، والله ، اذهبوا فأنتم سيوم (١) بأرضي ـ والسّيوم : الآمنون ـ من سبّكم غرم ، ما أحبّ أن لي دبرا (٢) من ذهب ، وأنّي آذيت رجلا منكم ، ردّوا هداياهما فلا حاجة لي فيها ، فو الله ما أخذ الله منّي الرّشوة حين ردّ عليّ ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع النّاس فيّ فأطيعهم فيه ، قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به (٣).

قالت : فإنّا على ذلك ، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، فو الله ما علمنا حزنا قد كان أشدّ علينا من حزن حزنّاه عند ذلك ، تخوّفا أن يظهر ذلك الرجل على النّجاشيّ ، فيأتي رجل لا يعرف من حقّنا ما كان النّجاشيّ يعرف منه. فسار إليه النّجاشيّ ، وكان بينهما عرض النّيل ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من رجل يخرج حتى يحضر الوقعة ، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزّبير : أنا ، فنفخوا له قرية ، فجعلها في صدره ، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النّيل التي بها يلتقي القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم ، ودعونا الله تعالى للنّجاشيّ ، فإنّا لعلى ذلك ، إذ طلع الزّبير يسعى فلمع بثوبه ، وهو يقول : ألا أبشروا ، فقد ظهر النّجاشيّ ، وقد أهلك الله عدوّه ومكّن له في بلاده (٤).

قال الزّهريّ : فحدّثت عروة بن الزّبير هذا الحديث فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ الله منّي الرّشوة إلى آخره؟ قلت : لا ، قال : فإنّ عائشة أمّ

__________________

(١) وفي رواية (شيوم). انظر السيرة ٢ / ٨٨ ، وفي المغازي لعروة ١١٣ كما هنا ، وكذلك في دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٧٤ ، ودلائل النبوّة لأبي نعيم ١ / ٨٣.

(٢) الدبر : الجبل.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٢ / ٣٣٥.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٧ ـ ٨٩ ، السير والمغازي ٢١٣ ـ ٢١٦ ، نهاية الأرب ١٦ / ٢٤٧ ـ ٢٥٠ ، دلائل النبوة للبيهقي ٢ / ٧٢ ـ ٧٤ دلائل النبوّة لأبي نعيم ١ / ٨١ ـ ٨٣.

١٩٤

المؤمنين حدّثتني أنّ أباه كان ملك قومه ، ولم يكن له ولد إلّا النّجاشيّ ، وكان للنّجاشيّ عمّ من صلبه اثنا عشر رجلا ، فقالت الحبشة : لو أنّا قتلنا هذا وملّكنا أخاه ، فإنّه لا ولد له غير هذا الغلام ، ولأخيه اثنا عشر ولدا ، فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا ، فغدوا على أبي النّجاشيّ فقتلوه ، وملّكوا أخاه. فمكثوا حينا ، ونشأ النّجاشيّ مع عمّه ، فكان لبيبا حازما ، فغلب على أمر عمّه ، ونزل منه بكلّ منزلة ، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها : والله لقد غلب هذا على عمّه ، وإنّا لنتخوّف أن يملّكه علينا ، وإن ملك ليقتلنا بأبيه ، فكلّموا الملك (١) ، فقال : ويلكم ، قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم ، قالت : فخرجوا به فباعوه لتاجر (٢) بستّمائة درهم ، فقذفه في سفينة وانطلق به ، حتى إذا كان آخر النّهار ، هاجت سحابة ، فخرج عمّه يستمطر تحتها ، فأصابته صاعقة فقتلته ، ففزعت الحبشة إلى ولده ، فإذا هو محمق ليس في ولده خير ، فمزج الأمر ، فقالوا : تعلّموا ، والله إنّ ملككم الّذي لا يقيم أمركم غيره للّذي بعتموه غدوة (٣) ، فخرجوا في طلبه فأدركوه ، وأخذوه من التّاجر ، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التّاج ، وأقعدوه على سرير ملكه ، فجاء التّاجر فقال : ما لي ، قالوا : لا نعطيك شيئا ، فكلّمه ، فأمرهم فقال : أعطوه دراهمه أو عبده ، قالوا : بل نعطيه دراهمه ، فكان ذلك أول ما خبر من عدله ، رضي‌الله‌عنه (٤).

وروى يزيد بن رومان ، عن عروة قال : إنّما كان يكلّم النّجاشيّ عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه (٥).

__________________

(١) أي في قتله.

(٢) من بني ضمرة. (الجواهر الحسان في تاريخ الحبشان).

(٣) وهو أصحمة.

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٨٩ ـ ٩٠ ، السير والمغازي ٢١٦ ـ ٢١٧ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ٧٦ ، دلائل النبوّة لأبي نعيم ١ / ٨٣ ـ ٨٤ ، نهاية الأرب ١٦ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

(٥) المغازي لعروة ١١١.

١٩٥

أنبأنا إبراهيم بن حمد ، وجماعة ، أنا ابن ملاعب ، ثنا الأمويّ ، أنا جابر بن ياسين ، أنا المخلّص ، أنا البغويّ ، ثنا عبد الله بن عمر بن أبان ، ثنا أسد بن عمرو البجلي ، عن مجالد ، عن الشّعبيّ ، عن عبد الله بن جعفر ، عن أبيه قال : بعثت قريش عمرا وعمارة بهديّة إلى النّجاشيّ ليؤذوا المهاجرين. فخلّوهم ، فقال عمرو : وإنّهم يقولون في عيسى غير ما تقول ، فأرسل إلينا ، وكانت الدعوة الثانية أشدّ علينا ، فقال : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال : وذكر الحديث ، فقال النّجاشيّ : أعبيد هم لكم؟ قالوا : لا ، قال : فلكم عليهم دين؟ قالوا : لا ، قال : يقول : هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول ، فقال : ادعوا لي فلانا القسّ ، وفلانا الرّاهب ، فأتاه أناس منهم ، فقال : ما تقولون في عيسى؟ قالوا : أنت أعلمنا ، قال : وأخذ شيئا من الأرض فقال : ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا ، ثم قال : أيؤذيكم أحد؟ قالوا : نعم ، فنادى من آذى منهم فأغرموه أربعة دراهم ، ثم قال : أيكفيكم؟ قلنا : لا ، فأضعفها ، قال : فلمّا ظهر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهاجر أخبرناه ، قال فزوّدنا وحملنا ، ثم قال : أخبر صاحبك بما صنعت إليكم ، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّه رسول الله ، وقل له يستغفر لي ، فأتينا المدينة ، فتلقّاني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتنقني وقال : ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم بفتح خيبر ، وقال : «اللهمّ اغفر للنّجاشيّ» ثلاث مرّات ، وقال المسلمون : آمين (١).

إسلام ضماد (٢)

داود بن أبي هند ، عن عمرو بن سعيد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن

__________________

(١) في حاشية الأصل : بلغت قراءة خليل بن أيبك في الميعاد الثالث على مؤلّفه ، فسح الله في مدّته.

(٢) هو ضماد بن ثعلبة الأزدي. كان صديقا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية وكان رجلا يتطبّب ويرقي ويطلب العلم. (الاستيعاب ٢ / ٢١٧ ، الإصابة ٢ / ٢١٠ رقم ٤١٧٧).

١٩٦

عبّاس قال : قدم ضماد مكة ، وهو من أزد شنوءة ، وكان يرقي من هذه الرياح (١) فسمع سفهاء من سفهاء النّاس يقولون إنّ محمدا مجنون ، فقال : آتي هذا الرجل لعلّ الله أن يشفيه على يديّ ، قال : فلقيت محمدا فقلت : إنّي أرقي من هذه الرياح ، وإنّ الله يشفي على يدي من يشاء ، فهلمّ ، فقال محمد : إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهدي الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له (ثلاث مرّات) ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أمّا بعد ، فقال : (٢) والله لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السّحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات (٣) ، فهلمّ يدك أبايعك على الإسلام ، فبايعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : «وعلى قومك» فقال : وعلى قومي. فبعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريّة ، فمرّوا بقوم ضماد. فقال صاحب الجيش للسّريّة : هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم : أصبت منهم مطهرة ، فقال : ردّوها عليهم فإنّهم قوم ضماد. أخرجه مسلّم (٤).

إسلام الجنّ

قال الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ

__________________

(١) في صحيح مسلّم «الريح» ، وفي النهاية لابن الأثير «إنّي أعالج من هذه الأرواح» ، والأرواح أو الريح كناية عن الجنّ.

(٢) في المنتقى لابن الملا «فقال ضماد».

(٣) في حاشية الأصل و (ع) «ولقد بلغن قاموس البحر» وفي روآية «ناعوس». ولفظ «قاموس» هو المشهور في روآيات الحديث في غير صحيح مسلّم. وقال القاضي عياض : أكثر نسخ صحيح مسلّم وقع فيها «قاعوس». قال أبو عبيد : قاموس البحر وسطه ، وقال ابن دريد : لجّته. وقال صاحب كتاب العين : قعره الأقصى. (انظر : صحيح مسلّم).

(٤) صحيح مسلّم (٨٦٨) كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة ، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوّة ٢ / ١٠ ، وابن الجوزي في صفة الصفوة ١ / ٦٠٤ ـ ٦٠٥ ، وفيه : أخرج هذه القصة أيضا الإمام أحمد في مسندة برقم ٢٧٤٩ وأخرجها أيضا النسائي في السنن ، وأبو نعيم في دلائل النبوّة برقم ١٨٧ بتحقيق قلعة جي وعبّاس.

١٩٧

الْقُرْآنَ) (١) الآيات ، وقال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٢) وأنزل فيهم سورة الجنّ.

وقال أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجنّ ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السّماء ، وأرسلت عليهم الشّهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشّهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلّا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها.

قال : فانصرف أولئك النّفر الذين توجّهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بنخلة (٣) ، عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر ، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الّذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا : إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرّشد فآمنّا به ولن نشرك بربّنا أحدا ، فأنزلت (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) (٤). متّفق عليه (٥).

ويحمل قول ابن عبّاس : إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قرأ على الجنّ ولا رآهم ، يعني أول ما سمعت الجنّ القرآن ، ثم إنّ داعي الجنّ أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما في خبر ابن مسعود ، وابن مسعود قد حفظ القصّتين ، فقال سفيان الثّوريّ عن

__________________

(١) سورة الأحقاف ، الآية ٢٩.

(٢) سورة الأنعام ، الآية ١٣٠.

(٣) موضع على ليلة من مكة. (معجم ما استعجم للبكري ٤ / ١٣٠٤ وانظر معجم البلدان ٥ / ٢٧٧).

(٤) سورة الجن ، الآية ١.

(٥) صحيح مسلّم (٤٤٩) كتاب الصلاة ، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجنّ ، الترمذي (٣٣٧٩) سورة الجن ، أحمد في مسندة ١ / ٢٥٢ ، و ٢٧٠ و ٢٧٤ و ٤١٦.

١٩٨

عاصم عن زرّ ، عن عبد الله قال : هبطوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلمّا سمعوه أنصتوا قالوا : صه (١) ، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة ، فأنزل الله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الآيات.

وقال مسعر ، عن معن ، ثنا أبي ، سألت مسروقا : من آذن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنّ (٢) ليلة استمعوا القرآن؟ فقال : حدّثني أبوك ، يعني ابن مسعود أنّه آذنته بهم شجرة. متّفق عليه (٣).

وقال داود بن أبي هند ، عن الشّعبيّ ، عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ منكم أحد؟ فقال : ما صحبه منّا أحد ، ولكنّا فقدناه ذات ليلة بمكة ، فقلنا اغتيل ، استطير ، ما فعل ، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلمّا كان في وجه الصّبح ـ أو قال في السّحر ـ إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلت : يا رسول الله ، فذكروا الّذي كانوا فيه ، فقال : «إنّه أتاني داعي الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم» ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. رواه مسلّم (٤).

وقد جاء ما يخالف هذا ، فقال عبد الله بن صالح : حدّثني اللّيث ، حدّثني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني أبو عثمان بن سنّة (٥) الخزاعيّ من

__________________

(١) كلمة زجر تقال عند الإسكات ، وتنوّن ولا تنوّن. (النهاية).

(٢) «بالجنّ» غير موجودة في الأصل ، فاستدركناها من صحيح البخاري.

(٣) صحيح البخاري ٤ / ٢٤٠ كتاب مناقب الأنصار ، باب ذكر الجنّ وقول الله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ). وانظر دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ١٢ ، وعيون الأثر ١ / ١٣٧.

(٤) صحيح مسلّم (٤٥٠) كتاب الصلاة ، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجنّ.

وفيه تكملة : «وسألوه الزاد ، فقال : «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم ، أوفر ما يكون لحما. وكل بعرة علف لدوابّكم».

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا تستنجوا بهما فإنّهما طعام إخوانكم».

(٥) بفتح السين وتشديد النون. على ما في تبصير المنتبه ، والقاموس المحيط وغيرهما.

١٩٩

أهل الشام ، أنّه سمع ابن مسعود يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه ، وهو بمكة «من أحبّ منكم أن يحضر اللّيلة أمر الجنّ فليفعل» ، فلم يحضر منهم أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنّا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطّا ، ثمّ أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتح القرآن فغشيته أسودة (١) كثيرة ، حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطّعون مثل قطع السّحاب ، ذاهبين ، حتّى ما بقي منهم رهط ، وفرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرّز ، ثم أتاني فقال : «ما فعل الرّهط»؟ فقلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إيّاه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث. أخرجه النّسائيّ من حديث يونس (٢).

وقال سليمان التّيميّ ، عن أبي عثمان النّهدي ، أنّ ابن مسعود أبصر زطّا (٣) في بعض الطريق فقال : ما هؤلاء؟ قالوا هؤلاء الزّطّ ، قال : ما رأيت شبههم إلّا الجنّ ليلة الجنّ ، وكانوا مستنفرين يتبع بعضهم بعضا. صحيح (٤).

يقال : استنفر الرجل بثوبه ، إذا أخذ ذيله من بين فخذيه إلى حجزته فغرزه. وكذا يقال في الكلب ، إذا جعل ذنبه بين فخذيه ، ومنه قوله للحائض : استنفري.

وقال عثمان بن عمر بن فارس ، عن مستمر بن الرّيّان ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن مسعود قال : انطلقت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجنّ ، حتى أتى الحجون فخطّ عليّ خطّا ، ثم تقدّم إليهم ، فازدحموا عليه ، فقال سيّد

__________________

(١) جمع سواد وهو الشخص ، لأنه يرى من بعيد أسود.

(٢) سنن النسائي ١ / ٣٧ ـ ٣٨ ، كتاب الطهارة ، باب النهي عن الاستطابة بالعظم. وانظر دلائل النبوّة للبيهقي ٢ / ١٤ وعيون الأثر ١ / ١٣٧.

(٣) جنس من السودان والهنود. (النهاية).

(٤) انظر عيون الأثر ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٢٠٠