تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

عبد الله بن رفاعة ، أنا عليّ بن الحسن الخلعي ، أنا أبو محمد بن النّحّاس ، أنا عبد الله بن الورد ، أنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقيّ ، ثنا عبد الملك بن هشام ، ثنا زياد بن عبد الله البكّائيّ ، عن محمد بن إسحاق (١) قال : كانت الأحبار والرّهبان وكهّان العرب قد تحدّثوا بأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه لمّا تقارب من زمانه ، أمّا أهل الكتاب فعمّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه ، وما كان عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه ، وأمّا الكهّان فأتتهم الشياطين بما استرقت من السّمع ، وأنّها قد حجبت عن استراق السّمع ورميت بالشّهب. قال الله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (٢) فلما سمعت الجنّ القرآن من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفت أنّها منعت من السّمع قبل ذلك ، لئلّا يشكل الوحي بشيء من خبر السّماء فيلتبس الأمر ، فآمنوا وصدّقوا وولّوا إلى قومهم منذرين.

وعن يعقوب بن عتبة أنّه بلغه أنّ أوّل العرب فزع للرمي بالنّجوم ثقيف ، فجاءوا إلى عمرو بن أميّة (٣) وكان أدهى العرب ، فقالوا : ألا ترى ما حدث؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النّجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمى بها ، فهي والله طيّ الدّنيا وهلاك أهلها ، وإن كانت نجوما غيرها ، وهي ثابتة على حالها ، فهذا أمر أراد الله به هذا الخلق فما هو (٤).

قلت : روى حديث يعقوب بنحوه حصين ، عن الشعبي ، لكن قال : فأتوا عبد يا ليل بن عمرو الثّقفي ، وكان قد عمي (٥).

__________________

(١) السير والمغازي ١١١ ، ١١٢ ، سيرة ابن هشام ١ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، عيون الأثر ١ / ٥٤ ، ٥٥.

(٢) سورة الجنّ ـ الآية ٩.

(٣) هو أحد بني علاج ، كما في سيرة ابن هشام.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٣٦ ، السير والمغازي ١١٣ وفيه : «فانظر ما هي».

(٥) سيرة ابن كثير ١ / ٤١٧ وعيون الأثر ١ / ٥٥.

١٢١

وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أنّ غير واحد من الكهّان أخبره رئيه من الجنّ بأسجاع ورجز ، فيها ذكر مبعث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع من هواتف الجانّ من ذلك أشياء.

وبالإسناد إلى ابن إسحاق (١) قال : حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا : إنّ مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا ، أنّا كنّا نسمع من يهود ، وكنّا أصحاب أوثان ، وهم أهل كتاب ، وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم قالوا إنّه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، وكنّا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلمّا بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجبناه حين دعانا ، وعرفنا ما كانوا يتوعّدوننا به ، فبادرناهم إليه ، فآمنّا به وكفروا به ، ففي ذلك نزل (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) الآيات.

حدّثني (٣) صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمود بن لبيد ، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال : كان لنا جار يهودي ، فخرج يوما حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا أحدثهم سنّا ، فذكر القيامة والحساب والميزان والجنّة والنّار ، قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثا بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى هذا كائنا (٤) أنّ النّاس يبعثون (٥)! قال : نعم (٦) قالوا : فما آية ذلك؟ قال : نبيّ مبعوث من نحو هذه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٥ ، وعيون الأثر ١ / ٥٨.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٨٩.

(٣) القائل هو ابن إسحاق.

(٤) في الأصل «كائن» والتصحيح من سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٥.

(٥) في السيرة إضافة «بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يجزون فيها بأعمالهم» ..

(٦) في السيرة إضافة «والّذي يحلف به» ويودّ أن له بحظّه من تلك النار أعظم تنّور في الدار ، يحمونه ثم يدخلونه إيّاه فيطيّنونه عليه ، بأن ينجو من تلك النار غدا. فقالوا له : ويحك يا فلان».

١٢٢

البلاد ، وأشار إلى مكة واليمن ، قالوا : ومتى نراه؟ قال ، فنظر إليّ وأنا حدث فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه ، قال سلمة : فو الله ما ذهب اللّيل والنّهار حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حيّ بين أظهرنا ، فآمنّا به وكفر به بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت! قال : بلى ، ولكن ليس به (١).

حدّثني (٢) عاصم بن عمر ، عن شيخ من بني قريظة قال لي : هل تدري عمّ كان الإسلام لثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، نفر من إخوة بني قريظة ، كانوا معهم في جاهليّتهم ، ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قلت : لا والله ، قال : إنّ رجلا من يهود الشام يقال له ابن الهيّبان (٣) قدم علينا قبل الإسلام بسنين ، فحلّ بين أظهرنا ، والله ما رأينا رجلا قطّ لا يصلّي الخمس أفضل منه ، فأقام عندنا فكان إذا قحط عنّا المطر يأمرنا بالصّدقة ويستسقي لنا ، فو الله ما يبرح من مجلسه حتى نسقي ، قد فعل ذلك غير مرّتين (٤) ولا ثلاث ، ثم حضرته الوفاة ، فلمّا عرف أنّه ميّت قال : يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر (٥) والخمير ، إلى أرض البؤس؟ قلنا : أنت أعلم ، قال : إنّما قدمت أتوكّف (٦) خروج نبيّ قد أظلّ زمانه ، وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلّكم زمانه ، فلا تسبقنّ إليه يا معشر يهود ، فإنّه يبعث بسفك الدّماء وسبي الذّراريّ والنّساء ممّن خالفه ، فلا يمنعنكم ذلك منه.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، عيون الأثر ١ / ٥٦ ، ٥٧.

(٢) القائل هو ابن إسحاق.

(٣) في الأصل «التيهان» ، والتصحيح من سيرة ابن هشام ، والروض الأنف ١ / ٢٤٦ ، وعيون الأثر ١ / ٥٨ ، ونهاية الأرب ١٦ / ١٤٤ وهو بفتح الهاء وكسر الياء المشدّدة وفتح الباء.

(٤) في السيرة وغيرها «غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاث».

(٥) في السيرة الحلبية ١ / ١٨٥ «من أهل الخمر» بالتحريك ، وبإسكان الميم ، وهو الشجر الملتفّ».

(٦) أتوقّع.

١٢٣

فلمّا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية ، وكانوا شبّانا أحداثا : يا بني قريظة ، والله إنّه للنّبيّ الّذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيّبان ، قالوا : ليس به ، فنزل هؤلاء وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم (١).

وبه قال ابن إسحاق (٢) : وكانت خديجة قد ذكرت لعمّها ورقة بن نوفل ، وكان قد قرأ الكتب وتنصّر ، ما حدّثها ميسرة من قول الرّاهب وإظلال الملكين ، فقال : لئن كان هذا حقا يا خديجة إنّ محمدا لنبيّ هذه الأمّة ، وقد عرف أنّ لهذه الأمّة نبيّا ينتظر زمانه ، قال : وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول : حتى متّى ، وقال :

لججت وكنت في الذّكرى لجوجا

لهمّ طالما بعث النّشيجا (٣)

ووصف من خديجة بعد وصف

فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكّتين (٤) على رجائي

حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قسّ

من الرّهبان أكره أن يعوجا

بأنّ محمدا سيسود قوما (٥)

ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور

يقيم به البريّة أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا

ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتني إذا ما كان (٦) ذاكم

شهدت فكنت أوّلهم ولوجا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٦ ، الروض الأنف ١ / ٢٤٦ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٤٤ ، ١٤٥ ، عيون الأثر ١ / ٥٨ ، ٥٩ ، السيرة الحلبية ١ / ١٨٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٨٥ ، ٥٨٦.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٦.

(٣) البكاء.

(٤) قال السهيليّ : ثنّى مكة وهي واحدة ، لأن لها بطاحا وظواهر (الروض الأنف ١ / ٢١٨) وقال القاضي الفاسي في شفاء الغرام ١ / ٨٢ (بتحقيقنا) : وأمّا تسميتها المكتان ، فذكره شيخنا بالإجازة أديب الديار المصرية برهان الدين القيراطي في ديوان شعره ، ثم ذكر هذا البيت.

(٥) في السيرة «فينا» بدل «قوما».

(٦) في الأصل «كنت» ، والتصحيح من سيرة ابن هشام.

١٢٤

فإن يبقوا وأبق تكن أمور

يضجّ الكافرون لها ضجيجا (١)

وقال سليمان بن معاذ الضّبّي ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ بمكة لحجرا كان يسلّم عليّ ليالي بعثت إنّي لأعرفه الآن» رواه أبو داود (٢).

وقال يحيى بن أبي كثير : ثنا أبو سلمة قال : سألت جابرا أيّ القرآن أنزل أوّل (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (٣) أو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٤) فقال : ألا أحدّثكم بما حدّثني به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : إني جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي (٥) فنوديت فنظرت أمامي وخلفي ، وعن يميني وشمالي ، فلم أر شيئا (٦) ثم نظرت إلى السّماء ، فإذا هو على عرش في الهواء ، يعني الملك (٧) ، فأخذني رجفة (٨) فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثّروني ، ثم صبّوا عليّ الماء ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (٩).

وقال الزّهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدّث عن فترة الوحي ، قال : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٧ ـ ٢١٩ وفيه أبيات زائدة عمّا هنا.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٢٥٣ رقم ٣٧٠٣ في المناقب ، باب رقم ٢٦ ، وأخرجه مسلم ٢٢٧٧ في كتاب.

الفضائل ، باب فضل نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوّة ، ورواه القاضي الفاسي في شفاء الغرام ١ / ٤٣٩ قال أبو داود : هذا حديث حسن غريب.

(٣) أوّل سورة المدّثّر.

(٤) أوّل سورة العلق.

(٥) في صحيح مسلم «بطن الوادي».

(٦) في الصحيح «أحدا» بدل «شيئا». وفيه زيادة :

«ثم نوديت. فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي».

(٧) يعني جبريل عليه‌السلام.

(٨) في الصحيح «فأخذتني رجفة شديدة».

(٩) أخرجه البخاري ٦ / ٧٤ كتاب التفسير ، سورة المدّثّر ، ومسلم (١٦١) كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحمد في مسندة ٣ / ٣٠٦ وتكرر في الصفحة ، و ٣٩٢ ، ورواه البيهقي في دلائل النبوّة ١ / ٤١٠.

١٢٥

فرفعت رأسي ، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السّماء والأرض فجئت (١) منه رعبا ، فرجعت ، فقلت : زمّلوني فدثّروني ، ونزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وهي الأوثان. متّفق عليه (٢). وهو نصّ في أنّ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) نزلت بعد فترة الوحي الأول ، وهو (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فكان الوحي الأول للنّبوّة والثّاني للرسالة.

__________________

(١) في الأصل «فجثيت» وفي دلائل النبوّة للبيهقي «فجشيت منه فرقا». وما أثبتناه عن تاريخ الطبري ٢ / ٣٠٥.

(٢) انظر التخريج قبل قليل ، وتفسير الطبري (طبعة بولاق) ٢٩ / ٩٠.

١٢٦

فأوّل من آمن به خديجة (رضي‌الله‌عنها)

قال عزّ الدّين أبو الحسن بن الأثير (١) : خديجة أوّل خلق الله أسلم بإجماع المسلمين ، لم يتقدّمها رجل ولا امرأة.

وقال الزّهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، وابن إسحاق ، والواقدي ، وسعيد بن يحيى الأموي ، وغيرهم : أوّل من آمن بالله ورسوله : خديجة ، وأبو بكر ، وعليّ (٢).

وقال حسّان بن ثابت وجماعة : أبو بكر أوّل من أسلم (٣).

وقال غير واحد : بل عليّ.

وعن ابن عبّاس : فيهما قولان ، لكن أسلم عليّ وله عشر سنين (٤) أو

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ٥٧ ، وأسد الغابة ٥ / ٤٣٤.

(٢) انظر السير والمغازي ١ / ١٣٩ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٢٧٧ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٧٥ و ١٨٠ ، عيون الأثر ١ / ٩١ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ١١٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٣٠٩ ، ٣١٠ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢١٩.

(٣) انظر صفة الصفوة ١ / ٢٣٧ وفيه أن الجماعة غير حسّان هم : ابن عباس ، وأسماء بنت أبي بكر ، وإبراهيم النخعي. وانظر نهاية الأرب ١٦ / ١٨٠.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٤ ، الاستيعاب ٣ / ٢٧ ، السير والمغازي ١٣٧.

١٢٧

نحوها على الصحيح ، وقيل : وله ثمان سنين ، وقيل : تسع ، وقيل : اثنتا عشرة ، وقيل : خمس عشرة ، وهو قول شاذّ ، فإنّ ابنه محمدا ، وأبا جعفر الباقر ، وأبا إسحاق السّبيعيّ (١) وغيرهم قالوا : توفّي وله ثلاث وستّون سنة.

فهذا يقضي بأنّه أسلم وله عشر سنين ، حتى إنّ سفيان بن عيينة روى عن جعفر الصّادق ، عن أبيه قال : قتل عليّ وله ثمان وخمسون سنة (٢).

وقال ابن إسحاق (٣) : أوّل ذكر آمن بالله عليّ رضي‌الله‌عنه ، وهو ابن عشر سنين ، ثم أسلم زيد مولى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أسلم أبو بكر.

وقال الزّهري : كانت خديجة أوّل من آمن بالله ، وقبل الرسول رسالة ربّه وانصرف إلى بيته ، وجعل لا يمرّ على شجرة ولا صخرة إلّا سلّمت عليه ، فلمّا دخل على خديجة قال : أرأيتك الّذي كنت أحدّثك أنّي رأيته في المنام ، فإنّه جبريل استعلن لي ، أرسله إليّ ربّي ، وأخبرها بالوحي ، فقالت : أبشر ، فو الله لا يفعل الله بك إلّا خيرا ، فأقبل الّذي جاءك من الله فإنّه حقّ ، ثم انطلقت إلى عداس غلام عتبة بن ربيعة ، وكان نصرانيا من أهل نينوى (٤) فقالت : أذكّرك الله إلّا ما أخبرتني ، هل عندك علم من جبريل؟ فقال عداس (٥) : قدّوس قدّوس. قالت : أخبرني بعلمك فيه ، قال : فإنّه أمين الله بينه وبين النّبيّين ، وهو صاحب موسى ، وعيسى عليهما‌السلام. فرجعت من عنده إلى ورقة. فذكر الحديث (٦).

__________________

(١) في بعض النسخ «السبعي» وهو وهم.

(٢) انظر اختلاف الأقوال حول تاريخ إسلامه ووفاته في الاستيعاب ٣ / ٣٠ ، ٣١ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٨١ ، تاريخ الطبري ٢ / ٣٠٩ ، ٣١٠ عيون الأثر ١ / ٩٢.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٤.

(٤) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح النون والواو. هي قرية يونس بن متّى عليه‌السلام ، بالموصل (معجم البلدان ٥ / ٣٣٩).

(٥) انظر عنه في تاريخ الطبري ٢ / ٣٤٦.

(٦) انظر : دلائل النبوة للبيهقي ١ / ٤١٤ ، عيون الأثر ١ / ٨٦ ، ٨٧ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ٤٢٨.

١٢٨

وقد رواه ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزّبير بنحو منه ، وزاد : ففتح جبريل عينا من ماء فتوضّأ ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إليه ، فوضّأ وجهه ويديه إلى المرفقين ، ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثم نضح فرجه ، وسجد سجدتين مواجه البيت ، ففعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رأى جبريل يفعل (١).

ومن معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، حدّثني عبد الملك بن عبد الله (٢) بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثّقفي ، عن بعض أهل العلم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنّبوّة ، كان لا يمرّ بحجر ولا شجر إلّا سلّم عليه وسمع منه ، وكان يخرج إلى حراء في كلّ عام شهرا من السنة ينسك فيه (٣).

وقال سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) المغازي لعروة ١٠٣ ، ١٠٤ وروى الحارث بن أبي أسامة قال : حدّثنا الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بن زيد ، قال : حدّثني أبي زيد بن حارثة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل عليه‌السلام ، فعلّمه الوضوء ، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة ماء فنضح بها فرجه. (الروض الأنف ١ / ٢٨٤) وقال ابن إسحاق : وحدّثني بعض أهل العلم أنّ الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبة في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضّأ جبريل ـ عليه‌السلام ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما رأى جبريل توضّأ ، ثم قام به جبريل فصلّى به ، وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاته. ثم انصرف جبريل عليه‌السلام. (سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٣).

وانظر «الأوائل لابن أبي عاصم النبيل ٣٦ ، ٣٧ رقم ٣٩ من طريق الزهري عن عروة ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه زيد بن حارثة.

أخرجه النسائي ١٣٤ ، ١٣٥ ، وابن ماجة ٤٦١ ، وأبو داود ١٦٦ ، ١٦٧ ، وأحمد ٤ / ١٦١ ، والبيهقي ١ / ١٦١.

(٢) هكذا في الأصل ، وفي أصل نهاية الأرب للنويري ١٦ / ١٦٩ وهو في سيرة ابن هشام «عبد الملك ابن عبيد الله» وانظر دلائل النبوّة للبيهقي ١ / ٤٠٢.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٦ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٦٩.

١٢٩

«إنّي لأعرف حجرا بمكة يسلّم عليّ قبل أن أبعث». أخرجه مسلّم (١).

وقال الوليد بن أبي ثور وغيره ، عن إسماعيل السّدّيّ ، عن عبّاد بن عبد الله ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ولا جبل إلّا قال : السّلام عليك يا رسول الله. أخرجه التّرمذي (٢) وقال : غريب.

وقال يوسف بن يعقوب القاضي : ثنا أبو الرّبيع ، ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : جاء جبرئيل إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خارج من مكة ، قد خضبه أهل مكة بالدّماء ، قال : مالك؟ قال : خضّبني هؤلاء بالدّماء وفعلوا وفعلوا ، قال : تريد أن أريك آية؟ قال : نعم ، قال : ادع تلك الشجرة ، فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءت تخطّ الأرض حتى قامت بين يديه ، قال : مرها فلترجع إلى مكانها ، قال : ارجعي إلى مكانك فرجعت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبي. هذا حديث صحيح (٣).

وقال ابن إسحاق (٤) : حدّثني وهب بن كيسان ، سمعت عبد الله بن الزّبير يقول لعبد الله بن عمير بن قتادة اللّيثي ، حدثت أبا عبيد الله عن كيف كان بدء ما ابتدأ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النّبوّة حين جاءه جبريل ، فقال عبيد الله بن عمير : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاور في حراء من كلّ سنة شهرا ، وكان ذلك ممّا

__________________

(١) في صحيحه (٢٢٧٧) كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوّة ، والترمذي في سننه ٥ / ٢٥٣ رقم ٣٧٠٣ في المناقب ، باب رقم ٢٦ وقال : هذا حديث حسن غريب ، وابن سيد الناس في عيون الأثر ١ / ٨٩ ، والقاضي الفاسي في شفاء الغرام ١ / ٤٣٩.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٢٥٣ في المناقب ، باب رقم ٢٧ (٣٧٠٥).

(٣) أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن (٤٠٢٨) وقال : في الزوائد : هذا إسناد صحيح ، إن كان أبو سفيان ، واسمه طلحة بن نافع ، سمع من جابر ، وانظر دلائل النبوة للبيهقي ١ / ٤٠٩.

(٤) سيرة ابن هشام ٢٦٧.

١٣٠

تتحنّث به قريش في الجاهلية. والتحنّث التبرّر.

قال ابن إسحاق (١) : فكان يجاور ذلك في كلّ سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى جواره من شهره ، كان أول ما يبدأ به الكعبة ، فيطوف ثم يرجع إلى بيته ، حتى إذا كان الشهر الّذي أراد الله كرامته ، وذلك الشهر رمضان ، خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حراء ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاءني وأنا نائم بنمط (٢) من ديباج فيه كتاب ، فقال : اقرأ ، قلت : ما أقرأ؟ قال : فغتّني (٣) به حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : وما أقرأ؟ فغتّني حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، قلت : وما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلّا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله (ما لَمْ يَعْلَمْ) (٤) ، فقرأتها ثم انتهى عنّي ، وهببت من نومي ، فكأنّما كتبت في قلبي كتابا.

في هذا المكان زيادة ، زادها يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٥) ، وهي : ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون فكنت لا أطيق أن انظر إليهما ، فقلت : إنّ الأبعد ، يعني نفسه ، لشاعر أو مجنون ، ثم قلت : لا تحدّث عنّي قريش بهذا أبدا ، لأعمدنّ إلى حالق من الجبل ، فلأطرحنّ نفسي فلأستريحنّ ، فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، فرفعت

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٨.

(٢) النمط : ضرب من البسط له حمل رقيق ، لا يكادون يقولون (نمط) إلا لما كان ذا لون من حمرة أو خضرة أو صفرة. (لسان العرب).

(٣) كأنه أراد عصرني عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقّة. (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير).

(٤) سورة العلق ـ الآيات ١ ـ ٥.

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٩.

١٣١

رأسي إلى السماء ، فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء ، فقال : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، فوقفت انظر إليه ، فما أتقدّم ولا أتأخّر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، فلا انظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها ، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عنّي ، فانصرفت إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها (١) فقالت : يا أبا القاسم اين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا ، ثم حدّثتها بالذي رأيت ، فقالت : أبشر يا بن عمّي (٢) واثبت فو الّذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمّة (٣).

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمّها ، وكان قد تنصّر وقرأ الكتب ، فأخبرته بما رأى وسمع ، فقال ورقة : قدّوس قدّوس ، والّذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة ، لقد جاءه النّاموس الأكبر الّذي يأتي موسى ، وإنّه لنبيّ هذه الأمّة ، فقولي له فليثبت ، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بقول ورقة ، فلما قضى جواره طاف بالكعبة ، فلقيه ورقة وهو يطوف فقال : أخبرني بما رأيت وسمعت ، فأخبره ، فقال : والّذي نفسي بيده إنك لنبيّ هذه الأمّة ، ولقد جاءك النّاموس الأكبر الّذي جاء موسى ولتكذّبنّه ولتؤذنّه ولتخرجنّه ولتقاتلنّه ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه ، ثم أدنى رأسه منه فقبّل يافوخه (٤).

__________________

(١) أضفت إلى الرجل : إذا ملئت نحوه ولصقت به.

(٢) في بعض المراجع «يا بن عم» وكلاهما صواب.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٩ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٧٠ ، ١٧١ ، عيون الأثر ١ / ٨٦.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٠ ، الروض الأنف ١ / ٢٧٤ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٧١ ، ١٧٢ ، عيون الأثر ١ / ٨٦ ، ٨٧ ، السير والمغازي ١٢٢.

١٣٢

وقال موسى بن عقبة في «مغازيه» : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا أوّل ما رأى أنّ الله أراه رؤيا في المنام ، فشقّ ذلك عليه ، فذكرها لخديجة ، فعصمها الله وشرح صدرها بالتّصديق ، فقالت : أبشر ، ثم أخبرها أنّه رأى بطنه شقّ ثم طهّر وغسّل ثم أعيد كما كان ، قالت : هذا والله خير فأبشر ، ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة ، فأجلسه في مجلس كريم معجب كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أجلسني على بساط كهيئة الدّرنوك (١) فيه الياقوت واللّؤلؤ ، فبشّره برسالة الله عزوجل حتى اطمأنّ.

الّذي فيها من شقّ بطنه يحتمل أن يكون أخبرها بما تمّ له في صغره ويحتمل أن يكون شقّ مرّة أخرى ، ثم شقّ مرة ثالثة حين عرج به إلى السماء.

وقال ابن بكير عن ابن إسحاق ، فأنشد ورقة :

إن (٢) يك حقّا يا خديجة فاعلمي

حديثك إيّانا فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصّدر منزل

يفوز به من فاز فيها بتوبة

ويشقى به العاني الغويّ المضلّل

فسبحان من تهوي الرّياح بأمره

ومن هو في الأيّام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السّماوات كلّها

وأقضاؤه في خلقه لا تبدّل (٣)

__________________

(١) ستر له خمل. (النهاية).

(٢) في البيت خرم.

(٣) في نسخة دار الكتب ، والمنتقى لابن الملا ، وفي (ع).

ومن حكمه في خلقه لا يبدّل.

وفي دلائل النبوة للبيهقي ١ / ٤٠٤.

ومن أحكامه في خلقه لا تبدّل.

والأبيات في السير والمغازي لابن إسحاق ١٢٣ مع زيادة عمّا هنا ، وانظر سيرة ابن كثير ١ / ٤٠٠.

١٣٣

وقال ابن إسحاق (١) حدّثني إسماعيل بن أبي حكيم (٢) أنّ خديجة قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : أي ابن عمّ ، إن استطعت أن تخبرني بصاحبك هذا الّذي يأتيك إذا جاءك ، قال : «نعم» ، قال ، فلمّا جاءه قال : «يا خديجة هذا جبريل» هل تراه؟ قالت : يا بن عمّ قم فاجلس على فخذي اليسرى ، فقام فجلس عليها ، قالت : هل تراه : قال نعم ، قالت : فتحوّل فاقعد على فخذي اليمنى ، فتحوّل فقعد على فخذها ، قالت : هل تراه؟ قال : نعم ، قالت : فاجلس في حجري ، ففعل ، قالت : هل تراه : قال : «نعم» ، فتحسّرت فألقت خمارها ، ثم قالت : هل تراه؟ قال : «لا» قالت : اثبت وأبشر فو الله إنّه لملك وما هذا بشيطان (٤).

قال : وحدّثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال : قد سمعت أمّي فاطمة بنت حسين تحدّث هذا الحديث ، عن خديجة ، إلّا أنّي سمعتها تقول : أدخلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل ، فقالت : إنّ هذا لملك وما هو بشيطان (٥).

وقال أبو صالح : نا اللّيث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن عبّاد بن جعفر المخزومي أنّه سمع بعض علمائهم يقول : كان أوّل ما أنزل الله على نبيّه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله (ما لَمْ يَعْلَمْ) فقالوا : ، هذا صدرها الّذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حراء ، ثم أنزل آخرها بعد بما شاء الله.

__________________

(١) السير والمغازي ١٣٣.

(٢) هو مولى الزبير.

(٣) في السير والمغازي «فيما تثبّتته به ، فيما أكرمه الله به من نبوّته».

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، السير والمغازي ١٣٣ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٧٤ ، ١٧٥.

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٣ ، ٢٧٤ السير والمغازي ١٣٤.

١٣٤

وقال ابن إسحاق (١) : ابتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنزيل في رمضان ، قال الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٣) وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٤).

قال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق (٥) قال : همز جبريل بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت عين ، فتوضّأ جبريل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صلّى ركعتين ورجع ، وقد أقرّ الله عينه ، وطابت نفسه ، فأخذ بيد خديجة ، حتى أتى بها العين فتوضّأ كما توضّأ جبريل ، ثم صلّى ركعتين هو وخديجة ، ثم كان هو وخديجة يصلّيان سرّا ، ثم إنّ عليّا جاء بعد ذلك بيوم (٦) فوجدهما يصلّيان فقال عليّ : ما هذا يا محمد.

فقال : دين اصطفاه الله لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده (٧) ، وكفر باللّات والعزّى.

فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاض أمرا حتى أحدّث به أبا طالب ، وكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفشي عليه سرّه قبل أن يستعلن عليه أمره ، فقال له : يا عليّ إن لم تسلّم فأكتم ، فمكث عليّ تلك الليلة (٨) ثم أوقع الله في قلبه الإسلام ، فأصبح فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقي يأتيه على خوف من أبي طالب ، وكتم إسلامه.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٧٥.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ١٨٥.

(٣) سورة القدر ـ الآية ١.

(٤) سورة الدخان ـ الآية ٣.

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٣ ، السير والمغازي ١٣٧.

(٦) في السير «بيومين».

(٧) في السير «وإلى عبادته».

(٨) في السير «ثم إن الله».

١٣٥

وأسلم زيد بن حارثة ، فمكثا قريبا من شهر يختلف عليّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ممّا أنعم الله على عليّ أنّه كان في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الإسلام (١).

وقال سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق (٢) ، حدّثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : أصابت قريشا أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعبّاس عمّه ـ وكان موسرا ـ إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب النّاس ، ما ترى ، فانطلق لنخفّف عنه من عياله ، فأخذ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ، وضمّه إليه ، فلم يزل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعثه الله نبيّا فاتّبعه عليّ وآمن به.

وقال الدّراورديّ ، عن عمر بن عبد الله ، عن محمد بن كعب القرظيّ قال : إنّ أوّل من أسلّم خديجة ، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعليّ ، وإنّ أبا بكر أول من أظهر الإسلام ، وإنّ عليّا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه ، حتى لقيه أبوه فقال : أسلمت؟ قال : نعم ، قال : آزر ابن عمّك وانصره.

وقال : أسلّم عليّ قبل أبي بكر.

وقال يونس : عن ابن إسحاق : حدّثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلّا كانت عنده (٣) كبوة وتردّد ونظر ، إلّا أبا بكر ، ما عتم (٤) عنه حين

__________________

(١) السير والمغازي ١٣٧.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٥.

(٣) في سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٩ «كانت فيه عنده» وفي السير والمغازي ١٣٩ «كانت له عنوة كبوة».

(٤) في هامش الأصل «تأخر» وفي نهاية الأرب ١٦ / ١٨٧ وعيون الأثر ١ / ٩٥ «عكم» أي ما أحتبس وما انتظر ولا عدل.

١٣٦

ذكرته وما تردّد فيه» (١).

وقال إسرائيل ، عن ابن إسحاق ، عن أبي ميسرة إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا برز ، سمع من يناديه ، يا محمد ، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا ، فأسرّ ذلك إلى أبي بكر ، وكان نديما له في الجاهلية (٢).

إسلام السّابقين الأوّلين

قال ابن إسحاق (٣) : ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا حضرت الصّلاة ، خرج إلى شعاب مكة ومعه عليّ (٤) فيصلّيان (٥) فإذا أمسيا رجعا ، ثم إنّ أبا طالب عبر عليهما وهما يصلّيان ، فقال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن أخي ما هذا؟ قال : أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين إبراهيم ، بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عمّ أحقّ من بذلت له النّصيحة ودعوته إلى الهدى وأحقّ من أجابني وأعانني ، فقال أبو طالب : أي ابن أخي لا أستطيع أن أفارق دين آبائي ، ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت ، ولم يكلّم عليّا بشيء يكره ، فزعموا أنّه قال : أما إنّه لم يدعك إلّا إلى خير فاتّبعه (٦).

ثم أسلّم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أوّل ذكر أسلّم ، وصلّى بعد عليّ رضي‌الله‌عنهما (٧).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٩ ، السير والمغازي ١٣٩ ، نهاية الأرب ١٦ / ٧١٧ ، عيون الأثر ١ / ٩٥.

(٢) كتب هنا على حاشية الأصل : «بلغت قراءة خليل بن أبيك في الميعاد الثاني ، وسمع منه قصة سلمان الفارسيّ إلى آخره. محصن بن عكّاشة».

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٥.

(٤) في السيرة «عليّ بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب» وفي نهاية الأرب «مستخفيا من عمّه».

(٥) في السيرة «فيصلّيان الصلوات فيها».

(٦) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٥ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٨٢ ، عيون الأثر ١ / ٩٣ ، ٩٤.

(٧) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٦ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٨٣ ، عيون الأثر ١ / ٩٤.

١٣٧

وكان حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق ، فدخلت عمّته خديجة بنت خويلد فقال : اختاري أيّ هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ، فاختارت زيدا ، فأخذته ، فرآه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستوهبه ، فوهبته له ، فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي ، ثم قدم أبوه حارثة لموجدته عليه وجزعه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن شئت فأقم عندي ، وإن شئت فانطلق مع أبيك» ، قال : بل أقيم عندك ، وكان يدعى زيد بن محمد ، فلمّا نزل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) (١) قال : أنا زيد بن حارثة (٢).

وقال ابن إسحاق (٣) : وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبّبا سهلا ، وكان أنسب قريش لقريش ، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف ، فجعل لمّا أسلّم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ، ممّن يغشاه ، ويجلس إليه ، فأسلّم بدعائه : عثمان ، والزّبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقّاص ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسلموا وصلّوا ، فكان هؤلاء النّفر الثمانية أوّل من سبق بالإسلام وصلّوا وصدّقوا (٤).

ثم أسلّم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح الفهري ، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله المخزومي ، والأرقم بن أبي الأرقم ابن أسد بن عبد الله المخزوميّ. وعثمان بن مظعون الجمحيّ ، وأخواه قدامة وعبد الله وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطّلبيّ ، وسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطّاب ، وأسماء بنت أبي بكر ، وخبّاب بن الأرتّ حليف بني زهرة ، وعمير بن أبي وقّاص أخو سعد ، وعبد الله بن مسعود ، وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامريّ ،

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ الآية ٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٨٤ ، عيون الأثر ١ / ٩٤.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٨ ، السير والمغازي ١٤٠.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٨ ، ٢٨٩ ، السير والمغازي ١٤٠ ، نهاية الأرب ١٦ / ٧١٧ ، عيون الأثر ١ / ٩٤ ، ٩٥.

١٣٨

وأخوه حاطب ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزوميّ ، وامرأته أسماء ، وخنيس (١) بن حذافة السّهميّ ، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطّاب ، وعبد الله وأبو أحمد ابنا جحش بن رئاب الأسدي ، وجعفر بن أبي طالب ، وامرأته أسماء بنت عميس ، وحاطب بن الحارث الجمحيّ ، وامرأته فاطمة بنت المجلّل ، وأخوه خطّاب ، وامرأته فكيهة بنت يسار ، ومعمر بن الحارث أخوهما ، والسّائب بن عثمان بن مظعون ، والمطّلب بن أزهر بن عبد عوف العدوي الزّهريّ ، وامرأته رملة بنت أبي عوف ، والنّحّام وهو نعيم بن عبد الله ابن أسد (٢) العدوي ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وخالد بن سعيد بن العاص بن أميّة ، وامرأته أمينة (٣) بنت خلف ، وحاطب بن عمرو ، وأبو حذيفة مهشم بن عتبة بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله حليف بني عديّ ، وخالد ، وعامر ، وعاقل (٤) وإياس بنو البكير حلفاء بني عديّ ، وعمّار بن ياسر حليف بني مخزوم ، وصهيب بن سنان النّمريّ حليف بني تيم (٥).

وقال محمد بن عمر الواقدي : حدّثني الضّحاك بن عثمان ، عن مخرمة بن سليمان الواليّ ، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال : قال طلحة بن عبيد الله : حضرت سوق بصرى ، فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل الموسم ، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة : قلت : نعم أنا ، فقال : هل ظهر أحمد بعد؟ قلت : ومن أحمد؟ قال : ابن عبد الله بن عبد

__________________

(١) في الأصل «حنيس» والتصحيح من السيرة ، والسير والمغازي ، ونهاية الأرب وغيره.

(٢) في السيرة «أسيد». وقال : وإنّما سمّي النّحّام

لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد سمعت نحمه في الجنّة»

قال ابن هشام : نحمه : صوته وحسّه.

(٣) في اسمها خلاف ، فيقال «أميمة». انظر الاستيعاب ، وتجريد أسماء الصحابة.

(٤) كان اسمه «غافل» فسمّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عاقلا» قتل ببدر وسنّه ٣٤ سنة.

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢٩٠ ـ ٢٩٤ ، والسير والمغازي ١٤٣ ، ١٤٤ وفيه أن صهيب حليف بني «تميم» وهو خطأ ، نهاية الأرب ١٦ / ١٨٨ ـ ١٩١ ، عيون الأثر ١ / ٩٤ ـ ٩٧.

١٣٩

المطّلب ، هذا شهره الّذي يخرج فيه ، وهو آخر الأنبياء ، مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرّة وسباخ ، فإيّاك أن تسبق إليه قال طلحة : فوقع في قلبي ، فأسرعت إلى مكة ، فقلت : هل من حدث؟ قالوا : نعم ، محمد بن عبد الله الأمين تنبّأ ، وقد تبعه ابن أبي قحافة ، فدخلت عليه فقلت : اتّبعت هذا الرجل؟ قال : نعم فانطلق فاتّبعه ، فأخبره طلحة بما قال الرّاهب ، فخرج به حتى دخلا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلّم طلحة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فلمّا أسلّم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدّهما في حبل واحد ، ولم يمنعهما بنو تيم ، وكان نوفل يدعى «أسد قريش» ، فلذلك سمّي أبو بكر وطلحة : القرينين.

وقال إسماعيل بن مجالد ، عن بيان بن بشر ، عن وبرة (١) ، عن همّام قال : سمعت عمّار بن ياسر يقول : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما معه إلّا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. أخرجه البخاريّ (٢).

قلت : ولم يذكر عليّا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين.

وقال العبّاس بن سالم ، ويحيى بن أبي كثير ، عن أبي أمامة ، عن عمرو بن عبسة (٣) قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة مستخفيا ، فقلت : من أنت؟ قال : «نبيّ» قلت : وما النّبيّ؟ قال : «رسول الله» ، قلت : الله أرسلك؟ قال : «نعم» ، قلت : بم أرسلك؟ قال : «بأن يعبد الله وتكسر الأوثان وتوصل الأرحام» ، قلت : نعم ما أرسلت به ، فمن تبعك؟ قال : «حرّ وعبد» ، يعني أبا بكر وبلالا ، فكان عمرو يقول : لقد رأيتني وأنا رابع أربعة ، فأسلمت وقلت : أتّبعك يا رسول الله ، قال : «لا ولكن الحق

__________________

(١) هو وبرة بن عبد الرحمن المسلي الكوفي. (تهذيب التهذيب ١١ / ١١١ رقم ١٩٤).

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١٩٢ كتاب الفضائل ، باب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلّم.

(٣) بعين وموحّدة مفتوحتين. وفي نسخة دار الكتب «عنبسة» وهو تصحيف. انظر : سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٥٦ وفيه مصادر ترجمته.

١٤٠