الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

القرآن والأخبار المتواترة عن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ القول بأن المعاد الجسمانى : حق. ونشاهد أن الانسان يموت وتتفرق أجزاء بدنه.

ثم عند هذا لا يخلو اما أن تكون اعادة المعدوم جائزة ، أو لا تكون. فان كانت جائزة ، فقد زالت الاشكالات ، وان لم تكن جائزة ، وجب القطع ببقاء النفس الانسانية ، حتى يصح القول بالمعاد الجسمانى.

واقصى ما فى الباب : أن هذا يفضى الى تخصيص تلك العمومات. الا أن الدلائل الدالة على وقوع المعاد الجسمانى قاطعة. وتخصيص ظواهر العمومات ، وان كان خلاف الأصل الا أنه غير ممتنع ، وتقديم القاطع على المحتمل واجب. ومن أنصف وترك العناد ، علم أن هذه المباحث وافية بازالة الاشكالات المذكورة فى هذا الباب.

والجواب عن الشبهة الثانية : هو انا بينا أن المعتبر فى الحشر والنشر ، اعادة الأجزاء الأصلية ، لا اعادة الأجزاء الفاضلة. والأجزاء الأصلية ، لكل مكلف أجزاء فاضلة بالنسبة الى غيره. وعلى هذا التقدير فالاشكال زائل. وأما إن قلنا بأن الشيء الّذي هو الانسان باق مصون عن التبدل والانحلال ، فهذا الاشكال غير متوجه البتة.

وبهذا الحرف يظهر الجواب عن الشبهة الثالثة : وذلك لأن المأمور والمنهى والمثاب والمعاقب ، هو تلك الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر الى آخره. فأما الزوائد التى تتبدل باختلاف أحوال السمن والهزال ، فلا عبرة بها.

وبه يظهر الجواب عن الشبهة الرابعة : لأن الأجزاء التى تصير أبخرة وتنفصل عن العضو وتتصل بعضو آخر ، فهى من الأجزاء الفاضلة ، ولا عبرة بها فى الحشر والنشر. وكل من أنصف علم أن هذه الأجوبة وافية بدفع هذه الشبهات.

٦١

أما المقام الثانى ـ وهو القطع بوقوع المعاد الجسمانى ـ فلنا إليه طريقان : السمع ، والعقل. أما الطريق السمعى. فهو أن نقول : لما ثبت بالدليل العقلى جوازه ، وثبت بالنقل المتواتر عن جميع الأنبياء والرسل عليهم‌السلام وقوعه ، وجب القطع بوقوعه. لأن الصادق اذا خبر عن وقوع أمر ممكن الوقوع ، وجب القطع به.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ انما أثبتوا المعاد الجسمانى ، لأن القول بالمعاد الروحانى حق. وأكثر الخلق لا يمكنهم تصور المعاد الروحانى. فالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ذكروا هذا المعاد الجسمانى ، ليحصل به نظام العالم ، ثم إن من كان قوى العقل ، عرف أنه لا بد من تأويل هذه الظواهر؟

قالوا : والّذي يحقق ذلك : أن المبدأ المذكور فى الكتب الالهية ، مذكور على وجه يوهم أن ذلك المبدأ الجسمانى. ثم ان المتكلمين سلطوا التأويلات على تلك الظواهر ، وزعموا: أن المبدأ منزه عن الأحوال الجسمانية ، فكذا المعاد المذكور فى الكتب الالهية. وان كان جسمانيا. فلم لا يسلطون التأويلات عليها؟ ولم ينكرون أن يكون ذلك المعاد مبدأ عن الأحوال الجسمانية؟

فالحاصل : أن الحشوية تمسكوا بالظواهر ، وزعموا : أن الحق هو المبدأ الجسمانى والمعاد الجسمانى.

والفلاسفة سلطوا التأويلات على الظواهر ، وزعموا : أن المبدأ منزه عن الأحوال الجسمانية. وكذا المعاد.

وأما المتكلمون. فقد سلطوا التأويلات على الظواهر الواردة فى جسمانية المبدأ ، واحترزوا عن تأويلات الظواهر الواردة فى جسمانية المعاد فقط. فكان هذا تحكما محضا.

٦٢

والجواب : ان التأويلات انما يصار إليها ، لو كان الاحتمال قائما. ولما علمنا بالنقل المتواتر المستفيض من دين محمد عليه‌السلام أنه انما كان مثبتا للمعاد الجسمانى ، ومكفرا لكل من كان منكرا له ، لا جرم لم يبق للتأويل فى هذا الباب مجال.

وأما الطريق العقلى المثبت للمعاد الجسمانى. فهو من وجهين : الوجه الأول : انا نرى فى دار الدنيا مطيعا وعاصيا ومحسنا ومسيئا ، ونرى أن المطيع يموت من غير ثواب يصل إليه فى الدنيا ، والعاصى يموت من غير عقاب يصل إليه فى الدنيا ، فان لم يكن حشر ونشر ، يصل فيه الثواب الى المحسن ، والعقاب الى المسىء ، لكانت هذه الحياة الدنيوية ، عبثا ، بل سفها.

واعلم : أنه تعالى ذكر هذه الحجة فى آيات من القرآن. قال فى سورة طه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. أَكادُ أُخْفِيها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه ١٥] وقال فى سورة ص : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ ، وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)؟ [ص ٢٧ ـ ٢٨] وفى هذه الآيات لطائف كثيرة دالة على صحة القول بالمعاد الجسمانى ، ذكرناها فى «التفسير الكبير».

والوجه الثانى من الدلائل على صحة المعاد الجسمانى : أن نقول : انه تعالى خلق الخلق ، اما للراحة واما للتعب والألم ، أو لا للراحة ولا للتعب. لا جائز أن يقال : خلقهم للتعب والألم. لأن هذا لا يليق بالمحسن الرحيم ، الغنى عن الخلق. ولا جائز أن يقال : خلقهم لا للراحة ولا للتعب والألم. لأنهم حال كونهم معدومين ، كان هذا المعنى حاصلا. فدل على أنه تعالى انما خلقهم للراحة.

٦٣

ثم نقول : هذه الراحة اما أن تكون فى هذا العالم. أو فى عالم آخر. لا جائز أن يقال: انها فى هذا العالم. لأن الّذي يظنه الانسان لذة فى هذا العالم ، فهو ليس بلذة ، بل هو دفع الألم. مثاله : ان لذة الأكل ليست فى الحقيقة لذة ، بل هى دفع ألم الجوع. ولذلك فان ألذ اللقم هى اللقمة الأولى ، لأن هناك ألم الجوع أقوى. وكل لقمة هى أكثر تاخرا ، كانت أقل لذة. وذلك لأن ألم الجوع هناك ، أقل قوة ، وكذلك لذة الوقاع عبارة عن دفع الألم. وذلك لأن الفضلة التى يتولد منها المنى ، لما اجتمعت فى أوعية المنى ، حاولت الانفصال. فقبل الانفصال يحصل نوع ألم يسبب اجتماعها فى تلك الأوعية ، فاذا انفصلت زال ذلك الألم. وعلى هذا القياس سائر اللذات الحاصلة فى هذا العالم.

وأيضا : فبتقدير أن تحصل فى هذا العالم لذة جسمانية ، لكنها قليلة. والغالب اما الألم أو دفع الألم. وليس من الحكمة القاء الحيوان فى بحر الآلام والمكروهات ، لأجل أن يعود إليه ذرة من اللذات. ولما ثبت : أن الحيوان انما خلق لأجل اللذة والراحة ، وثبت : أن ذلك المقصود غير حاصل فى هذا العالم ، فلا بد من القطع بوجود عالم آخر ، بعد هذا العالم ، يحصل فيه هذا المقصود. وذلك هو الدار الآخرة.

فهذه طريقة اقناعية. والاعتماد على ما تقدم. وهذا حاصل الكلام فى المعاد الجسمانى.

الفصل السادس

فى

المعاد الروحانى

اعلم : أن هذا البحث (١) متفرع على اثبات أن النفس جوهر

__________________

(١) النصارى يقولون بالمعاد الروحانى وقد بينا رأيهم فى تقديمنا لكتاب نفخ الروح والتسوية للامام الغزالى

٦٤

مجرد ، ليس بجسم ولا بجسمانى. فنقول : القائلون باثبات هذه النفس : فرق ثلاث :

أحدها : الذين يقولون جملة النفوس الناطقة باقية بعد الموت. وهو قول أكثر المحققين من الحكماء.

وثانيها : الذين يقولون النفوس الناطقة تفنى عند فناء الأبدان. وهذا قول لم يقل به أحد من المحققين.

وثالثها : الذين يقولون النفوس الفاضلة تبقى. وهى التى استكملت قوتها النظرية بمعرفة الحق وقوتها العملية بعمل الخير ، وأما النفوس التى لا تكون كذلك ، فانها تفنى عند فناء الأبدان.

أما القول الأول ـ وهو أنها بأسرها باقية بعد موت البدن ـ فقد ذكرنا حجتهم.

وأما القول الثانى ـ وهو أنها تفنى عند موت البدن ـ فقد احتجوا بأن هذه النفوس ليست أزلية ، فوجب أن لا تكون أبدية.

وانما قلنا : انها ليست أزلية لوجهين :

الوجه الأولى : ان النفوس لو كانت أزلية ، لكانت اما أن تكون واحدة ، أو كثيرة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونها أزلية.

انما قلنا : انه يمتنع كونها واحدة ، لأنها بعد التعلق بالأبدان. ان بقيت واحدة ، كان نفسى نفسك. وبالعكس. فكل ما كان معلوما لانسان ، يجب أن يكون معلوما لكل انسان. هذا خلف. وان تعددت فهو محال. لأن هاتين النفسين اللتين هما موجودتان الآن. ان قلنا :  انهما كانتا موجودتين قبل التعلق بالأبدان ، فقبل التعلق بالأبدان كانت النفوس كثيرة لا واحدة ، وان قلنا بأنهما ما كانتا موجودتين ، فهما قد حدثتا الآن فلا تكون هذه النفوس قديمة.

٦٥

وانما قلنا : انه يمتنع كونها متعددة فى الأزل ، لأن ذلك التعدد لا بدّ فيه من مميز ، وذلك المميز اما أن يكون ذاتيا أو عرضيا. لا جائز أن يكون ذاتيا. لأن النفوس البشرية متحدة بالنوع. ولا جائز أن يكون عرضيا ، لأن الامتياز بالصفات العرضية تابع لاختلاف المواد. ومادة النفس هى البدن. فقبل التعلق بالأبدان ليس لها شيء من المواد ، فامتنع اختلافها بسبب الصفات العرضية. فثبت : أن النفوس البشرية لو كانت أزلية ، لكانت فى الأزل اما واحدة أو متعددة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونها أزلية.

والوجه الثانى : ان نفسى عبارة عن ذاتى المخصوصة ، التى أشير إليها بقولى : «أنا» فلو كانت النفس القديمة ، لكنت أنا من حيث أنا ، أزليا قديما. واذ كان الأمر كذلك ، لوجب أن أتذكر شيئا من تلك الأحوال الماضية. فان من المحال أن يمارس الانسان سنين (٢) حرفة من الحرف ، ثم انه ينساها بالكلية ، ولا يتذكر شيئا من تلك الأحوال البتة. ولما لم يحصل عندنا تذكر شيء من تلك الأحوال الماضية ، علمنا : أن القول بكون النفوس أزلية باطل. فثبت بما ذكرنا : أن النفوس ليست أزلية.

اذا ثبت هذا ، فنقول : وجب أن لا تكون أبدية. ويدل عليه وجهان :

الأول : ان سبب حدوث النفس عن العلل الفلكية العالية ليس الا حدوث الأبدان المستعدة لقبولها ، لمن دورات الفلك لا أول لها ، فحدوث الأبدان لا أول له ، فحدوث النفوس لا أول له. فلو كانت النفوس باقية ، لزم أن يكون قد حصل الآن نفوس غير متناهية. وذلك

__________________

(٢) سبعين سنة : ب

٦٦

محال. لأن كل عدد موجود فانه قابل للزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك فهو متناه.

الثانى : ان هذه النفوس لما وجدت بعد أن كانت معدومة ، كانت ماهياتها قابلة للعدم. وهذه القابلية من لوازمها ، فوجب أن تكون قابلة للعدم أبدا. واذا كان كذلك ، امتنع القطع بأنها لا تعدم البتة.

واعلم : أن الاعتراض على هذه الحجة من وجهين :

(الوجه) الأول (فى الاعتراض): لا نسلم أنها ليست أزلية. ولم لا يجوز أن يقال : إنها فى الأزل متعددة. وكان امتياز بعضها عن بعض بنفس الماهية. وقولهم : النفوس البشرية واحدة بالنوع : فهو محض الدعوى؟

ولا يقال : هب أنها ليست واحدة فى النوع ، لكن لا شك أن كل نفس تفرض. فانها قد تحصل نفس أخرى لتساويها فى تمام الماهية. وحينئذ يتم الدليل.

لأنا نقول : هذا تمسك بالظن. ولم لا يجوز أن يقال : ان كل نفسين موجودين فهما مختلفان بالماهية ، الا أن اختلافهما فى الماهية لا يمنع من اشتراكهما فى صفات كثيرة؟

وأيضا : لم لا يجوز أن يقال : كل واحد من تلك الأعداد يمتاز بعضها عن بعض بالصفات العرضية؟ قوله : «التباين بالصفات العرضية لا يحصل الا بسبب اختلاف المواد.» قلنا : هذا ممنوع. فما الدليل عليه؟ سلمنا ذلك. لكن لم لا يجوز أن يقال : النفس قبل تعلقها بهذا البدن ، كانت متعلقة ببدن آخر ـ كما يقوله أصحاب التناسخ؟ ـ

واعلم : أن الشيخ «أبا على بن سينا» انما أبطل التناسخ بدليل مبنى على حدوث النفس. ودليله على حدوث النفس : مبنى على بطلان التناسخ ـ كما بيناه هاهنا ـ فوقع الدور.

٦٧

وأما الحجة الثانية ـ وهى قوله : «الأرواح لو كانت قديمة ، لكنا نتذكر الآن شيئا من الأحوال الماضية ـ. قلنا : هذا تمسك بالاستقراء وهو ضعيف أيضا. فلم لا يجوز أن يقال : تذكر النفس للأحوال الماضية مشروط بتعلق النفس بالبدن ، الّذي معه حدثت تلك الأحوال. فاذا فنى ذلك البدن ، امتنع تذكر الأحوال التى حصلت مع ذلك البدن.

الوجه الثانى فى الاعتراض على هذه الحجة : سلمنا أنها ليست أزلية. فلم قلتم بأنها لا تكون أبدية؟ قوله : «لو كانت أبدية لكانت النفوس الموجودة الآن غير متناهية».

قلنا : هذا بناء على أن الأدوار الماضية غير متناهية. وقد بينا ابطال ذلك فى مسألة الحدوث.

سلمنا ولكن لم لا يجوز أن يقال : حصل الآن نفوس غير متناهية؟ قوله : «كل عدد موجود فهو قابل للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك فهو متناه».

قلنا : هذه المقدمة فيها بحث دقيق ، ذكرناه فى الكتب الفلسفية.

وأما القول الثالث ـ وهو قول من يقول : «النفوس الفاضلة العالمة تبقى بعد موت البدن ، والنفوس الجاهلة تفنى. مثل نفوس الأطفال والجهال» ـ فهذا القول منقول عن الحكيم «باسيطيوس» واحتج عليه بوجهين :

الحجة الأولى : ان النفوس الخالية عن العلوم والأخلاق الفاضلة ، لو بقيت بعد الموت. لبقيت اما معطلة أو معذبة. وابقاء الشيء فى التعطيل أو فى التعذيب أبد الآباد غير لائق بحكمة الحكيم.

الحجة الثانية : ان العلم سبب للقوة ، والجهل سبب للضعف ، ألا ترى أن العالم بالشيء اذا خاض فيه كان قوى القلب ، والجاهل

٦٨

بالشيء اذا خاض فيه كان ضعيف القلب ، ولا شك أن أجل العلوم وأعظمها هو العلم بالله تعالى. فالنفس اذا تحلت بهذه المعرفة قويت ، واشتدت ، فلا يضرها خراب البدن. ولذلك فان العارفين اذا تخلوا فى (٣) أنورا جلال الله تعالى لم يلتفتوا الى شيء ، ولم يقيموا لشيء وزنا.

اذا عرفت هذا ، فالنفوس العالمة تكون قوية ، فلا تفنى بموت البدن ، والنفوس الجاهلة تكون ضعيفة ، فلا جرم نموت بموت البدن.

* * *

فهذا تفصيل مذاهب الناس فى المعاد الروحانى. أما الأولون ـ وهم القائلون بأن النفوس الناطقة كلها باقية بعد موت الأبدان ـ فهؤلاء أيضا طوائف :

الطائفة الأولى : الذين يقولون : النفوس الناطقة مدركة للجزئيات واحتجوا عليه بأنه يمكننا أن نحكم بأن هذا الشخص هو انسان فهذه قضية موضوعها شخص معين ـ وهو جزئى ـ ومحمولها هو الانسان ـ وهو كلى ـ والتصديق مسبوق بالتصور. فصاحب هذا التصديق عنده ادراك المحمول الّذي هو الكلى ، وادراك الموضوع الّذي هو الشخص. لكن مدرك هذا الكلى هو النفس. فمدرك هذا الجزء أيضا هو النفس. فثبت أن النفس مدركة للجزئيات.

اذا ثبت هذا فنقول : النفس لها صفتان : الادراك والفعل. والادراك قسمان : ادراك الجزئيات ، وادراك الكليات. فالنفس هى الموصوفة بهذين القسمين من الادراك وبهذا الفعل الّذي هو التحريك. فاذا مات البدن وزال الحجاب الجسمانى ، تجلت عليها أنوار عالم الجلال ، فازداد ادراكها وفعلها ، وانتهت فى ذلك الى حد الكمال ، وقربت درجتها من درجة الملائكة ـ الذين هم أرواح عالم السموات ـ وذلك هو الغبطة الكبرى ، والدرجة العظمى.

__________________

(٣) اذا تجلى فى أرواحهم : ب

٦٩

والطائفة الثانية : الذين قالوا بأن هذه الأرواح البشرية لا تقوى على ادراك الجزئيات الا بواسطة آلات جسمانية. فاذا مات البدن واختلف هذه الآلات الجسمانية ، لم يبعد تعلق هذه النفوس بجزء من أجزاء السموات ، حتى يكون ذلك الجزء آلة للنفس ، بها تقوى على الادراكات الجزئية من الابصار والسماع والتخيل والتفكر.

الطائفة الثالثة : الذين يقولون : النفس اذا انقطع تعلقها عن بدن معين ، تعلقت ببدن آخر ، فان كانت فى البدن الأول من النفوس الزكية الفاضلة ، تعلقت ببدن كريم فاضل. وان كانت فى البدن الأول. من النفوس الجاهلة المؤذية ، تعلقت ببدن مناسب لها. وهؤلاء هم القائلون بالتناسخ. وهم فرق :

احداها : الذين يقولون : الأرواح الانسانية لا تتعلق الا بالأبدان الانسانية ، ثم انها لا تزال تنتقل من بدن الى بدن ، الى أن تكمل النفس وتصير طاهرة عن جميع العلائق الجسمانية ، وحينئذ تتخلص الى عالم القدس والطهارة.

وثانيها : الذين يجوزون انتقال الأرواح الانسانية الى أبدان البهائم. ويقال لهم : أهل المسخ.

وثالثها : الذين قالوا : الأرواح البشرية اذا فارقت أبدانها ، فقد تتعلق بأبدان الحيوانات ، وبأبدان النباتات والمعادن والبسائط. قالوا : وهذا هو غاية العذاب. وإليه الاشارة بالدركات الضيقة فى جهنم.

قالوا : وذلك لأن القوى الناطقة والحاسة والفعالة والغاذية كلها أنوار تفيض من عالم الأرواح ، فتغوص فى بواطن الأجسام. وبواطن الأجسام مظلمة جدا ، الا أنها مستنيرة بسبب غوص هذه القوى فيها. وكلما كانت هذه القوى أقل ، كانت بواطن الأجسام

٧٠

ظلمة وأعظم ضيقا. فالأرواح البشرية اذا انتقلت من أبدانها الى هذه الأجسام ، بقيت فى غاية الظلمات والضيق والشدة. أما أجسام الأفلاك فانها لكثرة القوى الروحانية التى فيها ، كانت فى غاية الضوء والفسحة. فالأرواح البشرية اذا فارقت أبدانها وانتقلت الى التعلق بعالم الأفلاك ، كانت فى غاية الغبطة والفرح والضوء والسرور والروح والراحة والريحان.

فهذا هو الاشارة الى تفصيل مذاهب القائلين بالمعاد الروحانى.

الفصل السابع

فى

تفصيل مذاهب القائلين

بالمعاد الروحانى والجسمانى معا

اعلم : أن كثيرا من المحققين قالوا بهذا القول. وذلك لأنهم أرادوا الجمع بين الحكمة والشريعة. فقالوا دل العقل على أن سعادة الأرواح ، فى معرفة الله وفى محبته ، وعلى أن سعادة الأجساد فى ادراك المحسوسات.

قالوا : لأن الاستقراء دل على أن الجمع بين هاتين السعادتين فى الحياة الدنيوية غير ممكن ، وذلك لأن الانسان حال كونه مستغرقا فى تجلى أنوار عالم الغيب ، لا يمكنه الالتفات الى شيء من اللذات الجسمانية ، وحال كونه مشغولا باستيفاء اللذات الجسمانية ، لا يمكنه الالتفات الى اللذات الروحانية ، لكن هذا الجمع انما يتعذر لأجل أن الأرواح البشرية ضعيفة فى هذا العالم. فاذا مات واستمدت هذه الأرواح من عالم القدس والطهارة ، قويت وكملت. فاذا أعيدت الى الأبدان مرة أخرى ، لم يبعد أن تصير هناك قوية قادرة على الجمع بين الأمرين. ولا شك أن هذه الحالة هى الغاية القصوى فى مراتب السعادات.

٧١

وهذا المعنى لم يقم على امتناعه برهان عقلى. وهو جمع بين الحكمة النبوية والقوانين الفلسفية ، فوجب المصير إليه. وأما معرفة تفاصيل هذه الأحوال. فمما لا سبيل إليها فى هذا العالم.

فقد تكلمنا الآن فى تقرير المعاد الجسمانى وحده ، والمعاد الروحانى وحده ، وفى كيفية الجمع بينهما. وأما الذين ينكرونهما معا ، فهو قول من قال : «النفس هى المزاج فقط ، فاذا مات الانسان فقد عدمت النفس» ثم انه ينكر اعادة المعدوم ، وحينئذ يلزم انكار المعاد مطلقا الا أن الكلام فى ابطال هاتين المقدمتين قد تقدم.

واعلم : أنا كنا قد ذكرنا أن مطالب مسألة المعاد أربعة : الأول : كيفية تخريب العالم الأصغر. وهو الانسان.

والثانى : كيفية عمارته بعد تخريبه. وهو البعث والحشر والنشر.

والمطلوب الثالث : كيفية تخريب العالم الأكبر. وقد بينا بالدليل العقلى جوازه. وأما الوقوع فلا يمكن أن يؤخذ الا من القرآن قال الله تعالى فى صفة الأرض : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم ٤٨].

وأما الجبال. فقد ذكر أحوالها فى آيات :

احداها : قوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة ١٤].

وثانيها : قوله تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة ٤ ـ ٥] وثالثها : قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة ٥].

٧٢

ورابعها : قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل ٨٨].

وخامسها : قوله تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ ٢٠].

وأما البحار. فقال الله تعالى فى صفتها : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور ٦] وفى آية أخرى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار ٣].

وأما السموات. فقد ذكر صفاتها فى آيات :

احداها : قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان ٢٥].

وثانيها : قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار ١](إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ). [الانشقاق ١] وثالثها : قوله تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ١٩].

ورابعها : قوله تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج ٨] وقال فى صفة الشمس والقمر : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير ١ ـ ٢] وقال تعالى فى سورة القيامة : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة ٩].

والمطلوب الرابع : هو أنه تعالى كيف يعمر هذا العالم الكبير بعد تخريبه؟ واعلم : أن المعتمد فى هذه المسألة هو أنه تعالى عالم بجميع الجزئيات والكليات ، قادر على جميع الممكنات ، فيكون لا محالة قادرا على خلق الجنة والنار ، وعلى ايصال مقادير الثواب والعقاب الى المضيعين والمذنبين. وأما تفاصيل تلك الأفعال فلا يمكن معرفتها الا من القرآن والأحاديث.

٧٣

ونقل بعض الناس عن «سقراط» أنه قال : «سبب قيام القيامة : أن الأرض موضوعة على الهواء. والهواء موضوع على النار. والنار والهواء صاعدان بالطبع. فبسبب المدافعة الحاصلة من صعود النار والهواء ، بقيت الأرض واقفة. ثم ان تأثير تلك النار فى الأرض يزداد يوما فيوما. فاذا بلغ الغاية حصل الغليان فى البحار ، وتصاعدت الآخرة العظيمة الحارة منها الى السموات ، ثم ان حر الشمس من فوق وحر هذه الأبخرة المتصاعدة إليها من تحت ، يجتمعان ويصير المجموع مؤثرا فى السموات ، فتصير الأفلاك كالنحاس المذاب ، وينصب الكل ويكون لها لهيب وحرارة فوق الغاية ، والأرواح الشقية (٤) المتعلقة بلذات هذا العالم الجسمانى ، بقيت هناك ، واحترقت بتلك الأجسام الذائبة الحارة المحرقة وهذا هو المراد من جهنم ، ومن الجحيم ، ومن عذاب أهل النار».

وفى المسألة مذاهب سوى ما ذكرناه ، عجيبة. ولنكتف بهذا القدر فى هذه المسألة.

__________________

(٤) السلفية : ب

٧٤

المسألة الحادية والثلاثون

فى

إثبات نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

اعلم : أن الذين ينكرون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوائف : الطائفة الأولى : الذين يقولون : المقصود من بعثة الأنبياء هو التكليف. ولكن القول بالتكليف باطل ، فالقول ببعثة الأنبياء باطل.

الطائفة الثانية : الذين يقولون : التكليف جائز ، الا أن العقل كاف فى معرفة التكليف ، لأن كل ما كان حسنا فعلناه ، وكل ما كان قبيحا تركناه ، وكل ما لا يمكننا أن نعرف حسنه وقبحه ، فان كنا مضطرين أو محتاجين إليه اكتفينا بالقدر الدافع للضرورة والحاجة ، وان لم تكن بنا إليه حاجة ، امتنعنا عنه احترازا عن الخطر.

الطائفة الثالثة : الذين يقولون : البعثة جائزة فى العقول ، الا أن الّذي يمكن أن يجعل دليلا على كون الشخص رسولا من عند الله ، ليس الا المعجزات. وهذه المعجزات لا دلالة فيها البتة على الرسالة ، فلا جرم بطل القول ببعثة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لفقدان ما يدل عليها.

الطائفة الرابعة : الذين يقولون : لو أمكن حصول خوارق العادات ، لأمكن الاستدلال بها على صدق مدعى الرسالة ، الا أن انخراق العادات محال ، فلا جرم لم يحصل ما يدل على صدقهم.

الطائفة الخامسة : الذين يقولون نحن ما شاهدنا شيئا من هذه المعجزات ، ولا طريق لنا الى العلم بأنها حصلت وقت دعواهم ، الا أن

٧٥

الناس يخبرون عن ذلك ، غير أن الخبر لا يفيد العلم وأقصى ما فى الباب : أنه يفيد الظن ، الا أن الظن غير معتبر فى هذا الباب.

الطائفة السادسة : جمع من الصوفية يقولون : الاشتغال بغير الله حجاب عن معرفة الله تعالى ، والأنبياء يدعون الخلق الى الطاعات والتكاليف ، فهم يشغلون الخلق بغير الله ، ويمنعونهم عن الاشتغال بالله ، فوجب أن لا يكون ذلك حقا وصدقا.

الطائفة السابعة : الذين يقولون : نرى الشرائع مشتملة على أشياء لا فائدة فيها. فان الصوم والصلاة والحج أفعال لا منفعة فيها للمعبود ، وهى مضار ومتاعب فى حق العباد (١) فكان ذلك عبثا ، بل سفها. وذلك لا يليق بأحكم الحاكمين ، فوجب أن لا تكون هذه الشرائع من عند الله.

الطائفة الثامنة : الذين يسلمون أصل النبوة ، الا أنهم ينازعون فى نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

واعلم : أنا متى دللنا على صحة نبوة محمد ـ عليه‌السلام ـ فقد دللنا على صحة أصل النبوة.

فنقول : ان محمدا عليه‌السلام ادعى النبوة (٢) وظهرت المعجزة على وفق دعواه ، وكل من كان كذلك كان رسولا حقا ، ينتج : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله حقا.

__________________

(١) العابد : ب

(٢) من يمعن النظر فى التوراة المتداولة يجد بالإضافة الى أن الكاتب قد جمع معلومات من مصادر مختلفة ولم يوفق بينها ، قد تعمد وضع معلومات لغرض مقصود أى أنهم عمدا أظهروا بعضا ، ـ

٧٦

__________________

ـ وأخفوا عن الناس بعضا. وهذا الّذي تعمدوا اظهاره واخفاءه يمكن أن نقسمه الى قسمين.

القسم الأول : لبس الحق بالباطل. أى أنهم يذكرون النص الأصلي ، ثم يضيفون كلمة أو كلاما. أو يحذفون. للايهام وغموض المعنى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [البقرة ٤٢]

القسم الثانى : تحريف الكلم من بعد مواضعه. أى وضع كلمة تحتمل معنيين (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) [المائدة ٤١].

ولقد غيرت التوراة الأصلية فى «بابل» على هذا النحو ، واستقرت من بعد «بابل» على وضعها الحالى. وانتشرت فى العالم ، ولذلك صعب على اليهود تحريفها لفظيا. ولجئوا الى نوع من التحريف عجيب. وهو تحريف الكلم عن مواضعه بالتأويلات الفاسدة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء ٤٦] ونورد هنا مثالا للايضاح والبيان : طلبه الله من موسى عليه‌السلام أن يجمع بنى اسرائيل ناحية جبل الطور ليسمعوا صوت الله وهو يتكلم مع موسى فيخشون الله ويهابونه الى الأبد «قال لى الرب : اجمع لى الشعب فأسمعهم كلامى لكى يتعلموا أن يخافونى كل الأيام التى هم فيها أحياء على الأرض. ويعلموا أولادهم. فتقدمتم ووقفتم فى أسفل الجبل ، والجبل يضطرم بالنار الى كبد السماء بظلام وسحاب وضباب ، فكلمكم الرب من وسط النار ، وأنتم سامعون صوت كلام ، ولكن لم تروا صورة بل صوتا» [تثنية ٤ : ١٠ ـ ١٢] لكن بنى اسرائيل طلبوا من موسى أن يكلم الله أن لا يحدث هذا المنظر الرهيب مرة أخرى ، بل اذا أراد مخاطبتهم يخاطبهم عن طريق موسى. وهم منه يسمعون فوعدهم الله بنبي يأتى من بعد موسى فى هذا النص :

(يقيم لك الرب إلهك : نبيا. من وسطك. من اخوتك. مثلى. له تسمعون. حسب كل ما طلبت من الرب إلهك فى حوريب يوم الاجتماع ـ

٧٧

__________________

ـ قائلا : لا أعود سمع صوت الرب إلهى ، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت. قال لى الرب : قد أحسنوا فى ما تكلموا ، أقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك ، واجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الانسان الّذي لا يسمع لكلامى الّذي يتكلم به باسمى أنا أطالبه. وأما النبي الّذي يطغى فيتكلم باسمى كلاما لم أوصه أن يتكلم به ، أو الّذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي. وان قلت فى قلبك : كيف نعرف الكلام الّذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ، ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الّذي لم يتكلم به الرب ، بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) [التثنية ١٨ : ١٥ ـ ٢٢]

الأوصاف التى يتحدث عنها هذا النص تنطبق على نبى الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم. اذا حذفنا «من وسطك» و«من وسط» وقد وضعهما الكاتب ضمن النص الأصلي للبس الحق بالباطل ، ليؤكد أن هذا النبي اذا جاء سيكون من بنى اسرائيل.

وعبارة من «اخوتك» أو «اخوتهم» وضعهما الكاتب لاحتمال معنيين. المعنى الأول : من اخوة اليهود أى أنه سيكون اسرائيليا. والمعنى الثانى : من اخوة اليهود أى أنه سيكون من بنى اسماعيل. فاسماعيل أخ لإسحاق ، وأولاد الأعمام يطلق عليهم اخوة. ولا ينصرف «من اخوتك» على بنى عيسو أخو يعقوب ، وان كان ذلك ممكنا ولا على أولاد ابراهيم عليه‌السلام من زوجته قطوره. لأن اليهود والنصارى متفقون على حرمان هؤلاء من هبات النبوة وأن يكون فى ذريتهم النبوة والكتاب بأدلة منها أن عيسو باع بكوريته ليعقوب ومنها أن أولاد قطوره وبنو السرارى أعطاهم ابراهيم فى حياته عطايا وصرفهم نحو المشرق ولم يكتب الكاتب فى التوراة ما يفيد حرمان اسماعيل من إرث ابراهيم لأنه نسله كما كتب عن بنى عيسو وأولاد قطوره «بإسحاق يدعى لك نسل ، وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك»

٧٨

__________________

ـ [تك ٢١ : ١٣] وقد وعد الله ابراهيم بهذا الوعد «ويرث نسلك باب عاداته ، ويتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض» [تك ٢٢ : ١٧] ونفس الوعد الّذي حصل لابن الجارية حصل ليعقوب بن إسحاق وحده ، لقد خرج يعقوب من بئر سبع ، وذهب نحو حاران. وفى الطريق خاطبه الله قائلا : «أنا الرب إله ابراهيم أبيك ، وإله إسحاق. الأرض التى أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ويكون نسلك كتراب الأرض ، وتمتد غربا وشرقا وشمالا وجنوبا ، ويتبارك فيك ، وفى نسلك جميع قبائل الأرض» [تكوين ٢٨ : ١٣ ـ ١٤]

وقد وضع الكاتب فى التوراة لفظ الأخوة بالتساوى بين أولاد اسماعيل ، وأولاد إسحاق ليبين أنه اذا جاء النبي منهم على وفق مرادهم أظهروا النصوص التى تدل عليه. واذا جاء على غير مرادهم يجحدوه. لقد نادى ملاك الرب هاجر من السماء «وقال لها : تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة ، وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا ، وتدعين اسمه اسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك ، وأن يكون انسانا وحشيا ، يده على كل واحد ، ويد كل واحد عليه وأمام جميع اخوته يسكن» [تك ١٦ : ١٠ ـ ١٢]

ولما ظهر نبى الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنكره البعض من أهل الكتاب «حسدا من عند أنفسهم» ولكنهم لا يستطيعون تغيير ألفاظ التوراة لانتشارها فى العالم. فلذلك لجئوا الى تحريف الكلم عن مواضعه لجئوا الى تأويل النص بالتأويلات الفاسدة. قالوا : «وأما النبي الّذي يقيمه الله من اخوة بنى اسرائيل فالمراد بذلك أنه يكون منهم» مع علمهم بيقين أن التوراة صرحت بأنه لن يقوم نبى فى اسرائيل ومن بنى اسرائيل مثل موسى [تث ٣٤ : ١٠] وحيث أن كتاب موسى قد صرح بمجيء نبى فى المستقبل ، وأن من «اخوتهم» تعنى من بنى اسماعيل ومن بنى اسرائيل. وحيث أن كتاب موسى نص على أنه لن يأتى فى المستقبل مثل موسى نبى من اسرائيل ، فيكون المراد من «اخوتهم» هنا فى هذا النص بنى اسماعيل وحيث أنه لم يظهر من بنى اسماعيل نبى أمى الا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون هو المراد. لتتحقق من مجيئه بركة اسماعيل فى الأمم.

٧٩

أما المقدمة الأولى ـ وهى قولنا : ان محمدا عليه‌السلام ادعى النبوة ، وظهرت المعجزة على وفق دعواه ـ فاعلم أن تقرير هذه المقدمة مبنى على مقدمات :

المقدمة الأولى : ان محمدا عليه‌السلام ادعى النبوة. والاعتماد فى اثبات هذه المقدمة على الأخبار المتواترة.

وقبل الخوض فى المقصود ، لا بدّ من شرح ماهية الخبر المتواتر. فنقول : الخبر المتواتر على قسمين :

القسم الأول : أن يخبر أهل التواتر عن وجود شيء شاهدوه ، أو كلام سمعوه. وهذا الخبر انما يفيد العلم بشرطين :

الشرط الأول : أن يبلغ فى الكثرة الى حيث يمتنع فى العادة تواطؤهم على الكذب. مثاله : انا اذا رأينا أهل البلدان المختلفة مع تباعد بلادهم وتباين أخلاقهم ، متفقين على الأخبار على أن فى الدنيا بلدة ، يقال لها : «طمعاج» حصل لنا العلم القطعى بوجود هذه البلدة ، وان كنّا ما رأيناها.

والشرط الثانى : أن يكون المخبر عنه شيئا محسوسا. وذلك لأن أهل الشرق والغرب ، لو أخبروا عن حدوث العالم ووحدة الصانع ، لم يفد خبرهم العلم. أما اذا أخبروا عن وجود «طمعاج» أفاد خبرهم العلم ، لأن المخبر شيء محسوس.

اذا عرفت هذا فنقول : اذا حصل الشرطان ـ وهو أن يبلغ المخبرون فى الكثرة الى حيث يمتنع اتفاقهم على الكذب ، وكان المخبر عنه شيئا محسوسا ـ كان هذا الخبر مفيدا للعلم اليقينى.

القسم الثانى : أن يكون المخبرون فى الكمية والكيفية بالوصف الّذي ذكرناه الا أنهم لا يقولون بأنا شاهدنا ذلك الشيء ، بل يقولون :

٨٠