الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

تكون ممتنعة التغير والتبدل ، من حيث انها ماهية. ويمتنع أن يكون جواز التغير والتبدل نعتا وصفة لها ، بل لا بد أن يكون هذا الجواز نعتا للوجود فقط أو لموصوفية الماهية بالوجود. ثم ان الوجود قبل تجدده البتة ما كان حاصلا ، فعلمنا : أن عدم حصوله وعدم تحققه فى نفسه ، لا يمنع من الحكم عليه بالجواز.

وثانيها : ان الخصم يحكم على هذا الّذي عدم وفنى بالكلية ، بأنه يمتنع عوده والمحكوم عليه بامتناع العود ، ليس الا ذلك الشخص الّذي فنى فعلمنا : أن فناءه وعدمه لا يمنع صحة الحكم عليه بأنه جائز أو ممتنع.

وثالثها : ان الّذي فنى فهو بعد فنائه ، اما أن يجوز الحكم عليه بشيء من الأحكام ، أو لا يجوز. فان جاز الحكم عليه فقد سقط هذا السؤال ، وان امتنع الحكم عليه كان ذلك متناقضا ، لأن تخصيصه بأنه يمتنع الحكم عليه : حكم عليه بهذا الامتناع. فثبت : أن القول بأنه يمتنع الحكم عليه يوجب كونه محكوما عليه. وما أدى ثبوته الى نفيه ، كان باطلا. فبطل القول بأن ما فنى وعدم ، امتنع الحكم عليه.

ورابعها : انا نحكم على شريك الله تعالى بأنه ممتنع ، وعلى الجمع بين الضدين بأنه ممتنع. فالمحكوم عليه بهذا الامتناع هو شريك الله تعالى ، والجمع بين الضدين. ثم هذه الماهيات ليس لها تحقق أصلا البتة باتفاق العقلاء. فعلمنا : أن الحكم على الشيء لا يستدعى كون المحكوم عليه ثبوتيا.

لا يقال : المحكوم عليه بالامتناع هو الصورة المستحضرة فى الذهن. لأنا نقول : تلك الصورة لما كانت حاضرة فى الذهن موجودة هناك ، لم يكن الحكم عليها بكونها ممتنعة الوجود ، بل المحكوم عليه بالامتناع هو وجوده فى الخارج ، لكن وجوده فى الخارج غير ثابت أصلا ، فاذن المحكوم عليه بهذا الحكم لا تحقق له البتة.

٤١

وخامسها : انا نحكم بأن الوجود والعدم لا يجتمعان. وهذا الحكم على مسمى العدم بأنه ينافى الوجود ، ويعانده. فالمحكوم عليه بهذه المعاندة والمنافاة هو مسمى العدم ، ومسمى العدم يمتنع أن يكون له تحقق ، لأنه نقيض التحقق والتعين والتقرر ، وأحد هذين النقيضين لا يكون عين الثانى.

واحتج من أنكر جواز اعادة المعدوم بوجوه :

الحجة الأولى : ان الحكم على الشيء بأنه يجوز اعادته متوقف على كون ذلك الشيء هو هو ، أعنى على كونه متعينا فى نفسه متخصصا (١) فى ذاته. والشيء بعد عدمه نفى محض ، وليس له تخصص ولا تشخص ، فكان الحكم عليه بجواز الاعادة باطلا.

الحجة الثانية : انه لو كانت اعادة المعدوم جائزة ، لكانت اعادة الوقت الّذي أحدثه الله تعالى فيه أولا جائزة. وبتقدير أن يعيد الله تعالى الوقت الأول ، ويعيده فيه. كانت هذه الاعادة حدوثا فى وقته الأول. فيلزم أن يقال : انه من حيث هو معاد ليس بمعاد ، بل مبدأ. وذلك جمع بين النقيضين. وهو محال.

الحجة الثالثة : اذا فرضنا أن جوهرا قد عدم ، ثم فرضنا أن الله تعالى أعاده. وفرضنا أنه تعالى أحدث جوهرا آخر. فنسبة هذين الجوهرين الى ذلك الّذي عدم أولا ، نسبة واحدة. فلم يكن كون أحد هذين الجوهرين : عين ذلك الّذي عدم ، والآخر مثله : أولى من العكس. فيلزم اما القول بأن كل واحد منهما هو عين ذلك الشيء الّذي عدم ، فيلزم أن يكون الشيء الواحد شيئين. وهو محال.

__________________

(١) متحققا : ب

٤٢

وأما القول بأنه ليس كل واحد منهما عين ذلك الّذي عدم ، بل كان كل واحد منهما مغايرا له ، ومثلا له : فذلك هو الحق. وهو يمنع من جواز اعادة المعدوم.

ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : ان أحدهما أولى بأن يكون عين الّذي عدم. وذلك لأن هذا : عين ما كان ، والآخر مثله. فكان أحدهما أولى بأن يكون عين ما كان؟ لأنا نقول : ان هذين الجوهرين اللذين حدثا : مثلان من جميع الوجوه. فكانت نسبة كل واحد منهما الى الّذي عدم كنسبة الآخر إليه. واذا كانا كذلك ، لم يكن كون أحدهما هو عين ذلك الّذي عدم والآخر مثله : أولى من العكس. فقولكم : انما كان هذا عين ذلك الّذي عدم لأن هذا هو عين ذلك الشيء : تعليل للشىء بنفسه ويكون المعنى : أنه انما كان هذا عين ما انقضى. لأن هذا عين ما انقضى. ومعلوم : أن هذا باطل.

والجواب عن الأول : انا قد دللنا على أن الحكم على الشيء بالجواز ، لا يستدعى كون المحكوم عليه متحققا متعينا فى نفسه بالدلائل القاطعة.

والجواب عن الثانى : ان حدوث الشيء غير مشروط بالوقت ، والا لكان ذلك الوقت حادثا ، فيلزم افتقاره الى وقت آخر. ويلزم التسلسل. بل حدوث المبدأ هو الّذي لا يكون مسبوقا بالحدوث البتة ، وحدوث المعاد هو أن يكون مسبوقا بحدوث آخر. وعلى التقديرين يزول السؤال.

والجواب عن الثالث : ان أفراد النوع الواحد وان كانت متماثلة فى الماهية ، الا أنه لا شك أنها غير متماثلة فى الشخصية ، بل كل واحد من تلك الأفراد مختص بتعينه وتشخصه. واذا كان كذلك ، فلا نسلم أن نسبة هذين الجوهرين الحادثين الى ذلك الّذي عدم نسبة واحدة ،

٤٣

بل القول بأن هذه النسبة واحدة لا يصح الا بعد القول بأن اعادة المعدوم باطلة. لأن بتقدير أن يصح هذا القول ، كان أحد هذين الحادثين هو عين ذلك الّذي عدم ، والحادث الآخر ليس عينه ، بل مثله. فاذن القول بأن نسبة هذين الحادثين الى ذلك الّذي عدم نسبة واحدة ، مبنى على أن اعادة المعدوم ممتنعة. ولو بينا هذا الامتناع بهذه المقدمة ، لزم الدور. وانه باطل.

الفصل الثانى

فى

بيان أن ما سوى الله تعالى فانه يجوز الفناء عليه

قالت الفلاسفة : الأرواح البشرية وان كانت محدثة ، الا أنها أبدية غير قابلة للعدم. وأيضا : العقول الفلكية والنفوس الفلكية والأجرام الفلكية والهيولى ، غير قابلة للعدم.

لنا : انا بينا فى مسألة حدوث العالم : أن كل ما سوى الله تعالى فهو محدث ، وكل محدث فان حقيقته قابلة للعدم والوجود. وهذه القابلية من لوازم الماهية. وكل ما كان من لوازم الماهية ، فانه واجب الدوام فى جميع زمان دوام الماهية. فاذن قابلية العدم من لوازم ماهية كل ما سوى الله تعالى. وهذا يقتضي جواز العدم على كل ما سوى الله تعالى.

وأما الفلاسفة فقد احتجوا على قولهم بوجوه :

الحجة الأولى ـ وهى عمدتهم ـ : ان الأرواح البشرية لا يقبل الفناء. وتقريرها : أنها لو كانت قابلة للعدم ، لكانت قابليتها للعدم ، اما أن تكون قائمة بها أو بغيرها. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونها قابلة للعدم.

٤٤

وانما قلنا بأنه يمتنع أن تكون هذه القابلية قائمة بها ، لأن كل ما كان قابلا بشيء فان القابل يكون متقررا مع المقبول ، فلو كان الموصوف بقابلية عدمها ، نفس وجودها ، لزم أن يتقرر وجودها مع عدمها. وذلك محال. وانما قلنا : انه يمتنع أن تكون هذه القابلية قائمة بغيرها ، لأن مثل هذا الشيء يجب أن يكون صورة فى مادة ، حتى يكون امكان وجودها وامكان عدمها قائما بتلك المادة. فان النفس ان كانت كذلك كانت مركبة من مادة وصورة ، لكن النفس جوهر مجرد ، فمادتها يجب أن تكون جوهرا مجردا. وحينئذ نقول : ان كانت تلك المادة أيضا قابلة للعدم ، افتقرت الى مادة أخرى. ولزم التسلسل. وهو محال.

فلا بد من الانتهاء الى مادة أخيرة ، لا مادة لها. وتلك المادة لا تكون قابلة للعدم ـ وهى جوهر مجرد ـ فهى محل العلوم والادراكات فتكون النفس هى هى لا غير ، فتكون النفس باقية غير قابلة للعدم.

فان قيل : فيلزمكم أن لا يكون شيء من الصور والأعراض قابلا للعدم.

قلنا : هذا غير لازم. لأن القابل لصحة حدوثها ، ولصحة عدمها موادها. وموادها متقررة مع ذلك الحدوث وذلك العدم. بخلاف جوهر النفس فانها ان كانت بريئة عن المادة ، فقد ظهر الفرق ، وان كانت مادية ، كانت مادتها لا محالة جوهرا مجردا. فتكون النفس هى هى لا غير. فتكون باقية.

الحجة الثانية لهم : الابتداء والانتهاء على الزمان محال. فوجب أن تكون الحركة كذلك ، فوجب أن يكون الجسم كذلك. فهذه مقدمات ثلاث :

٤٥

المقدمة الأولى : قولنا : لا بداية للزمان ولا نهاية له. فنقول : أما قولنا يمتنع أن تكون للزمان بداية. فذلك لأن كل ما لوجوده بداية ، فعدمه متقدم على وجوده. وذلك التقدم ليس نفس العدم ، لأن العدم قبل ، كالعدم بعد. وليس القبل بعد. فالقبلية ليست نفس العدم ، فهى صفة موجودة. فقد حصل قبل مبدأ الزمان شيء آخر ، متقدم عليه بالزمان. هذا خلف.

فاذن لا بداية للزمان وأما أنه لا نهاية له. فلأنا لو فرضنا له نهاية. لكانت تلك النهاية ملحقة بالعدم. وذلك العدم متأخر عنه بالزمان ، فقد حصل بعد أجزاء الزمان شيء آخر متأخر عنه بالزمان. هذا خلف. فاذن يمتنع أن تكون للزمان بداية ونهاية.

وأما المقدمة الثانية ـ وهى أنه لما كان الزمان بحيث يمتنع أن يكون له بداية ونهاية ، وجب أن تكون الحركة كذلك ـ فالدليل عليه : أن الزمان عبارة عما ينقسم الى الماضى والى المستقبل. فلو لم يكن هناك شيء يتغير من حالة الى حالة ، لم يصدق أنه مضى أمر وسيجيء أمر آخر. فثبت : أن الزمان لا يعقل حصوله الا عند حصول التغير ، ولا نعنى بالحركة الا هذا التغير ، فيلزم من قدم الزمان قدم الحركة.

وأما المقدمة الثالثة ـ وهى أنه متى كانت الحركة. قديمة ، كانت الذوات قديمة ـ فهى ظاهرة (٢). لأن التغير والانتقال لا يعقل تحققه الا عند وجود ذوات تعرض لها هذه التغيرات ، فيلزم من قدم الحركة قدم الذوات. فثبت : أنه يلزم من هذه الشبهة : القول بكون الزمان أبديا أزليا ، وكون الحركة كذلك ، وكون الذوات كذلك.

الحجة الثالثة لهم : الجهة شيء مشار إليه بالحس ـ وهو مقصد

__________________

(٢) فهى ظاهرة : ب

٤٦

المتحرك ـ وكل ما كان كذلك ، فهو موجود. وهذه الجهة محدودة ، فلا بد لها من محدد جسمانى. ولا يحصل هذا التحديد الا بالمحيط والمركز وتقرير هذه المقدمات : قد ذكرت فى الكتب الحكمية.

اذا ثبت هذا ، فنقول : هذا المحدد غير قابل للحركة المستقيمة ، لأن الحركة المستقيمة عبارة عن الانتقال من جهة الى جهة. وكل ما صح عليه ذلك ، كانت الجهة المنتقل عنها ، والجهة المنتقل إليها محددة قبل ذلك الجسم المنتقل إليها ، فيلزم حصول الجهة قبل حصول علتها. وذلك محال. واذا كان كذلك ، ثبت أن الحركة المستقيمة ممتنعة على الفلك المحدد ، واذا كان كذلك كان الخرق والالتئام ممتنعا عليه.

الحجة الرابعة لهم : عدم الأجسام اما أن يكون باعدام المعدم ، أو بطريان الضد ، أو بزوال الشرط. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بصحة عدم الأجسام ممتنع.

وانما قلنا : انه يمتنع حصول الاعدام بالمعدم ، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة ، والعدم نفى محض. فوقوع العدم بالقدرة ، يكون محالا.

وانما قلنا : انه يمتنع أن يكون العدم بسبب طريان الضد. وذلك لأن المضادة حاصلة من الجانبين ، فليس عدم الضد الباقى لوجود الطارئ ، أولى من اندفاع الطارئ لوجود الباقى.

وانما قلنا : انه يمتنع أن يكون لزوال شرط. لأن ذلك الشرط ان كان باقيا ، كان الكلام فى كيفية عدمه ، كالكلام فى كيفية عدم الأجسام ، فيفضى ، اما الى التسلسل ، واما الى الدور ، واما أن لا يكون باقيا. وهو أيضا محال. لأن الباقى يمتنع أن يكون مشروطا بما لا يكون باقيا.

ولما بطلت هذه الأقسام ، ثبت : أن العدم على الأجسام ممتنع.

٤٧

والجواب عن الشبهة الأولى : ان حاصلها يرجع الى حرف واحد ، وهو أن الامكان صفة موجودة ، ولا بد لها من محل موجود ، الا أنا بينا فى مسألة حدوث الأجسام : أن الامكان يمتنع أن يكون صفة موجودة.

والجواب عن الشبهة الثانية : أن نقول : لا نسلم أنه لو كان الزمان محدثا ، لكان تقدم عدمه على وجوده بالزمان. والدليل عليه : أن تقدم الأمس على اليوم ليس بالزمان ، واذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون تقدم عدم المحدث على وجوده ، كتقدم بعض أجزاء الزمان على البعض؟

والجواب عن الشبهة الثالثة : ان ما ذكرتم مبنى على أن تحدد الجهات ، لا يكون الا بالمحيط والمركز. وفى تقرير هذه المقدمة غموض. وبتقدير أن نسلمها ، الا أن هذا يقتضي أن الحركة المستقيمة ، ممتنعة على هذا المحدد. ولا يقتضي أن العدم ممتنع عليه.

والجواب عن الشبهة الرابعة : ان ما ذكرتم قائم بعينه فى الصور والأعراض ، مع أنا نشاهد ، أنها توجد بعد أن كانت معدومة ، وتعدم بعد أن كانت موجودة. فكل ما ذكرتموه فى هذه الصور والأعراض ، فهو جوابنا فى حق الأجسام.

الفصل الثالث

فى

بيان أن الخرق والالتئام جائزان على أجرام الفلك

الفلاسفة ينكرون ذلك.

ولنا : على صحته وجهان :

الحجة الأولى : ان جميع الأجسام متساوية فى الجنسية ، وتمام

٤٨

الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، فكل ما صح على واحد منها ، صح على كلها. وتقرير هاتين المقدمتين : قد تقدم فى مسألة اثبات الصانع ـ سبحانه وتعالى ـ

الحجة الثانية : ان كل واحد من هذه الأفلاك. اما أن يكون بسيطا أو مركبا من البسائط. وكل ما كان بسيطا ، فان كل واحد من جانبيه متساويان فى تمام الماهية. اذ لو لم يكن كذلك ، لكن البسيط مركبا. هذا خلف. واذا كان كل واحد من جانبيه متساويين فى تمام الماهية للجانب الآخر ، فكل ما صح على أحد الجانبين صح على الآخر. فكما أن فلك القمر يصح أن يماس بمقعره النار وبمحدبه كرة عطارد ، وجب أن يكون عكسه ممكنا. ومتى كان ذلك ممكنا كان الخرق والالتئام جائزين على الأفلاك.

وأما الفلاسفة فقد احتجوا على امتناع ذلك ، بأن قالوا : الخرق والالتئام لا يحصلان الا بالحركة المستقيمة ، لكن الحركة المستقيمة على أجرام الفلك ممتنعة ، فوجب القطع بامتناع الخرق والالتئام عليها.

والجواب : ان هذا الكلام ـ وان صح ـ لكن لا يتمشى الا فى الفلك الّذي هو الجسم المحدد للجهات. وهو الفلك الأقصى. وأما سائر الأفلاك فلا يجرى فيها البتة.

قال المصنف : وأنا أتعجب هاهنا من هؤلاء الفلاسفة. فانهم انما عولوا فى امتناع الخرق والالتئام على الأفلاك على هذا الدليل فقط ثم ان هذا الدليل ، لا ينتج هذا المطلوب ، الا فى الفلك الأقصى. أما سائر الأفلاك. فهذا الدليل لا يجرى فيها البتة. وكيف اكتفوا فى اثبات الدعوى العامة بالدليل الخاص؟

٤٩

واعلم : أن كثيرا من العلماء الشريعة وعلماء التفسير ، قالوا : ان فى وقت قيام القيامة تنخرق الأفلاك وتنهدم الكواكب ، الا أن العرش لا يتخرب ، والفلك الأقصى هو العرش عندهم. واذا كان كذلك لم يلزم من قولنا : العرش لا يتخرب : قدح فى (٣) خراب السموات والعناصر. فثبت : أن ما ذكروه ـ لو صح ـ لم يتطرق الطعن الى ما ورد فى القرآن.

الفصل الرابع

فى

أن الله تعالى هل يعدم أجسام العالم أم لا؟

اعلم : أنا وان بينا بالدلالة العقلية : أن كل ما سوى الله تعالى ، فانه يصح العدم عليه. ولكن ليس كل ما صح وقع. وقد اختلف علماء الاسلام فى ذلك. فقال قوم : انه تعالى يعدم الذوات والأجزاء ، ثم يعيدها ، وقال آخرون : انه تعالى لا يعدمها ، بل يفرق أجزاء السموات والأرض ويخربها ، ثم انه تعالى يؤلفها مرة أخرى كما كانت. واعلم : أن الجواز العقلى يمكن اثباته بدلائل العقل. أما وقوع الجائز ، فلا سبيل الى اثباته الا بالسمع.

* * *

واحتج القاطعون على أنه تعالى يعدم العالم بآيات.

احداها : قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٨٨] فقوله : (كُلُّ شَيْءٍ) لفظ عام يتناول الكل. والهلاك عبارة عن العدم والفناء ، بدليل قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) [النساء ١٧٦] أى فنى ولم يبق. فلو تفرقت الأجزاء لكنها ما عدمت وما فنيت ، فحينئذ يصدق أن السموات هلكت ، لكنه لا يصدق أن تلك الأجزاء وتلك

__________________

(٣) عدم خراب : ا

٥٠

الذوات هلكت ، فلما قال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) علمنا : أن الذوات لا تبقى بل تفنى وتصير معدومة.

أجاب القائلون بأن الله تعالى لا يعدم الذوات. فقالوا : الهلاك عبارة عن خروج الشيء عن كونه ممتنعا. واذا تفرقت أجزاء السموات والأرض ، فقد خرجت عن كونها منتفعا بها. ويكفى هذا القدر فى صدق قولنا : انها هلكت.

أجاب المستدل الأول : بأنها اذا تفرقت فقد خرجت السماء عن كونها منتفعا بها. أما أنه ما خرجت تلك الأجزاء عن كونها منتفعا بها ، فلأن تلك الأجزاء صالحة لأن تتركب منها السموات والعناصر والجنة والنار ، وصالحة لأن يستدل بها على الصانع القديم. فثبت : أن المركبات وان خرجت عن كونها منتفعا بها ، بسبب التفريق. فتلك الأجزاء والذوات ، ما خرجت عن كونها منتفعا بها. فثبت : ان الأجزاء والذوات لو بقيت ، لما صدق عليها أنها هلكت. والقرآن يدل على أن لكل يصير هالكا ، فوجب القطع بأن الأجزاء تفنى.

الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم ٢٧] ولفظ «الخلق» متناول لجميع المخلوقات ، والضمير فى قوله «يعيده» عائد الى الخلق ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يعيد جميع مخلوقاته ، والاعادة لا تعقل الا بعد تقدم الافناء ، فدل هذا على أنه تعالى يفنى جميع مخلوقاته.

الحجة الثالثة : التمسك بقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد ٣] معنى كونه أولا : هو أنه تعالى كان موجودا فى الأزل ، مع أنه ما كان معه غيره وكذلك معنى الآخر : هو أنه تعالى يبقى فى الأبد مع أنه لا يكون معه غيره. وهذا يقتضي أنه تعالى يعدم جميع المخلوقات حتى يتحقق كونه آخرا ، ثم يعيدها مرة أخرى ، ليتحقق صدق الآيات الدالة على أن الثواب والعقاب ، لا آخر لهما.

٥١

الحجة الرابعة : التمسك بقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء ١٠٤] حكم بأن الاعادة على وفق الابتداء ، ولما كان الابتداء عبارة عن خلق الذوات وخلق التركيب والتأليف فيها ، وجب أن يكون وقت الاعادة لخلق الذوات بخلق التركيب والتأليف فيها ، حتى يكون وقت الاعادة مشابها لوقت الابتداء.

فهذه جملة الوجوه التى يتمسك بها من قطع بأن الله تعالى يعدم الذوات ويفنى الأجسام.

* * *

وأما الذين قالوا : انه تعالى يفرق الأجزاء ، ولكن لا يعدمها : فاعلم أنهم انما اختاروا هذا القول ، لأن عندهم اعادة المعدوم ممتنعة. قالوا : فعلى هذا لو أنه سبحانه وتعالى أعدم الأجزاء والذوات ، لكان الّذي يوجده بعد ذلك مغايرا لتلك الأشياء التى عدمت أولا ، وعلى هذا التقدير لا يكون الثواب واصلا الى المطيع ، ولا يكون العقاب واصلا الى العاصى. وذلك غير جائز ، فلأجل الفرار عن هذا الاشكال قالوا : إنه تعالى يفرق الأجزاء ويزيل التأليف عنها ، ولكنه تعالى لا يعدمها. فاذا أعاد التأليف إليها وخلق الحياة فيها مرة أخرى ، كان هذا الشخص هو عين ذلك الشخص ، الّذي كان موجودا قبل ذلك ، فحينئذ يصل الثواب الى المطيع والعقاب الى العاصى ، ويزول الاشكال المذكور.

واعلم : أن اعادة المعدوم ان كانت جائزة. فهذا الاشكال زائل. وان كانت ممتنعة ، فهذا الاشكال لازم. سواء قلنا : انه تعالى يعدم الأجزاء ، أو قلنا : إنه لا يعدمها. وتقرير ذلك : ان المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» ليس هو مجرد تلك الأجزاء. وذلك لأنا لو قدرنا أن هذه الأجزاء تفرقت وصارت ترابا رسميا من غير حياة ولامزاج ولا تركيب ولا تأليف ، فان كل أحد يعلم أن ذلك القدر من التراب الصرف ليس عبارة عن «زيد» بل الانسان المعين انما يكون موجودا ، اذا

٥٢

تركبت تلك الأجزاء وتألفت على وجه مخصوص ، ثم قام بها حياة وعلم وقدرة وعقل وفهم.

فثبت : أن الشخص المعين ليس عبارة عن مجرد تلك الأجزاء والذوات ، بل هو عبارة عن تلك الأجزاء الموصوفة بالصفات المخصوصة واذا كان كذلك كانت تلك الصفات أحد أجزاء ماهية ذلك الشخص. من حيث إنه ذلك الشخص. وعند تفرق الأجزاء تبطل تلك الصفات وتفنى.

وان امتنعت الاعادة على المعدوم ، امتنعت الاعادة على تلك الصفات ، فيكون العائد صفات أخرى ، لا تلك الصفات باعتبارها كان ذلك الشخص ذلك الشخص. وعلى هذا التقدير لم يكن العائد ثانيا هو الّذي كان موجودا أولا ، فلم يكن «زيد» الثانى عين «زيد» الأول.

فثبت مما ذكرنا : أنا ان جوزنا اعادة المعدوم فلا حاجة الى ما ذكروه ، وان منعنا اعادة المعدوم ، كان الاشكال المذكور باقيا. سواء قلنا : انه تعالى يفنى الذوات ، أو قلنا : انه تعالى لا يفنيها. وبالله التوفيق.

الفصل الخامس

فى

تفصيل مذاهب الناس

فى المعاد وتقرير القول الحق فيه

اعلم : أن هذه المسألة مفتقرة الى أربعة أركان. وذلك لأن ـ الانسان هو العالم الصغير. وهذا العالم هو العالم الكبير ، والبحث

٥٣

عن كل واحد منهما ، اما عن تخريبهما ، أو عن جعلهما معمورين بعد أن صارا خرابين. فهذه مطالب أربعة :

المطلوب الأول : فى كيفية تخريب هذا العالم الصغير ـ وهو موت الانسان ـ المطلوب الثانى : انه تعالى كيف يجعله معمورا بعد أن جعله خرابا. وهذا البحث هو المراد بقولنا : انه تعالى يعيده حيا عاقلا ، ويوصل إليه الثواب والعقاب.

والمطلوب الثالث : انه تعالى كيف يخرب هذا العالم الأكبر؟ أيخربه بتفريق الأجزاء ، أو بالاعدام والافناء؟

والمطلوب الرابع : أنه سبحانه وتعالى كيف يعمر العالم الأكبر بعد تخريبه؟ وهذا هو القول فى شرح أحوال القيامة ، وبيان أحوال الجنة والنار.

فهذا هو ضبط مباحث هذا الباب.

أما المطلوب الأول ـ وهو البحث عن حقيقة الموت ـ فنقول : لا شك أن هذا الجسد يموت. فمن قال : الانسان (٤) هو هذا الجسد. قال : الانسان يموت. ومن قال : الانسان شيء آخر سوى هذا الهيكل المحسوس. قال : الانسان لا يموت. فان هذه البنية وهذا الهيكل ما دام مستعدا ، لأن يكون محلا لتصرف (٥) النفس ، كانت النفس متعلقة به ، ومدبرة له ، ومتصرفة فيه. فاذا بطل عنه ذلك الاستعداد والصلاحية ، انقطع تدبير النفس له وتصرفها فيه. وهذا الترك والاعراض هو الموت.

__________________

(٤) يقصد بالانسان هنا : الروح التى هى غير روح التنفس التى يشير إليها كل أحد بلفظ «أنا» ـ

(٥) لتعلق : ا

٥٤

ثم القائلون بهذا. منهم من قال : النفس جوهر مجرد ـ على ما هو قول الحكماء ـ ومنهم من قال : انه جسم نورانى شفاف سار فى هذا البدن. واذا فسد البدن انفصلت تلك الأجسام الشفافة النورانية ، ورجعت الى عالم الأفلاك والأضواء ، ان كانت من السعداء ، أو الى الهاوية والظلمات ، ان كانت من الأشقياء.

وأما المطلوب الثانى ـ وهو القول فى المعاد ـ فاعلم : أن الأقوال الممكنة فى هذه المسألة لا تزيد على خمسة. وذلك لأن الحق اما أن يكون المعاد هو المعاد الجسمانى فقط ـ وهو قول أكثر المتكلمين ـ أو المعاد الروحانى فقط ـ وهو قول أكثر الفلاسفة الالهين ـ أو كل واحد منهما حق وصدق ـ وهو قول أكثر المحققين ـ أو الحق هو بطلانهما معا ـ وهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين ـ والحق هو التوقف فى كل هذه الأقسام. وهو المنقول عن «جالينوس» فانه قال : «لم يظهر لى أن النفس شيء غير المزاج» وبتقدير أن تكون النفس هى المزاج ، فعند الموت تصير النفس فانية معدومة. والمعدوم لا يمكن اعادته ، وأما بتقدير أن تكون النفس جوهرا باقيا بعد فساد المزاج ، كان المعاد ممكنا. ولما لم يتبين عنده أن النفس هل هو المزاج بعينه أو شيء غيره؟ لا جرم توقف فيه.

واعلم : أن المعاد الجسمانى أنكره أكثر الفلاسفة. وجملة أهل الاسلام (٦) متفقون على اثباته. واعلم : أن الجمع بين انكار المعاد الجسمانى ، وبين الاقرار بأن القرآن ، حق : متعذر. لأن من خاض فى علم التفسير ، علم أن ورود هذه المسألة فى القرآن ، ليس بحيث يقبل التأويل.

وأما القائلون. بالمعاد الجسمانى. فقد عرفت أنهم فريقان : منهم من يقول : انه تعالى بعدم الذوات ثم يعيدها. ومنهم من يقول : انه

__________________

(٦) المل : ب

٥٥

تعالى يفرق الأجزاء ، ثم يركبها مرة أخرى. ولنا : فى هذه المسألة مقامان : أحدهما : اثبات الجواز العقلى. والثانى : اثبات الوقوع السمعى.

أما المقام الأول ـ وهو اثبات الجواز ـ فاعلم : أنه مبنى على ثلاث مقدمات :

احداها : اثبات أن اعادة المعدوم جائزة ، واثبات أن الأجزاء التى تفرقت يمكن تركيبها بعينها. كما كانت. وهذه المقدمة قد تقدم تقريريها.

وثانيها : انه تعالى قادر على جميع الممكنات.

وثالثها : انه تعالى عالم بجميع المعلومات الكلية والجزئية. واذا كان كذلك ، فأجزاء الأبدان وان صارت ترابا واختلط بعض الأجزاء بالبعض ، الا أنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات الكلية والجزئية ، كان عالما بأن الجزء الّذي تحت قعر البحر الفلانى والجزء الّذي فوق الجبل الفلانى ، مجموعهما هو قلب «زيد» المطيع.

واذا ثبتت هذه المقدمات الثلاث ، ظهر أن المعاد الجسمانى جائز عقلا ، لأنه لما كان فى نفسه ممكن الوجود ، وكان الله تعالى قادرا على جميع الممكنات ، لزم كونه تعالى قادرا عليه. واذا كان عالما بجميع المعلومات ، فحينئذ يمكنه تمييز المطيع عن العاصى.

واعلم : أنه سبحانه وتعالى كلما ذكر فى القرآن هذه المسألة ، بنى تقريرها على هذه المقدمات الثلاث.

(وكل آية وردت فى هذه المسألة. فهى مشتملة على تقرير هذه المقدمات الثلاث. ومن الآيات) :

الآية الأولى : قوله تعالى فى سورة النمل : («أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ).

٥٦

(إِلَّا اللهُ)» [النمل ٦٤ ـ ٦٥] فقوله : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)؟ اشارة الى مقدمتين :

أحدهما : ان عوده ممكن فى نفسه.

والثانية : انه تعالى قادر على هذا الممكن ، لأنه لو لم يكن الأمر كذلك ، لما كان الابتداء ممكنا. وقوله تعالى : (قُلْ : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) اشارة الى المقدمة الثالثة. وهى كونه تعالى عالما بكل المعلومات ، ثم لما قرر هذه المقدمات الثلاث أخبر عن جهالة من نازع فى صحة المعاد الجسمانى بعد الاقرار بتلك المقدمات الثلاث ، فقال : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [النمل ٦٦]

والآية الثانية : فى سورة الروم. وهى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الى قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٧٨ ـ ٧٩] فقوله : (أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) اشارة الى الجواز الذاتى والقدرة. وقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) اشارة الى كمال العلم. وأيضا : قوله تعالى : («أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟) [يس ٨١] اشارة الى الجواز الذاتى ، أو الى كمال القدرة ثم قال : (بَلى. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس ٨١] اعادة لتلك المقدمة مع مقدمة العلم.

والآية الثالثة : فى سورة الروم. وهى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الى قوله : (الْحَكِيمُ) [الروم ٢٧] فقوله : (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ) اشارة الى الجواز الذاتى وكمال القدرة ، ثم قوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) اشارة أيضا الى كمال القدرة و«الحكيم» اشارة الى كمال العلم. ونحن قد شرحنا فى تفسيرنا : أن كل آية وردت فى هذه المسألة فهى مشتملة على تقرير هذه المقدمات الثلاث.

٥٧

أما الفلاسفة المنكرون لصحة المعاد الجسمانى ، فقد احتجوا بوجوه :

الأول : ان حشر الأجساد لا يتم الا مع القول بصحة اعادة المعدوم. وهذا محال ، فذلك محال.

اما المقدمة الأولى : فقد بينا فيما تقدم أنا سواء قلنا انه تعالى يعدم الأجزاء ثم يعيدها ، أو قلنا : انه تعالى يفرقها ثم يركبها ، فانه لا بد من القول بصحة اعادة المعدوم.

وأما المقدمة الثانية : وهى أن اعادة المعدوم ممتنعة ، فقد سبقت حكاية شبهاتهم فيها.

الثانى : اذا قتل انسان ، وأكله انسان آخر ، فقد صارت أجزاء بدن المقتول أجزاء بدن هذا الّذي أكله ، لأن من أكل شيئا واغتذى به ، فقد صارت أجزاء الغذاء ، أجزاء بدن المغتذى. فيوم القيامة لا بد أن ترد تلك الأجزاء الى بدن أحد هذين الشخصين ، فلا بد أن يضيع الثانى فعلمنا أن القول بحشر الأجسام محال.

الثالث : انه تعالى اذا أعاد بدن شخص ، فاما أن يعيد هذه الأجزاء التى كانت موجودة وقت الموت ، أو يعيده جملة الأجزاء التى كانت أجزاء له ، فى جميع مدة الحياة. والأول يقتضي أن يعاد الأعمى والأقطع والمجذوم على هذه الصورة. وذلك باطل بالاتفاق والثانى أيضا باطل. لأن حشر هذا الانسان اذا كان وقت اسلامه سمينا ، ثم كفر وصار هزيلا ، فاذا حشر هذا الانسان سمينا وعذب فى النار ، لزم وصول العذاب الى تلك الأجزاء التى كانت موصوفة بصفة الاسلام. وذلك ظلم. وعلى العكس من هذا لو كان كافرا سمينا ، ثم أسلم فصار هزيلا ، لزم ايصال الثواب الى الأجزاء الكافرة (٧) وهو محال.

__________________

(٧) أجزاء الكافر : ب

٥٨

الرابع : البدن جوهر حار رطب. والحرارة اذا أثرت فى الرطوبة ، لزم أن تصعد من الجوهر الرطب أجزاء بخارية لطيفة. فعلى هذا التقدير لا بدّ أن يرتفع عن كل عضو أجزاء بخارية لطيفة. وربما التصق بعضو آخر وصار جزأ لذلك العضو الآخر. فاذن هذا الجزء الواحد قد كان جزءا لأحد العضوين. ثم صار للعضو الآخر ، ففى زمان الحشر لو أعيد ذلك الجزء الى العضو الأول ، ضاع العضو الثانى. ولو أعيد الى العضو الثانى ، لضاع العضو الأول. ولما كان القول بالحشر متأديا الى هذا الباطل ، وجب أن يكون باطلا.

والجواب عن الشبهة الأولى : أن نقول : أما الذين قالوا : ان الانسان هو هذا الهيكل ، فلا جواب لهم عن هذه الشبهة ، الا ببيان أن اعادة المعدوم غير ممتنعة. ونحن قد أحكمنا الكلام فى هذه المسألة.

وأما الذين قالوا : الانسان ليس هو هذا الهيكل ـ وهذا هو الأقرب ـ فقد احتجوا عليه بوجهين ـ أوردنا هما فيما تقدم ـ

أحدهما : ان الانسان شيء واحد باق من أول عمره الى آخر عمره. وهذا الهيكل غير باق من أول العمل الى آخره. فالانسان شيء مغاير لهذا الهيكل.

والثانى : ان الانسان قد يكون عالما بذاته المخصوصة ، حال ما يكون غافلا عن جميع أجزائه الظاهرة والباطنة. والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم.

واذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : ان الشيء الّذي هو الانسان فى الحقيقة أجزاء لطيفة سارية فى هذا البدن ، باقية من أول العمر الى آخره. اما لأجل أن تلك الأجسام اللطيفة مخالفة بالماهية لهذه الأجسام العنصرية الكائنة الفاسدة المتحللة ـ وتلك الأجسام حية لذواتها مضيئة شفافة ، فلا جرم كانت مصونة عن التبدل والتحلل ـ

٥٩

واما لأنها وان كانت مساوية لهذه الأجسام العنصرية فى الماهية ، الا أن الفاعل المختار صانها عن التغير والانحلال بقدرته ، وجعلها باقية دائمة من أول العمر الى آخره.

ثم عند الموت تنفصل تلك الأجزاء الجسمانية التى هى الانسان ، وتبقى على حالتها حية مدركة عاقلة فاهمة. وتتخلص اما الى منازل السعداء. كما قال الله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [آل عمران ١٦٩] وأما الى منازل الأشقياء. كما قال الله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر ٤٦] ثم انه تعالى يضم يوم القيامة الى هذه الأجزاء الأصلية التى هى الانسان فى الحقيقة ، أجزاء أخر زائدة كما فعل ذلك فى الدنيا ، ويوصل الثواب والعقاب إليه. وعلى هذا التقدير لا يبقى فى المعاد الجسمانى شبهة واشكال أصلا البتة.

وعلى هذا التقدير يكون المثاب والمعاقب فى القيامة ، عين من كان مطيعا وعاصيا فى الدنيا. وهذا على القول بأن الانسان جسم مخصوص ، سار فى هذا البدن. وأما على قول من يقول : الانسان عبارة عن جوهر مجرد عن الحجمية والمقدار ، فالقول فيه أيضا هكذا. فظهر أن على هذا التلخيص ، لا تبقى شبهة البتة ، فى صحة القول بالمعاد الجسمانى.

فان قيل : ألستم قد دللتم على أن كل ما سوى الله تعالى ، فانه يفنى ويصير معدوما. وعلى هذا التقدير ، فالنفس الانسانية أيضا تفنى وتعدم. وحينئذ يعود الاشكال.

قلنا : نحن قد أثبتنا بالدليل العقلى : أن كل ما سوى الله تعالى فانه جائز العدم. أما أن هذا الجائز يقع ، فانا انما عولنا فيه على ظواهر العمومات. وتخصيص العموم بالدليل جائز ، وثبت بنصوص

٦٠