الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

__________________

ـ ما كَسَبَتْ) ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها : وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ـ (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ـ (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) ـ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ـ (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ـ (كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) ـ (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً).

فأنت ترى مما تقدم : أن النفس المقتولة هى الجسد والروح. والنفس التى ستجد عملها هى الجسد والروح. والنفس التى تكلف هى الجسد والروح. والنفس التى ستأتى معها سائق وشهيد هى الجسد والروح. فاذا قال الله انه يتوفى الأنفس لا يقصد نفسا غير الجسد. بل يقصد الجسد والروح معا ، لأنهما معا ، مثلهما مثل المقعد والأعمى اللذان تعاونا على افساد ثمر البستان.

الدليل الثانى : («وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ).(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ. أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ») الى قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وفيها أربعة أدلة : ١ ـ بسط الملائكة أيديهم لتناولها. ٢ ـ وصفها بالاخراج والخروج ٣ ـ الاخبار عن عذابها فى ذلك اليوم ٤ ـ الاخبار عن مجيئها الى ربها.

الرد عليه : ان قوله : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) نص متشابه يحتمل معنيين. أولهما : اخراج الجسد والروح معا من هذه المشقة. ومثل ذلك ما لوقع انسان فى بحر وأدركه الغرق ، وصاح عليه انسان وقال له : أخرج نفسك من الماء. وثانيهما : اخراج الروح وحدها من الجسد. وعلى المعنى الأول يكون بسط اليد كناية عن استعدادهم لتوفية أجره وختم صحيفة أعماله. وعلى المعنى الثانى يكون بسط

٢١

__________________

ـ اليد لأخذ الروح. والمعنى الأول هو المراد لقوله فيما بعد : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) والمجىء للروح وللجسد معا فى الآخرة لا كما فهم «ابن القيم» من أن المجىء للروح وحدها. لأنه جاء بعد المجىء : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ. وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ. الَّذِينَ زَعَمْتُمْ : أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) والمخاطب بترك الأشياء وراء الظهور ، وتخليهم عن الشفعاء هو الجسد والروح. لأن الروح لا ظهر لها.

الدليل الثالث : قوله تعالى : («وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ).(وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ») فقد أخبر بتوفى الأنفس بالليل ، وببعثها الى أجسادها بالنهار ، وبتوفى الملائكة لها عند الموت.

الرد عليه : ليس فى الآيات ذكر للنفس. ولكنه فهم أن المراد منها النفس من شبهها بآية (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) والّذي قلناه فيها يصح أن يقال فى هذه الآيات. مع أن هذه الآيات لا تخاطب النفس فقط ، بل تخاطب الانسان بجسده وروحه. فمرجع الانسان الى الله لينبئه بأعماله هو للجسد وللروح. ورد الناس الى الله مولاهم الحق ، ليس بأرواحهم فقط.

الدليل الرابع : قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) فقد وصفها بالرجوع والدخول والرضا. واختلف السلف هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو فى الموضعين؟ على ثلاثة أقوال.

٢٢

__________________

الرد عليه : النفس المطمئنة هى الانسان المطمئن بما قدره الله تعالى وما أجراه عليه فى الدنيا ، أى المستسلم لأمره ، المطمئن بعدله ورحمته. وليست النفس هى الروح وحدها ، حالة كونها منفصلة عن الجسد. ألا ترى أن قوله تعالى : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) لا يدل على سلام على النفس وحدها وهى منفصلة عن الجسد. فكذلك النفس المطمئنة. ثم اختلاف السلف ـ كما نقل ابن القيم ـ دليل على أن النفس هى الجسد والروح معا. فانه اذا قيل لها عند الموت. كان القول لها وللجسد ، لأنها لم تنفصل بعد عن الجسد ، واذا قيل لها عند البعث. فقد حيى الجسد وحلت فيه الروح. ولو أن «ابن القيم» أصر على قوله بأن النفس المطمئنة منفصلة عن الجسد. لكان دخولها فى الجنة فى يوم القيامة حالة كونها منفصلة عن الجسد فيكون النعيم للروح وليس للجسد ـ وهذا لم يقل به الا الفلاسفة المصرحون بالبعث الروحانى فقط ـ

أى ان الله تعالى قال للنفس المطمئنة (ادْخُلِي جَنَّتِي) فهل تدخل النفس وحدها أم تدخل النفس والجسد؟. اذن النفس المطمئنة هى الروح والجسد. والاطمئنان صفة لها.

الدليل الخامس : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) يقول ابن القيم : وهذا دليل على أن أرواح المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء. وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم عند الموت.

الرد عليه : ان التعبير بقوله : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) هو كناية عن بعدهم عن رحمة الله. كما يقال : افتح لى أبواب رحمتك

٢٣

الى الغذاء ، والغذاء عبارة عما يصير بدلا لما تحلل من البدن. وكيف لا يكون كذلك ، والبدن حار رطب. والحار اذا عمل فى الرطب أصعد عنه الأجزاء البخارية وحللها؟ واذا ثبت أن هذا الانسان هو الّذي بعينه كان موجودا قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، وثبت أن هذا الهيكل ليس هو الّذي كان موجودا قبل ذلك ، ثبت قطعا : أن الانسان ليس عبارة عن هذا الهيكل.

الوجه الثانى : انى أعلم بالضرورة ذاتى المخصوصة ، حال ما أكون غافلا عن جميع مالى من الأعضاء الظاهرة والباطنة. والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فوجب القطع بأن ما هو المشار إليه بقولى أنا : مغاير لجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة.

وأما القول الثانى ـ وهو أن الانسان عبارة عن جسم موجود فى داخل هذا الهيكل ـ فهذا القول فيه وجوه :

أحدها : قول «أقلوطرجس». وهو أنه عبارة عن الأجزاء النارية السارية فى هذا الهيكل. قال : «لأن خاصية النار الاشراق والحركة. والنفس خاصيتها الادراك والحركة الاختيارية. والادراك

__________________

ـ وافتح لى أبواب الخير. وليس التعبير هذا نصا فى أرواح مفارقة لأجسادها.

هذه هى الأدلة القرآنية عند «ابن قيم الجوزية» والرد عليها.

وأما آية الشهداء وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فان العندية ليست للقرب المكانى ، لاستحالته ، وانما المعنى: سيصيرون فى الآخرة أحياء. وعبر بالآن دلالة على تحقق الوقوع من جهة ، ولأن المدة من الموت الى البعث قليلة من جهة أخرى وهى آية متشابهة. ومحكمها هو : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فقد أثبت التوفية فى القيامة ، ومنعها فى القبر. للشهيد وغيره.

٢٤

من جنس الاشراق» (٤) فثبت : أن النفس عبارة عن النار. قالوا : ويتأيد هذا بما يقول الأطباء : إن مدبر البدن هو الحرارة الغريزية وثانيها : قول «ديوجانس» وهو أن النفس هو الهواء. قال : «وذلك لأنه متى كان النفس مترددا ، كانت الحياة باقية. واذا انقطع النفس زالت الحياة ، فوجب أن تكون النفس عبارة عن التنفس. وهو الهواء المستنشق المتردد فى مخارق البدن. وأيضا : من خواص الهواء : أنه لا لون له ، ويدخل فى المنافذ الضيقة ، ويقبل الأشكال المختلفة ، والجسم الّذي يكون فيه مستقلا بذاته ، كالزق المنفوخ. والنفس موصوفة بهذه الصفات» فثبت : أن النفس هو الهواء (٥).

وثالثها : قول «ثاليس الملطى» قال : «ان النفس هو الماء. لأن الماء سبب لحصول النشوء والنمو ، والنفس أيضا كذلك» فكان النفس هو الماء.

واعلم : أن دلائل هذه الأقوال الثلاثة كلها ضعيفة. لأنها أقيسة مركبة من الموجبتين فى الشكل الثانى. وذلك غير منتج ، لأنه لا يمنع فى العقل استواء الماهيات المختلفة فى بعض الصفات.

ورابعها : ان النفس عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة ، بشرط أن يكون لكل واحد منها مقدار معين.

واحتجوا عليه بأنه مهما كانت هذه الأخلاط الأربعة ، باقية على كمياتها المخصوصة وكيفياتها المخصوصة ، كانت الحياة باقية. ومهما لم تبق تلك الكميات وتلك الكيفيات ، زالت الحياة. وهذا الدليل ضعيف. لأن الدوران لا يفيد العلم بالعلية (٦) ـ

__________________

(٤) الاحراق : ا

(٥) هو النفس : ا

(٦) لا يفيد العلم : ا

٢٥

وخامسها : أن النفس عبارة عن الدم. لأنه أشرف أخلاط البدن.

وسادسها : أن الأجسام مختلفة فى ماهياتها. وذلك لأن جسم الأرض كثيف ، وأنه البتة لا ينقلب لطيفا ، وجسم النار لطيف ، وأنه لا ينقلب البتة كثيفا.

اذا ثبت هذا ، فنقول : الأنفس أجسام لطيفة لذواتها. وتلك الأجسام اذا شاركت هذا الهيكل وسرت فيه ـ سريان ماء الورد فى ورق الورد ، وسريان النار فى الفحم ، وسريان دهن السمسم فى جرم السمسم ـ صار هذا الهيكل حيا ، بسبب تلك المشاركة والذوبان والانحلال.

والتبدل لا يتطرق الى تلك الأجسام اللطيفة الحية ، وانما يتطرق الى هذا الهيكل. وما دامت الأعضاء والأخلاط قابلة لسريان تلك الأجسام اللطيفة الحية لذواتها فيها ، بقى هذا الهيكل حيا. واذا أخرجت الأعضاء والأخلاط عن القابلية ، انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عنها. وذلك هو الموت.

وسابعها : ان النفس عبارة عن المزاج الّذي هو عبارة عن اعتدال الأركان والأخلاط. وذلك لأن الأركان والأخلاط اذا امتزج بعضها ببعض ، حصلت هناك كيفية معتدلة متوسطة ـ وهى المزاج ـ وتلك الاعتدال عبارة عن النفس ، وعن الحياة.

وثامنها : ان النفس عبارة عن الأجسام اللطيفة المتكونة فى جانب البطن الأيسر من القلب ، النافذة فى الشرايين ، النابتة منه الى جملة أجزاء البدن.

وتاسعها : ان النفس عبارة عن الأرواح ال متكونة فى الدماغ ، الصالحة لقبول قوة الحس والحركة والحفظ والفكر والذكر ، النافذة من الدماغ فى شظايا الاعصاب ، النابتة منه الى أقاصى البدن.

٢٦

وعاشرها : أن أجزاء هذا البدن على قسمين ، بعضها أجزاء أصلية باقية من أول العمر الى آخره ، من غير أن يتطرق إليها شيء من التغيرات والانحلالات والزيادات والنقصانات ، وبعضها أجزاء عارضة تبعية. تارة تزداد وتارة تنتقص. فالنفس والشيء المشار إليه لكل واحد بقوله «أنا» انما هو القسم الأول من الأجزاء. واذا عرفت هذا ، فما هو أجزاء أصلية بالنسبة الى «زيد» كانت أجزاء فاضلة بالنسبة الى «عمرو» وبالعكس. وهذا اختيار المحققين من المتكلمين. وبهذا القول يظهر الجواب عن أكثر شبهات منكرى الحشر والنشر.

فهذا تفصيل قول من قال : النفس جسم.

* * *

وأما القسم الثانى ـ وهو قول من قال : النفس شيء جسمانى ـ فهذا فيه أقوال :

أحدها : قول من قال : انها عبارة عن صفة الحياة.

وثانيها : قول من قال : انها عبارة عن الشكل والتخطيط.

وثالثها : قول من قال : انها عبارة عن تناسب الأركان والأخلاط.

* * *

وأما القسم الثالث ـ وهو قول من قال : النفس ليست بجسم ولا بجسمانى ـ فهذا القول اختبار جمهور «الفلاسفة». ومن قدماء «المعتزلة» : مذهب «معمر بن عباد السلمى» ومذهب أكثر الأجناس (٧) من «الامامية». ومن المتأخرين «الغزالى» و«أبى القاسم الراغب».

واعلم : أن الفلاسفة ذكروا فى اثبات هذا : وجوها كثيرة. واعترضنا عليها فى كتبنا الحكمية. الا أن اعتمادهم على وجه واحد ونحن نذكره هاهنا:

__________________

(٧) الاخباريين : ب

٢٧

قالوا : لا شك فى وجود معلومات غير منقسمة. فيكون العلم بها غير منقسم ، فيكون الموصوف بتلك العلوم غير منقسم. وكل متحيز فهو منقسم ، فاذن الموصوف بتلك العلوم لا متحيز ولا حال فى المتحيز.

أما المقدمة الأولى ـ وهى اثبات معلومات غير قابلة للقسمة ـ فيدل عليه وجهان :

الأول : انا نعرف ذات الله تعالى. وثبت أن ذاته تعالى غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه. وأيضا : نعرف الوحدة. والوحدة غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه.

الثانى : لا شك أنا نعرف شيئا. وذلك الشيء اما مفرد واما مركب. فان كان مفردا فقد حصل المطلوب ، وان كان مركبا فكل مركب ، فهو مركب من المفردات. والعلم بالمركب مسبوق بالعلم بمفرداته ، فثبت : أنا نعلم أمورا مفردة.

وأما المقدمة الثانية ـ وهى أن المعلوم اذا كان غير منقسم كان العلم به غير قابل للانقسام ـ فالذى يدل عليه :

أنه لو كان ذلك العلم قابلا للانقسام ، لكان ما يفرض جزءا لذلك العلم ، اما أن يكون علما بذلك المعلوم ، أو يكون علما بجزء من أجزاء ذلك المعلوم ، أو لا يكون علما بذلك المعلوم ولا بشيء من من أجزاء ذلك المعلوم.

فان كان جزء العلم علما بذلك المعلوم ، لزم أن يكون الجزء مساويا للكل فى تمام الماهية. وذلك محال.

وان كان متعلقا بجزء من أجزاء ذلك المعلوم ، لزم كون ذلك المعلوم منقسما وهو محال.

٢٨

وان لم يكن علما لا بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه ، فعند اجتماع تلك الأجزاء اما أن يحدث أمر زائد ، بسبب ذلك الاجتماع ، أو لا يحدث. فان لم يحدث البتة أمر زائد ، لزم أن لا يكون ذلك المجموع علما بذلك المعلوم. والعلم بالشيء لا يكون علما بذلك الشيء. هذا خلف. وان حدثت حالة زائدة بسبب ذلك الاجتماع ، فتلك الحالة الزائدة ان كانت قابلة للقسمة ، عاد التقسيم المذكور فيه. ولزم التسلسل. وان لم تقبل القسمة ، فالعلم بهذا المعلوم ، هو هذه الحالة الزائدة الحادثة بسبب الاجتماع ، وأنه غير قابل للقسمة. فحينئذ يحصل بما ذكرنا : أن المعلوم اذا لم يقبل القسمة ، كان العلم به غير قابل للقسمة.

وأما المقدمة الثالثة ـ وهى أن العلم اذا لم يكن قابلا للقسمة ، وجب أن يكون الموصوف به غير قابل للقسمة ـ فالذى يدل عليه : أن كل ما كان قابلا للقسمة ، افترض فيه الجزءان. فالفرض الحاصل فيه اما أن يكون بتمامه حاصلا فى كل واحد من النصفين ، أو يكون بتمامه حاصلا فى أحد النصفين دون الثانى ، أو يكون نصفيه حاصلا فى أحد نصفه والنصف الآخر منه حاصلا فى النصف الثانى من المحل ، أو لا يكون شيء من ذلك.

أما الأول ـ وهو أن يحصل بتمامه فى هذا النصف وبتمامه فى النصف الثانى ـ فهذا يقتضي حصول العرض الواحد فى محلين دفعة واحدة. وهو محال.

وأما الثانى ـ وهو أن يحصل بتمامه فى أحد النصفين منه دون الثانى ـ فحينئذ ننقل الكلام الى ذلك النصف. فان ذلك النصف ان كان منقسما ، عاد الكلام فيه ، فيلزم أن يكون حاصلا فى نصف ذلك النصف. وبالجملة : فكل ما يكون منقسما ، فان ذلك العرض لا يكون

٢٩

حالا فيه. وهذا يلزمه من باب عكس النقيض : أن ما يكون ذلك العرض حالا فيه ، فانه لا يكون منقسما.

وأما الثالث ـ وهو أن يقال بتوزع الحال على المحل ـ فهذا يقتضي انقسام الحال. وقد بينا أنه محال.

وأما الرابع ـ وهو أن لا يكون شيء من هذه الأقسام ـ فهذا محال. لأنه اذا كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحال بالكلية. وعن جملة أجزاء الحال ، كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحال بالكلية. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع كون المحل موصوفا بالحال. والعلم به ضرورى. فثبت : أن الحال اذا كان غير منقسم ، كان المحل أيضا غير منقسم.

المقدمة الرابعة ـ وهى قولنا : ان كل متحيز منقسم ـ فهذا بناء على مسألة نفى الجوهر الفرد. وقد تقدم القول فيه.

وحينئذ يلزم القطع من مجموع هذه المقدمات الأربع : أن الشيء الّذي هو الموصوف منا بالمعارف والعلوم : موجود ليس بمتحيز ، ولا حال فى المتحيز. وهو المطلوب.

* * *

واعلم : أنا لا نسلم أن كل متحيز فهو يقبل القسمة أبدا. وقد قدمنا الدلائل على اثبات الجوهر الفرد. سلمنا ذلك. ولكن لا نسلم أن الحال فى المنقسم منقسم. ويدل عليه وجوه :

أحدها : ان النقطة موجودة مشار إليها غير منقسمة. وهى ان كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد ، وان كانت عرضا ، وافتقرت الى محل. فذلك المحل ان كان منقسما ، لزم انقسام النقطة لانقسام محلها. وهو محال. وان لم يكن منقسما ، فقد ثبت الجوهر الفرد.

٣٠

وثانيها : ان الوحدة عرض. وهى من أشد الأشياء مباعدة عن الكثرة. ثم الجسم قد يوصف بالوحدة. فثبت : أن ما لا يقبل القسمة يصح قيامه (١) بالجسم.

وثالثها : ان الاضافات كالأبوة والبنوة والأخوة قائمة بالأجسام ، ويمتنع أن يقال : قام بنصف هيكل الأب نصف الأبوة ، وقام بثلثه ثلثها.

ورابعها : ان الوجود صفة قائمة بالجسم ، ويمتنع أن يقال : قائم بنصفه نصف الوجود ، وبثلثه ثلث الوجود. أو يلتزم ذلك ، ويقال : أن نصف الوجود أيضا وجود ، وثلث الوجود وجود ، لكن اذا جاز هذا ، فلم لا يجوز أن يقال : العلم القائم بالجسم المنقسم يكون منقسما ، ويكون أيضا نصف العلم علما ، وثلث العلم علما.

فهذا ما فى هذه المسألة. وبالله التوفيق.

__________________

(١) اتصافه : ب

٣١

المسألة التاسعة والعشرون

فى

إثبات الخلاء

اعلم : أن معنى (٢) الخلاء هو أن يوجد جسمان. لا يتماسان ، ولا يوجد بينهما ما يماسانه (٣) وأكثر الفلاسفة ينكرون الخلاء داخل العالم ، الا «أبا البركات البغدادى» فانه يثبته. وأقوى ما قيل فى اثبات الخلاء وجهان :

الحجة الأولى : ان الجسم اذا انتقل من مكان الى مكان ، فالمنتقل إليه. اما أن يقال : انه كان خاليا قبل انتقال هذا المنتقل إليه ، أو كان مملوءا. فان قلنا : انه كان خاليا ، فقد ثبت القول بالخلاء ، وان قلنا : انه كان مملوءا ، فعند انتقال هذا الجسم إليه. اما أن يقال : انه بقى ذلك الجسم فيه ، أو انتقل ذلك الجسم من ذلك المكان الى مكان آخر ، فان بقى ذلك الجسم فيه حال ما انتقل إليه هذا الجسم ، لزم اجتماع الجسمين فى مكان واحد. وهو محال. وان انتقل ذلك الجسم عن ذلك المكان. فاما أن يقال : انه انتقل الى مكان ذلك الجسم الّذي انتقل الى مكانه أو الى مكان جسم آخر. فان كان الأول لزم الدور. لأن هذا لا يمكنه الانتقال عن مكانه ، الا اذا فرغ المكان عن الثانى. ولن يفرغ المكان من الثانى ، الا اذا فرغ المكان الأول عن الجسم الأول. وما أفضى الى الدور امتنع وجوده. وأما ان انتقل الى مكان آخر عاد التقسيم الأول فيه. ويلزم أن يقال : مهما

__________________

(٢) مرادنا من : ب

(٣) يماسه : ب

٣٢

تحركت البقة أو النملة ، أن يتحرك جملة عالم الأجسام (٤) وذلك محال. فثبت : أن القول بعدم الخلاء يفضى الى أقسام باطلة ، فيكون القول بعدم الخلاء باطلا ، فيكون القول بالخلاء حقا.

فان قيل : فعلى هذا التقدير يلزمكم أن تقولوا : اذا تحركت الذرة فى قعر البحر المحيط ، ان تندفع كلية ذلك البحر ، أو تثبتا فى داخل الماء أحيازا خالية. وذلك بعيد. لأن الماء جرم ثقيل سيال ، واذا وجد موضعا خاليا ، سال إليه بالطبع. قلنا : اثبات الخلاء داخل ماء البحر غير بعيد ـ على قولنا ـ لأن عندنا خالق العالم فاعل مختار. ولا يبعد أن يمنع أجرام الماء عن السيلان الى تلك الأحياز الفارغة.

الا أن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : العالم كله ملاء الا أن الجسم اذا انتقل من مكان الى مكان. فان الفاعل المختار يعدم الجسم الّذي كان حاصلا فى المكان المنتقل إليه ، ويخلق جسما فى المكان المستقل عنه. وعلى هذا التقدير يسقط دليلكم.

الحجة الثانية فى اثبات الخلاء : انا اذا فرضنا سطحين مستويين ، انطبق أحدهما بتمامه على الآخر ، ثم اذا فرضنا ارتفاع حدهما عن الآخر دفعة. فعند هذا يلزم القطع بحصول الخلاء فيما بين ذينك الجسمين. وهاهنا مقدمات :

المقدمة الأولى : انه يمكن فرض سطحين مستويين من كل الوجوه. ويدل على امكانه: أن عدم الاستواء فى السطح. اما أن يكون بسبب اختلاف أجزائه فى الارتفاع والانخفاض ، أو بسبب حصول المسام فيه. أما الأول فلا بد وأن يكون بسبب سطوح صغار يتصل بعضها ببعض ،

__________________

(٤) أجسام العالم : ب

٣٣

لا على الاستقامة ، بل على الزواية ولا بد من الانتهاء الى سطوح صغار مستوية ، والا لذهبت الزوايا الى غير النهاية. وهو محال. وأما حصول المسام فى أجزاء السطح. فهذا لو حصل فلا بد أن يحصل بين كل منفذين سطح متصل ، والا لزم كون السطح مركبا من نقط متباينة. وذلك محال. فوجب القطع (٥) بوجود سطوح مستوية.

وأما المقدمة الثانية ـ وهى أنه يجوز وجود سطحين مستويين يتماسان بالكلية ـ فهذا ظاهر. لأن تماس بعض جوانب السطوح ممكن ، فيكون تماسها أيضا بالكلية ممكنا. لأن جميع الأجزاء المفروضة فى السطح الواحد متساوية ، وما صح على البعض جاز على الباقى.

وأما المقدمة الثالثة ـ وهى أن ارتفاع أحد السطحين بكليته عن السطح الآخر ممكن ـ فبرهانه : أن أحد السطحين لما كان بكليته مماسا للسطح الآخر ، فاذا ارتفع أحد أجزائه عما تحته ، فالجزء المتصل يجب أيضا أن يرتفع عما تحته. والا لزم وقوع التفكك فى السطح الأعلى. وهو محال.

وأما المقدمة الرابعة ـ وهى أنه اذا حصلت هذه الأمور ، لزم وقوع الخلاء فيما بين هذين السطحين ـ وذلك لأنه لو حصل جسم فيما بينهما ، لكان ذلك الجسم اما أن ينتقل من الخارج إليه أو يحصل من مسام السطح الأعلى والأسفل. فان انتقل من الخارج الى ذلك الوسط ، فحينما يكون ذلك الجسم المنتقل حاصلا فى الطرفين ، لا يكون حاصلا فى الوسط. ففى ذلك الوقت يكون الوسط خاليا. وهو المطلوب.

__________________

(٥) القول : ب

٣٤

وأما القول بأنه يوجد (٦) من مسام الأعلى والأسفل. فهذا أيضا باطل. لأنا فرضنا الكلام فى سطحين لا شيء من المسام فيهما. وأيضا : فبتقدير حصول المسام ، الا أنه لا بد وأن يحصل بين كل منفذين من تلك الأجسام سطح متصل. فالشيء الّذي ينزل من المسام يكون حال كونه متصلا بطرف تلك الفرجة ، لا يكون حاصلا فى وسط السطح المتوسط فيما بين الفرجتين ، فيكون ذلك الوسط خاليا لا محالة. فثبت : أن القول بالخلاء لازم على كل التقديرات.

واعلم : أن هذه الحجة لا يمكن الجواب عنها ، على أصول الفلاسفة ، الا أن على أصول الاسلاميين ، عليها سؤال. وهو أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : ان فى أول وقت رفع أحد السطحين عن الآخر ، يخلق الفاعل المختار فيما بينهما جسما؟ وعلى هذا التقدير لا يحصل الخلاء البتة.

* * *

أما نفاة الخلاء. فقد احتجوا بوجوه :

الحجة الأولى : ان كل خلاء ، فانه قابل للتقدير والمساواة والمفاوتة. بدليل : أن الخلاء الحاصل بين طرفى الطاس ، أقل من الخلاء الحاصل بين جدارى البلد ، والخلاء الحاصل بين جدارى البلد ، أقل من الخلاء الحاصل بين السماء والأرض. فثبت : أن كل خلاء فهو قابل للمساواة والمفاوتة ، وكل ما كان كذلك ، امتنع أن يكون عدما محضا. لأنه لا يمكن أن يقال : هذا العدم نصف ذلك العدم أو ثلثه ، وأن ذلك العدم أضعاف هذا العدم. ولا يمكن أن يقال : العدم عشرة أذرع أو ألف ذراع. فالخلاء يمكن (٧) وصفه بهذه الأوصاف. فثبت : أن الخلاء لو حصل لكان موجودا قابلا للتقدير ،

__________________

(٦) يدخل : ب

(٧) لا يمكن : ا

٣٥

فلا يكون الخلاء عدما ، بل مقدارا. والمقدار اما أن يكون عبارة عن نفس الجسم ، أو عن صفة قائمة بالجسم. فثبت : أنه لو فرض الخلاء حاصلا ، لما كان خلاء ، بل كان ملاء. فاذا فرض الخلاء يفضى ثبوته الى نفيه ، فكان القول به باطلا.

الحجة الثانية لهم : لو فرضنا الخلاء ، لكانت الحركة فيه اما أن تقع فى زمان ، أو لا فى زمان. والقسمان باطلان ، فبطل القول بالخلاء.

انما قلنا : ان الحركة فيه يمتنع وقوعها فى زمان. وذلك لأن المتحرك فيه كلما كان أرق كانت المعاوقة فيه أقل ، فكانت الحركة فيه لا محالة أسرع. واذا ثبت هذا ، فلنفرض مائة ذراع من المسافة ، ولنفرض أنها لو كانت خلاء ، لتم قطعها فى ساعة واحدة ، ولو كانت ملاء من الهواء ، لتم قطعها فى عشر ساعات. فاذا فرضنا ملاء أقل معاوقة من الهواء ، بحيث تكون نسبة معاوقته الى معاوقة الهواء ، كنسبة زمان الحركة فى الخلاء الى الحركة فى الهواء ، لزم أن يقع قطع تلك المسافة المملوءة من ذلك الملاء الرقيق فى ساعة واحدة ، فتكون الحركة فى الملاء مثل الحركة فى الخلاء ، فتكون الحركة مع المعاوق ، كهى لا مع المعاوق. وذلك محال. فثبت : أنه لو صح القول بالخلاء ، امتنع وقوع الحركة فيه فى زمان.

وانما قلنا : انه يمتنع وقوع الحركة فى الخلاء لا فى زمان ، لأن كل حركة فهى على مسافة وكل مسافة منقسمة. واذا كان كذلك كانت الحركة الى نصفها متقدمة على الحركة من نصفها الى آخرها. ومتى كان كذلك ، كانت الحركة واقعة فى الزمان. فثبت بما ذكرنا : أن الحركة فى الخلاء ، اما أن تحصل فى زمان ، أو لا فى زمان. وثبت فساد هذين القسمين ، فثبت القطع بأن القول بوجود الخلاء محال باطل.

٣٦

الحجة الثالثة لهم : لو فرضنا الخلاء ، لكان ذلك الخلاء متشابه الأجزاء ، واذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يبقى الجسم فيه ساكنا ، لأن بقاءه فى حيز معين مع كونه مشابها لسائر الأحياز ، ترجيح لأحد المتساويين على الآخر من غير مرجح.

ويمتنع أيضا : أن يبقى الجسم فيه متحركا ، لأن الانتقال من أحد الحيزين الى الحيز الآخر ، تخصيص للمنتقل عنه بالهرب ، وللمنتقل إليه بالطلب. وذلك أيضا ترجيح لأحد المتساويين على الآخر من غير مرجح. وهو محال.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : ان الفاعل المختار يخصص الجسم ببعض تلك الأحياز(٨) على التعيين لمجرد القصد والاختيار. لأنا نقول : اذا كانت الأحياز متساوية من جميع الاعتبارات والوجوه ، كانت نسبة القدرة والإرادة الى كلها على السوية. فلو اقتضت القدرة والإرادة تخصيص ذلك الجوهر ببعض تلك الأحياز دون البعض من غير مرجح أصلا ، كان ذلك ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر من غير مرجح. وهو محال.

والجواب عن الأول : لا نسلم أن نفس الخلاء يقبل التقدير والمساواة والمفاوتة ، بل الشيء الّذي يمكن حصوله فى الخلاء ، تثبت له (٢) هذه الأحكام مثلا. ولا نقول : الخلاء الّذي بين طرفى الطاس أقل من الخلاء الّذي بين طرفى البلد ، بل نقول : الأجسام التى يمكن حصولها بين طرفى الطاس ، أقل من الأجسام التى يمكن حصولها بين طرفى البلد.

__________________

(٨) الأحياز بعض البعض لمجرد : ب

(٢) يقبل هذه : ب

٣٧

والجواب عن الثانى : لم لا يجوز أن يقال : ان الحركة من حيث انها حركة ، تستدعى قدرا من الزمان. وبسبب ما فى المسافة من المعاوقة ، تستدعى قدرا آخر من الزمان؟

اذا عرفت هذا فنقول : اذا فرضنا أن مائة ذراع من الخلاء ، لا يمكن قطعها الا فى ساعة واحدة ، ثم فرضنا ملاء أرق من الهواء ، بحيث تكون نسبة ما فيها من المعاوقة الى المعاوقة التى في الهواء ، نسبة العشر. فهذه الحركة تحصل فى ساعة وعشر ساعة ، أما الساعة فبسبب أصل الحركة ، وأما عشر الساعة ، فبسبب حصول هذه المعاوقة الضعيفة. وأما الحركة فى الخلاء الصرف ، فانها تحصل فى ساعة واحدة فقط ، فعلمنا : أن ما ذكروه مغالطة.

والجواب عن الثالث : ان حاصل الكلام فيه يرجع الى أن القادر المختار ، هل يمكنه ترجيح أحد المثلين على الآخر لمحض كونه قادرا مختارا ، أم لا؟ وعندنا : أن ذلك غير ممتنع ـ على ما قررناه فى مسألة القادر ـ فزال السؤال.

٣٨

المسألة الثلاثون

فى

المعاد

وفيه فصول :

الفصل الأول

فى

اعادة المعدوم

اختلف العقلاء فى أن الشيء اذا عدم وفنى. فهل يمكن اعادته بعينه مرة أخرى ، أم لا؟

أما الفلاسفة : فقد اتفقوا على أنه محال. وهو قول «أبى الحسين البصرى» و«محمود الخوارزمى».

وأما جملة مشايخ المعتزلة : فقد اتفقوا على أن اعادة المعدوم ممكنة ، الا أنهم فرعوا هذه المسألة على مذهبهم. وذلك بأن عندهم المعدوم شيء ، والشيء اذا عدم ، لم تبطل ذاته المخصوصة ، بل زالت صفة الوجود عنه ، ولما كانت ذاته المخصوصة باقية حالتى العدم والوجود ، لا جرم قالوا : اعادة المعدوم جائزة.

وأما أصحابنا : فانهم يقولون : الشيء اذا عدم فقد بطلت ذاته ، وصار نفيا محضا وعدما صرفا ، ولم تبق له حال العدم هوية ولا خصوصية. ثم إنهم مع هذا المذهب قالوا : انه لا يمتنع فى قدرة الله اعادته بعينه. وهذا القول لم يقل به أحد من طوائف العقلاء الا أصحابنا.

٣٩

والّذي يدل على صحة هذا القول : أن الشيء اذا صار معدوما ، فانه بعد العدم بقى جائز الوجود. والله تعالى قادر على جميع الجائزات ، فوجب القطع بكونه تعالى قادرا على اعادته بعينه ، بعد العدم.

وانما قلنا : انه بعد عدمه بقى جائز الوجود ، لأنه قبل عدمه جائز (١) الوجود. وهذا الجواز اما أن يكون من لوازم حقيقته ، واما أن يكون من عوارض حقيقته. فان كان من لوازم حقيقته ، وجب أن لا يزول. وان كان من عوارض حقيقته ، كانت تلك الحقيقة بحيث يجوز عليها ذلك الجواز فينتقل الكلام الى جواز الجواز ، ولا يتسلسل ، بل ينتهى بالآخرة الى جواز ، هو من لوازم الحقيقة. وهذا نقيض حصول هذا الجواز حالتى الوجود والعدم. فثبت بهذا : أن الجواز حاصل أبدا. وأما أنه تعالى قادر على كل الجائزات ، فقد تقدم اثباته. ويلزم من مجموع الأمرين كونه تعالى قادرا على اعادة المعدوم.

فان قيل : قولكم : «هذا الجواز لازم لماهيته ، فيبقى الجواز ببقاء الماهية».

قلنا : هذا الكلام متين ، الا أنه مبنى على أن الماهية باقية حال العدم. وهذا لا يتم الا مع القول بأن المعدوم شيء ، وأنتم لا تقولون به.

والجواب : ان بطلان الماهية حال العدم ، لا يمنع من الحكم عليها بالجواز والامتناع. ويدل عليه وجوه :

أحدها : ان صريح العقل يحكم بأن هذا المحدث كان جائز الحدوث قبل أن حدث. وهذا الّذي حكم العقل عليه بالجواز ، ليس هو الماهية ، لأن الماهية لو كانت واجبة التقرر والتحقق ، حالتى الوجود والعدم

__________________

(١) لأنه كان عند الوجود جائز : ا

٤٠