الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

العقلية ، فان كان مجرد تجويز اشتمال الشيء على المفسدة ، يمنع من الحكم بكونه لطفا ، وجب أيضا : أن لا يحكموا بكون المعرفة لطفا ، لأن هذا الاحتمال قائم فيها.

لأنا نقول : الفرق ظاهر. وذلك لأن المعرفة لطف يجب علينا تحصيلها ، ونحن اذا عرفنا فى الشيء كونه مشتملا على جهة من جهات الحسن ، ولم نعرف فيه جهة من جهات القبح ، غلب على ظننا كونه لطفا. والظن فى حقنا قائم مقام العلم فى كونه سببا لوجوب الفعل علينا ، فلا جرم كفى هذا القدر فى أن يجب علينا تحصيل معرفة الله تعالى.

أما أنتم فانما توجبون نصب الامام على الله تعالى ، ولا يمكن الجزم بوجوبه على الله ، الا اذا ثبت أنه فى علم الله تعالى خال عن جميع جهات المفسدة. فأين أحد البابين من الآخر ، بل لو ورد دليل سمعى على أنه تعالى فعل ذلك : استدللنا بأن الله تعالى فعله ، على خلوه عن جميع جهات القبح ، وعلى كونه لطفا (١) فى نفسه ، لا على أنه واجب على الله تعالى. فظهر الفرق بين البابين.

الرابعة : لا يبعد وجود زمان. متى نصب لأهل ذلك الزمان رئيس سائس ، استنكفوا عن طاعته ، فيصير ذلك الرئيس فى ذلك الزمان ، سببا لازدياد الفتنة.

لا يقال : هذا وان كان محتملا ، الا أنه نادر. والنادر لا عبرة به.

لأنا نقول : هب أنه نادر ، الا أنه لا زمان الا ويحتمل أن يكون ذلك الزمان ، زمانا لذلك النادر. وبتقدير أن يكون كذلك ، لم يكن نصب الرئيس فيه واجبا ، وحينئذ لا يمكنكم أن تقطعوا فى شيء من الأزمنة ، بأنه يجب فيه نصب الامام الرئيس على الله تعالى.

__________________

(١) اما أنتم عكستم هذا الباب فاستدللتم بكونه لطفا فى نفسه على أنه واجب ... الخ : ب

٢٦١

الخامسة : انكم اما أن تدعوا بأن نصب الامام لطف فى الشرعيات ، أو فى العقليات. فان كان الأول بطل قولكم ، لأن خلو الزمان عن التكاليف الشرعية جائز. فالامام الّذي هو لطف فيه ، أولى أن يجوز خلو الزمان عنه. وان كان الثانى فنقول : اما أن تدعو أن الامام لطف فى ادخال تلك الواجبات العقلية فى الوجود ، سواء كان ادخالها فى الوجود لأجل وجود وجوبها ، أو لهذا الوجه. واما أن تقولوا بأن الامام لطف فى أن يدخلها المكلف فى الوجود ، لأجل وجه وجوبها. والأول باطل. لأن ادخالها فى الوجود ، لا لأجل وجه وجوبها لا عبرة به البتة ، فلم يبق لكم الا أن تدعو أن الامام لطف فى أن يدخل المكلف الواجبات العقلية فى الوجود ، لأجل وجه وجوبها.

وهذا مما لا يمكنكم أن تذكروا فى تقريره شيئا. وذلك لأن ادخال الفعل فى الوجود لأجل وجه وجوبه ، عبارة عن كيفية من كيفيات الدواعى القائمة بالقلوب. ومن أين يمكن اثبات أن نصب الامام أبدا ، له أثر فى هذه الكيفيات؟ بل لو قيل : ان الأمر بالعكس ، لكان أولى. لأن الممنوع متبوع. فاذا صارا الانسان محمولا على فعل من الأفعال بالتخويف ، صار متنفرا عنه. واذا صار ممنوعا عن شيء ، صار راغبا فيه.

فثبت : أن هذه التمويهات التى يذكرها هؤلاء الاثنا عشرية ، تمويهات محضة. وأنه متى بحث عن محل الخلاف على التعيين ، لا يمكنهم أن يذكروا فى تقرير مذهبهم بعد التلخيص : خيالا. فضلا عن حجة.

السادسة : ان عند حصول هذا اللطف المقرب اما أن يعلم الله تعالى بأنه حصل ما يمنع عن الفعل أو يعلم أنه لم يحصل هذا المانع البتة. فان كان الأول. فلا نسلم أنه يجب فى العقول فعل مثل هذا اللطف ، لأنه اذا كان بتقدير وجوده ، لا يحصل الفعل ، كما أن بتقدير عدمه أيضا لا يحصل : لم يكن فعل مثل هذا اللطف واجبا بل العقل يوجب الامتناع منه. لأنه لا فائدة فى فعله البتة. وان كان

٢٦٢

الثانى وهو أن الله تعالى ، علم أن هذا اللطف يرجح من جانب الفعل ، وعلم أنه لم يحصل معه ما يمنع من الفعل. فمثل هذا يقتضي وجوب حصول الأثر ـ على ما بيناه فى مسألة خلق الأفعال ـ

فلو كان نصب الامام لطفا بهذا التفسير ، لزالت المفاسد ، وحصلت المصالح لا محالة. ولما لم يكن كذلك ، وجب أن لا يكون نصب الامام لطفا.

السابعة : هذا الّذي يجعل نصب الامام لطفا فيه. ان كان الله تعالى عالما بوقوعه كان واجب الوقوع ، فلا حاجة به الى هذا اللطف. وان كان عالما بعدم وقوعه ، كان ممتنع الوقوع ، فلم يكن للطف فيه أثر البتة.

سلمنا : أن نصب الامام لطف. لكن لا نسلم أن اللطف واجب. وقد قدمنا ما يدل على أنه لا يجب على الله شيء أصلا ورأسا.

فهذا هو الكلام المختصر فى هذا الباب.

الفصل الثانى

فى

أنه لا يجب أن يكون الامام معصوما

قال أصحابنا والمعتزلة والزيدية والخوارج : لا يجب أن يكون الامام معصوما. وقالت الاسماعيلية والاثنا عشرية : يجب.

لنا : انا سنقيم الدلالة ان شاء الله تعالى على صحة إمامة «أبى بكر» ـ رضى الله عنه ـ وأجمعت الأمة على أنه ما كان واجب العصمة. لا أقول انه ما كان معصوما. وحينئذ يحصل لنا من مجموع هاتين المقدمتين : أن الامام ليس من شرطه أن يكون واجب العصمة.

أما الاثنا عشرية فقد احتجوا على وجوب عصمة الامام بوجوه :

الشبهة الأولى : انا انما احوجنا الخلق الى الامام ، لجواز الخطأ عليهم ، فلو حصل فى الامام هذا المعنى ، لافتقر هو أيضا الى امام

٢٦٣

آخر ، فيلزم اما التسلسل أو الدور. وهما محالان ، فوجب أن لا يتحقق فيه جواز الخطأ.

واعلم : أنهم احتجوا فقالوا : ان دليلنا فى وجوب وجود الامام ، وفى وجوب عصمته تعينه ، هو عين الدليل الّذي يعرف به ، وجود الصانع ، ووجوب وجوده.

وذلك لأنا نقول : العالم يجوز وجوده ويجوز عدمه ، فافتقر رجحان وجوده على عدمه الى مرجح. فكذا قولنا : الخلق يجوز عليهم الطاعة ، ويجوز عليهم المعصية ، فافتقر رجحان الطاعة على المعصية الى المرجح. وهو الامام. ثم قلنا : الجواز الّذي هو علة الحاجة الى المؤثر غير حاصل فى الصانع ، والا لافتقر الى مؤثر آخر ، فيلزم اما الدور واما التسلسل فكذا هاهنا.

قلنا : جواز الاقدام على المعصية غير حاصل فى الامام ، والا لافتقر الى امام آخر ، فيلزم اما الدور واما التسلسل. وهما محالان. فثبت : أن مسألة اثبات الامامة بعينها مطابقة لمسألة اثبات الصانع.

الشبهة الثانية فى وجوب العصمة : انه ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الشريعة التى جاء بها ، فانه أوجبها على جميع المكلفين الى يوم القيامة. ولما أوجبها على جميع المكلفين ، وجب وصولها الى جميع المكلفين. والا لكان ذلك تكليف بما لا يطاق. اذا ثبت هذا ، فنقول : هذه الشرائع لا بد لها من حافظ يحفظها عن التغير ، ومن ناقل ينقلها إلينا. وذلك الناقل لا بد وأن يكون واجب العصمة ، اذ لو لم يكن كذلك لم يكن نقله مفيدا للعلم. وذلك الناقل الّذي هو واجب العصمة اما أن يكون مجموع الأمة ـ على ما ذهب إليه من يقول : الاجماع حجة ـ أو بعض آحاد الأمة. والأول باطل. لأن وجوب عصمة كل الأمة غير ثابت بالعقل. لأنا نرى النصارى على كثرتهم مجمعين على الأباطيل. فاذن وجوب عصمة مجموع الأمة

٢٦٤

لا يعرف الا بالدلائل السمعية. وكل دليل نقلى فانه لا يبعد تطرق التخصيص والنسخ إليه. فاذن كل دليل يدل على أن الاجماع حجة ، فانه لا يتم كونه دليلا ، الا اذا عرفنا : أنه لم يوجد له ناسخ ، ولا مخصص وانما يحصل لنا العلم بهذا العدم ، لو عرفنا أنه لو حصل هذا الناسخ أو هذا المخصص لوجب أن يصل إلينا. وانما نعرف أنه لو كان لوصل لنا ، لو علمنا أنه لا يجوز على الأمة أن يخلوا بنقل بعض الشرائع. وانما نعرف أنه لا يجوز فيهم هذا الاخلال ، اذا عرفنا كونهم موصوفين بوجوب العصمة. فثبت : أن العلم بأنه لم يحصل الاخلال بنقل الشريعة. متى استفدناه من الاجماع ، لزم الدور. والدور باطل. فكان هذا القسم باطلا.

واذا بطل هذا القسم ، ثبت : أن المتكفل بنقل الشريعة وحفظها عن التغيير والتبديل ، أشخاص معينون موصوفون بوجوب العصمة. وذلك هو المطلوب.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : الشريعة تبقى محفوظة بنقل أهل التواتر؟

لأنا نقول : نقل أهل التواتر يدل على أن ما نقلوه صحيح. لكن لا يدل على أن الّذي لم ينقلوه لم يوجد. فأين أحد البابين من الآخر؟ وهذه الشبهة كانوا يرتبونها على وجوه سخيفة. ونحن رتبناها لهم على هذا الوجه.

الشبهة الثالثة : الامام فى اللغة عبرة عن الشخص الّذي يؤم به ويقتدى به كالرداء. فانه اسم لما يرتدى به ، واللحاف اسم لما يلتحف به. واذا ثبت هذا فنقول : لو جوزنا الذنب على الامام ، فحال اقدامه على ذلك الذنب ، اما أن يقتدى به ، أو لا يقتدى به. فان كان الأول كان الله قد أمر بالذنب. وانه غير جائز. وان كان الثانى خرج الامام عن كونه إماما. لأن المأموم اذا رأى ما علم حسنه فعله. واذا رأى ما علم قبحه لم يفعله. وحينئذ لا يكون متبعا له ، ولا مقتديا به ، بل يكون

٢٦٥

متبعا للدليل. وذلك يقدح فى كونه إماما. فثبت : أن الخطأ على الامام غير جائز.

الشبهة الرابعة : لو جاز الذنب على الامام فبتقدير اقدامه على سفك الدماء واستباحة الفروج وأنواع الظلم. اما أن يجب على الرعية منعه عن هذه الأفعال ، أو لا يجب. فان وجب فاما أن يجب ذلك على مجموع الأمة ، أو على آحاد الأمة.

(أما القسم الأول ـ وهو وجوب ذلك على مجموع الأمة) فلا جائز أن يقال : يجب على مجموع الأمة منعه عن تلك الأفعال : لوجهين الأول : ان اطباق جميع الرعايا الموجودين فى الشرق والغرب على الفعل الواحد ، ممتنع ، وحينئذ لا يحصل منع الامام عن تلك الأفعال المنكرة.

الثانى : انا نرى الملك العظيم اذا أقدم على فعل قبيح ، فكل واحد من آحاد الرعايا ، يخاف من اظهار الانكار عليه. لأنه يخاف أن يصير غيره موافقا لذلك الملك فى ذلك الفعل القبيح ، وحينئذ يأخذون هذا الواحد الّذي أظهر الانكار ، ويقتلونه. واذا كان هذا الخوف حاصلا لكل واحد من آحاد الرعية ، امتنع اجتماعهم على منع ذلك الملك عن ذلك الفعل القبيح.

وأما القسم الثانى ـ وهو أن يجب على كل أحد من آحاد الرعية اظهار الانكار على الملك الكبير ـ فهذا أيضا بعيد من وجهين :

الأول : ان كل واحد من آحاد الرعية ، لا يقوى على مقاومة أمير صغير ، فكيف على معاداة ملك الدنيا.

الثانى : ان المقصود من نصب الامام أن يؤدب كل واحد من آحاد الرعية. فلو كلفنا كل واحد من آحاد الرعية أن يؤدب الامام ، لزم الدور. فان هذا انما ينزجر عن معصيته بسبب ذاك ، وذاك ينزجر بسبب هذا. ومعلوم أن الدور باطل.

٢٦٦

وأما القسم الثالث ـ وهو أن يقال : ان عند اقدام الامام على المعاصى والفواحش لا يجوز منعه عنها البتة ـ فهو أيضا باطل ، لأن الدلائل الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عامة. فتتناول الامام وغيره. وأيضا : فعلى هذا الطريق يصير نصب الامام سببا لتكثير الفواحش. ومعلوم : أن المقصود منه تقليلها. وهذا يفضى الى التناقض. فثبت : أن الامام لو لم يكن واجب العصمة ، لأفضى الى هذه الأقسام الباطلة ، فوجب القول بكونه باطلا.

الشبهة الخامسة : التمسك بقوله تعالى لابراهيم (قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة ١٢٤) دلت الآية على أن عهد الامامة لا يصل الى من كان ظالما. وكل من كان مذنبا ، فانه ظالم. قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) (فاطر ٣٢) فصارت الآية نصا فى أن كل من كان مذنبا ، سواء كان ذنبه ظاهر أو باطنا. فانه لا يكون إماما. واذا كان كذلك ، ثبت أن الامام لا بدّ وأن يكون معصوما.

والجواب عن الشبهة الأولى : انها مبنية على المسألة الأولى. وهى أن الخلق لما كان الخطأ عليهم جائزا ، احتاجوا الى نصب الامام. وقد تقدم الجواب عن كلامهم فيه.

والجواب عن الشبهة الثانية : ان الشريعة انما تبقى محفوظة بنقل الناقل المعصوم ، لو كان ذلك الناقل المعصوم بحيث يرى ويمكن الوصول إليه والرجوع الى قوله. فأما اذا لم يكن كذلك ، لم تصر الشريعة محفوظة بنقله. فسقطت هذه الشبهة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : انه لا نزاع فى أنه يجب على كل واحد من آحاد الرعية أن يقتدى بنواب الامام من القضاة والعلماء والشهود ، مع أنهم بالاتفاق ليسوا معصومين. وكل ما يقولونه فيهم ، فهو جوابنا عن الامام الأعظم.

٢٦٧

والجواب عن الشبهة الرابعة : المعارضة أيضا بنواب الامام. وذلك أن الامام المعصوم ، اذا فوض الامارة والوزارة الى بعض الناس ، فذلك المفوض إليه غير معصوم ، وبتقدير صدور الذنب عنه فالمانع له اما الامام الأكبر وحده ، أو مع غيره.

والأول (وهو أن المانع له هو الامام الأكبر وحده) فهو باطل. لأن الامام الأكبر وحده لا يقدر على دفع ذلك الأمير مع عساكره الكثيرة. ألا ترى أن «عليا» رضى الله عنه لم يقدر على دفع «معاوية» عن الأمر ، مع ما كان معه من العساكر الكثيرة. فضلا عن أن يقدر عليه وحده.

والثانى ـ وهو أن الدافع لذلك الأمر هو الامام الأكبر مع عساكره ـ فهذا أيضا باطل. لأن عساكره ليسوا معصومين ، فربما لا يمتثلون أمر الامام المعصوم.

فثبت : أن تفويض الامارة والوزارة الى غير المعصوم ، سبب لازدياد الشر والفتنة. وكل ما تقولونه هاهنا ، فنحن أيضا نقوله فى الامام.

والجواب عن الشبهة الخامسة : ان الآية دالة على أن شرط الامام أن لا يكون مشتغلا بالذنب. فاما أن يكون واجب العصمة ، فلا دلالة فى الآية عليه.

الفصل الثالث

فى

فيما يصير الامام به إماما

اتفقت الأمة على أن النص من الله تعالى ورسوله على شخص بالامامة سبب مستقل لصيرورته إماما. لكنهم اختلفوا فى أنه هل يصير إماما بطريق آخر سوى هذا التنصيص أم لا؟ فقالت الزيدية : ان الفاطمى اذا كان عالما زاهدا وخرج بالسيف ودعى الى نفسه بالامامة،

٢٦٨

صار أماما. وقال أصحابنا والمعتزلة : عقد البيعة سبب لحصول الامامة. والاثنا عشرية أنكروا ذلك.

لنا : انا سنقيم الدلالة على صحة إمامة «أبى بكر» ـ رضى الله عنه ـ وإمامته لم تنعقد الا بالبيعة. وهذا يقتضي أن البيعة طريق لحصول الامامة. أما الاثنا عشرية فقد احتجوا على أن البيعة لا يمكن أن تكون سببا لحصول الامامة بوجوه :

الشبهة الأولى : ان هؤلاء الذين يبايعون الامام لا قدرة لهم البتة على التصرف فى أقل الأمور وعلى أقل الاشخاص. ومن لا قدرة له على التصرف فى أقل الأمور وعلى أقل الأشخاص. كيف يعقل أن تكون له قدرة على اقدار الغير على التصرف فى جميع أهل الشرق والغرب؟

الشبهة الثانية : ان اثبات الامامة بالبيعة والعقد ، يفضى الى الفتنة. لأن كل أهل بلد يقولون : الامام منا أولى. والعقد (١) الصادر منا أرجح. ولا يمكن ترجيح البعض على البعض ، فيفضى الى الهرج والمرج واثارة الفتنة. ومعلوم أن المقصود من نصب الامام ازالة الفتنة بقدر الامكان. فنصب الامام بطريق البيعة يفضى الى التناقض. فكان باطلا.

الشبهة الثالثة : ان منصب الامامة أعلى وأعظم من منصب القضاء والحسبة. وأهل البيعة لما لم يتمكنوا من نصب القاضى والمحتسب ، فبأن لا يتمكنوا من نصب الامام الأعظم أولى.

الشبهة الرابعة : الامام نائب الله تعالى ونائب رسوله. ونيابة الغير لا تحصل الا باذن ذلك الغير ، فوجب أن لا يثبت الامام الا بنص الله ونص رسوله. فثبت : أن الامامة لا تثبت الا بالنص.

الشبهة الخامسة : ان الامام يجب أن يكون واجب العصمة ، وأن

__________________

(١) والفعل : ا

٢٦٩

يكون أفضل الخلق كلهم. وأن يكون أعلم الأمة كلهم. وأن يكون مسلما فيما بينه وبين الله. ولا اطلاع لأحد من الخلق على هذه الصفات. والله تعالى هو العالم بها. واذا كان كذلك وجب أن لا يصح نصب الامام الا بالنص.

الجواب عن الأول : انه منقوض بما أن الشاهد لا قدرة له على التصرف فى المدعى عليه ثم ان القاضى بقوله يصير متمكن من التصرف فيه فكذا هاهنا.

والجواب عن الثانى : ان الترجيح يحصل اما بزيادة العلم أو الزهد أو السن أو النسب أو كثرة ميل الخلق إليه. فان حصل الاستواء فى الكل ، وتعذر الترجيح ، فيتدافعا ويبتدئا بعقد آخر.

والجواب عن الثالث : انه لا استبعاد فى أن يأذن الله تعالى فى تولية الامامة ، ولا يأذن فى تولية القضاء. وأيضا : فالتحكيم جائز على مذهب بعض الفقهاء.

وعن الرابع : وهو قولهم : اذا كان نصب الامام من الأمة ، كان الامام نائب الأمة لا نائب الله تعالى. فجوابه : لم لا يجوز أن يكون اختيار الأمة شخصا معينا ، يكشف عن كونه نائب الله تعالى.

وعن الخامس : انا لا نسلم أن العلم القطعى بحصول تلك الصفات ، شرط. بل الشرط عندنا حصول الظن فقط.

الفصل الرابع

فى

اقامة الدلالة على أن الامام الحق بعد

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر رضى الله عنه

والمعتمد فى المسألة : أن الأمة مجتمعة على أن الامام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اما أبو بكر واما على واما العباس ـ

٢٧٠

رضى الله عنهم ـ واذا بطل القول بأن الامام هو على أو العباس ـ رضى الله عنهما ـ وجب القطع بأن الامام هو أبو بكر رضى الله عنه ـ واعلم : أن هذا الدليل مبنى على مقدمات :

المقدمة الأولى : ان الأمة مجمعة على أن الامام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد هؤلاء الثلاثة.

واعلم : أن الأنصار طلبوا الخلافة لأنفسهم فى أول الأمر وقالوا : منا أمير ومنكم أمير. فلما ناظرهم «أبو بكر» فى ذلك تركوا قولهم ، فصار ذلك القول باطلا باجماع الأمة. وكل من نظر فى كتب السير ، علم وتيقن اتفاق الأمة على أن الامام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس الا أحد هؤلاء الثلاثة.

المقدمة الثانية : ان «عليا» ـ رضى الله عنه ـ ما كان بعد وفاة الرسول عليه‌السلام فى العجز الى حيث لا يمكنه طلب حق نفسه ، وما كان «أبو بكر» ـ رضى الله عنه ـ فى القوة والتسلط بحيث يمكنه غصب الحق من «على» ـ رضى الله عنه ـ

والدليل عليه : أن «عليا» رضى الله عنه ـ كان فى غاية الشجاعة والشهامة. وكانت «فاطمة» ـ رضى الله عنها ـ مع علو منصبها زوجة له. وكان «الحسن» و«الحسين» ـ رضى الله عنهما ـ ابنيه وكان «العباس» مع علو منصبه معه.

فانه يروى فى الأخبار : أن «العباس» قال ل «على» : امدد يدك أبايعك ، حتى يقول الناس : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، ولا يختلف عليك اثنان. و«الزبير» كان مع غاية شجاعته مع «على» فانه يروى أنه سل سيفه ، وقال : لا أرضى بخلافة «أبى بكر» وأما «أبو سفيان» فانه قال : أرضيتم يا بنى «عبد مناف» أن تلى عليكم «تيم» والله لأملأن الوادى عليكم خيلا ورجلا. وأما جملة الأنصار فانهم كانوا أعداء «أبى بكر» وذلك لأنهم طلبوا الامامة لأنفسهم ، فدفعهم أبو بكر عنها بقوله عليه‌السلام «الائمة من قريش»

٢٧١

فو كان «على» ـ رضى الله عنه ـ منصوصا عليه نصا ظاهرا ، لعرفوه. ولو عرفوه لقالوا لأبى بكر : نحن أردنا أن نأخذ الخلافة لأنفسنا ، فلما منعتنا عنها ، فنحن نمنعك أيضا عن الظلم ، ونسلمها الى مستحقها. فان من المعلوم : أن الخصم القوى اذا وجد مثل هذا الطعن ، لا يتركه.

فثبت بما ذكرنا : أن الامامة لو كانت حقا لعلى بالنص ، لكان فى غاية القدرة على أخذها ومنع الظالم المنازع فيها. وأما أبو بكر فمعلوم أنه ما كان معه عسكر ولا شوكة ولا مال. وعند الروافض أنه كان ضعيفا جبانا. ومتى كان الأمر كذلك ، استحال فى مثل «على» مع كثرة أسباب أمره والقوة والشوكة فى حقه ، أن يصير عاجزا فى يد شيخ ضعيف ، ليس له مال ولا عسكر ، او لا قوة بدن ولا قوة قلب ، ثم يبلغ ذلك العجز الى حيث لم يخرج عن داره ، ولم يظهر المحاربة والمنازعة بوجه من الوجوه. وهذا مما لا يقبله العقل البتة.

واعلم : أن أحوال الاثنى عشرية فى هذا الباب عجيب. وذلك لأنهم اذا وصفوا عليا بالشجاعة والشوكة ، بالغوا فى ذلك الوصف بحيث يخرجونه عن المعقول. واذا تكلموا فى هذه المسألة ، وصفوا عليا بالعجز ، ويبالغون فيه مبالغة يخرجونه عن المعقول.

المقدمة الثالثة : أن نقول : لما ثبت بالاجماع : أن الامام أحد هؤلاء الثلاثة فنقول : وجدنا عليا وعباسا ، تركا المنازعة مع أبى بكر. وذلك الترك اما للعجز أو للقدرة ، لا جائز أن يكون للعجز ، لما قررناه فى المقدمة الثانية. فثبت : أنهما تركا المنازعة مع القدرة على المنازعة. فان كانت الامامة حقا لواحد منهما ، كان ترك هذه المنازعة معصية كبيرة. وذلك يوجب انعزالهما. واذا ثبت انعزالهما ، ثبت القول بامامة أبى بكر رضى الله عنه. وان لم تكن الامامة حقا لهما ، وجب أن تكون حقا لأبى بكر ، لئلا يخرج الحق عن جميع أقوال الأمة.

٢٧٢

فثبت : أنه لا بد على كل حال من الاعتراف بامامة أبى بكر رضى الله عنه.

واعلم : أنه لا كلام للمخالف على هذا الدليل الا كلامهم المشهور من أن عليا انما ترك المحاربة لأجل الفتنة والخوف. ونحن أبطلنا هذا الكلام. فيبقى هذا الدليل سالما عن المعارضة.

أما الشيعة : فقد احتجوا على أن الامام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بن أبى طالب لوجوه :

الشبهة الأولى ـ وهى التى عليها يعولون وبها يصولون ـ أن قالوا : أجمعت الأمة على أن الامام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اما على ، واما أبو بكر واما العباس ـ رضى الله عنهم ـ ولا يجوز أن يكون الامام هو أبو بكر أو العباس. فتعين أن يكون الامام هو عليا. فيفتقر فى تقدير هذا الدليل الى مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الاجماع حجة. قالوا : والدليل عليه. انا قد دللنا على أن زمان التكليف لا يخلو من معصوم البتة. وقول المعصوم حجة. فاذا حصل الاجماع كان ذلك الاجماع مشتملا على قول ذلك المعصوم ، فوجب أن يكون الاجماع حجة.

المقدمة الثانية : ان أبا بكر والعباس لم يكونا صالحين للامامة.

قالوا : لأنه ثبت بالعقل أن الامام لا بد وأن يكون واجب العصمة ، وثبت باجماع الأمة أنهما ما كانا واجبى العصمة. واذا ثبت أن الامام يجب أن يكون واجب العصمة ، وثبت أنهما ما كانا واجبى العصمة ، ثبت أنهما ما كانا صالحين للامامة. ولما بطلت إمامتهما وجب القطع بامامة على ، حتى لا يخرج الحق عن قول كل الأمة.

فهذا هو العمدة الكبرى للاثنى عشرية فى هذه المسألة.

٢٧٣

الشبهة الثانية (١) : ان أبا بكر والعباس لم يكونا صالحين للامامة. قالوا : لأنه ثبت بالعقل أنه لو كان أبو بكر إماما ، لكانت إمامته. اما أن تثبت بالنص أو بالبيعة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بامامة أبى بكر. أما الحصر فلأن كل من قال بامامته ، لم يثبتها الا بأحد هذين الطريقين. وانما قلنا : انه لا يمكن اثباتها بالنص ، لأنه لو كان منصوصا عليه بالامامة ، لكان توقيفه يوم السقيفة إمامة نفسه على البيعة ، من أعظم المعاصى. وذلك يقدح فى إمامته ، ولكان قوله «أقيلونى» من أعظم المعاصى. وانما قلنا : انه لا يمكن إثباتها بالبيعة ، للوجوه التى حكيناها فى الفصل الثالث ، حكاية عنهم ، ففى بين أنه لا يجوز أن تكون البيعة طريقا الى ثبوت الامامة. قالوا : فثبت أنه لو كان إماما ، لكانت إمامته بأحد هذين الطريقين ، وثبت فساد كل واحد منهما ، فبطل القول بكونه إماما.

الشبهة الثالثة : قالوا : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على إمامة على بن أبى طالب رضى الله عنه نصا جليا ، لا يقبل التأويل ، فوجب القطع بكونه إماما. والّذي يدل على وجود هذا النص الجلى : أن هذا النص ثبت بخبر التواتر ، وخبر التواتر يفيد العلم.

وانما قلنا : انه ثبت بخبر التواتر. لأن خبر التواتر عن الأمور الماضية ، يعتبر فى كونه مفيدا للعلم بثلاث شرائط :

أولها : أن يكون المخبرون بلغوا فى الكثرة والتفرق فى البلاد الى حيث يمتنع عقلا اتفاقهم على الكذب. وهذا الشرط حاصل هاهنا. وذلك لأن الشيعة مع كثرتهم وتفرقهم فى مشارق الأرض ومغاربها ، يخبرون عن أن وجود هذا النص حاصل.

وثانيها : أن يكون المخبرون انما يخبرون عن أمر محسوس. وهذا الشرط حاصل هاهنا. وذلك لأن المخبر عنه تنصيص محمد عليه

__________________

(١) المقدمة الثالثة : ا

٢٧٤

السلام على إمامة على ، وذات محمد عليه‌السلام ، وذات على ، وتكلم محمد عليه‌السلام بهذا الكلام ، كل ذلك أمر محسوس. وهذا الشرط هاهنا حاصل.

وثالثها : أن يكون حال المخبرين فى كثرتهم وامتناع اتفاقهم على الكذب فى جميع الأزمنة مثل ما فى هذا الزمان.

والّذي يدل على حصول هذا الشرط فى هذه الواقعة : وجهان :

الأول : ان هؤلاء الشيعة مع كثرتهم وامتناع اجتماعهم على الكذب ، يخبرون أنه أخبرهم قوم شأنهم كذلك. وكذلك الطبقة الثانية والثالثة. وهكذا جميع الطبقات الى زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى رضى الله عنه (١) كانوا فى الكثرة وامتناع الاجتماع على الكذب على ما هم عليه فى هذا اليوم. ولما كان أهل زماننا بالغين الى التواتر ، وهؤلاء قد أخبروا : أن كل واحد من الطبقات الماضية كانوا هكذا ، حصل العلم بأن الطبقات الماضية ، كانوا على هذه الصفة.

الثانى : لو فرضنا أن بعض الطبقات الماضية كانوا أقل من عدد التواتر ، لوجب أن يشتهر ذلك ، وأن يصل هذا الخبر إلينا. ولما لم يصل هذا الخبر إلينا ، علمنا : أن المخبرين عن هذا الخبر فى جميع الطبقات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة فى التواتر. فثبت بما ذكرنا: حصول التواتر فى نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة على بن أبى طالب وخبر التواتر يفيد العلم. وذلك يفيد المطلوب.

الشبهة الرابعة : أن الامام منصوص عليه من قبل الله وقبل رسوله عليه‌السلام ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون الامام هو على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ

والفرق بين هذه الشبهة الثانية : أنهم فى الشبهة الثانية بينوا

__________________

(١) ما كانوا : ا

٢٧٥

أنه لا يجوز أن تكون البيعة طريقا الى ثبوت الامامة ، وأما هاهنا فإنهم لا يقولون : البيعة لا يجوز أن تكون طريقا الى الإمامة ، بل قالوا : هب أن البيعة يجوز أن تكون طريقا للامامة ، الا أنه صحت (١) الدلالة على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نص على إمامة من يكون إماما بعده ، ثم يستنتج من هذا : أن ذلك المنصوص عليه لا بدّ وأن يكون هو عليا.

وانما قلنا : انه عليه‌السلام نص على إمامة من كان إماما بعده لوجوه :

الأول : أن النبي عليه‌السلام لم يخرج عن المدينة قط ، الا وقد استخلف عليها رجلا. وانما كان يفعل ذلك كيلا يختل أمر الرعية. وهذا المعنى بعد الموت أهم. لأن رعاية المصالح وقت الغيبة ، وان كانت شاقة الا أنها كانت ممكنة. أما رعايتها بعد الموت فغير ممكنة فلما لم يترك الرسول عليه‌السلام الاستخلاف وقت الغيبة القليلة ، فكيف يجوز أن يتركه وقت الغيبة العظمى ـ وهى الموت ـ

الثانى : ان النبي عليه‌السلام قال : «انما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فاذا ذهب أحدكم الى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» الحديث. فكما أنه يجب على الوالد المشفق رعاية مصالح أولاده حال حياته ، فكذا يجب عليه رعاية مصالحهم بعد مماته ، لئلا يضيعوا. ومعلوم أنه لو لم يستخلف ولم ينص على أحد ، لضاعوا فى دينهم ودنياهم ، فوجب القطع بأنه نص على من يكون إماما بعده.

الثالث : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغ فى الشفقة على الأمة وفى ارشادهم الى الأصلح : أن علمهم فى كيفية الاستنجاء ثلاثين أدبا. ومن المعلوم أن المصالح المتعلقة بالامامة التى هى أعظم المصالح فى الدين والدنيا بعد الرسالة ، أعظم من سائر المصالح ، فلما علم

__________________

(١) الا أنا سنقيم الدلالة : ب

٢٧٦

فى أخس المصالح وأدونها رتبة ـ وهو الاستنجاء ثلاثين أدبا ، فكيف يليق به أن يرسل أمر الامامة بالكلية ، مع أنها أعظم المناصب فى الدين والدنيا؟

الرابع : انه عليه‌السلام لم يخرج من الدنيا حتى صار أمر الدين كاملا ، كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة ٣) والامامة أعظم أركان الدين. فهذا يقتضي أن أمر الامامة قد تم قبل وفاته. وهذا المعنى انما يحصل اذا قلنا : انه نص على إمامة شخص معين. فثبت بمجموع ما ذكرنا : أنه عليه‌السلام نص حال حياته على إمامة من يكون إماما بعده. ونقول : ذلك الشخص لا يجوز أن يكون هو أبو بكر ، اذ لو كان كذلك ، لكان توقيفه الأمر على البيعة من أعظم المعاصى. وذلك يقدح فى إمامته. ولما ثبت أنه ليس أبو بكر ولا العباس أيضا ، ثبت أنه «على» لئلا يخرج الحق عن قول كل الأمة.

الشبهة الخامسة : ان عليا أفضل الخلق بعد الرسول عليه‌السلام. والأفضل يجب أن يكون إماما. أما المقدمة الأولى : فسيجيء تفسيرها بعد ذلك. وأما المقدمة الثانية : فالدليل على صحتها : أن من جعل إماما لغيره ، فقد جعل متبوعا لذلك الغير ، وجعل الأكمل تبعا للأنقص قبيح فى العقول. ألا ترى أن من بنى مدرسة ، فجعل واحدا من أوساط الفقهاء مدرسا فيها ، ثم أمر الشافعى وأبا حنيفة أن يجلسا فى درسه ، وأن يكونا من أتباعه وأشياعه ، فان كل واحد يذمه عليه ويلومه. ويقول : انك جعلت الكامل تبعا للناقص. وهذا قبيح فى العقول. واذا ثبت أن عليا أفضل الخلق ، وثبت أن الأفضل هو الامام ، ثبت : أن عليا أفضل الخلق ، وثبت أن الأفضل هو الامام ، ثبت : أن عليا هو الامام بعد رسول الله عليه‌السلام.

الشبهة السادسة : قالوا : ان عليا أعلم الصحابة وأشجعهم وأشدهم التصاقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجب أن يكون هو

٢٧٧

القائم مقامه. أما أنه أعلم وأشجع : فسيأتى الدليل عليه. وأما أنه أشدهم التصاقا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو ظاهر. ما من حيث النسب فلا شك فيه. وأما من حيث الصهرية فكذلك. واذا ثبت هذا ، وجب أن يكون هو الامام. لأن الامام هو الّذي يؤتم به ويقتدى به. وهذا لا يتأتى الا بسبب العلم والشجاعة واذا كان علمه وشجاعته أكثر ، كان الاقتداء به والاهتداء بهداه أولى.

الشبهة السابعة : قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء ٥٩) أمر بطاعة أولى الأمر أمرا جزما. فوجب على أولى الأمر أن لا يأمروا الا بالطاعة. اذ لو جاز أن يأمروا بالمعصية ، مع أن الله تعالى أمرنا بطاعتهم مطلقا ، لكان قد أمرنا ـ على هذا التقدير ـ بالمعصية. وذلك باطل. اذا ثبت هذا ، علمنا : أن أولى الأمر الذين أمرنا الله بطاعتهم لا يأمرون الا بالطاعة. وهذا يقتضي أن المراد بأولى الأمر فى هذه الآية : شخص واجب العصمة. فثبت : أن الامام يجب أن يكون واجب العصمة. وكل من قال بذلك ، قال : انه على» ـ رضى الله عنه ـ

الشبهة الثامنة : ان أبا بكر والعباس ما كانا صالحين للامامة ، فتعين أن يكون الامام هو على. انما قلنا انهما ما كانا صالحين. وذلك لأنهما كانا كافرين فى أول الأمر. وكل من كفر بالله طرفة عين ، لم يصلح للامامة. والدليل عليه : قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ. فَأَتَمَّهُنَّ. قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة ١٢٤) وجه الاستدلال به : أن لفظ العهد مطلق. وذكر الامامة قد جرى قبل ذلك ، فوجب أن يكون المراد من هذا العهد هو الامامة.

اذا ثبت هذا ، فنقول : كل من كان كافرا فهو ظالم ، لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ولقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة ٢٥٤) واذا ثبت هذا فنقول : كل شخص اتصف

٢٧٨

بالكفر فهو فى تلك الحالة يتصف بالظلم. فكان فى ذلك الوقت موصوفا بأنه ظالم ، فوجب أن يصدق عليه فى ذلك الوقت : أنه لا ينال عهد الامامة. وقولنا بأنه لا ينال عهد الامامة ، كلام يتناول الوقت الخاص الحاضر وجملة الأوقات المستقبلة ، بدليل صحة استثناء جميع الأوقات منه. فيقال : ان هذا الظالم والكافر ، لا ينال عهد الامامة ، لا بعد كفره ولا بعد ظلمه. والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ. فثبت : أن الكافر حال ما كان موصوفا بكفره ، صدق عليه أنه لا ينال عهد الامامة البتة فى شيء من أوقات وجوده. لا حال كفره ولا بعد كفره.

واذا ثبت هذا ، ثبت أن كل من كفر بالله طرفة عين فانه لا ينال عهد الامامة ، بمقتضى هذه الآية. وثبت أن أبا بكر وعمر والعباس ـ رضى الله عنهم ـ كانوا قبل ظهور دين محمد عليه‌السلام على الكفر ، فوجب أن يخرجوا عن صلاحية الامامة ، واذا خرجوا عن هذه الصلاحية تعين على رضى الله عنه للامامة.

واعلم : أن هذه الآية كما دلت على أن عليا هو الامام بعد النبي عليه‌السلام ، فكذلك تدل على أنه لم يكفر طرفة عين بالله ، لأنه لو كان قد كفر بالله فى أول عمره ، لزم بحكم هذه الآية أن لا يكون أهلا للامامة. فثبت أيضا : أن أبا بكر والعباس ليسا أهلا للامامة بمقتضى هذه الآية ، فيلزم خروج أبى بكر والعباس وعلى عن أهلية الامامة ، ويكون اجماع الأمة على أن الامام بعد رسول الله أحد هؤلاء الثلاثة باطلا ، ولما كان الطعن فى الاجماع فاسدا ، وثبت أن أبا بكر والعباس كانا قد كفرا بالله ، قبل ظهور دين محمد عليه‌السلام ، ثبت أن عليا رضى الله عنه لم يكفر بالله قط ، حتى لا يلزم الطعن فى الاجماع.

الشبهة التاسعة : التمسك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة ١١٩) أمرنا بالكون مع الصادقين. والأمر بالكون مع الصادقين ، مشروط بوجود من يعلم قطعا أنه من الصادقين ، هو الّذي يعلم منه كونه واجب العصمة.

٢٧٩

فثبت أن الخلق مأمورون بمتابعة شخص واحد واجب العصمة ، واذا ثبت ذلك ، ثبت أن الامام هو «على» بالوجه الّذي قررناه فى الطرق المتقدمة.

الشبهة العاشرة : التمسك بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (الأنفال ٧٥) وهذه الأولوية مطلقة : فوجب حملها على الكل ، دفعا للاجمال. وأيضا : يصح استثناء أى وصف أريد. كقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) الا فى كونه قائما مقامه بعد موته. والا فى التصرف فى اتباعه. وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل. فثبت : أن هذا اللفظ يتناول الامامة. اذا ثبت هذا ، فنقول : لا شك أن «أبا بكر» ما كان من أولى الأرحام لمحمد عليه‌السلام ، وكان «على» كذلك ، فكان «على» ـ رضى الله عنه ـ أولى بالامامة.

الشبهة الحادية عشرة : التمسك بقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة ٥٥).

وجه الاستدلال بالآية : أن نقول : هذه الآية تدل على إمامة شخص معين. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الشخص هو على.

أما بيان المقام الأول : فالدليل عليه أن لفظ الولى مستعمل فى معنيين :

أحدهما : المتصرف. كقوله عليه‌السلام «أيما امرأة نكحت نفسها بغير اذن وليها ، فنكاحها باطل».

والثانى : المحب والناصر. كقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (التوبة ٧١) ويجب أن لا يكون حقيقة فى معنى آخر ، تقليلا للاشتراك.

٢٨٠