الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

لما بينا أن هذا الاستحقاق غير حاصل. والثانى أيضا باطل. لأن الجنة دار الثواب ، لا دار التفضل. والدليل عليه : قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) (المؤمنون ١ ـ ١١)

الشبهة الثانية : تمسكوا بالآيات المشتملة على لفظ الخلود فى وعيد الفساق. كقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (النساء ٩٣) قالوا : الخلود هو الدوام. واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ (الأنبياء ٣٤) ولا شك فى أن من كان قبله ، قد جعل الله لهم لبثا طويلا فى الدنيا. فلو كان الخلود عبارة عن اللبث الطويل فقط ، لم يكن لهذه الآية معنى.

وثانيها : انه يصح تأكيده بلفظ التأبيد. قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (البينة ٨) ونص أهل اللغة على أن قوله (أَبَداً) تأكيد لمعنى الخلود. فلولا أن لفظ الخلود يفيد الدوام ، والا لم يصح تأكيده بما يفيد الدوام.

وثالثها : انه يصح أن يستثنى من الخلود ، أى مقدار ، أريد. فيقال : أنتم خلدون الا كذا وكذا. والدليل عليه : قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) (هود ١٠٨)

الشبهة الثالثة : قوله تعالى فى صفة الفجار : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (الانفطار ١٦) ولو خرجوا من النار ، لصاروا عنها غائبين

والجواب عن الشبهة الأولى : من وجوه :

الأول : انها مبنية على أن المطيع يستحق بطاعته ثوابا ، والمذنب يستحق بذنبه عقابا. ونحن لا نقول بذلك ، فانا لا نوجب على الله شيئا.

٢٤١

والثانى : انا سلمنا ذلك. لكن لا نسلم أن من صفة الثواب والعقاب ، أن تكون خالصة دائمة.

لا يقال : الدليل عليه : ان الموجب للثواب والعقاب ، هو الموجب بعينه للمدح والذم. لكن المدح والذم يثبتان مع (١) الدوام. فاذا كان الموجب لهما شيئا واحدا. وكان هذا الموجب أوجب أحد أثريه دائما ، وجب أن يوجب الأثر الثانى دائما.

لأنا نقول : لا نسلم أن الفعل يوجب المدح والذم دائما. والدليل عليه : أن العبد اذا أتى بجرم واحد ، فالسيد اذا لامه يوما وشهرا وسنة. وهكذا الى آخر عمره ، ينسبه جميع العقلاء الى السفه والجنون. ويقال له : قد لمته مدة فالى متى؟ وأيضا : فلم قلتم : انه لما كان ايجابه لأحد المعلولين على سبيل الدوام ، وجب أن يكون ايجابه للمعلول الآخر كذلك؟ وما الدليل عليه؟ وأيضا. فالقول بكون ذلك الفعل موجبا للمدح والذم والثواب والعقاب : محال. لأن ذلك الفعل قد انعدم وانقضى وصار بعد عدمه نفيا محضا. فكيف يفعل كونه موجبا؟

الثالث : سلمنا ما ذكرتم من صفات الثواب والعقاب ، لكن لما حصل المقتضى لكل واحد من الاستحقاقين ، كان ترجيح جانب الثواب أولى. للترجيحات التى ذكرنا.

الرابع : سلمنا أن هذا الفاسق لا يدخل الجنة باستحقاقه ، فلم لا يدخلها بفضل الله تعالى؟ والآيات التى تمسكوا بها معارضة بقوله تعالى فى صفة أهل الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الى قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) (فاطر ٣٤ ـ ٣٥)

والجواب عن الشبهة الثانية : انا لا نسلم أن الخلود هو المكث الدائم ، بل هو عبارة عن المكث الطويل. والدليل عليه : أنه يقال :

__________________

(١) مبنيان على الدوام : ب

٢٤٢

ان فلانا حبس حبسا مخلدا ، ويقال : هذا وقف مخلد ، وليس المراد منه الا طول المكث. ومما يحقق ما قلنا : ان لفظ الخلود لا يدل على الدوام قطعا ، بل ظنا ، اذ لو دل عليه قطعا ، لامتنع افتقاره الى التأكيد بلفظ التأييد. وحيث أجمعوا على حسن ذلك ، علمنا أن دلالة لفظ الخلود على الدوام ، ليست قطعية. وهذه المسألة قطعية ، فلم يصح (٢) أن يستدل بهذا اللفظ فى هذه المسألة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : من وجوه :

الأول : ان قوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) عائد الى «الفجار» ولفظ «الفجار» يفيد الاستغراق. فيحتمل أن يكون المعنى : ان جملة الفجار لا يغيبون. فان الكفار لا يخرجون من النار. واذا لم يخرجوا عن النار ، مع أنهم داخلون تحت لفظ «الفجار» لم يصدق على مجموع «الفجار» أنهم غائبون عن النار. وعلى هذا التقدير ، نقول بموجب الآية.

والثانى : ان قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) يقتضي كون «الأبرار» فى الحال فى النعيم ، وكون «الفجار» فى الحال فى الجحيم. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، فلا بد من التأويل. ونحن نحمل ذلك على الاستحقاق. واذا ثبت هذا ، فقوله : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) محمول على أنهم لا يغيبون عن هذا الاستحقاق. وعلى هذا التقدير نحن نقول بموجبه. الا أنه تعالى يعفو عنهم بفضله ويخرجهم بكرمه ورحمته.

الثالث : ان لفظ الفجار لا يتناول الا من كان كاملا فى فجوره. وذلك هو الكافر. ويدل على ذلك : قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (عبس ٤٠ ـ ٤٢) أقصى ما فى الباب أن يقال : هذا تمسك بعموم لفظ الفجار. الا أنا

__________________

(٢) فلم لا يصح : ب

٢٤٣

نقول : هذه القرينة التى ذكرناها تصلح مخصصة لهذا العموم ، أو نقول : يجب حمل لفظ الفجار على الكفار ، توفيقا بين هذه الآية وبين سائر الآيات ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا : أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (طه ٤٨) ومنها : قوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (النحل ٢٧) ومنها : قوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ ، سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها : أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا : بَلى. قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا. وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (الملك ٨ ـ ٩) وهذا يقتضي بصريحه : أن كل من دخل النار ، فانه يكون مكذبا لأنبياء الله ، فيجب أن من لم يكن مكذبا ، لا يدخل النار.

وهذا تمام القول فى هذه المسألة. وقد بلغ مذهبنا فى الظهور مبلغا عظيما. اللهم اجعلنا من أهل عفوك وفضلك ومغفرتك واحسانك ، وافعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله. يا ذا المن والكرم ، ويا ذا الجلال والاكرام والجود والانعام.

٢٤٤

المسألة السّابعة والثلاثون

فى

شفاعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

اتفقت الأمة على اثبات هذه الشفاعة. الا أن المعتزلة قالوا بتأثيرها فى ايصال ازدياد النعيم الى أهل الثواب. وأصحابنا قالوا. ذلك حق. ولكن من جملة تأثيراتها اسقاط العقاب عن أهل العقاب.

لنا : وجوه :

الحجة الأولى : انه تعالى أمر محمدا عليه‌السلام بالاستغفار للمذنبين. فقال تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (محمد ١٩) والفاسق مؤمن. بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى. فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (الحجرات ٩) فسماه مؤمنا حال كونه باغيا.

وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) (البقرة ١٧٨) سماه مؤمنا حال قتل النفس بغير الحق.

فثبت بهذا : أن الله تعالى أمر محمدا عليه‌السلام بأن يستغفر للفاسق. فذا طلب محمدعليه‌السلام المغفرة للفاسق ، فلا بد أن يريد أن لا يرده الله عن مطلوبه ، بل يقبل شفاعته. واذا ثبت أن محمدا عليه‌السلام يريد ذلك ، وجب أن يقبل الله ذلك لقوله : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى ٥) ويلزم من مجموع ذلك : أن الله تعالى يقبل شفاعة محمدعليه‌السلام فى حق الفساق.

الحجة الثانية : قوله تعالى : («يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ، لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ، إِلَّا مَنِ

٢٤٥

اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم ٨٥ ـ ٨٧) فنقول : الّذي فى ظاهر الآية : أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم ، أو أن غيرهم لا يملكون الشفاعة لهم ، لأن المصدر كما يحسن اضافته الى الفاعل ، يحسن أيضا اضافته الى المفعول. الا أنا نقول : حمل الآية على الوجه الأول غير جائز. لأن حملها عليه يجرى مجرى إيضاح الواضحات. فان كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون الى جهنم ، لا يملكون الشفاعة لغيرهم. ولما بطل هذا ، ثبت وجوب حمل الآية على الوجه الثانى.

اذا ثبت هذا ، فنقول : الآية دالة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر. لأنه تعالى قال : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) والتقدير : أن المجرمين لا يملكون أن يشفع لهم غيرهم ، الا اذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهدا. وهذا يقتضي أن كل من اتخذ عند الرحمن عهدا ، دخل تحت هذه الآية وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهد الايمان والتوحيد. فوجب دخوله تحت هذه الآية. ولهذا يروى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : «ذلك العهد عهد لا إله الا الله».

أقصى ما فى الباب : أن يقال : اليهودى اتخذ عند الرحمن عهدا. وهو الايمان بالله. فوجب دخوله تحت الآية. لكنا نقول : العام بعد التخصيص ، يبقى حجة فيما عداه.

الحجة الثالثة : قوله تعالى فى حق الملائكة : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء ٢٨) وصاحب الكبيرة مرتضى عند الله ، لأنه مرتضى عند الله بحسب ايمانه. ومتى صدق عليه أنه مرتضى فى الصفة الفلانية ، صدق عليه أنه مرتضى. لأنه متى صدق المركب ، فقد صدق المفرد. واذا كان كذلك ، وجب أن يدخل تحت قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) والاستثناء من النفى اثبات. فوجب ثبوت الشفاعة له.

فان قيل : الكلام على هذا الاستدلال من وجهين :

الأول : ان الفاسق ليس بمرتضى ، فوجب أن لا يكون أهلا لشفاعة الملائكة له. انما قلنا : انه ليس بمرتضى ، لأنه ليس بمرتضى بحسب

٢٤٦

فسقه. ومتى صدق عليه أنه ليس بمرتضى بحسب فسقه ، صدق عليه أنه ليس بمرتضى بعين ما ذكرتم ، وحينئذ يكون داخلا تحت النفى.

الثانى : انا نحمل الآية على أن المراد (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله شفاعته ، بدليل قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة ٢٢٥) وقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء ٢٧) فلم (١) قلتم : ان الله ارتضى شفاعة بالفاسقين وهذا (٢) أول المسألة.

والجواب عن الأول : انه ثبت فى العلوم العقلية : أن المهملتين لا يتناقضان. كقوله زيد عالم. وزيد ليس بعالم. لا يتناقضان. لاحتمل أن يكون المراد عالما بالفقه ، وغير عالم بالكلام. فكذا قولنا : الفاسق مرتضى والفاسق ليس بمرتضى. لا يتناقضان. لأنه مرتضى بحسب ايمانه غير مرتضى بحسب فسقه.

اذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن الفاسق مرتضى بحسب ايمانه ، وثبت أنه متى صدق أنه مرتضى بحسب ايمانه ، وجب أن يصدق عليه أنه مرتضى. والمستثنى هو هذا القدر وكل من صدق عليه هذا القدر ، وجب أن يكون داخلا فى الاستثناء وخارجا من المستثنى منه. ويلزم من هذا ، أن يقال : الفاسق من أهل الشفاعة.

والجواب عن الثانى : ان كون الشافع مأذونا لأنه يشفع لأحد الشخصين دون الآخر ، لا بدّ أن يكون لامتياز ذلك الشخص عن الشخص الثانى ، بصفة مرضية وأفعال حسنة مقبولة. فيكون الأصل والعمدة فى الباب انما هو صدور الأفعال المرضية عن المشفوع له. وحمل اللفظ على المعنى الأصلي ، أولى من حمله على المعنى العرضى المعتبر على سبيل التبع. واذا كان كذلك ، كان قوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) معناه :

__________________

(١) فان : ا

(٢) فهذا : ا

٢٤٧

ولا يشفعون (٣) الا لمن ارتضى الله منه فعلا ، والفاسق قد ارتضى الله منه فعلا ، وهو الايمان. فكان داخلا تحت هذا الاستثناء.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر ٤٨) ذكر ذلك فى معرض التهديد للكفار ، فلو كان حال المسلم كذلك ، لم يبق فى هذا التهديد فرق بين المؤمن والكافر ، فكان تخصيص الكافر عبثا.

الحجة الخامسة : قوله عليه‌السلام : «شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى»

* * *

وأما المعتزلة فانهم احتجوا على قولهم بوجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (البقرة ٤٨) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه :

أحدها : انه لو أثرت الشفاعة فى اسقاط العقاب ، لكانت قد أجزت نفس عن نفس شيئا.

وثانيها : قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (البقرة ٤٨) وهذا نكرة فى معرض النفى ، فتفيد العموم.

وثالثها : قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة ٤٨) والشفاعة بصرة.

لا يقال : هذه الآية نازلة فى اليهود.

وأيضا : فهذه الآية تنفى مطلق الشفاعة. والمعتزلة يقرون باثبات هذه الشفاعة فى باب زيادة المنافع.

لأنا نجيب عن الأول : بأن المذهب الصحيح : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وعن الثانى من وجهين :

__________________

(٣) يستغفرون : ب

٢٤٨

الأول : ان الآية. هب أنها صارت مخصوصة ، الا أن خصوصها فى زيادة الحسنات. فتبقى حجة فيما عداها.

والثانى : ان المقصود من هذه الآية : التخويف. والتخويف انما يحصل بعدم اسقاط العقاب لا بعدم زيادة الحسنات. وهذا يدل على أن هذه الآية مختصة بأن الشفاعات لا تأثير لها يوم القيامة ، فى اسقاط العقوبات.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (غافر ١٨) والظالم من يفعل الظلم ، فيدخل تحته الكافر والفاسق.

لا يقال : هذا ينفى كون الشفيع مطاعا. ولا ينفى كونه مقبول القول.

لأنا نقول : الجواب عنه من الوجهين :

الأول : ان كل عاقل يعلم أنه ليس فى الوجود أحد يطيعه الله تعالى ، فلا يكون فى حمل الآية على ما ذكرتم فائدة.

الثانى : ان الشفيع دون المشفوع إليه ، لأنه لو كان فوقه يسمى آمرا وحاكما. ولا يسمى شفيعا. فلفظ الشفيع أفاد كونه دون الله تعالى ، فلم يمكن حمل قوله «يطاع» على من فوقه. فكان المراد : أنه ليس لهم شفيع يجاب.

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ، لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (البقرة ٢٥٤) ظاهر هذه الآية ينفى جميع الشفاعات.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (البقرة ٢٧٠) والشفيع لا شك أنه من الأنصار.

الحجة الخامسة : قوله تعالى فى صفة الفساق : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)

٢٤٩

(الانفطار ١٤ ـ ١٦) ولو كانت الشفاعة مقبولة فى حق العصاة اما فى اسقاط العقاب أو فى الاخراج من النار بعد الدخول فيها ، لكان قوله : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) خلفا.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء ٢٨) والفاسق ليس بمرتضى ، فوجب نفى الشفاعة عنه.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الى قوله : (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (غافر ٧) ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق قبل التوبة ، لكان التقييد بقيد التوبة فى قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) عبثا.

الحجة الثامنة : أجمعت الأمة على أنهم يقولون : «اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». ولو لم تحصل أهلية الشفاعة الا لأهل الكبائر ، لكان معنى هذا السؤال : اللهم اجعلنا من أهل الكبائر ومن الفساق. ومعلوم أن ذلك باطل.

والجواب عن جملة هذه الشبهات : بحرف واحد : وهو ان دلائلكم فى نفى الشفاعة ، لا بد أن تكون عامة فى الأشخاص والأوقات. والا لم يدخل محل الخلاف فيها. ودلائلنا فى اثبات الشفاعة لا بد أن تكون خاصة فى الأشخاص والأوقات. لأنا لا نثبت الشفاعة فى حق كل الأشخاص ، ولا نثبتها أيضا فى جميع الأوقات. فثبت : أنه لا بد أن تكون دلائلنا خاصة ، ودلائلكم عامة. والخاص مقدم على العام ، فكان الترجيح من جانبنا. وأما الأجوبة المفصلة فمذكورة فى «التفسير الكبير»

٢٥٠

المسألة الثّامنة والثلاثون

فى

أن التمسك بالدلائل اللفظية

هل يفيد اليقين أم لا؟

وقبل الخوض فى هذا المطلب ، يجب أن يعلم : أن الدليل اما أن بكون عقليا بجميع مقدماته ، أو نقليا بجميع مقدماته ، أو يكون مركبا من القسمين.

أما (القسم الأول ـ وهو) ان كان عقليا بجميع مقدماته فان كانت جميع مقدماته يقينية ، كانت النتيجة أيضا يقينية. اذ اللازم عن المقدمات الحقة لزوما حقا ، لا بدّ أن يكون حقا. وأما ان كانت المقدمات باسرها ظنية ، أو كان بعضها يقينيا ، وبعضها ظنيا ، كانت النتيجة لا محالة ظنية لأن الفرع لا يكون أقوى من الأصل فاذا كان الأصل بكليته أو ببعض أجزائه ظنيا ، كان الفرع أولى بأن يكون كذلك.

وأما القسم الثانى ـ وهو الدليل الّذي يكون نقليا بجميع مقدماته ـ فهذا محال. لأن الاستدلال بالكتاب والسنة موقوف على العلم بصدق الرسول. وهذا العلم لا يستفاد من الدلائل النقلية. والا وقع الدور ، بل هو مستفاد من الدلائل العقلية. ولا شك أن هذه المقدمة أحد الأجزاء المعتبرة فى صحة ذلك الدليل النقلى فثبت : أن الدليل الّذي يكون نقليا بجميع مقدماته محال باطل.

وأما القسم الثالث ـ وهو الدليل الّذي يكون بعض مقدماته عقليا وبعضها نقليا ـ فهذا أكثر.

اذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : اختلف العقلاء فى أن التمسك بالدلائل النقلية ، هل يفيد اليقين أم لا؟ قال قوم : انه لا يفيد اليقين

٢٥١

البتة. وذلك لأن التمسك بالدلائل النقلية ، موقوف على مقدمات عشر ، كل واحدة منها ظنى ، والموقوف على الظنى أولى بأن يكون ظنيا.

أما المقدمة الأولى : فهى أن التمسك بالدلائل اللفظية موقوف على معرفة اللغات. واللغات منقولة برواية الآحاد لا بالتواتر. فان رواة اللغات جمع معينون من الأدباء ، ك «الخليل» و«الأصمعى» وغيرهما. ولا شك أنهم ما كانوا معصومين. ومثل هذه الرواية لا يفيد الا الظن.

والمقدمة الثانية : ان التمسك بالدلائل النقلية ، موقوف على صحة النحو ، لأن باختلاف الاعرابات تختلف المعانى. والنحو منقسم الى أصول ثبتت بالرواية ، والى فروع تثبت بالأقيسة. أما الأصول المثبتة بالروايات فهى منقولة برواية الآحاد (وروايات الآحاد) لا تفيد الا الظن.

وأيضا : فالبصريون والكوفيون يكذب بعضهم بعضا ، ويطعن بعضهم فى بعض. وأما الفروع المثبتة بالقياس ، فلا شك أنها فى غاية الضعف. فثبت : أن (دلالة) الكل مظنونة لا معلومة.

المقدمة الثالثة : ان التمسك بالدلائل النقلية موقوف على عدم الاشتراك فى الألفاظ. لأن بتقدير حصول الاشتراك فى الألفاظ ، فلعل مراد الله من هذه الآية أو من هذا الخبر ، غير ما عرفناه وتصورناه ، بل معنى آخر. فاذن تعيين هذا المعنى ، يتوقف على نفى الاشتراك.

المقدمة الرابعة : ان التمسك بالدلائل النقلية موقوف على وجوب حمل اللفظ على حقيقته لا على مجازه. والمجازات كثيرة. فلم يكن حمل اللفظ على بعضها أولى من حمله على البقية. وقولنا : الأصل فى الكلام هو الحقيقة مقدمة ظنية.

المقدمة الخامسة : ان هذا التمسك موقوف على نفى الحذف والاضمار. لأن تجويزه يفضى الى انقلاب النفى اثباتا والاثبات نفيا.

٢٥٢

قال الله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (القيامة ١) وقال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (الأعراف ١٢) وقال تعالى : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (الأنعام ١٥١) قالوا : النفى فى هذه الآيات كلها اثبات. قال تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء ١٧٦) قالوا : الاثبات هاهنا نفى ، وعدم الاضمار والحذف هنا : مقدمة ظنية.

المقدمة السادسة : نفى التقديم والتأخير معتبر فى دلالة الدلائل النقلية. وهى كثيرة الوقوع فى القرآن. وهى أيضا مقدمة ظنية.

المقدمة السابعة : التمسك بالعمومات انما يفيد المطلوب ، اذا لم يوجد المخصص ، لكن عدم المخصص مظنون. لأن أقصى ما فى الباب أنا طلبناه فما وجدناه. والاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود فى غاية الضعف.

المقدمة الثامنة : شرط التمسك بالدلائل النقلية ، عدم الناسخ. وهو أيضا مظنون كما بيناه فى عدم المخصص.

المقدمة التاسعة : شرط التمسك بالدلائل النقلية عدم المعارض السمعى ، لأن بتقدير وجوده يجب الرجوع الى الترجيحات ، التى لا تفيد الا الظن. لكن العلم بعدم ذلك المعارض السمعى ، مظنون لا مقطوع.

المقدمة العاشرة : شرطه أيضا عدم المعارض العقلى القاطع ، لأن بتقدير وجوده يجب صرف الظاهر السمعى الى التأويل ، وعدم هذا المعارض القطعى مظنون لا معلوم ، لأن أقصى ما فى الباب : أن الانسان لا يعرف ذلك المعارض ، وعدم العلم لا يفيد العلم بالعدم.

فثبت : أن الدلائل النقلية موقوفة على هذه المقدمات العشرة. وكلها ظنية. والموقوف على الظنى أولى بأن يكون ظنيا ، فالدلائل النقلية ظنية.

٢٥٣

واعلم : أن هذا الكلام على اطلاقه ليس بصحيح. لأنه ربما اقترن بالدلائل النقلية (١) أمور عرف وجودها بالأخبار المتواترة. وتلك الأمور تنفى هذه الاحتمالات. وعلى هذا التقدير تكون الدلائل السمعية المقرونة بتلك القرائن الثابتة بالأخبار المتواترة ، مفيدة لليقين. وبالله التوفيق.

__________________

(١) العقلية : ا

٢٥٤

المسألة التاسعة والثلاثون

فى

الإمامة

وفيها فصول :

الفصل الأول

فى

وجوب الامامة

اختلف الناس فيه. وضبط المذاهب فيه : أن يقال : نصب الامام اما أن يقال : واجب ، أو غير واجب. أما القائلون بأنه واجب فهم فريقان :

أحدهما : الذين قالوا : نصبه واجب. والطريق الى معرفة هذا الوجوب : السمع دون العقل. وهذا هو قول أصحابنا ، وأكثر المعتزلة والزيدية.

والثانى : الذين يقولون : الطريق الى معرفة هذا الوجوب : العقل ثم هؤلاء فريقان منهم من قال انه يجب عقلا على الخلق أن ينصبوا لأنفسهم رئيسا. وذلك لأن نصب هذا الرئيس يتضمن دفع الضرر عن النفس ، ودفع الضرر عن النفس ، واجب عقلا.

وهذا هو قول «أبى الحسين البصرى» من المعتزلة. ومن قدمائهم قول «الجاحظ» و«أبى الحسين الخياط» و«أبى القاسم الكعبى» ومنهم من قال : بل يجب على الله نصب الامام للخلق. وهؤلاء فريقان :

قالت الملاحدة والاسماعيلية : انه لا سبيل الى معرفة الله الا بتعليم الرسول والامام. فوجب على الله ـ تعالى ـ أن لا يخلى العالم عن المعصوم ، حتى أن ذلك المعصوم يرشد الخلق الى معرفة الله تعالى.

وقالت الاثنا عشرية : لا حاجة فى معرفة الله الى المعصوم.

٢٥٥

الا أنه يجب على الله تعالى نصب الامام المعصوم ، ليكون لطفا فى أداء الواجبات العقلية ، والاجتناب عن القبائح العقلية. وليكون أيضا : حافظا للدين عن الزيادة والنقصان.

وقال بعض قدماء الشيعة : أنه يجب على الله نصب الامام ، ليعلمهم أحوال الأغذية والأدوية ، ويعلمهم السموم المهلكة ، ويعرفهم الحرف والصناعات ، ويصونهم عن الآفات والمخاوف.

فذا تفصيل قول من قال : انه يجب نصب الامام.

وأما الذين قالوا : انه غير واجب

فهم فرق :

الأول : قال «الاصم» : ان نصب الامام عند ظهور الفتن واجب. وأما عند الأمن والعدل فلا.

الثانية : قال بعضهم : نصب الامام عند ظهور الفتن غير واجب ، لأنه ربما يصير نصبه سببا لتمرد بعضهم عن الطاعة ، فتزداد الفتن. أما عند ظهور العدل فهو واجب.

الثالثة : قول أكثر الخوارج : انه لا يجب الامام فى شيء من الأوقات. فان فعلوه جاز ، وان تركوه جاز أيضا.

فهذا تفصيل مذاهب الناس فى هذه المسألة.

* * *

ولنا فيه مقامان :

أحدهما : بيان أنه يجب على الخلق نصب رئيس لأنفسهم.

وثانيهما : بيان أنه لا يجب على الله نصب الامام لهم.

أما المقام الأول : فالدليل عليه : أن نصب الامام يتضمن اندفاع ضرر لا يندفع الا بنصبه. ودفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان. وهذا يقتضي أنه يجب على العقلاء أن ينصبوا إماما لأنفسهم.

بيان المقام الأول : (وهو أنه يجب على الخلق نصب رئيس لأنفسهم) فهو أنا نرى أن البلد اذا حصل فيه رئيس قاهر مهيب

٢٥٦

سائس ، يأمرهم بالأفعال الجميلة وينهاهم عن القبائح ، كان حال البلد فى البعد عن التشويش والفساد ، والقرب من الانتظام والصلاح : أتم مما اذا لم يكن لهم مثل هذا الرئيس. والعلم به ضرورى بعد استقراء العادات. فثبت : أن نصب الرئيس يقتضي اندفاع أنواع من المضار ، لا تندفع الا بنصبه. واذا كان كذلك ، كان نصب هذا الرئيس دافعا للضرر عن النفس.

وأما أن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان ، فهذا متفق عليه بين العقلاء أما عند من يقول بالحسن والقبح العقليين ، فانه يقول وجوب هذا معلوم فى بداهة العقول. وأما عند من ينكر ذلك ، فانه يقول : وجوب هذا ثابت باجماع الأنبياء والرسل وباتفاق جميع الأمم والأديان.

فان قيل : كما أن فى نصب هذا الرئيس هذه المصالح ، لكن فيه أنواع من المفاسد. منها : أنهم ربما يستنكفون عن طاعته ، فيزداد الفساد ومنها أنه ربما استولى عليهم فيظلمهم. ومنها أنه بسبب تقوية رئاسته يكثر الحرج ، فيفضى الى أخذ الأموال من الضعفاء والفقراء.

قلنا : لا نزاع فى أن هذه المحذورات قد تحصل ، لكن كل عاقل يعلم أنه اذا قوبلت المفاسد الحاصلة من عدم الرئيس المطاع ، بالمفاسد الحاصلة من وجوده. فالمفاسد الحاصلة من عدمه ، أزيد بكثير من المفاسد الحاصلة من وجوده. وعند وقوع التعارض تكون العبرة بالرجحان. فان ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل ، شر كثير.

فهذا ما فى هذا المقام.

وبيان المقام الثانى ـ وهو أنه لا يجب على الله نصب الامام ـ فالخلاف فيه مع الاسماعيلية والاثنا عشرية ، على ما شرحناه. فنقول : الدليل على أنه غير واجب : أنه لو وجب على الله نصب الامام ، لكان الواجب اما نصب امام يتمكن المكلف من الرجوع إليه والانتفاع به فى

٢٥٧

دينه ودنياه ، أو الواجب نصب إمام سواء ، كان كذلك أو لم يكن. والقسمان باطلان ، فالقول بالوجوب باطل.

انما قلنا : ان القسم الأول باطل. لأنه غير موجود. ولو كان ذلك واجبا على الله تعالى لفعله. ولكنه ما فعله. فان الواحد منا اذا احتاج الى هذا الامام فى أن يستفيد منه علما أو دينا ، أو يجلب بواسطته الى نفسه منفعة ، أو يدفع عنها مضرة. فلو أتى بأى حيلة كانت ، لم يجد منه البتة أثرا ولا خبرا. والعلم بذلك ضرورى.

وانما قلنا : ان القسم الثانى باطل ، لأن المقصود من نصب هذا الامام اما منفعة دينية أو دنيوية. لا محالة. والانتفاع به يعتمد امكان الوصول إليه ، ولما تعذر امكان الوصول إليه ، تعذر ذلك الانتفاع به. واذا تعذر الانتفاع به ، لم يكن فى نصبه فائدة أصلا. فكان القول بوجوب نصبه عبثا.

فان قيل : ان فى نصبه أعظم الفوائد والمنافع. وهو أن يكون هاديا الى معرفة الله تعالى على قول «الاسماعيلية» أو أن يكون لطفا فى أداء الواجبات العقلية ، الا أن الظلمة خوفوه تخويفا ، احتاج معه الى الاختفاء والاستتار ، فالذنب منهم حيث أحوجوه الى الاختفاء.

فالجواب : ان هذا المكلف المعين اذا لم يفعل فعلا البتة ، يوجب أن يصير الامام خائفا منه. ثم انه بقى بحال لا يمكنه الوصول الى هذا الامام بشيء من الطرق. فقد صار محروما عن هذا الانتفاع ، لا بأمر صدر منه. فكن يجب على الله تعالى أن يأمر الامام بأن يظهر نفسه لهذا المحتاج. ولما لم يوجد شيء من ذلك ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.

واحتج «الشريف المرتضى» على أنه يجب على الله نصب الامام بأن قال : نصب الامام لطف ، واللطف على الله واجب ، فيلزم أن يكون نصب الامام واجبا على الله تعالى.

٢٥٨

واعلم : أن مرادنا من اللطف : الأمر الّذي علم الله تعالى من حال المكلف أنه متى وجد ذلك الأمر ، كان حاله الى قبول الطاعات والاحتراز عن المعاصى ، أقرب مما اذا لم يوجد ذلك الأمر ، بشرط أن لا ينتهى الى حد الالجاء.

اذا عرفت هذا فنقول : انما قلنا : أن نصب الامام لطف ، لأن الخلق اذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن المعاصى ، ويأمرهم بالطاعات ، كان حالهم فى القرب من الطاعات ، والبعد من المعاصى ، أكمل مما اذا لم يكن لهم مثل هذا الرئيسى. والعلم بصحة ما ذكرناه بعد استقراء العادات ضرورى.

وانما قلنا : ان اللطف واجب على الله تعالى لوجهين :

الأول : أن من اتخذ ضيافة الانسان ، وعلم أن ذلك الانسان لا يحضر فى تلك الضيافة ، الا اذا ذهب إليه المضيف بنفسه ، والتمس منه الحضور ، فان صدق فيما قال إنه يريد حضور ذلك الانسان فى ضيافته وجب أن يذهب إليه بنفسه ، ويلتمس منه الحضور ، وان لم يذهب إليه ولم يلتمس منه الحضور ، مع علمه بأنه ان لم يفعل ذلك لم يحضر ، علمنا : أنه ما كان يريد حضور ذلك الانسان فى ضيافته. فكذا (هاهنا) انه تعالى (لو) أراد من العبد فعل الطاعات والاجتناب عن المحظورات وعلم أنه لا يقدم العبد على ذلك الفعل الا اذا نصب الله تعالى له إماما ، وجب أن تكون تلك الإرادة مستلزمة لارادة نصب الامام. فان لم يرد هذا ، امتنع كونه مريدا لتلك الطاعات.

الثانى : ان فعل اللطف ازاحة لعذر المكلف ، فوجب أن يكون واجبا ، قياسا على التمكين.

والجواب عنه من وجوه كثيرة ذكرناها فى «نهاية العقول» وفى كتاب «المحصول فى الأصول» ونذكر هاهنا نكتا كافية فى هذا الباب :

٢٥٩

الأول : لا نسلم أن نصب الامام لطف.

وبيانه : هو أن اللطف الّذي قررتموه انما يحصل من نصب امام قاهر سائس ، يرجى ثوابه ويخشى عقابه. وأنتم لا تقولون بوجوب نصب مثل هذا الامام. أما الامام الّذي لا يرى له فى الدنيا أثر ولا خبر ، فلا نسلم أنه لطف البتة. فاذن الامام الّذي يمكن بيان كونه لطفا لا توجبون وجوده ، والّذي توجبون وجوده ، لا يمكن بيان كونه لطفا. فسقط الاستدلال.

والثانية : كما أن كون الخلق أقرب الى الطاعة وأبعد عن المعصية ، أتم وأكمل عند وجود الامام منه عند عدمه ، فكذلك هذه الأحوال ، أكمل عند وجود القضاة المعصومين ، والعساكر المعصومة ، والنواب المعصومين. وأنتم لا توجبون شيئا من ذلك على الله تعالى. فعدم وجوب هذه الأشياء اما أن يقال : انه لأجل أن الواجب تحصيل أصل التمكين ـ فأما تحصيل تكميل التمكين فغير واجب ـ أو يقال : كون القضاة والعساكر معصومين ـ وان كان لطفا من هذه الوجوه ـ الا أنه ربما اشتمل على وجه خفى من وجوه المفسدة لا نعرفه. فلا جرم لا يجب على الله نصب القضاة المعصومين والعساكر المعصومين. وعلى التقديرين فلم لا يجوز مثله فى هذه المسألة؟

والثالثة : أن كون الشيء مشتملا على المصلحة من بعض الوجوه ، لا يمنع اشتماله على المفسدة من وجه آخر. والشيء لا يكون لطفا واجبا على الله تعالى ، الا اذا كان خاليا عن جميع جهات المفسدة. فاذن لا يتم القول بأن نصب الامام لطف بمجرد ما ذكرتم ، بل لا بدّ معه من بيان كونه خاليا عن جميع جهات المفسدة ، وأنتم ما بينتم ذلك فاذن لم يثبت أن نصب الامام لطف.

لا يقال : انا فى هذا المقام انما نتكلم مع «المعتزلة» وهم يسلمون لنا أن المعرفة انما يجب تحصيلها علينا ، لكونها لطفا فى أداء الواجبات

٢٦٠