الأربعين في أصول الدين - ج ٢

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢
الجزء ١ الجزء ٢

التفصيلى فى أنه لا يجوز التمسك بهذه العمومات. لكنا نقول : وجد المانع عن التمسك بها. وهو من وجهين :

الأول : ان الآيات التى تمسكتم بها فى عدم العفو ، لا بدّ أن تكون عامة فى الأحوال والأشخاص. واذ لم تكن عامة فى الأحوال والأشخاص ، لم يتم استدلالكم بها. والآيات التى تمسكنا بها فى العفو ، لا بد أن تكون خاصة فى الأحوال والأشخاص فانا لا نثبت العفو لكل الأشخاص. واذا ثبت هذا ، لزم القطع بأن دلائلكم عامة ودلائلنا خاصة. والخاص مقدم على العام ، فوجب القطع بأن الآيات الدالة على العفو : مقدمة على هذه العمومات.

الوجه الثانى : هو ان أكثر هذه العمومات نازلة فى حق الكفار ـ على ما اشتمل على شرحها كتب التفسير ـ ونحن وان كنا نعتقد بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، الا أنا نعتقد أن دلالته فى غير محل السبب ، ليست دلالة قوية قاطعة ، بل دلالة ظنية ضعيفة. واذا كان كذلك ، لم تكن دلالتها على الاستغراق ، قوية صالحة لأن يتمسك بها فى هذه المسألة القطعية.

المقام الخامس فى الاعتراض : ان عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد. وهى كثيرة فى القرآن : كقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة ٧) وبالجملة : فالقرآن مملوء منها. واذا عرفت هذا فنقول : عمومات الوعد ، راجحة على عمومات الوعيد. وبيان هذا الترجيح من وجوه :

الأول : ان عمومات الوعد أكثر ، والأكثر راجح. لأنا بينا فى كتاب «المحصول فى الأصول» ان الترجيح بكثرة الدلائل معتبر فى الشرع.

والثانى : ان قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يدل على أن الحسنة انما كانت مذهبة للسيئة ، لكونها حسنة ـ على ما ثبت فى أصول الفقه : أن ترتيب الحكم على الوصف ، مشعر بأن علة ذلك الحكم ، هو ذلك الوصف ـ واذا كان كذلك ، وجب فى كل حسنة أن

٢٢١

تكون مذهبة لكل سيئة. ترك العمل به فى الحسنات الصادرة عن الكفار ـ فانها لا تذهب سيئاتهم. وهى الكفر ـ فبقى معمولا بها فى الباقى.

الثالث : انه تعالى قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ، فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (الأنعام ١٦٠) ثم انه تعالى زاد على العشرة فقال : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) (البقرة ٢٦١) ثم إنه زاد عليه فقال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (البقرة ٢٦١) وأما فى جانب السيئة فقال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ، فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وهذا تنبيه ظاهر على أن جانب الحسنة ، راجح على جانب السيئة ، عند الله تعالى.

الرابع : انه تعالى قال فى آية الوعد فى سورة النساء : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً. وَعْدَ اللهِ حَقًّا. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (النساء ٢٢) فقوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) انما ذكره للتأكيد. ولم يقل فى شيء من القرآن وعيد الله حقا. وأما قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (ق ٢٩) فهو باجماع المفسرين فى حق الكفار ، وأيضا : قوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) يتناول الوعد والوعيد.

الخامس : قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ، أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ. وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء ١١٠ ـ ١١١) والاستغفار طلب المغفرة (٦) وطلب المغفرة ليس نفس التوبة.

وخرج عن هذه الآية : بأنه سواء تاب أو لم يتب ، فاذا استغفر الله ، غفر الله له. ولم يقل فى جانب المعصية : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً)

__________________

(٦) ما بين القوسين من ب

٢٢٢

فانه يجد الله معذبا معاقبا) بل قال (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ). فدلت هذه الآيات : على أن جانب الحسنة راجح عند الله. ونظيره قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (الإسراء ٧) ولم يقل : وان أسأتم أسأتم لها. فكأنه تعالى بالغ فى اظهار أفعاله الحسنة ، حيث ذكرها مرتين ، وستر عليه اساءته ، حيث لم يذكرها الا مرة واحدة. وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنات راجح.

السادس : انا سنبين ان شاء الله تعالى أن قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء ١١٦) لا يدل الا على العفو عن صاحب الكبيرة. ثم انه تعالى أعاد هذه الآية فى السورة الواحدة مرتين ، والاعادة لا تحسن الا للتأكيد ، ولم يذكر شيئا من آيات الوعيد على وجه الاعادة بلفظ واحد ، لا فى سورة واحدة ، ولا فى سور كثيرة ، فدل على أن عناية الله فى الوعد أتم من مبالغته فى جانب الوعيد.

السابع : ان عمومات الوعيد والوعد لما تعارضت ، فلا بد من تأويل أحد الجانبين. وصرف التأويل الى جانب الوعيد أحسن من صرفه الى جانب الوعد. وذلك لأن العفو عن الوعيد مستحسن فى العرف. أما اهمال الوعد فانه مستقبح ، فكان صرف التأويل الى جانب الوعيد أولى من صرفه الى جانب الوعد.

الثامن : ان القرآن مملوء من كونه غافرا وغفورا ، وأن له الغفران والمغفرة. وأنه رحيم كريم ، وله العفو والاحسان والفضل والأفضال والأخبار الدالة على هذه المعانى قد بلغت مبلغا عظيما فى الكثرة والقوة. وليس فى القرآن ما يدل على أنه بعيد عن الصفح والتجاوز والكرم. وكل ذلك يفيد رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد.

ألا ترى الى قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (غافر ٣) فقوله (غافِرِ الذَّنْبِ) ان كان المراد منه أنه يغفر مع التوبة ، صار هذا عين قوله (قابِلِ التَّوْبِ) فيحصل التكرار. ثم انه تعالى لما ذكر عقيب هذين الوصفين ما يدل على الوعيد ، وهو

٢٢٣

قوله : (شَدِيدِ الْعِقابِ) ذكر عقيبه مرة أخرى ما يدل على العفو والصفح. فقال : (ذِي الطَّوْلِ) وكل ذلك يدل قطعا على ترجيح جانب الوعد والاحسان.

التاسع : ان هذا العاصى أتى بأحسن الطاعات ـ وهو الايمان ـ ولم يأت بأقبح القبائح ـ وهو الكفر ـ فأتى فى طبقة الخيرات بما هو الغاية القصوى ، وأتى فى طبقة الشر لا بما هو الغاية ، بل بما هو دون الوسط. والرجل اذا كان له عبد ثم أتى عبده بأعظم أنواع الخدمة والطاعة ، ثم أتى فى باب المعاصى والذنوب بمعصية ، ليست فى غاية القبح ، بل دون الوسط ، فلو أن المولى رجح تلك المعصية الخفيفة ، على تلك الطاعة العظيمة ، لعد ذلك السيد والمولى لئيما مؤذيا ، بعيدا عن الكرم. ومعلوم : أن هذا غير لائق بكرم أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. فعلمنا : أن الرجحان حاصل لجانب الوعد.

العاشر : قال «يحيى بن معاذ» : «يا إلهى. ان كان توحيد ساعة ، يهدم كفر خمسين سنة. كيف (٧) لا يهدم معصية ساعة. إلهى. لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل (٨) أن الايمان لا يضر معه شيء من المعاصى. والا فالكفر أعظم من الايمان ، فان لم يكن كذلك ، فلا أقل من رجاء العفو» وهذا كلام حسن.

الحادى عشر : انا سنبين ان شاء الله تعالى أن قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء ١١٦) لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة. فلو لم نحمله على الكبيرة قبل التوبة ، لزم تعطيل الآية. أما لو خصصنا عمومات آية (٩) الوعيد

__________________

(٧) فتوحيد خمسين سنة كيف الخ : ب

(٨) العقل : ا

(٩) عمومات الوعيد : ا

٢٢٤

بالكفار ، لا يلزم التعطيل ، بل يلزم التخصيص. ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل.

الثانى عشر : ان مقصود الرحيم الكريم من الايجاد والخلق انما هو الرحمة ، لا العذاب. والخصم أولى الناس بهذا القول.

* * *

والأخبار الواردة فى هذا المعنى كثيرة منها : قوله عليه‌السلام حكاية عن الله تعالى : «سبقت رحمتى غضبى» وقوله تعالى : «خلقتكم لتربحوا على لا لأربح عليكم» واذا كان كذلك ، فالمقصود الأصلي هو الرحمة والاحسان. والعذاب ليس بمقصود البتة. فترجيح الوعد على الوعيد ، يقتضي ترجيح الأصل على التبع والفرع ، وترجيح الوعيد على الوعد ، يقتضي ترجيح التبع على الأصل. فكان الأول أولى.

الثالث عشر : ان عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت ، فنحن نرجح عمومات الوعد بالآيات الدالة على العفو والغفران. وهذا ترجيح يجب المصير إليه. وذلك لأن آيات العفو لا بدّ أن تكون خاصة ، وآيات العقوبة والوعيد لا بدّ أن تكون عامة. والا لم تدل على مقصودهم. والعام والخاص اذا تعارضا ترجح الخاص على العام.

فثبت بمجموع هذه الوجوه : ان عمومات الوعد راجحة على عمومات الوعيد. فسقط كلام المعتزلة بالكلية.

قالت المعتزلة : ترجيح جانب الوعيد أولى. ويدل عليه وجوه :

الأول : ان الأمة مجمعة على أن الفاسق يلعن ويحد ـ على سبيل التنكيل ـ وذلك يدل على أنه مستحق للعذاب ، اذ لو لم يكن مستحقا للعذاب ، لما جاز لعنه ، ولا اقامة الحد عليه ـ على سبيل التنكيل ـ واذا ثبت أنه فى هذه الحالة مستحق للعقاب ، استحال أن يكون مستحقا الثواب ، لأن العقاب مضرة خالصة دائمة ، والثواب منفعة خالصة

٢٢٥

دائمة. والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين استحقاقيهما محالا. وثبت : أن استحقاق العقاب حاصل فى الحال ، فوجب أن يكون استحقاق الثواب غير حاصل فى الحال.

فثبت بهذا الطريق : أن عمومات الوعيد راجحة على عمومات الوعد.

وهذا الدليل الّذي ذكرناه : جميع مقدماته ظاهرة ، الا قولنا : ن الفاسق ، يلعن ويقام الحد عليه ، على سبيل التنكيل ، وعلى سبيل العذاب ، وعلى سبيل الخزى. فنقول : الدليل على أنه يلعن : قوله تعالى فى قاتل المؤمن : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) (النساء ٩٣) (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود ١٨) والدليل على أنه يقام عليه الحد على سبيل التنكيل : قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا ، نَكالاً مِنَ اللهِ. وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة ٣٨) الآية. والدليل على أنه يحد على سبيل العذاب : قوله تعالى فى الزانية والزانى (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور ٢) والدليل على أنهم من أهل الخزى : قوله تعالى فى قطاع الطريق : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الى قوله : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (المائدة ٣٣)

فثبت بهذه الوجوه : أن استحقاق العذاب حاصل. فكان استحقاق الثواب زائلا. وهذا يقتضي ترجيح جانب الوعيد على جانب الوعد.

هذا غاية تحقيق كلام المعتزلة فى هذه المقام.

الوجه الثانى فى ترجيح جانب الوعيد على جانب الوعد : أن آيات الوعيد خاصة ، وآيات الوعد عامة ، والخاص مقدم على العام.

الوجه الثالث : أن الناس جبلوا على الفساد والشر ، فكانت الحاجة الى الزاجر أشد ، فكان جانب الوعيد راجحا.

أجاب أصحابنا عن الترجيح الأول من وجوه :

٢٢٦

الأول : انه لما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويذمون ويعذبون فى الدنيا بسبب معاصيهم ، كذلك أيضا حصلت آيات دالة على أنهم يعظمون ويمدحون فى الدنيا بسبب ايمانهم. قال الله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ، فَقُلْ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ. كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام ٥٤) فهم يرجحون الآيات الدالة على حصول الوعيد فى الآخرة بالآيات الدالة على حصول اللعن والذم فى الدنيا. ونحن أيضا نرجح الآيات الدالة على حصول وعد الاحسان والعفو فى الآخرة ، بالآيات الدالة على حصول المدح والتعظيم فى الدنيا. فلم كان قولهم أرجح من قولنا؟ بل كان الترجيح معنا من الوجوه المذكورة.

أقصى ما فى الباب أن يقال : فان كان لا يلعن ولا يذم فى الدنيا ، فلم يقام فى الدنيا عليه الحد؟

فنقول : هذا ضعيف. لأن الحد قد يقام على سبيل التنكيل. ألا ترى أن التائب قد يقام عليه الحد ، مع أنه ليس هناك لعن ولا نكال. فعلمنا : أنه لا يمكن الاستدلال باقامة الحد على حصول استحقاق العذاب.

الوجه الثانى : ان آيات الوعد كما أنها معارضة لآيات الوعيد ، فكذلك هى معارضة لكل آية دالة على معنى يستلزم حصول الوعيد فى الآخرة. وعندكم : أن الآيات الدالة على حصول المعن والخزى والنكال والعذاب فى الدنيا ، مستلزمة لحصول الوعيد فى الآخرة ، فيحصل التعارض بين هذه الآيات وبين آيات الوعيد. واذا حصل التعارض فى هذا المقام ، لم تكن هذه الآيات مرجحة لآيات الوعد على آيات الوعيد ، فيبقى ما ذكرناه من الترجيحات سليما عن المعارض.

الثالث : ان قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) شرع القطع فى حقهما (جَزاءً بِما كَسَبا ، نَكالاً مِنَ اللهِ) واجمعنا على أن حصول هذا المعنى ، مشروط بعدم التوبة. فكذلك هاهنا أيضا لم لا يجوز أن يكون حصول هذا المعنى مشروطا بعدم العفو؟

٢٢٧

الرابع : ان هذه الآيات حجة عليكم من وجوه أخر. وذلك لأن الجزاء اسم لما يكفى. واذا حكم الله بأن الحد الّذي يقام عليه فى الدنيا جزاء ، وثبت أن الجزاء ما كان كافيا : كان ظاهر هذه الآية مانعا من إيصال العقاب إليه فى الآخرة. فثبت : أن الترجيح الّذي ذكرتموه ، يبطل مذهبكم بالكلية.

وأما الترجيح الثانى ـ وهو أن آيات الوعد عامة ـ فنقول : هذا ممنوع. وذلك لأن آيات الوعيد يدخل فيها الكافر والمؤمن من قبل التوبة ومن بعدها ، وآيات العفو مختصة بالمؤمن. فثبت : أن الآيات التى تمسكنا بها خاصة ، والآيات التى تمسكتم بها عامة.

وأما الترجيح الثالث : فضعيف. لأن الرحمة مقصودة بالذات والتعذيب مقصود بالعرض. وترجيح ما هو مقصود بالذات على ما هو مقصود بالتبع والعرض أولى من العكس.

هذا تمام الكلام فى الجواب عن شبهات المعتزلة. وبالله التوفيق.

الفصل الرابع

فى

دلائلنا على العفو

الحجة الأولى : الآيات الدالة على كون الله تعالى عفوا. كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) (الشورى ٢٥) وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى ٣٠) وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ : الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الى قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا. وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى ٣٢ ـ ٣٤) وأيضا : أجمعت الأمة على أنه تعالى يعفو عن عباده ، وأجمعوا على أن من أسمائه العفو. اذا ثبت هذا فنقول : العفو اما أن يكون عبارة عن اسقاط العذاب عمن يحسن عقابه ، أو عمن لا يحسن عقابه.

٢٢٨

والقسم الثانى باطل لوجهين :

الحجة الأولى : (١٠) أن عقاب من يقبح عقابه قبيح. ومن ترك مثل هذا القبيح ، لا يقال : انه عفا. فان الانسان اذا لم يظلم أحدا ، لا يقال : انه عفا عنه. أما اذا كان له أن يعذبه ، فترك تعذيبه ، يقال : انه عفا عنه ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (البقرة ٢٣٧)

والثانى : انه تعالى قال : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (الشورى ٢٥) فلو كان العفو عبارة عن اسقاط العقاب عن التائب ، لكان فى هذا تكرير من غير فائدة. فعلمنا : أن العفو عبارة عن اسقاط العقاب عمن يحسن عقابه.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون العفو عبارة عن عدم ايصال العقاب إليه فى الدنيا وتأخيره الى الآخرة؟ قلنا : لأن الجزاءات مؤخرة الى الآخرة. قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (غافر ١٧) واذا عرفنا أن الجزاءات مؤخرة الى الآخرة ، لم يكن تأخيرها الى الآخرة عفوا.

وأيضا : لو كان هذا القدر مسمى بالعفو ، لوجب أن يقال : عفو الله عن الكفار أكثر من عفوه عن المسلمين. لأن حصول المرادات لهم ودفع المكاره عنهم ـ أعنى الكفار ـ فى الدنيا أكثر. قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ، لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ، لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (الزخرف ٣٣) وقال عليه‌السلام : «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل»

الحجة الثانية : الآيات الدالة على كونه تعالى غافر وغفورا وغفارا. قال تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ) (غافر ٣) (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ)

__________________

(١٠) أحدها : الأصل

٢٢٩

(الكهف ٥٨) (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (نوح ١٠) (غُفْرانَكَ رَبَّنا) (البقرة ٢٨٥) والمغفرة ليست عبارة عن اسقاط العقاب عمن لا يجوز عقابه (١١) فتعين أن تكون عبارة عن اسقاط العقاب عمن يحسن عقابه.

وانما قلنا : ان القسم الأول باطل : لأنه تعالى ذكر صفة المغفرة فى معرض الامتنان على العباد. ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا المعنى ، لأن ترك القبيح لا يكون احسانا ، بل ترك القبيح بأن يكون احسانا من الفاعل الى نفسه ، أولى بأن يكون احسانا الى غيره. فان على مذهب الخصم : لو فعله لا يستحق الذم. فهو بترك ذلك القبيح أحسن الى نفسه حيث خلصها عن استحقاق الذم.

فان قيل : لم لا يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب عن الدنيا الى الآخرة؟ والدليل على أن لفظ العفو مستعمل فى هذا المعنى : قوله تعالى فى قصة اليهود (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (البقرة ٥٢) وليس المراد : اسقاط العذاب ، بل تأخيره الى الآخرة. وكذلك قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ. فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى ٣٠) أى أنه تعالى قد يعجل المصائب اما على جهة الابتلاء ، أو على جهة العقوبة المعجلة بسبب ذنوبكم ، ثم انه تعالى لا يعجل العقوبة والابتلاء على كثير منها. وكذلك قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) الى قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى ٣٢ ـ ٣٤) أى أنه تعالى لو شاء اهلاكهم لأهلكهم. الا أنه تعالى لا يهلكهم على كثير من الذنوب.

والجواب : العفو أصله من عفا أثره ، أى إزالة. واذا كان كذلك ، وجب أن يكون مسمى العفو هو الإزالة. ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (البقرة ١٧٨) وليس المراد منه التأخير

__________________

(١١) عمن لا يستحق العقاب : ب

٢٣٠

الى وقت معلوم ، بل الازالة. وكذا قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (البقرة ٢٣٧) ليس المراد منه : التأخير الى وقت معلوم ، بل المراد منه : هو الاسقاط المطلق.

وأيضا : الغريم اذا أخر المطالبة. لا يقال : انه عفا عنه. ولو أسقطه يقال : إنه عفا عنه. فثبت : أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير.

الحجة الثالثة : الآيات الدالة على كونه تعالى رحمانا ورحيما. والاستدلال : ان رحمته اما أن تظهر بالنسبة الى المطيعين الذين هم أهل الثواب ، أو بالنسبة الى العصاة الذين هم أهل العقاب. والأول باطل. لأن رحمته اما أن تكون عبارة عن أنه أعطاهم الثواب الّذي هو حقهم ، أو عبارة عن أنه يفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم. والأول باطل : لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة. لأن من كان له على انسان مائة دينار ، فأخذها منه قهرا ، لا يقال فى مثل هذا الاعطاء : انه رحمة.

والثانى باطل : لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الّذي هو حقه ، كالمستغنى. وتلك الزيادة تسمى زيادة فى الأنعام ، ولا تسمى ـ البتة ـ رحمة. ألا ترى أن السلطان اذا أعطى الوزير مملكة ، ثم ضم إليها مملكة أخرى ، لا يقال لهذه الزيادة : انها رحمة ، بل يقال: زاد فى الانعام.

وأما القسم الثانى ـ وهو أن رحمته ظهرت بالنسبة الى أهل العقاب ـ فنقول : هذه الرحمة ، اما أن تكون عبارة عن ترك العقاب ـ الّذي هو غير مستحق ـ أو عن ترك العقاب ـ الّذي هو مستحق ـ

والأول باطل : والا لكان كل كافر وظالم رحيما. لأجل أنه ترك الظلم ، أو لأجل أنه ترك الزيادة على ذلك الظلم الّذي فعله. ولما بطل هذا ، بقى أنه رحمن ورحيم. لأنه ترك العقاب المستحق. وذلك لا يتحقق فى حق صاحب الصغيرة ولا فى حق صاحب الكبيرة بعد

٢٣١

التوبة ـ على قول الخصم ـ لأن عذابهما قبيح. فبقى أن رحمته انما تظهر بالنسبة الى صاحب الكبيرة قبل التوبة. وهو المطلوب.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : ان رحمته انما تظهر لأن الخلق والتكليف والتزريق كلها تفضل ورحمة ، أو لأجل أنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة؟

قلنا : أما الأول فهو يفيد كونه رحيما فى الدنيا ، فأين رحمته فى الآخرة : مع أن الأمة مجمعة على أن رحمته فى الآخرة أعظم من رحمته فى الدنيا.

وأما الثانى : فعند المعتزلة التخفيف عن العذاب المستحق غير جائز.

وأيضا : هذا اشارة الى تفسير الرحمة بترك الزيادة فى التعذيب ولو كان الأمر كذلك لكان أكثر الناس تعذيبا للخلق ، وايصالا للبلاء إليهم ، رحيما بهم ، حيث ترك الزيادة على ذلك القدر ، ومن المعلوم أنه باطل.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء ١١٦) ووجه الاستدلال به : ان قوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ، ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة. فوجب أن يكون المراد منه : حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

انما قلنا : انه لا يجوز حمله على صاحب الصغيرة ، ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة ، لوجوه :

أحدها : ان قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) معناه : انه تعالى لا يغفره تفضلا. لأنا أجمعنا على أنه يغفر استحقاقا. فانه اذا تاب عن كفره ، وآمن. فانه تعالى يغفر له. واذا كان قوله :

٢٣٢

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) معناه : أنه تعالى لا يغفر له تفضلا ، لزم أن يكون قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أى (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) تفضلا ، حتى يكون النفى والاثبات متوجهين الى شيء واحد. ألا ترى أنه اذا قيل : فلان يتفضل بمائة دينار ويعطى العشرة لمن استحقها ، كان الكلام فاسدا ، أما لو قال لا يتفضل بالمائة ولكنه يتفضل بالعشرة ، كان منتظما. ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة واجبا ، امتنع حمل الآية عليهما. فتعين حملها على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

وثانيها : انه لو كان قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) معناه : أنه يغفر لمن يستحق المغفرة ، كالتائبين وأصحاب الصغائر. لم يبق لتمييز الشرك عن غيره فائدة. لأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن لا يستحق العقاب ، ولا يغفر لمن يستحق العقاب. فكذلك يغفر الشرك لمن لا يستحق العقاب ، ولا يغفره لمن يستحق العقاب. فلا يبقى البتة لهذا التقسيم والتمييز فائدة.

وثالثها : ان غفران صاحب الكبيرة وصاحب الصغيرة بعد التوبة ، واجب والواجب لا يجوز تعليقه على المشيئة. لأن المعلق على المشيئة هو الّذي ان شاء فعله وان شاء تركه. والواجب هو الّذي لا بد من فعله شاء أم أبى. والمغفرة المذكورة فى الآية معلقة على المشيئة ، فلا يجوز أن يكون المراد منها : هو المغفرة للتائب وصاحب الصغيرة.

واعلم : أن هذه الوجوه بأسرها الزامات مبنية على قول المعتزلة :انه يجب الغفران للتائب ، وصاحب الصغيرة. ونحن لا نقول بذلك.

ورابعها ـ وعليه الاعتماد ـ : ان قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) يفيد القطع بأنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك. وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبلها. ثم قوله بعد ذلك : (لِمَنْ يَشاءُ) يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الأقسام لكن لا للكل بل للبعض. فثبت : أنه تعالى يغفر كل هذه الأقسام للبعض. وذلك هو المطلوب.

٢٣٣

فان قيل : لا نسلم أن المغفرة عبارة عن أن لا يعذب العصاة فى الآخرة. بيانه : أن المغفرة اسقاط العذاب ، والمفهوم من اسقاط العذاب ، أعم من اسقاطه دائما ، أولا دائما. واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك ، لا اشعار فيه لكل واحد من ذينك القيدين. فاذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على كون الاسقاط دائما.

اذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : ان الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ، لكن يؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا فى حق من يشاء؟

لا يقال : كيف يصح هذا التأويل ، ونحن لا نشاهد البتة اليوم مزية للكفار فى عقاب الدنيا على المؤمنين؟

لأنا نقول : تقدير الآية : ان الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك فى الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون الشرك فى الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين. لأن الكفار والفساق يخافون أن يعجل (١٢) عقابهم فى الدنيا ، وان كان لا يفعل ذلك بكثير منهم. سلمنا : أن الغفران عبارة عن الاسقاط بالكلية. فلم قلتم : انه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة؟

أما الوجوه الثلاثة الأول : فهى مبنية على أصول المعتزلة. وأنتم لا تقولون بها.

وأما الوجه الرابع : فلا نسلم أن قوله «ما دون ذلك» يفيد العموم والدليل عليه : أنه يصح ادخال لفظى الكل والبعض عليه على البدل. مثل أن يقال : ويغفر بعض ما دون ذلك ، ويغفر كل ما دون ذلك (١٣) وذلك يدل على أن هذه الصيغة لا تفيد العموم ، والا لكان الأول نقضا ، والثانى تكريرا (١٤).

__________________

(١٢) يجعل : ا ـ يعجل : ب

(١٣) ويغفر كل ما دون ذلك ويغفر بعض : ب

(١٤) لكان الأول تكرير والثانى نقضا : ب

٢٣٤

سلمنا : أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة والتائب. لأن الآيات الواردة فى الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر ، مثل القتل والزنى والربا. وهذه الآية متناولة لجميع المعاصى ، والخاص مقدم على العام ، فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية.

والجواب عن السؤال الأول : انه لو كان المراد ما ذكرتم ، لزم أن يكون عقاب المشركين فى الدنيا أكثر من عقاب غيرهم ، والا لم يبق البتة فى التقسيم والتفصيل فائدة. ومعلوم أنه ليس كذلك ، بدليل : الاستقراء والمشاهدة.

قوله : «لم قلتم بأن قوله «ما دون ذلك» يفيد العموم».

قلنا : لأن قوله : «ما دون ذلك» يفيد الاشارة الى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك. وهذه الماهية من حيث هى : ماهية واحدة نوعية. وقد حكم بأنه يغفرها ففى كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية ، وجب تحقق الغفران. فثبت : أنه للعموم. وأيضا : يصح استثناء كل واحد من المعاصى عنها عند الوعيدية ، وصحة الاستثناء يدل على العموم.

وأيضا : فلأنه لو كان المراد بعض الأنواع ، مع أنه لم يحصل ما يدل على ذلك المعنى ، صارت الآية مجملة ، والأصل عدم الاجمال.

قوله : «آيات الوعيد أخص» قلنا : لكن هذه الآية أخص منها ، لأنها تفيد العفو فى حق البعض دون البعض ، وآيات الوعيد تفيد حصول الوعيد فى حق كل من فعل ذلك الفعل. وأيضا : قد بينا أن عند التعارض بين الوعد والوعيد ، وجب أن يكون جانب العفو والوعد راجحا. والله أعلم.

الحجة الخامسة : أن يتمسك بالدلائل التى تمسك بها «مقاتل» فى قطع العفو ، فان عارضوا بآيات الوعيد ، قلنا : الترجيح ما تقدم ولما كانت تلك الترجيحات ظنية ، لا جرم رجونا العفو ، وما قطعنا به.

٢٣٥

الحجة السادسة : انا سنقيم الدلالة ان شاء الله تعالى على أن تأثير شفاعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فى اسقاط العقاب. وذلك يدل على قولنا فى هذه المسألة.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر ٥٣).

فان قيل : هذه الآية ان دلت. فانما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة ، وأنتم لا تقولون بهذا المذهب. فما تدل عليه الآية لا تقولون به ، وما تقولون به لا تدل الآية عليه. سلمنا ذلك ، لكن المراد : أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة. وحمل الآية على هذا المعنى أولى لوجهين :

الأول : انا اذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب ـ على ما هو ظاهر الآية ـ وان حملناها على ما ذكرتم لا يمكن حمله على ظاهر الآية. لأنه تعالى لا يغفر جميع الذنوب من غير توبة. فان الكفر ذنب. والله لا يغفره الا مع التوبة.

الثانى : انه تعالى ذكر عقيب هذه الآية ، قوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) (الزمر ٥٤ الآية ، والانابة هى التوبة.

والجواب عن الأول : ان قوله : (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وعد منه تعالى بأنه سيفعل ذلك فى المستقبل. ونحن نقطع بذلك. فانا قاطعون بأنه تعالى سيخرج كل المؤمنين من النار لا محالة ، فيكون هذا قطعا لحصول الغفران لا محالة. وبهذا الطريق يظهر أنه لا حاجة فى إجراء الآية على ظاهرها الى إضمار قبل التوبة. والله أعلم.

٢٣٦

المسألة السّادسة والثلاثون

فى

أن وعيد الفسّاق منقطع

مذهبنا : أنه تعالى وان عذب الفساق من أهل الصلاة ، الا أنه لا يتركهم فى النار دائما مؤبدا بل يخرجهم الى الجنة.

وقالت المعتزلة : ان الفاسق يبقى فى النار دائما.

والمعتمد لنا فى هذه المسألة : ان هذا الفاسق اما أن لا يكون مستحقا للعقاب ، أو يكون مستحقا للعقاب ، لكنه مع ذلك أيضا مستحق للثواب. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون العقاب منقطعا.

بيان المقدمة الأولى : ان هذا الفاسق قبل أن صدر عنه هذا الفسق ، كان من أهل الثواب ، بحكم ايمانه وسائر طاعاته. أما عندنا فبحكم الوعد ، وأما عند الخصم فبحكم الاستحقاق. واذا صدر عنه الفسق بعد ذلك فأما أن يصير بسبب ذلك الفسق مستحقا للعقاب أو لا يصير كذلك. فان لم يصر مستحقا للعقاب ، فنقول : كان هذا الانسان على هذا التقدير مستحقا للثواب ، ولم يصر بسبب هذا الفعل مستحقا للعقاب ، فوجب أن لا يعاقب ، فضلا عن أن يكون عقابه دائما.

وأما ان قلنا : انه صار بفسقه مستحقا للعقاب. فنقول : استحقاق العقاب لا يزيل ما كان ثابتا له من استحقاق الثواب. واذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون عذابه دائما.

وانما قلنا : ان العقاب الطارئ لا يزيل الثواب المتقدم. لأنه لو أزاله لكان اما أن يقال الموازنة معتبرة أو غير معتبرة. وأعنى بالموازنة : أن يقال : كان الثواب عشرة أجزاء ، والعقاب الطارئ

٢٣٧

خمسة أجزاء. فسقط الخمسة بالخمسة ، ويبقى له من الثواب خمسة خالية عن المعارض. وأما عدم الموازنة فهو أن الطارئ يسقط السابق بقدره ، ولا يسقط الطارئ البتة ، بل يبقى بحاله. والقول بالموازنة مذهب «أبى هاشم» والقول بعدم الموازنة مذهب «أبى على».

فنقول : القول بالموازنة باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : ان ثبوت السابق اما أن يمنع الطارئ من الدخول فى الوجود ، أو لا يمنعه. فان منعه لم يدخل الطارئ فى الوجود ، واذا لم يوجد الطارئ ، بقى السابق كما كان. وهذا يمنع من الإحباط.

وأما ان قلنا : ان السابق لم يمنع الطارئ من الدخول فى الوجود ، بل دخل فى الوجود. فهذا الطارئ اما أن يؤثر فى عدم السابق ، أو لا يؤثر فيه. فان أثر فيه صار الطارئ غالبا والسابق مغلوا ، وعند صيرورة السابق مغلوبا امتنع أن يعود غالبا ، وامتنع أن يؤثر فى اعدام الطارئ. فلم تكن الموازنة حاصلة. وان قلنا بأن الطارئ بعد دخوله فى الوجود ، لم يؤثر فى اعدام السابق. فعلى هذا فقد وجد الطارئ مع السابق ، واجتمعا فى الوجود. وعلى هذا التقدير ، لم يحصل بينهما منافاة أصلا. واذا كان كذلك ، امتنع أن يكون حدهما مؤثرا فى عدم الآخر ، وفى زواله. فثبت بهذا البرهان القوى : فساد القول بالموازنة.

الوجه الثانى فى بطلانه : هو أنه لو كان كل واحد من السابق والطارئ ، مؤثرا فى عدم الآخر ، لكان تأثير كل واحد منهما فى الآخر ، اما أن يكون معا ، أو على التعاقب. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون بكون كل واحد منهما مؤثرا فى عدم الآخر.

وانما قلنا : انه يمتنع حصول ذلك معا ، لأن المؤثر فى عدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معا ، لحصل الوجودان معا ، حال حصول العدمين. لأن العلة واجبة الحصول عند حصول المعلول ، فيلزم كونهما موجودين حال كونها معدومين. وهو محال.

٢٣٨

وانما قلنا : انه يمتنع حصول ذلك على التعاقب لا معا ، لأنه يقتضي أن يعود المغلوب بعد صيرورته مغلوبا : غالبا. وذلك محال.

الوجه الثالث : وهو أن شرط طريان أحد الضدين : زوال الضد الأول ، فلو كان زوال الضد الأول معللا بطريان الضد الثانى ، لزم توقف كل واحد منهما على الآخر. وهو محال.

فهذه الوجوه الثلاثة : دالة على المنع من صحة الموازنة.

وأما القول الثانى ـ وهو قول أبى على ، وهو اثبات القول بالاحباط مع القول بعدم الموازنة ـ فهذا أيضا باطل لوجهين :

الأول : ان هذا يقتضي أن من عبد الله تعالى من أول عمره الى آخره بأعظم الطاعات ، ثم شرب جرعة خمر ، أن يكون حاله وحال من لم يعبد الله قط على السوية. لأن عقاب شرب هذه الجرعة ، أبطل ثواب جميع تلك الطاعات ، ولم يسقط البتة من عقاب هذا الشرب شيء. ومعلوم أن ذلك باطل فى بداهة العقول.

والثانى : قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة ٧) فاذا كان عقاب الفسق أحبط ثواب الطاعات المتقدمة ، ولم يحبط بسبب ثواب تلك الطاعات شيء من عقاب هذه المعصية ، فقد ضاعت تلك الخيرات بالكلية. وذلك يناقض قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) فثبت : أنه لو صح القول بالاحباط ، لكان اما مع الموازنة أولا مع الموازنة. وثبت فساد القسمين ، فوجب القول بفساد الاحباط أيضا.

ومما يدل أيضا على فساد الاحباط : أنه اذا كان مستحقا لعشرين جزءا من الثواب ، ثم أتى بمعصية استحق بها عشرة أجزاء من العقاب. فلو قلنا : بأن هذا الطارئ يحبط السابق ، لكان اما أن تحبط هذه العشرة الطارئة تلك العشرين المتقدمة ـ وهذا قول باطل بالاجماع ، لأنه يكون ظلما ـ واما أن تكون العشرة الطارئة تحبط من العشرين

٢٣٩

المتقدم عشرة فقط ـ وهذا هو مذهب القائلين بالاحباط ـ ونقول : هذا محال ، لأن نسبة هذه العشرة الطارئة الى كل واحد من العشرتين السابقتين على السوية. فاذا اقتضت هذه العشرة الطارئة إزالة احدى العشرتين السابقتين ، دون العشرة الأخرى ، لكان هذا ترجيحا لأحد طرفى الممكن المساوى على الآخر من غير مرجح. وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، لم يبق الا أن يقال : هذه العشرة الطارئة تؤثر فى ازالة كل واحدة من العشرتين المتقدمتين ـ وذلك هو القسم الأول. وقد أبطلناه ـ أو لا تؤثر فى ازالة شيء مما وجد قبل ذلك؟ ـ وهذا يمنع من القول بالاحباط. وهو المطلوب ـ فثبت بمجموع ما ذكرنا : أن الفسق الطارئ لا يزيل الثواب المتقدم.

اذا ثبت هذا فنقول : ثبت أن المؤمن اذا أتى بالفسق. فهو اما أن لا يستحق على فسقه عقابا ، أو أن يستحق عليه عقابا. لكن هذا الاستحقاق لا يزيل ما كان ثابتا قبل ذلك من استحقاق الثواب. واذا ثبت هذا وجب ايصال هذا الثواب والعقاب إليه. فاما أن يوصل إليه ثواب ايمانه فى الجنة ، ثم ينقل الى النار وهو باطل بالاجماع. واما أن يوصل عقاب فسقه إليه فى النار ، ثم ينقل الى الجنة. وذلك هو المطلوب.

أما المعتزلة فقد احتجوا على الخلود بوجوه :

الشبهة الأولى : ان الفاسق بفسقه يستحق العقاب. واستحقاق العقاب يبطل ما كان ثابتا قبل ذلك من استحقاق الثواب. وذلك لأن العقاب مضرة خالصة دائمة ، والثواب منفعة خالصة دائمة. والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين استحقاقيهما محالا. واذا ثبت استحقاق العقاب ، وجب أن يزول استحقاق الثواب. وهذا هو العمدة الكبرى لهم فى اثبات القول بالاحباط.

اذا ثبت هذا فنقول : لو نقل الفاسق من النار الى الجنة ، لكان دخول الجنة. اما أن يكون بالاستحقاق ، أو بالتفضل. والأول باطل.

٢٤٠